مراجعات الكتب

تودوروف يكشف “بصمة الإنسان” عبر أسرار المثقفين: كتاب يضع المثقف والنخبة على المحك عبر صور قلمية/ ممدوح فراج النابي

لم تشغل البلغاري الفرنسي تزفيتان تودوروف كتاباته النقدية أو الفكرية عن تنمية صداقات مع مفكري عصره؛ بغية الاستفادة من تجاربهم، سواء بالالتقاء المباشر معهم في مؤتمرات أو اشتغالات علمية، وهو ما كان للكثير منهم بالغ الأثر في حياته الفكرية، أو حتى اللقاء غير المباشر عبر كتاباتهم  – على نحو ما حدث مع ريمون أريون وميخائيل باختين الذي لم يلتقه وجها لوجه، إلا أن ما جمعه به فكره، وطريقته في إلقاء الضوء على العلاقات المتبادلة بين الناس –  وحياتهم الحوارية، وحسب اعترافه ساعدته “في وضع شكل هواجسي وأحاسيسي الداخلية الخاصة”.

 في كتاب “بصمة الإنسان”، الصادر مؤخرا بترجمة نجلاء أبوالنصر عن الهيئة العامة لقصور الثقافة بالقاهرة، يقدم تودوروف عددا من الصور أو الوجوه التي يرى أنه لا يجمعه بأصحابها سوى “الاعتراف بالجميل” وإن كان اتخذ من تتبع مسار حياتهم الفكرية، وسيلة لرسم صورة ذاتية لنفسه، على طريقة البورتريه الصيني، كطريقة للكشف عن مظهر الشخصية ورأيه فيها.

الكتاب في أصله مجموعة من المقالات التي كتبها في الأعوام من 1983 حتى 2008، ويراها حصيلة للتأمُّل العميق، والفحص المتأني على مدار خمسة وعشرين عاما، من أجل فك شفرة الإنسان.

ينتمي الكتاب إلى كتابات الصور القلمية، أو السيرة الغيرية، حيث يعمد المؤلف إلى خلخلة الشخصية التي يتحدث عنها، فلا يكتفي بتقديم صورة خارجية عنها، بل يغوص في دواخل الشخصية، كما يتوقف عند تحولاتها من خلال تأملاته في كتاباتها وتحليل أفكاره، فيدخل الذاتي في الموضوعي، ويجعل من الذكريات التي هي الرابط المشترك -في أغلب البورتريهات- هي المحرك للذات للحديث عن الشخصية، ثم يمزج الذكريات أو الشخصي بتأملات في المسيرة الحياتية والعلمية والنضالية لأصحاب الوجوه، بغية استجلاء ما وراء أفكارهم وروافدها الأساسية، وتأثير هذا على الشخصية ذاتها سواء الذاتي أو الفكري.

المعنى الظاهري للكتاب هو عبارة صور قلمية، لكن هذا المعنى يخفي معنى عميقا، يضع المثقف أو النخبة بمفهوم أوسع على المحك، حيث يشتغل الكتاب على المثقف العضوي المنغمس في مشكلات المجتمع ومعضلات الجماهير، كما تجلى في تعريفات جوليان بندا وجرامشي وإدوارد سعيد، وبيان تأثيره أو دوره المنوط به، الذي يتعدى اهتماماته الأكاديمية إلى تبني قضايا جماهيرية تتجاوز إطار التخصص، والاشتباك مع القضايا الراهنة، واختبار مواقف هؤلاء المثقفين -كنماذج دالة- في مثل هذه القضايا، وهل إيمانهم بالليبرالية وتنديدهم بالشمولية والدكتاتوريات جاء منفصما عن آرائهم التي أعلنوها في كتاباتهم، أم دافعوا عنها باستماتة حتى ولو عرضهم هذا الدفاع للوقوع ضحايا الأجهزية الأيديولوجية لهذه الدكتاتوريات.

صور قلمية

 عبر هذه الآلية المتقنة يقدم تودوروف بورتريهات أو صور قلمية لخمس شخصيات كان لها بالغ التأثير في حياته الشخصية أو المهنية من ناحية، وفي تبني قضايا إنسانية أعلت من مكانتهم ورفعتهم إلى عنان المفكرين والمؤثرين، والشخصيات هي: المفكر الفلسطيني إدوارد سعيد، وعالم اللغة والمؤرخ الروسي رومان جاكبسون، والفيلسوف اللغوي والمنظر الأدبي ميخائيل باختين، والفرنسيان ريمون آرون الفيلسوف وعالم الاجتماع، وجيرمين تييون عالمة الإنثروبولوجيا.

تتقاطع هذه الشخصيات الخمس مع شخصية تودوروف في انشغالها بقضايا إنسانية دون الانخراط في مجال التخصص، فكل شخصية من هذه الشخصيات كان لها موقفها الواضح من قضايا عالمية متصلة بالنزاعات والحروب والإرهاب والشمولية، وتأثيراتها على النخبة وعلى الشعوب المستلبة، وهو ما يمنح هذه الشخصيات بُعدا إنسانيّا في الدفاع عن هذه القضايا، بل وصل الأمر بعالمة الإنثربولوجيا (جيرمين تييون) لأن تنخرط في المقاومة، وهو الأمر الذي أوقعها في الاعتقال، فأظهرت شجاعة منقطعة النظير في مقاومة الإنسانية وسوء المعاملة التي تعرضت لها في معسكر “رافنسبروك”.

وكانت تجربتها -تحديدا- رغم معاناتها حافزا له على الصبر، فمع تجربتها القاسية التي عاشتها، إلا أنها كان لديها القدرة على عدم الانتقام من الذين أساؤوا إليها، بل سعيها إلى حماية ضحايا جدد بدلا من الاكتفاء باجترار عذاباتها الشخصية.

المنفِي المقاتل

يروي تودوروف أن علاقة صداقة قوية جمعته بإدوارد سعيد (1935 – 2003) استمرت حوالي ثلاثين عاما، منذ أن التقاه في جامعة كولومبيا في نيويورك أثناء إلقاء محاضرة له، وكان سعيد وقتذاك أستاذا يقوم بتدريس الأدب المقارن.

يتخذ من شخصية سعيد وبمعنى أدق سيرته، مرآة ليستجلي هو الآخر سيرته، فالمشتركات التي يعددها بينه وبين سعيد في أحد وجوهها، غاية يُمرِّر من خلالها سيرته الذاتيّة ونضاله ضدّ الشمولية، التقاطعات لا تقف عند التقارب في المرحلة العمرية حيث سعيد يكبر تودوروف بأربعة أعوام، أو حتى الاشتغالات الأدبية، حيث اهتمامها بالنظرية الأدبية، أو حتى اشتراكهما في صفة المهاجر، وإنما تبلغ ذروة المشتركات في أنهما -إدوارد وتودوروف- ينتميان إلى موطنين كانا خاضعين -في الماضي البعيد- للإمبراطورية العثمانية، أي أنهما واقعان تحت فعل الاحتلال. وهو الأمر الذي كان له تأثير كبير في تكوينهما الفكري، وتبنيهما الدفاع عن قضايا استلاب الأوطان، وتفشي النزعة الاستعمارية بكافة أشكالها وتوجهاتها، وتعرية أهدافها.

ومن هذا المشترك الأخير ينفذ إلى شخصية إدوارد سعيد كمهاجر، فيذكر أن شخصية المهاجر تتميز بالتعددية أكثر من سكان البلاد الأصليين، والسبب عنده؛ لأنهم يعايشون الانقطاع بين ما قبل وما بعد، لهذا يرى أن شخصية سعيد كانت أكثر تعقيدا، وهذا ظاهر في اسمه الذي يحمل تلك الآثار على حدّ وصفه.

ومع هذه المشتركات فثمة اختلافات بينهما تتمثل إحداها في أن العدو الرئيسي لسعيد هو الاستعمار الأوروبي أو الأميركي، أما بالنسبة إلى تودوروف فهو الشمولية والشيوعية أو النازية، ومنها أيضا أن سعيد كان دائما يطرح مسألة السلطة، في حين تودوروف كان يبحث عن سبل التوافق، كما كان سعيد منخرطا في معركة سياسية تهدف -في نهاية الأمر- إلى إنشاء دولة فلسطينية، حيث سعيد كان يعتبر نفسه تجسيدا لهذا التقارب بين الشعبين، فالشعبان محكوم عليهما بالشتات، ومن المفارقة أنه كان يرى أن الظلم الذي وقع على اليهود هو الذي جلب على الفلسطينين المأساة التي يعانون منها، فهم بتعبيره “ضحايا الضحايا”.

 أما تودوروف فقد نحّى السياسة جانبا، وعلى مستوى النظرية فكان سعيد يهتم في تناوله للنصوص الأدبية بمحور الاتصال، من يتحدث وإلى من ولماذا، أما تودوروف فكان يترك أسباب الكلام وتأثيراته ويركز على التأويلات، وقراءته للنصوص لا تأتي كوسيلة للفعل، ولكن كنتاج للمعنى.

ويشير إلى الكثير من الصفات الشخصية لسعيد، ويصفه بأنه لم يكن متعاليّا، بل مثالا للتواضع والبساطة، كما كان يحب المزاح دون أن يعتبره خروجا عن الوقار، ويعتبره -على المستوى الإنساني- من أكثر الناس الذين قابلهم دفئا، ويدلل على هذا بأنه كان يذهب إليه هو وزوجته مريم دون حرج، وأحيانا كان يصطحب أطفاله، ويتذكر أنه في إحدى مرات الزيارات العائلية، كان سعيد يجري خلفهم في شوارع نيويورك كي يعطيهم زجاجة رضاعة طفلهم الصغير، التي كانوا نسوها في بيته بعد سهرة ممتعة.

بالنسبة إلى حياته العلمية فيرى أن سعيد كان وكأنه على عجل من حياته، وبالأحرى كان يعيش بإيقاع سريع أسرع من غالبية الكائنات الحية الأخرى، فقد كانت لديه أنشطة متعددة، كان يبدو وكأنه يعيش حيوات عدة في نفس الوقت، وهو الأمر الذي جعله يعيش حياته على صعيدين منفصلين، الأول الجامعة وهو عالمه المهني وقد أغفل فيه أصله الفلسطيني.

 والثاني المدني وقد كرسه للدفاع عن القضية الفلسطينية على الرغم من التحذيرات الأسرية، بأن يبتعد عن السياسة ويركز في الأدب، وهو الأمر الذي كان يرفضه سعيد، مبررا هذا بأنه لا يستطيع العيش دون التزام سياسي، وفي محاولة لتقريب الصعيدين، وجد طريقا مشتركا يتمثّل في دراسة الخطاب الغربي حول الشرق وهو ما أطلق عليه الاستشراق، وقد تبلورت جهوده في سفره العظيم “الاستشراق” 1978، وفيه يرى أن الشرق غير موجود إلا كتلفيق، قصة اختلقها الغربيون، فالخطاب الغربي الذي يتناول الشرق لا يعرفنا بالعالم الشرقي وإنما بكُتّابه من الغربيين.

وكان تأثير المنفى واضحا على سعيد، وقد تجلّى هذا في اهتمامه في نصوصه الأخيرة بالحدود، ويعتبر سعيد المنفى “من أكثر الأقدار تعاسة”، ومن ثم فلم يعد يهتم بمفهوم البيت بل يراها فكرة بها مبالغة في التقدير، وبالمثل لم تعد فكرة الوطن تشغله، فالترحال -حسب قوله لصديقه دانيال بارنبويم- “هو ما أفضله”، حتى أنه يتساءل “كيف نستطيع حقيقة أن نحب شيئا بهذا التجريد والغموض مثل الوطن؟”.

ويعتبر تودوروف أن تجربة المرض قلبت حياة سعيد رأسا على عقب، فقد صار ميتا مع إيقاف التنفيذ، وهو ما استرعى بعض التغييرات الجذرية في حياته، وكان أولها أن تخلى عن التزاماته السياسية، وركز على العائلة والجانب الشخصي، وهو ما ترجمه في مقالاته، ثم سيرته الذاتية، وكأن سعيد أدرك قيمة الوقت، وأن عليه أن يستغله في الأشياء الأساسية، وضرورة التفكير في الأشياء النهائية، بالإضافة إلى اهتمامه بالتراث الإنساني، وهذا الاهتمام جعل تودوروف يقول إذا أردنا البحث عن الأيديولوجيا الأقرب إلى سعيد، فلن تكون الماركسية ولا النيتشوية، لكنها الإنسانية بشرط أن تكون إنسانية عالمية وغير مختلطة بالوسطية الأوروبية؛ فالإنسانية لديه كانت طريقة من أجل التغلب على حدود أخرى مثل الحدود بين العالم والكلمات، كما كان سعيد ضد أي رطانة أو أي لغة غير مفهومة.

يختم تودوروف بورتريه الإنساني عن سعيد بالقول “إن سعيد واجه الموت بالسخرية منه وبزيادة في النشاط”. فقد استطاع سيعد أن يصنع قدره بنفسه، فصار إنسانا عالميّا وإن كان من نوع خاص.

وحدة الفن والعلم

يجمع تودوروف بين جاكبسون وباختين في صورة قلمية واحدة، رغم أنه التقى الأول مباشرة، عندما جاء ليلقي محاضرة عن الشاعر خريستو بوتيف، في حين لم يلتق الثاني إلا عبر كتاباته، ومع هذا فيجعل الفصل بينهما مستحيلا، فكلاهما يعد معاصرا للآخر، كما ارتبط إسماهما بتاريخ القرن العشرين، وقد ترك الاثنان أعمالا هامة في مجال اللغة والأدب، والأهم أن تأثيرهما على تكوينه الشخصي كان قويّا.

استطاع تودوروف أن يجمع بين الاثنين عن طريق الكتابة؛ لأنهما لم يجتمعا قط، رغم محاولات جاكبسون مدّ حبال الود، إلا أن باختين قطعها. هذه القطيعة بين الاثنين دفعت تودوروف للبحث عن أسبابها، بعيدا عن التأويلات الشخصيّة، معتمدا على الكتابات الأولى لكليهما.

من خلال الكتابات الأولى التي نشرها الاثنان، وكانت -للمصادفة- متزامنة، يعثر تودوروف على رابط يجمع بين الاثتين وإن كان باختلاف طفيف في التناول، فجاكبسون في نصه الأول الذي يحلل فيه قصيديتن يؤكد على عنصر الوحدة،  ليس فقط الوحدة بين الفن والعلم، وإنما وحدة كل التظاهرات الحداثية بما فيها الفلسفة والسياسة، وعلى المنوال ذاته يمتدح باختين في نصه الوحدة وبصفة خاصة الوحدة بين الفن والحياة.

الاختلاف المستَشف من تناول جاكبسون وباختين للوحدة يكمن كما يقول تودوروف في تعاملهما، فجاكبسون يجعل من عالم الإبداع والفكر كشيء غير ذاتي، في حين باختين يختار منظورا يكون فيه البعد الذاتي حاضرا لا يمكن اختزاله، فتتكون الوحدة عند جاكبسون داخل المعرفة بالعالم المادي أو في عقل الزمن الذي يطبع كل تظاهراته بطابعه، أما باختين فيرى أن الوحدة ممكن أن تحدث (أو لا تحدث) عن طريق فعل إرادي للموضوع، الذي يقرر أن يتحمل في آن واحد فنه وحياته اليومية ويتضامن معهما. على الجملة جاكبسون التزم أن يسلك طريق العلم بينما باختين اختار طريق الأخلاق التي تشكل فيها الإرادة والحرية المسؤولية المقومات الأساسية.

سعى جاكبسون إلى الوصول إلى معنى يكون مرتبطا بذرات اللغة، أو الصورة أكثر من الارتباط بجزئياتها؛ أي الارتباط بالأصوات اللغوية، بالألوان والأشكال التصورية، أكثر من الارتباط بالكلمات أو بالوجوه. فهو ينظر -كما يقول تودوروف- إلى القصيدة أو اللوحة بذاتها كموضوع له قيمة مستقلة، وليس كعنصر لعلاقة مع شيء خارجه، وتحتفظ كل من القصيدة أو اللوحة داخل كل منهما بالذكرى أو ما يوحي بالمعنى.

كان جاكبسون يعتد بالمونولوج في حين باختين أولى اهتماما بالغا للحوار والحوارية، وهو ما كان أحد المآخذ التي أخذها على الشكلانيين، متمثلا في الديالوج الذي يعطي أهمية لتفاعل بين الأفراد، فاللغة ليست شيئا يتم تحليله لكنها تعصر في حدث فريد، وعن مصدر الحوارية يراه يكمن في العقيدة المسيحية، فكما يقول باختين “إن بُعد العلاقة بين موضوعين أو شخصين، مع عدم التماثل بين أنا وأنت موجود في التقاليد الغربية عن طريق الفكر المسيحي أكثر بكثير من وجوده عن طريق الفلسفة اليونانية”.

يأخذ تودوروف على باختين التفكير السياسي؛ وإن كان يعذره لأن هذه الموضوعات من المحرمات في الاتحاد السوفيتي.

ومن الاختلافات بين جاكبسون وباختين تعاملهما مع الوقائع التاريخية، فجاكبسون كان ممزقا بين إخلاصه للأفكار الثورية من ناحية، وتعاطفه مع بلده الجديد (تشيكوسلوفاكيا)، من ناحية ثانية. أما باختين فلم ينخرط في الحراك الثوري بل كان يلزم بيته، وحينما اكتملت الثورة لم ينشغل بخدمة النظام الجديد عكس جاكبسون، بل هرب من المجاعة التي أصابت سان بطرسبورج إلى نيفيل ثم إلى فيتسيك، ومع أنه كان مشحونا بالحماس الجماعي والاضطراب الاجتماعي إلا أنه آثر العزلة، بل كما يقول تودوروف “كان متحررا من أي التزام”، على الجملة يصفه تودوروف بأنه لم يكن رجلا ثوريّا، فعل ما هو مفروض عليه في الحياة العامة، وفي طيات كتاباته.

وقد تجلى موقفه السياسي امتثالا لنظريته الحوارية، فمهوم الحوار بين الإنسان والثقافة عنده يتعارض مع الخضوع لسلطة سياسية ما تزعم أنها تمتلك الحقيقة.

العجيب في التباين بين الشخصيتين أن حياة جاكبسون حوارية تفاعلية، متجهة كلية نحو الآخرين، تستكمل مفهومه المونولوجي والشيئي للغة والأدب، في حين أن حياة باختين تسير عكس ما دعا إليه من حوارية وتأكيد على أهمية التفاعل مع الأفراد.

صاحب الروح القلقة

 ثاني الشخصيات التي يأتي تعامل تودوروف معها عبر اللقاء غير المباشر، عن طريق كتاباته التي وصلت إلى أربعين مؤلفا، المعلق السياسي الأكثر وضوحا الذي عرفته فرنسا في القرن العشرين  ريمون آرون (1905- 1982)، فإلى جانب كتاباته الصحافية في كبريات الصحف، ترأس الكثير من المؤتمرات الدولية، كما حاضر في العديد من معاهد العلم، وقد نال العديد من الجوائز، كما أنه حظي بمقابلة الكثير من كبار رجال السياسة في أوروبا وأميركا.

ومع ثقته الظاهرة بذاته، إلا أنه كان على استعداد بأن يشك في كل شيء، وعلى وجه الخصوص في نفسه، فهو غير راض عن نفسه، الدرس المستفاد من شخصية آرون أن قوة ومتانة الفكر لا تتعارض مع هشاشة الإنسان وضعفه.

كان آرون يقف على الجانب الآخر من النازية، فافتتاحيات مقالاته كانت تدق ناقوس الخطر، كما اختار المواجهة لا الهروب والانعزال، فقبل الحرب كان ينظر إلى الشيوعية نظرة نقدية، لكن بعد الانتصار على النازيين دخل في صراع مستمر ضد الأيديولوجيا الشيوعية، فاشترك في منظمة مناهضة للشيوعية (المؤتمر من أجل الحرية والثقافة). وفي عام 1955 ينشر آرون تحليلا بديعا للأسباب التي تدفع المثقفين الغربيين بالتأثر بالشيوعية بعنوان “أفيون المثقفين”، كما انتقد الأوهام الدائمة لليساريين الفرنسيين التي تجعل من معسكرات الاعتقال أمرا مقبولا.

وإذا كان آرون يجيب بنعم عن تساؤل: هل لدينا الحق بالجمع بين الشيوعية والنازية تحت عنوان مشترك “الديانات العلمانية”، فإنه في الوقت ذاته يتساءل هل علينا إدانتهما بكل قسوة؟ الغريب أنه ظل يعتقد لوقت طويل أن هناك تعارضا بين المشروعين، إلى درجة أنه كان يرى جرائم النازية تطبيقا للمشروع النازي، في حين أن جرائم الشيوعية خيانة للمشروع الشيوعي، وإن كانت النظرة تغيرت في ما بعد وساوى بين المشروعين واعتبر أن الاختلاف في حقيقته وهمي، لأن البرنامج الشيوعي له دور تمويهي فقط، ومن ثم صارت الشيوعية -في نظره- ليست أقل بغضا من النازية.

وبالنسبة إلى المسألة الاستعمارية فإنها لا تسترعيه قليلا، فهو يشعر بالتضامن مع الدولة الفرنسية، مع ضرورة منح المستعمرات استقلالها الذاتي. كثرت مواقفه المحتاجة إلى حسم، كما تغيرت مواقفه فقام بدور حقيقي في الحرب الجزائرية وأصدر كتابا بعنوان “المأساة الجزائرية”، كان له تأثير مدو في يونيو 1957، وتبعه مثقفون آخرون في الدفاع عن استقلال الجزائر، وإن كانت آرؤه اتسمت بالحجج القوية عن الآخرين.

معاداة آرون للشيوعية والنازية اتسقت مع إيمانه بالديمقراطية الليبرالية التي كانت حلا وسطا ما زال هشا بين مجالين؛ مجال الحكم الذاتي المتروك للأفراد، والمجالات التي تعطيها الدولة للأكثر فقرا، كما يشكك في المحاولات الحديثة لإقامة عدالة دولية تعلو فوق الدول، فهو يرى في العلاقات الدولية لا توجد محكمة.

 حامل الشعلة

 يتساءل تودوروف وهو يستعرض مواقف وآراء آرون عن الأسباب التي جعلته ينجو من العيوب المعتادة للمثقفين. ويرد هذا إلى أن آرون قد تخطى المراحل الحاسمة في تعليمه، ليس على مقاعد دار المعلمين العليا، بتعلمه في شوارع برلين، فالشخصيات المؤثرة التي حددت اتجاهاته السياسية هي: ستالين وهتلر وليس كانط وهيجل، وهذا ما جعله يختار الطريق غير المعتاد والصعب، فلم يغلق عينيه أمام العالم من حوله، وفي الوقت ذاته لم يضع الأحلام والمجردات مكان الحقائق، فهو شديد الاهتمام بالحقيقة، لم يكن باستطاعته أن يتوافق طويلا مع أي حزب أو أي مؤسسة، ومن هنا -حسب تودوروف- الدرس الذي خلفه لمن يأتي بعده “هو رفض القطيعة بين عيش الحياة وتأملها”، فحسب اعتراف آرون نفسه “لم أقم أبدا بتبرير ما لا يمكن تبريره من أجل أسباب جدلية”، فقد كان يتخذ مواقفه لا حسب الاتجاهات الفكرية التي كانت سائدة، وإنما بناء على توافقها مع قلبه وضميره.

اختيارات آرون دفعت به إلى أن يكون على الهامش بالنسبة للسلطة السياسية، ونفس الشيء مارسه تجاه الأحزاب، فأثناء دراسته انضم للحزب الاشتراكي، لكنه لم يستمر، بصفة عامة كان آرون غاضبا من عبادة الفرد، فمع علاقاته الوطيدة مع كبار رجال السياسة مثل شارل ديجول وجورج بومبيدو وفاليري جيسكار ديستان إلا أنه لم يكن مستشارا لأحد، لأنه متمسك إلى أقصى درجة باستقلاليته، هذه الاستقلالية تكررت أيضا مع اختياراته الأيديولوجية.

وهذه الاختيارات حملته ثمنا باهظا في مسيرته العملية، فقد تم رفض ترشيحه لوظيفة أستاذ في السربون، وتكرر الرفض مرة ثانية عندما تم ترشيحه لوظيفة في الكولاج دو فرانس، كما لم يصبح عضوا في الأكاديمية الفرنسية أبدا.

يكفي آرون عندما مرّ بمحنة المرض وقبلها محنة وفاة ابنته، أنه كتب بيده اليسرى وهو في غرفة الإنعاش “أموت غير خائف” فقد كان قبلها دخل في مرحلة سلام مع نفسه، فكما يقول “لقد انتهى بالنسبة لي زمن الجدل والحروب الكلامية”، وفي الوقت نفسه توقف عن الاهتمام الشديد الذي كان يوليه لآراء الآخرين عنه. في الأخير أراد آرون أن يكون خادما وكاشفا للجمهور، ويحمل الضوء لهم.

يتسم الكتاب ببساطة التناول والجمع بين التناول الذاتي للشخصية وانغماسها في المعترك العام، لكن من جهة ثانية وهو يستعرض مواقف هذه النخبة يضع النخبة العربية في مأزق تمثلهم لمفهوم المثقف الحقيقي الذي يمتلك الشّجاعة، وأن يكون وحيدا ضدّ الجميع، ومُجدِّفا ضدّ التيارات، والمقاوم الذي أراده ودعا إليه إدوارد سعيد، بما يقوم به من دور في استجواب السلطة، بل وتقويضها، وأيضا بالدفاع عن ثوابت الحقّ والعدل من خلال فضح الفساد والدفاع عن المستضعفين وتحدي السُّلطة القائمة.

 الشخصيات التي يستعرضها الكتاب، وكذلك شخصية مؤلف الكتاب، لم تهادنِ البتة  السلطة واختارت الانحياز للجماهير والوقوق إلى جوار الحق والدفاع عن استقلال الشعوب المستلبة الإرادة والحرية، امتثالا لمفهوم المثقف العضوي، وهو ما يضع النخبة العربية المثقفة تحت دائرة السؤال ماذا قدمت للجماهير؟ وما موقفها من جنوحات السياسة؟ وهل تُمارس الليبرالية في كل آرائها، أم ثمة تغاض وتراخ في الدفاع عنها في خندق آخر؟ والحقيقة أن الإجابات عن هذه الأسئلة مقلقة ومربكة، فهي أولا تضع ذات النخبة أمام المرآة، وبمثابة التحدي لمن يجرؤ على وضع الجرس في رقبة القط، وثانيّا تضع الشعارات التي ينادون بها في خندق مسدود ينذر بنهاية وخيمة، لا فقط على النخبة بل تتعداها إلى الجماهير الغفيرة التي آمنت بها وأسلمتها زمام القيادة، وكذلك المثقف الذي داسته سنابل الخيل الجامحة.

العرب

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى