الناس

سوريا الأسد في طريقها إلى المجاعة كما حدث مع عراق صدّام

Foreign Policy

يواجه جو بايدن، تحدّياً مختلفاً: كيف يُمكن وقف المجاعة في سوريا وكيف نساعد الناس على استئناف حياتهم من دون أن يعود ذلك بالفائدة على الأسد؟

فرّ أيمن (30 سنة)، من دمشق إلى بيروت في بداية الحرب الأهليّة السوريّة. وعلى مدار العام الماضي، وفيما كان الاقتصاد اللبنانيّ ينهار، ووجد صعوبة في إيجاد عمل، بدا الصراع الدائر في وطنه كأنّه ينحسر ويميل إلى السكون. ولهذا اتّصل بأصدقاء له، وجميعهم يعيشون في المناطق التي يسيطر عليها النظام السوريّ، وذلك لكي يستعلم منهم إنْ كان الوقت قد حان للعودة. وكانوا واضحين تماماً في إجاباتهم. وقال أيمن، شرط عدم الإفصاح عن هُويّته لمخاوف أمنيّة، “لقد قالوا لي ابقَ مكانك، فليس هنا حتّى ما يكفينا من الطعام”.

خلال الحرب الأهليّة، التي امتدّت إلى 9 سنوات حتّى الآن، دُمّر الكثير من البنية التحتيّة السوريّة، نتيجة القصف العشوائيّ الذي مارسه النظام وحلفاؤه الروس، ونتيجة المعارك والمواجهات في الخطوط الأماميّة أيضاً. وكان من أعراض هذه الحرب انخفاض الإنتاج الغذائيّ وتوليد الطاقة وغيرهما من الصناعات. وقد تعثّر الاقتصاد السوريّ، وثيق الصلة بالاقتصاد اللبنانيّ، لفترةٍ من الزمن. مع ذلك، في وقتٍ مبكّر من هذا العام، تمّ حظر ودائع بمليارات الدولارات لشركات سوريّة إثر تفكّك السياسة النقديّة اللبنانيّة وفرض قيود على رأس المال لتفادي حدوث طلب كبير على المصارف. ويقول الرئيس السوريّ بشّار الأسد إن المصارف اللبنانيّة تحتجز ما لا يقلّ عن 20 مليار دولار من أرباح السوريّين، التي لو أمكن الوصول إليها لحلّت الأزمة الاقتصاديّة السوريّة فوراً. وقد تراجعت عملات البلدان المجاورة للبنان في الوقت ذاته، مع ارتفاع هائل في أسعار السلع الأساسيّة، وكان هذا الارتفاع في سوريا بنسبة 200 في المئة. لذا صارت الحياة صعبة على اللبنانيّين، ولكنّها أيضاً أصعب على السوريّين الذين أنهكتهم الحرب.

لعلّ الشعور بالذنب الذي انتاب زملاءه السابقين في إدارة أوباما، الذين شاهدوا الحرب السوريّة تتحوّل إلى حالة من الفوضى، سيُحثّه على إيلاء الملف السوريّ مزيداً من الاهتمام. ولكن إلى أيّ مدى ستكون سوريا على قائمة أولويّات الرئيس المقبل؟ هذه مسألة أخرى.

غمرت وسائلَ التواصل الاجتماعيّ صورٌ لمئات السوريّين يصطفّون خارج المخابز للحصول على الخبز المدعوم، ويقفون لساعاتٍ طويلة في محطّات الوقود. وشكا المقيمون أسوأ أزمة غذاء ووقود في بلادهم على الإطلاق. وقال أحد أصدقاء أيمن من دمشق، “انقطاع الكهرباء يجعل من شبه المستحيل على الشركات أن تواصل عملها. فالوقود المطلوب لتشغيل المولّدات مكلّف للغاية”.

وفقاً لبرنامج الغذاء العالميّ، التابع لهيئة الأمم المتّحدة، فإنّ 9.3 مليون من السوريّين ليسوا متأكّدين من مصدر وجبتهم التالية، وهي زيادة بمقدار 1.4 مليون تقريباً في النصف الأوّل من العام. إضافةً إلى ذلك، فإنّ شمال سوريا الشرقي، المنطقة التي تمثّل السلّة الغذائيّة للبلاد، يخضع لسيطرة “قوّات سوريا الديموقراطيّة”، الحلفاء الأكراد للولايات المتّحدة، والذين لم يتوصّلوا بعد إلى اتّفاق مع النظام السوريّ حول إمدادات الحبوب الغذائيّة. لقد أصبحت سوريا، التي كانت يوماً من الدول المصدِّرة للقمح، تعتمد جزئيّاً على إمدادات القمح من روسيا، بل إنّ ذلك الدعم لم يفِ بحاجتها حين خفّضت موسكو حجم مبيعاتها من الدقيق إلى الخارج، حفاظاً على احتياطها في الداخل خلال هذه الأوقات المضطربة الناتجة عن وباء “كورونا”. علاوةً على ذلك، فإنّ العقوبات الأميركيّة على قطاعَي النفط والغاز، تعني أنّ الخام الإيرانيّ وحده هو ما يصل إلى الأسواق السوريّة، ونقص هذا المورِد الأساسيّ له أثر مضاعَف على قطاعَي الزراعة والطاقة، ويؤثّر أيضاً في الأعمال والشركات المحلّيّة.

يعيش اليوم أكثر من 80 في المئة من السوريّين تحت مستوى خطّ الفقر، وقد أدّى اليأس من تلبية احتياجاتهم إلى ارتفاع في معدّل الجريمة تبعاً لذلك. وتتفشّى في أنحاء كثيرة من البلاد عصاباتٌ تعمل في تهريب البضائع والأسلحة والمخدّرات، وتقوم باختطاف البشر لطلب الفدية.

ومع أنّ كل هذا يرتبط ارتباطاً وثيقاً بعقودٍ من الفساد وسوء الإدارة والسحق الوحشيّ للأراضي التي يسيطر عليها اليوم المتمرّدون، فإنّ نقّاداً يقولون إنّ هذه الأزمات هي أيضاً نتيجة العقوبات الأميركيّة على بعض القطاعات.

تعقد اليوم مقارنة مُقلِقة حول ما إذا كانت العقوبات ستكون في سوريا بالقسوة ذاتها وستؤدي في نهاية المطاف إلى نتائج عكسيّة كما كانت في العراق منذ عقدين. تظلّ الأرقام محلّ جدال، ولكن وفقاً لإحدى الدراسات يُقال إنّ نصف مليون طفل ماتوا في العراق نتيجة العقوبات الدوليّة بزعامة الولايات المتّحدة. وظلّ صدّام حسين ديكتاتوراً كما كان دائماً، ولم تتمّ إزاحته إلّا بعد سنواتٍ من المعاناة حين هاجمته الولايات المتّحدة عسكريّاً.

الهدف الذي تسعى إليه عقوبات قيصر التي فُرِضت هذا العام -والتي سُمّيت باسم مستعار لشرطيّ منشقّ فرّ من سوريا وبحوزته دلائل على مقتل آلاف السوريّين في سجون الدولة- هو، بالمثل، إجبار النظام السوريّ على تغيير سلوكه تجاه الشعب من نمط “القتل” إلى مزيد من الاستيعاب والاحتواء. وقال ديبلوماسيّون غربيّون رفيعو المستوى لمجلّة “فورين بوليسي الأميركيّة” في مناسبات عدة إنّ العقوبات هي وسيلة الضغط الأخيرة على الأسد لإطلاق سراح السجناء السياسيّين وضمان العودة الآمنة للاجئين والاتّفاق على مصالحة سياسيّة، يمكنها إذا أُجرِيت بنزاهة وشفافيّة أن تؤدّي في نهاية المطاف إلى رحيله عن السلطة.

فضلاً عن أنّهم يصرّون على أنّ تحمّل تكاليف إعادة إعمار سوريا، بما في ذلك مشاريع البنية التحتيّة، مثل محطّات الطاقة وأنظمة الريّ الضروريّة لضمان الأمن الغذائيّ واستمرار الحياة اليوميّة في البلاد، من شأنه أن يُعزّز القمع والاضطهاد اللذين يمارسهما النظام. ويقولون إنّهم لا يعتزمون السماح للأسد بالنجاح في تحقيق هذه الغاية، إلّا إذا قدّم تنازلات كبيرة على الأقلّ. وعلاوةً على ذلك، يشعر الغرب بالقلق إزاء احتمال قيام الأسد بتبديد الأموال واختلاسها ببساطة، كما يقال إنه فعل مع جزء كبير من المساعدات الإنسانيّة التي أُرسلت بالفعل إلى سوريا لنجدة المنكوبين والمتضرّرين من الحرب.

بَيد أنّ آخرين يقولون إنّ العقوبات من غير الممكن أن تُصلِح ديكتاتوراً غير قابل للإصلاح، بل إنّها لا تُعاقب سوى الشعب السوريّ. ويرون أنّ الشعب السوريّ، مثلما حدث في العراق، هو من يتحمّل وطأة العقوبات، في حين لا يواجه الأسد وأعوانه نقصاً في الغذاء أو الوقود. ويؤكّدون أنّ من السذاجة أن تتوقّع الولايات المتّحدة من الأسد أن يُخضِع مجرمي الحرب للمساءلة، لأنّه يصعُب أن نتوقّع منه أن يُدين نفسه. وتتلخّص حجّتهم في أنّ الولايات المتّحدة لا بدّ أن تعمل على عكس سياسة الضغوط القصوى التي تنتهجها وأن تعمل على منح إعفاءات تدريجيّة من العقوبات، على أن تكون مستعدّة لتقديم هذه الإعفاءات في مقابل تنفيذ مطالب أكثر واقعيّة.

وقالت بينت شيلر، رئيسة قسم الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بمؤسّسة “هاينريش بول” الألمانيّة، إنّه لم يكن هناك أيُّ خلاف بشأن العقوبات الموجّهة ضد المقرّبين من الأسد، بَيد أنّ العقوبات القطاعيّة الأميركيّة كان لها أثر سلبيّ على المواطنين العاديّين، مُضيفةً أنّ العقوبات الأميركيّة تعتمد على منطق تطبيق “أقصى قدر من الضغوط”. ولهذا السبب شملت العقوبات على القطاعات الاقتصاديّة في مراحلها الأولى، في حين لم تشمل العقوبات على أفراد بعينهم إلّا في المرحلة الثانية. في المقابل، اتّسمت العقوبات التي فرضها الاتّحاد الأوروبّيّ بأنّها موجّهة إلى حدٍّ كبير، فقد شملت فرض حظر السفر على مسؤولي النظام ووكلائه، استناداً إلى دور كلٍّ منهم في انتهاكات حقوق الإنسان. فضلاً عن أنّ العقوبات القطاعيّة، كتلك التي فُرضت على المصارف السوريّة، تحدّ من قدرة النظام على شراء البضائع من الخارج. وعلى رغم استثناء السلع الإنسانيّة والطبّيّة، فقد أشارت منظّمات المجتمع المدنيّ السوريّ إلى أنّ “المبالغة في الامتثال للجزاءات يؤثّر عليها”.

وقال آرون لوند، وهو محلّل متخصّص في الشؤون السوريّة في الوكالة السويديّة لأبحاث الدفاع، إنّ العقوبات التي فرضتها الولايات المتّحدة والاتّحاد الأوروبّيّ استثنت كلَّ ما هو مرتبط بالاستخدام الإنسانيّ أو التجارة المدنيّة المشروعة. غير أنّ الشركات التجاريّة عادةً ما تخشى التعامل مع أيّ دولة خاضعة للعقوبات، وذلك ببساطة لأنّ فهم قواعد الجزاءات أمر بالغ التعقيد، ولا ترغب في خوض أيّ مجازفات. وأضاف، “الشركات تتجنّب حتّى التجارة المسموح بها، لكي تظلّ ببساطة بعيدة من المخاطر والمجازفات القانونيّة. لذا عندما تقرّر المصارف الدوليّة أو شركات الشحن أن التعامل مع نظام عقوبات لا يستحقّ العناء، فإنّه يجعل الواردات صعبة ومكلّفة على المستويات كافة”.

لُقِّبت ‏زهراء مطر‏، وهي سيّدة عراقيّة (55 سنة)، باسم “زهراء دولارات”، لأنّها كانت تُهرّب الدولارات الأميركيّة إلى داخل البلاد في ذروة العقوبات ضدّ صدّام. تتذكّر زهراء تلك الأوقات الصعبة، قائلةً “بدأ الأطفال يموتون بسبب نقص الأدوية والإمدادات الطبّيّة في المستشفيات خلال سنوات العقوبات. وباع الناس مقتنياتِهم، كالأثاث والمعادن وأيّ شيء آخر يمكنهم بيعه، للبقاء على قيد الحياة”.

في سوريا، بدأ السوريّون المناهضون للنظام أيضاً يقولون إنّ العقوبات القطاعيّة التي فُرضت على قطاعات النفط والغاز والبناء باتت تُلحِق الضرر بالشعب أكثر من النظام. وفي مدينة القُنيطرة في جنوب سوريا، قال أبو مشعل (29 سنة)، وهو أب لثلاثة أطفال يبلغ من العمر 29 سنة، إنّه بالكاد قادر على تحمّل ثمن وقود الديزل، لذا فقد كان يحرق القمامة والبلاستيك والروث، لتدفئة عائلته هذا الشتاء. مضيفاً “لقد تسبّبت العقوبات في رفع أسعار السلع على المواطنين السوريّين العاديّين. ولا أظنّ أنّ مسؤولي النظام السوريّ وعائلاتهم ينامون جوعى أو يشعرون بالبرد. وفي اعتقادي، فإنّ النظام والمافيا التابعة له اتّخذوا العقوبات ذريعةً لرفع الأسعار واستغلال الفقراء على نحو متزايد”.

تواجه الولايات المتّحدة، في الصراع مع الأسد العنيد والمتعنّت، معضلةً مستحيلة. في حين لم يزجّ الرئيسُ الأميركي السابق، باراك أوباما، بها في أتون حرب على غرار حرب العراق كان من شأنها أن تؤدّي إلى الإطاحة بالأسد، فإنّه ألزم الولايات المتّحدة بالتعاطي في شؤون دولة أخرى في المستقبل القريب. وعلى رغم ذلك، لا تزال القضيّة السوريّة بلا حلّ. وبعد 9 سنوات، يواجه نائب الرئيس السابق في إدارة أوباما والرئيس المنتخب الحاليّ، جو بايدن، تحدّياً مختلفاً: كيف يُمكن وقف المجاعة في سوريا وكيف نساعد الناس على استئناف حياتهم من دون أن يعود ذلك بالفائدة على الأسد؟ لعلّ الشعور بالذنب الذي انتاب زملاءه السابقين في إدارة أوباما، الذين شاهدوا الحرب السوريّة تتحوّل إلى حالة من الفوضى، سيُحثّه على إيلاء الملف السوريّ مزيداً من الاهتمام. ولكن إلى أيّ مدى ستكون سوريا على قائمة أولويّات الرئيس المقبل؟ هذه مسألة أخرى.

 هذا المقال مترجم عن foreignpolicy.com ولقراءة الموضوع الاصلي زوروا الرابط التالي.

درج

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى