نصوص

السوداء الفاتنة/ سوسن جميل حسن

يبدو كما لو أنه ميزان مزاجي وعلاقتي بالأشياء وبذاتي، لا يبدأ يومي من دونه، أشعر بفراغ في رأسي وقدر من اللامبالاة قبل أن أجالسه ويجالسني، تبدأ الحياة تتضح شيئًا فشيئًا والأفكار تنجلي من الشمّة الأولى، يفيق الكون عندما تفوح رائحته وتنتشر في الجوّ من دون أن أراها أو ألمسها، هي فقط تتفشّى خلسة وتنسلّ إلى كياني، أعرف أي طريق تعبر لكنني لا أعرف أين يكمن السرّ الذي توقظه ولا كيف تلامسه. أعرف أنه ليس لي وحدي، لكنه يعرف مفاتيحي ويمنحني نشوتي الخاصة، بيننا علاقة عابرة للزمن من دون أن أتذكر أول تجربة بيني وبينه، لا أذكر المرّة الأولى، عندما لامست شفتاي أطرافه بعد أن كانت رائحته عمّرت عالمي بصور كثيرة ومباهج متنوعة، هو فنجان قهوتي التي أرشفها الآن على مهل جالسة على شرفتي في الطابق الحادي عشر، في مدينة الغربة التي ألفتُها وألفتْني، التي تضمر كثيرًا من الحنان والدفء لعابر فيها تغريه بالبقاء، ولوافد إليها ليقيم فتمنحه أسباب البقاء، برلين.

وحيدة إذًا في ساعات الفجر، تستفيق العصافير باكرًا هنا، قبل الحمائم، عندما يشق الفجر الأفق وتدلق الشمس المختبئة خلفه ألوانها على أطراف السماء، تنحلّ الألوان بالندى وتتفشى صاعدة باتجاه القبة تزيل ستائر العتمة استقبالًا للشمس في موكبها الملكي. ليست العصافير وحدها، بل الغربان أيضًا، برلين مدينة تمنح سماءها للطيور كلّها فتستأنس الغربان والعصافير والحمائم مع بعضها بعضًا، وترسم حدودها برواحها وغدوّها في سماء المدينة. زقزقتها تنقر على زجاج وحدتي، فتذكرني بقصيدة أحببتها لشربل داغر تحكي عن نقرة له ونقرة لها “في ملامسات الخفة الرشيقة”، ثم أسمع نزار قباني يهمس في أذن امرأته: “عندما أشرب القهوة معك أشعر أن شجرة البنّ الأولى زرعت من أجلنا”، فيأخذني بعيدًا إلى فنجان قهوة شربناه معًا، أنا وهو في أول لقاء، عندما كان موجان يترنّح بيننا يأخذني بعيدًا عن مذاقها ونشوتها التي تؤكّد لي هذه اللحظة أنها كانت قهوة تدمغ الروح بنكهتها وتحيلها إلى الذاكرة بكامل رونقها، بينما الليل يتمطى في غرف النائمين، وأنا وفنجاني نعيد حكايات وننسج أخرى، لا مانع أن أقلبه بعد أن أنهيه ولا يبقى في قعره غير الثفل، سأقرأ فنجاني بدقّة وانتباه، لم أعد أعرف الكثير عنّي بعد عشر سنوات من الحرب وقبلها الكثير من الخيبات والخسارات، لذلك أستطيع أن أتعرّف إلى مصيري في قعر فنجان بعد أن صرت أُشبهُ محمود درويش حين قال: “وحيدًا أصنع القهوة وحيدًا أشرب القهوة فأخسر من حياتي .. أخسر النشوة”، لكنني سأحلم أن أستعيد النشوة، فحياة بلا متعة ليست حياة.

قبل أكثر من خمسين عامًا، عندما لم أكن قد شربت القهوة بمزاج جدير بها ويعرف مفاتيح أسرارها، كانت الطاحونة اليدوية النحاسية نجمة السهرات وجلسات الأنس، تدور بين الأيادي كلفافة الحشيش أو شيشة الكيف، لكل واحد ترف اللعب بها، وإذ يمتلئ الجزء السفلي منها كانت تأخذها أمي وتفرغ البنّ المطحون في علبته الخاصة وتعبّئ الجزء العلوي بحبّات البن المحمّص، ولهذا الأخير طقس خاص به، ثم تعود والمطحنة الصغيرة في يدها جاهزة لتوزيع المتعة على الحاضرين.

عندما كنت صغيرة كانت تصيبني الدهشة أمام الاهتمام البالغ الذي يوليه الكبار للقهوة، والجهد المبذول لأجل تحضيرها، وطرق تقديمها مرتبطة بسلوك وقيم لم أكن أفهمها، لكنها تشي بمهابة كبيرة لهذا الـ “شيء”، المجتمع في كل هذا. كان في كل بيت تقريبًا محمصة للبنّ، لم تكن كل البيوت تتوفر على مواقد الغاز، فكثير منها كان الموقد الذي يعمل على الكاز هو الأداة الخاصة بالطبخ وغلي الماء لأجل الغسيل، وعند البعض من أجل الاستحمام، كان يدعى البابور الذي أعادته السنوات الأولى للحرب السورية إلى تصدّر المشهد، فصار مثل روح كريمة تأتي من الماضي، إلى أن اختفى وقود الكاز من محطات الوقود، لتنضاف أزمة أخرى وقهر آخر إلى نفوس السوريين؛ موقد نحاسي تلتصق به ثلاث قوائم معقوفة في نهاياتها العلوية لتشكّل حاملة للقدور فوقها، وكان لمحمصة البن مشبك إضافي يوضع على الموقد لأجل ضمان مسافة الأمان بينه وبين النار كي لا تحترق حبّات البنّ، فالقهوة مزاج، وللمزاج مشعر حساس ودقيق مثل الكريستال هش وسريع الانكسار، هناك من يهواها شقراء، ومنهم من يحبّها سمراء وآخر يعشقها سوداء، منهم من يشربها مع مكملّات كالهال والمسكة وتوابل أخرى، أمّا انا فأشربها “سادة” كما يليق بها، بنّ صافٍ، مع أنني كنت أردّد زمانًا مع سميرة توفيق “بالله تصبّوا هالقهوة وزيدوها هيل، واسقوها للنشامى ع ضهور الخيل”، ولا أعكّر مزاجها بالحليب أو السكّر.

كانت حينها محلّات محامص البن أو بيعه قليلة، ثم راحت تزداد في المدن، وكان بيت الجيران المحاذي لبيتنا، تفصلهما الحديقة المنزلية فقط، قد اقتنوا محمصة ومطحنة كبيرتين سخّروا لهما غرفة في الطابق السفلي، عندما يأتي ضيوف إلينا كانت أمي ترسلني ولو في وقت متأخر مساء فأطرق بابهم وأطلب البن المطحون، ولم يكونوا يتذمّرون بل كانوا يشغلون المطحنة لأجل أوقية من البن. أمّا جدتي في الضيعة فكانت تخفي علبة البنّ في دولاب خشبي في غرفة جدي وتقفل عليها باعتبارها قيمة ثمينة ومحفوظة للضيوف المهمّين، أما أولئك المياومين من الجيران القريبين ومن أهل الضيعة البعيدين الذين كان يوم شغلهم في الأرض ينتهي قبيل المغيب ويرصدون بقيته للتسلية وتمضية وقتهم الطويل، فكانت ضيافتهم الزوفا أو الملّيسة أو الميرميّة، أو الزهورات والأعشاب التي تجود بها الأرض وتقوم النساء بتيبيسها، وفي وقت متأخر دخل الشاي على الخط، لم تكن ضيافة القهوة أو تناولها قد دخلت العادات اليومية لأهل الريف بجدارة، كانت جدّتي التي خسرت أسنانها من دون أن تضع تعويضات مكانها، تعدّ لنفسها كل صباح فنجانًا من القهوة وتغطّس فيه قطع البسكويت مثلما لو كانت مواطنة فرنسية، هذا كان فطورها اليومي.

قهوتنا العربية معروفة في الخارج باسم القهوة التركية، لا أعرف السبب بالرغم من أن شجرة البن التي كان موطنها الأصلي في إثيوبيا، كما تقول الكتب، وانتقلت إلى اليمن عن طريق تجار صوماليين منذ قرون، ويٌقال إن أقدم الأدلّة المثبتة على شربها تعود إلى القرن الخامس عشر في الأديرة الصوفية في اليمن. وبحلول القرن السادس عشر وصلت إلى بقية الشرق الأوسط وجنوب الهند وبلاد فارس وتركيا والقرن الأفريقي وشمال أفريقيا. ثم انتشرت إلى البلقان، وإيطاليا وبقية أوروبا إلى جنوب شرق آسيا ثم إلى الولايات المتحدة الأميركية. لكنها في النهاية تُدعى قهوة تركية، هل للاحتلال العثماني لبلادنا على مدى قرون علاقة بالأمر؟ ربما. لكن هذه القهوة تستهويني، أحببتها منذ المذاق الأول ولم أستطع بناء ألفة بيني وبين غيرها بالرغم من مئات الأصناف العالمية، ومثلها من طرق إعدادها وطقوس تناولها، أغليها على مهل، أضع البنّ بمياه باردة في ركوة خاصة نحاسية بفوهة ضيقة، وأجعلها تسخن ببطء وأنا أحرّك وأحرّك فأكتشف أن رأسي يمور بصور شتى وأفكار تتحرّك معها وأصوات وموسيقى، أنتبه إلى سطح القهوة في الركوة وهو يرتفع، يجب ألّا تفور، يجب أن تبقى الرغوة السميكة تنهض ببطء لتفترش سطح فنجاني. في سورية كان لدي فنجاني الخاص، أهدي إليّ من متحف محمود درويش في رام الله، فحملته إلى هناك، سورية، التي شعرت أن مكانه فوق أرضها ولم أحسب حسابَ أنني يمكن أن يطول بي الوقت بعيدة عنها، مكتوب عليه “على هذه الأرض ما يستحق الحياة” وعلى صحنه السفلي توقيعه، فهل صحيح على هذه الأرض ما يستحق الحياة؟ سوريالية الواقع تهزّ قناعاتي. لم أكن أستبدله حتى لو شربتها مع ضيوف في بيتي، كنت أعتذر منهم لأن طعم القهوة يتغير في فمي بغيره. في برلين اعتمدت فنجانًا خاصًّا أيضًا، كيف؟ ولماذا هذا دون غيره؟ في الحقيقة لا أعرف، لكنها القهوة المتطلّبة صاحبة المزاج.

لم أشرب القهوة بشكل يليق بها إلّا في سنتي الجامعية الأولى، كانت مثلما لو أنها عتبة دخول الصبا والانفلات من قيود الأسرة ولوائح الممنوع والمرغوب، كانت قهوة رخيصة لتناسب دخل الطالب، معدّة بشكل سيء في ندوات الجامعة، لكنها كانت مثل كلمة سرّ لدخول “أزقة” الحياة. كنّا شبابًا وصبايا ممتلئين حماسًا، فوضويين، أكتشف بعد هذه المسافة الزمنية المديدة كم كنّا جامحين، أفكارنا تتزاحم في فضاءات مغلقة ليس لدينا هدف واضح، لكن تلك الفناجين علّمتني الكثير، كنت قليلة الكلام أنصت أكثر ممّا أتكلم وأرى إليهم وهم يحرقون السجائر الرخيصة ويفرطون في شرب القهوة، مثلما لو كانت حقًّا كما سمّاها الأوروبيون عندما وصلت إليهم “نبيذ العرب”، وفي الواقع فإن كلمة قهوة عند العرب تعني الخمرة، ويضعون كتبًا مغلّفة بجرائد تحت آباطهم، ما جعلني بعيدة، بدوافع لم أتبينها، عن الانشغال السياسي الذي راح الطلاب يجتمعون عليه حول طاولة القهوة، إلى أن صار ما صار، ودخل قسم كبير منهم المعتقلات،  تحت مسمّى تهكّمي: استدعوه إلى فنجان قهوة، فيشرب الحنظل طيلة فترة اعتقاله فيما لو خرج حيًّا. لم أتحزّب ولم أنتمِ إلى أي جماعة، لكن القهوة تمكّنت منّي، وانتميت بدوري إلى ثقافتها، وبنيت لها عالمًا يليق بها وبي وشغفي.

تعرّفت إلى المقاهي بعد أن صارت ضرورة مدينية، وصار لها تاريخ، وبعد أن مرّت بمرحلة الإغلاق نتيجة فتاوى رجال الدين، إذ لقيتْ القهوة في البداية معارضة من قبلهم في اليمن ومصر ومكة المكرمة ونجد، وصلت في بعض الأوقات إلى التحريم، باعتبار مجالسها تضيّع الوقت الذي يجب أن يرصد لذكر الله والعبادة. صار لكل مدينة مقاهيها المتنوعة بين المقاهي الشعبية أو العامة أو مقاهي الثقافة، تلك التي كان يجتمع فيها المثقفون. يُقال إن أول مقهى “وهو يعني مكان تقديم القهوة أساسًا” في العالم كان في مدينة إسطنبول، وشاعت المقاهي مع انتشار القهوة وصارت الأماكن الأولى للتجمع والنقاش بين المثقفين والفلاسفة والسياسيين والشخصيات البارزة منذ ذلك الوقت، ولكل مدينة مقاهيها العلّامة. كانت اللاذقية، مدينتي، تشتهر بمقاهيها البحرية زيادة على تلك العريقة في مركز المدينة، التي تشبه نظيراتها في المدن السورية الأخرى، كانت تغطّس أطرافها في ماء البحر، وعندما يعربد موجه يرشها برذاذه، وكان فنجان القهوة في واحد منها حكاية ومتعة، لكن البلاء أصاب هذه المدينة وهجمت آليات الفساد وآلاته فهدمت واجهتها البحرية، التي تمنحها هويتها المتوسطية حاملة تاريخها كباقي المدن الساحلية على شواطئ هذا البحر، وبلطّت البحر واقعًا، تاركة للنفوس المنتهكة بالتطاول على هوية مدينتها وذاكرتها أن “تبلّط البحر” مجازًا.

لفنجان القهوة متعته بما يرتبط به من جوّ اجتماعي، حتى العشاق عندما يواعدون بعضهم بعضًا يوجّهون الدعوة إلى فنجان قهوة، الفنجان الذي تفوح رائحته ويتمادى مذاقه في الأفواه لاحقًا، بما خطف معه خلسة من أحاسيس ومشاعر المرّة الأولى والدهشة الأولى ورتبها في خزائن الذاكرة، فيصير أطيب فنجان قهوة في ماضي العاشقين، أو ربما يتحوّل إلى حنظل في حلقيهما.

تغلغلت القهوة في حياة البشر في كل أنحاء العالم، وصار لها تقاليدها وطقوسها وآداب شربها، وفي بلداننا أيضًا، صارت تتوّج الجلسات والمآدب، مهما كانت المأدبة سخية وعامرة لا تستقيم من دون فنجان القهوة، في الأحزان والتعازي تقدم القهوة، في اجتماع النساء وجلساتهن الخاصة التي غالبًا ما تنتهي بقلب الفناجين وتكليف واحدة من بينهن بقراءتها، وصرن لاحقًا يدندنّ أغنية عبد الحليم حافظ “قارئة الفنجان” وقليلات من كنّ سمعن بنزار قبّاني قبلها. هناك القهوة الحتمية للضيف الطارئ، إذ يتداول الناس قولًا فيه شيء من العنصرية بقصد أو من دون قصد “صحيح هي سوداء لكنها تبيّض الوجه”، بمعنى أن المضيف لا يصغر أمام ضيفه طالما قدّم له شيئًا مهمًّا، بل وصلت مكانة فنجان القهوة حدًّا صار معه معيارًا لبعض القيم على علاقة بالكرامة، فمن يشرب أو تشرب الماء بعد فنجان القهوة يعني أن قهوة المضيف مرفوضة أو محتقرة، ولقد سجّلت حكايات فسخ خطوبة بعد موقف كهذا.

صارت القهوة رمزًا له علاقة بالقيم والكرامة والكرم والشرف، تحلّ محلّ الوعد أو اليمين في حالات كثيرة: “لا أشرب قهوتك إن لم توافق”، وصارت ملمحًا من ملامح المساواة والعدالة الاجتماعية، فهي موجودة في كل البيوت، ومتاحة بأصنافها المتنوعة للجميع، حتى الفقير كان يمكنه شراء البنّ، إلى أن جاءت الحرب وقضت على الأخضر قبل اليابس، انتهكت حياة السوريين وأرواحهم ومنظومة قيمهم، وأصابتهم في الصميم عندما صار فنجان القهوة حلمًا، وصار السوري يشيح نظره عن جار أو صديق كي لا يتورّط معه بدعوة إلى فنجان قهوة، حتى القهوة البيضاء، التي تقدّم في التعازي بجانب السوداء، مغلي الليمون والسكر وماء الزهر، صارت تسوّد الوجه بدلًا من أن تبهجه وتبيّضه بعد أن صارت حلمًا كقهوة البنّ.

ضفة ثالثة

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى