نصوص

حلب القديمة: طيف عبد الرحمن الكواكبي.. والخراب الأسدي-ثلاثة نصوص -/ محمد أبي سمرا

روى المادةَ الأولية أو الأساسية من سيرة عائلة الكواكبي في حلب، وعَلَمها الأحدث الشيخ عبد الرحمن الكواكبي، الباحث سلام الكواكبي المقيم في باريس، حيث يعمل مديرًا لفرع المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات. وقد أُضيفت إلى تلك المادة الأساسية هوامش، ربما توسّع إطارها ببعض التعليقات والملاحظات المستقاة من مصادر أخرى.

النسب وأطياف الطفولة

اسمان أو علمان بارزان هما ركن الرواية النسبية لعائلة الكواكبي الحلبية: محمد أبو يحيى الكواكبي الذي يُروى أن السلطان السلجوقي نور الدين زنكي شيّد تكريمًا له مسجدًا ومدرسة قرب قبره في حلب القرن السادس عشر. وعُرفت المدرسة بالكواكبية التي درس فيها عَلَمُ العائلة الثاني، وباعث اسمها في النصف الثاني من القرن التاسع عشر: صاحب كتاب “طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد” الشيخ عبد الرحمن الكواكبي، النهضوي أو الإصلاحي في زمنه.

وفي روايتها النسبية الأقدم زمنًا، تُعتبر العائلة من الأشراف المتحدّرين من آل البيت النبوي المحمدي في الحجاز. وانتقل شطر منها إلى أردبيل شمال إيران، ثم إلى حلب شمال سوريا. وعُرفتْ بالكواكبي الموقِّتْ. والكلمتان في ديار الإسلام اسما مهنتين، وربما مهنةٍ واحدة مزدوجة: الكواكبي، أي العارف في شؤون أو علوم الكواكب والوقت.

وحين يروي سلام الكواكبي-المولود في حلب سنة 1965 والمقيم في باريس منذ سنوات- مقتطفات من سيرته، يستهلها بالحديث عن الشيخ عبد الرحمن والد جده: أحيانًا في طفولتي الحلبية كنتُ أتخيّله حاضرًا في مشاهدَ في المدينة القديمة، كأحياء الفرافرة والسويقة والبيّاضة، وفي قلعة حلب ومسجدها الأموي، وأتخيّلني أكلِّمه وأناجيه. وأقربُ شخص إلى عَلَمِ العائلة الأحدث عرفه سلام، هو ابنته عفيفة التي عاشت وعمّرت وتوفيت في حلب عن ما يناهز 112 سنة. فوالداه كانا يتركانه أوقاتًا في بيتها، لتعتني به طفلًا أثناء مشاغلهما ومغادرتهما المدينة. والسيدة عفيفة الكواكبي لم تعرفْ والدها سوى في طفولتها، قبل هجرته إلى مصر ومقتله مسمومًا في القاهرة سنة 1902. لذا، حين كانت تحدّثُ سلامًا الطفل عنه في مطلع سبعينات القرن العشرين، غالبًا ما كانت تروي له حكايات عن طفولتها، يحضر فيها والدها الشيخ عبد الرحمن حضورًا طيفيًّا.

فحين تروي من عمّرت 112 سنة ذكريات طفولتها وحضور والدها الطيفي فيها لطفلٍ سليل عائلتها، لا بد من أن تتحول الروايات أو الحكايات في وعيه ومخيلته صورًا هائمة. والصور هذه راحت تحمله على اقتفاء أثرها في حلب القديمة، حين يمشي طفلًا في حاراتها، مازجًا أو مُسقطًا تلك الصور الضبابية للحكايات على أماكن محددة من الحارات وأزقتها وعمارتها، فيتخيل طيف الشيخ عبد الرحمن الكواكبي حاضرًا أو يرتسم أو يهيم في جنباتها، متحدثًا حديث التخاطر في وعي سلام الطفل.

التراث والمحق الأسدي

وسلام الكواكبي الطفل سرعان ما دهمه، في مطلع فتوته وشبابه، عسفُ نظامَ حافظ الأسد الذي راحت صوره العملاقة الخرساء وجدارياته وأنصابه وكلماته تخيّم على سوريا كلها كسجنٍ أبدي، أغرقها في صمتٍ أمني دموي، أقوى وأعنفَ بأشواط من السجن البعثي والناصري قبله. وقد يكون الصمت المضاعف في هذا السجن، ضاعف في ذاكرة سلام الفتى والشاب ومخيلته قوة الصور والكلمات الضبابية في حكايات طفولته عن إرث العائلة الكواكبية، وقوة حضور طيف عَلَمِها الأحدث، الشيخ عبد الرحمن، قتيل العسف العثماني واستبداده الحميدي الذي تمرّد عليه، فهجّره إلى مصر.

والطفل الذي كان يحضره طيف والد جده في حلب القديمة، حفّزه على الانشغال والاهتمام بها في شبابه إقدامُ نظام الأسد إياه على تخريبها وتشتيت عائلاتها وتمزيق نسيجها ومحو إرثها وأطيافه. والحق أن الانشغال والاهتمام هذين، هما شاغلُ أبناء عائلاتٍ حلبية ودمشقية تقليدية، في توكيدها انتسابها إلى هاتين المدينتين وتراثهما العريق، في مواجهة صامتةٍ أو مكتومةٍ لعسفِ نظام الأسد وتخريبه العمران والاجتماع، للسيطرة الشاملة أو الشمولية على البشر وكَتم أنفاسهم وتصديع علاقاتهم ولحمتهم ومحقهم مع تراثهم.

وقدر ما تنطوي هذه المواجهة الصامتة على تمرّدٍ، تنطوي أيضًا على بعث النسب وتجديده والتعلق به، على ما بيّنت دراسة أستاذة الأنثروبولوجيا في جامعة نيويورك كريستا سالاماندرا، صدرت في كتاب سنة 2004 عنوانه “دمشق القديمة والحديثة: الأصالة والتمايز في سوريا”، ونَشَرَتْ مقتطفات منه بالعربية مجلة “بدايات”، في عنوان “الاستهلاك في دمشق: الثقافة العامة وبناء الهوية الاجتماعية” (العدد 32، سنة 2021). وورد في هذه المقتطفات أن “التعبيرات الأقوى للمدافعين عن دمشق القديمة، يُعثَر عليها في الأشكال الوسيطة للثقافة”، أي كتب المذكرات والسِّيَر العائلية التي تُعتبر “الوسيلة الرئيسية لتعزيز الإحساس بالهوية الدمشقية”. وغالبًا ما يكتب هذه المذكرات والسِّير أبناء “عائلات” مدينية “معتبرة”. و”تروي هذه الكتب تفاصيلَ وأحداثَ حياة عبرتْ، وتشكل تراثًا متناقلًا (…) وقصصًا مبعثرة وخيالية مشحونة بالتوتر العاطفي”.

وعلى قدر ما هو التصديع والتدمير والتخريب والمحو والمحق صناعة أسدية منهجية، تبرز صناعةُ الإرث والتراث والأنساب عملًا إحيائيًا دفاعيًا، يحاول خلق أرضٍ مادية لهوية متخيَّلة ومنكفئة، وقد تخفف من آلام العيش ومصائبه في “سوريا الأسد”.

قتيل الاستبداد

ولد عبدالرحمن الكواكبي سنة 1855 في حلب الشهباء. وهذه صفة لونٍ يميل إلى احمرار برونزي، ويقال إن مصدرها الأول النبي إبراهيم حينما حَلَب العنزة أو البقرة الشهباء اللون. ومدينة حلب شُيّدت بحجارة شهباء. وعندما أصدر الشيخ الكواكبي الجريدة العربية الأولى في حلب سنة 1876، سمّاها الشهباء أيضًا. ولما دعاه السلطان عبدالحميد الثاني إلى زيارة اسطنبول في نهاية القرن التاسع عشر، لبى الدعوة، فعرض عليه أن يولّيه منصبًا دينيًا رفيعًا في عاصمة السلطنة، كي يبعده من حلب وينهي تأثيره الفكري التحرري والإصلاحي فيها، في تلك الحقبة التي كانت تضج بدعواتٍ عربية إلى التحرر من السلطان العثماني وإلى الإصلاح الديني. لكن الشيخ الكواكبي الحلبي رفض المنصب وعاد إلى مدينته قلقًا وموقنًا أن السلطان لن يغفر له رفضه، ولا بد أن يقتصَّ منه، فعزم على مغادرة حلب مرغِمًا نفسه على نفي إرادي في مصر التي كانت آنذاك وجهة مفضلة لهجرات نخَبٍ من التحرريين والإصلاحيين في الديار الشامية واللبنانية، هربًا من العسف العثماني.

وأقام الشيخ عبدالرحمن الكواكبي في القاهرة. وفي نهار من سنة 1902، كان يجلس مع رفيقه أو صديقه الشيخ عبد القادر دباغ، يشربان القهوة في مقهى يلدز القاهري في حي الحسين، وفجأة شعر الكواكبي بالدوار وبألم ممضّ في معدته، فصرخ: لقد قتلوني يا عبد القادر. ووصف الشيخ الدباغ اللحظات الأخيرة من حياة صديقه الكواكبي قائلًا: تمزّقت أحشاؤه وأسلم الروح مسمومًا.

وروى سلام الكواكبي عن السيدة عفيفة ابنة عبد الرحمن أن والدها كان يبعث رسائل من مصر إلى زوجته في حلب، فلا يستهلها بالعبارات التي كانت تُخاطبُ بها الزوجات في تلك الأيام: أم العيال، أو بنت العم، أو حرمنا المصون. وغالبًا ما كان يستهل تلك الرسائل بكلمة يا حبيبتي. وهذا ما لم يكن مألوفًا، بل غريبًا ومستهجنًا من شيخ معمّم يبوح لزوجته في رسائله إليها بعواطف حميمة عصرية، تخالف التقليد السائر في مخاطبة النساء في ذلك الوقت من بداية القرن العشرين.

حِدادٌ الفقد ووحشته

وأصيبت عائلة عبدالرحمن الكواكبي في حلب بنكسة بعد فقدها شيخها وراعيها وعلمها في القاهرة. فهي لم تكن عائلة ملاّكٍ ولا تجارٍ، بل تعود بنسبها إلى عائلات الأشراف وأهل علوم الدين. فزوجته التي آلمها فقد زوجها الشيخ، سارعت إلى العمل في منزلها خيّاطة لجيرانها من أهل الحارة الحلبية.

وهذا عمل ينطوي عادةً على الفقد والحِداد والانتظار. لكن زوجة الشيخ الراحل لم تعمّر طويلًا بعده، فتوفيت مكتئبةً لفقده، ومكثت ابنتها الطفلة عفيفة وحيدة يرعاها أقاربها في منزل العائلة، فعمّرت مديدًا وروت لسلام الكواكبي الطفل شذرات من ذكريات طفولتها عن والدها في ذلك المنزل القديم.

ربما كانت السيدة المسنّة عفيفة تدفعُ عنها الوحشةَ والوحدة باستعادة صور الماضي وأطيافه البعيدة التي غذّت مخيلة سلام فتبرعمت وتفتحت في وعيه، وراح يقتفي أثرها البعيد في أحياء حلب القديمة، وها هو يروي شيئًا منها في باريس: كاظم، نجل عبد الرحمن الكواكبي كان مع والده لما قُتل مسمومًا في القاهرة. هو وأخوه الآخر درسا الطب والصيدلة في اسطنبول. وأخوهما الثالث، والد والدي، درس الهندسة الزراعية، واضطر إلى بيع منزل العائلة القديم في حلب، حيث كانت حياتهم صعبة وعرفوا شيئًا من ضيق ذات اليد والفقر.

لكن لا بد من سؤال في هذا السياق من سيرة أبناء الشيخ عبد الرحمن الكواكبي الذي قتلته دعوته إلى التحرر من الاستبداد والجهل، وإلى العلم العصري والإصلاح الديني: هل تحققت دعوته تلك في جيل أبنائه الذين درسوا علومًا عصرية أو دنيوية، كالطب والصيدلة والهندسة الزراعية؟

ربما يفضي إلى الإجابة عن هذا السؤال، استكمالُ هذه المقتطفات من سيرة العائلة الكواكبية بحلقة ثانية مقبلة.

——————————-

حلب وسيارات ضباط الأسد المسروقة من لبنان/ محمد أبي سمرا

حلقة ثانية من سيرة عائلية حلبية روى مادتها الأولية أو الأساسية سلام الكواكبي (حلب القديمة: طيف عبد الرحمن الكواكبي.. والخراب الأسدي)، وتليها حلقة ثالثة. وقد كُتِبت بصيغة  المتكلم، وأُضيفت إلى مادتها الأساسية هوامشُ وتعليقاتٍ وملاحظات، ربما توسّع إطارها وأفقها الاجتماعي.

من الدين إلى الدنيا

وُلِدَ أيّاد الكواكبي، والدي، سنة 1928 في حلب. وعمره اليوم 93 سنة، ويقيم في باريس هاربًا من الكارثة الأسدية التي عمَّت سوريا كلها، ولا يزالُ يساريَّ الأفكار والتوجّه. فهو كان في فتوّته وشبابه عضوًا فاعلًا أو ناشطًا في الحزب الشيوعي السوري في حلب، شأن إخوته، سوى أحدهم الذي كان إسلاميًا، فعُيِّن وزيرًا للأوقاف في حكومة الرئيس نور الدين الأتاسي. وكان جدّي لوالدي مهندسًا زراعيًا تلقى العلم في اسطنبول مع أخويه اللذين درسا الطب والصيدلة. وهم أبناء الشيخ عبد الرحمن الكواكبي المولود سنة 1855 في حلب، والقتيل مسمومًا في القاهرة سنة 1902، بعدما رفض منصبًا دينيًا رفيعًا عرضه عليه السلطان عبدالحميد الثاني في اسطنبول، كي يبعده عن الحركة التحررية والإصلاحية التي كان من أركانها ودعاتها في حلب.

واقتفاء أنواع التعلُّم والمهن والميول وتغيراتها على هذا النحو من جيل إلى جيل، في عائلةٍ جدّها الأول رجل دين معمّم وإصلاحي الميل في الربع الأخير من القرن التاسع عشر، قد يكون مرآة لتحوّلات اجتماعية وثقافية وسياسية في المجتمع المديني السوري، وأصابت أبناء عائلاته في القرن العشرين العاصف. فالسلسلة العائلية الكواكبية هذه، تشير إلى أن أبناء رجال دين وعلمائه في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، تعلّموا علومًا عصرية دنيوية أدت إلى عملهم في مهن حرة متنوعة. وإذا وسَّعنا الدائرة العائلية إلى عائلات أخرى، لا بد أن نعثر على رجال دين وأبنائهم عملوا في التجارة وفي وظائف إدارية في النصف الأول من القرن العشرين. ولا بد من الملاحظة أيضًا أن أيًا من أبناء الشيخ عبد الرحمن الكواكبي، لم يرث والده في المشيخة الدينية أو مال إلى علوم الدين. وقد سار على نهجهم هذا أبناؤهم، فتوجّهوا إلى علوم ومهن عصرية ودنيوية، ليبدو أن إرث المشيخة الدينية انقطع تمامًا في عائلة الكواكبي. والاستثناء الوحيد الذي يمثله عمي أو شقيق والدي في إسلاميته، قد يثبت القاعدة. فإسلاميّته دينيّتها محدثة وليست تقليدية. والدليل أنه عُيّن وزير أوقافٍ في حكومةٍ مدنية، من دون أن يكون شيخًا معمّمًا.

قطيعة العصاميين

أما القطيعة التي تمثلت في انصراف أبناء مشايخ عن علوم الدين، فملأت ما تخلف عنها من فراغ اجتماعي وسياسي حركاتُ وأحزاب محدثة، من وطنية وقومية وشيوعية ودينية إسلامية (الإخوان المسلمون) في حقبتي الانتداب الفرنسي والاستقلال الذي تلاه.

وإذا كان أبناء الشيخ عبد الرحمن الكواكبي شبانًا إبان الحرب العالمية الأولى وحكومة الأمير فيصل العربية في دمشق، وعاشوا في خضم كوارث تلك الحرب ومآسيها، وأصاب حياتهم الاضطراب الاجتماعي والاقتصادي والسياسي الكبير الذي عصف بديار المشرق العربي كلها، في عشيات انهيار السلطنة الإمبراطورية العثمانية وغداته، فإن أبناءهم ومنهم والدي وإخوته، ورثوا ذلك الاضطراب الكبير الذي راح يتناسل في الدولة السورية المعتلّة الولادة -شأن سواها من الدول العربية- فنشأوا عصاميين متعاونين عائليًا، يعيل كبيرهم الذي يعمل ويتعلم كي يتفرّغ صغارهم للتعليم.

وقد تكون حالهم هذه هي التي مالت بهم إلى العقيدة الشيوعية، التي كان حزبها يسمى في الأربعينات حركة السلام. أما الذي كان إسلاميًا منهم، فقد يجعل عائلتهم شبيهة بعائلة أحمد عبد الجواد في ثلاثية نجيب محفوظ الروائية الشهيرة: أحد أبنائه إسلامي إخواني، وآخر وطني مصري، وثالث يساري شيوعي.

بين الشيوعية والقومية

وقد تكمّل والدتي هذا التنوّع في الميول السياسية العائلية في أربعينات القرن العشرين وخمسيناته في سوريا. فهي من عائلة غنّام الإقطاعية، وأرسلها والدها مطلع الخمسينات من حلب إلى دمشق لتدرس في جامعتها. فنزلت في سكن جامعي للطالبات يسمى دوحة الأدب، واشتهر بطالباته الميّالات إلى الأدب والثقافة. وهي عايشت الحركة الوطنية والقومية في جامعة دمشق، فمالت إلى اليسار القومي العربي، وانخرطت في تيارٍ من تياراته وخرجت في تظاهراته، أيام كانت جامعة دمشق صغيرة بعدُ وطلاب الطب والحقوق والآداب فيها يجمعهم التعارف والتماثل العائلي والنشاط السياسي. لذا عرفت والدتي كثرة من زعماء سوريا السياسيين لاحقًا، منهم نور الدين الأتاسي وإبراهيم ماخوس ويوسف الزعيّن.

وحين كان والدي شيوعيًا، سافر في مطلع شبابه إلى بولونيا في بعثة إلى مهرجان أوندل للشباب والسلام سنة 1955. وقُبض عليه في عهد نظام الوحدة الناصرية السورية- المصرية (1958- 1961) وحلِّهِ الأحزاب وتعطيله الحياةَ السياسية والرأي السياسي والصحافة، وإطلاقه سلطان جهاز عبد الحميد السراج الأمني. وقبل نظام الوحدة الناصرية، كانت المخابرات تقتصر على جهاز المكتب الثاني التابع للجيش السوري، لكن النظام الناصري الجديد بدأ بوضع الركائز الأولى لدولة الحزب الواحد الأمنية، ولاضطلاع جهازها الأمني في ترويض المجتمع السياسي وقمعه وتحطيمه. وطوّر نظام البعث تلك الدولة التي تغوّلت نسختها الأسدية وأوصلت سوريا إلى ما هي عليه اليوم.

وبعد إطلاق سراحه كفَّ والدي نهائيًا عن النشاط السياسي في مطلع الستينات، وظل يساريّ الثقافة والهوى، وانصرف إلى حياته العائلية والمهنية.

مثاليةٌ في واقعٍ مرير

بدأ والدي عمله موظفًا في سلك الجمارك في حلب سنة 1951، وعملت والدتي في إدارة الاتصالات الهاتفية في المدينة. وفي سنة 1961 ابتُعِث والدي إلى باريس، فدرس هناك في مدرسة الجمارك العليا، وترقى في سلكه الوظيفي، فصار مديرًا للجمارك في حلب سنة 1970. وكانت أسرتنا من الفئة الاجتماعية العليا في الطبقة السورية المتوسطة، فيسافر والداي إلى أوروبا مرة في السنة في إجازاتهما، ويتركاننا نحن أطفالهما في رعاية راهبات دير الفرنسيسكان الحلبي، وأحيانًا في دير لليسوعيين في ريفون اللبنانية. ولما سيطر النظام البعثي وانهار الاقتصاد والعملة السوريان، توقفا عن السفر وتغير نمط حياتنا.

كان والداي مثاليين ومستقيمين في عملهما وسلوكهما، وديموقراطيّين في حياتهما البيتية وتربيتنا، فامتنعا امتناعًا أخلاقيًا عن الانخراط في علاقات الولاء والمحسوبيات والفساد والرشوة التي بدأ يرسيها النظام البعثي في الإدارات والمؤسسات العامة. وكان بعض أترابي في فتوّتي المدرسية يقولون لي: والدك غشيم، لأنه لم يغتنِ ويثرِ من عمله في سلك الجمارك الذي كان سلكًا رحبًا لتحصيل الرشاوى والأتوات. وكنت في طفولتي أتساءل أحيانًا: لماذا ليس لدى والدي سيارة خاصة كسواه من أمثاله ومعارفه في عمله؟! وخصوصًا لما كنتُ أراه، فور وصوله إلى البيت في سيارة السلك الوظيفي، يصرف سائقها ليعود بها إلى دائرة الجمارك. وغالبًا ما كنتُ أسمع أناسًا في دائرة علاقاتنا البيتية من جيران ومعارف يقولون إن والدي شخص محترم ومستقيم وحسن السمعة. وكانت هذه الوقائع تثير فيَّ شعورًا مزدوجًا أو متناقضًا وملتبسًا يكتنفه الغموض، فلا أدري لماذا يكتنفني شيء من انقباض وضيق يخالطه شيء من سرور وفخر غامضين. لكنني بعدما كبرتُ واتسعت مداركي امّحا الانقباض والضيق تمامًا، وحلّ مكانهما الاعتزاز والفخر بوالدي، سوى أنني ظللت أعتُب عليه وعلى والدتي لأنهما ربّيانا تربية مثالية منفصلة عن الواقع السوري المرير من حولنا، كأنهما أرادا أن يقيما بيننا وبينه عازلًا يفصلنا عنه ويحمينا منه.

الغشيم المستقيم

وكانت المصالح الجمركية مشتركة بين سوريا ولبنان، قبل إقدام الرئيس السوري خالد العظم على فصلها في الخمسينات. ولما هرب أصحاب رؤوس أموال وصناعيون سوريون إلى لبنان كان بينهم صناعي من أقارب والدي الذي زوّده برسالة شفوية لأحد أصدقائه اللبنانيين في سلك الجمارك، كي يساعده في إنجاز المعاملات الإدارية المطلوبة لافتتاح مصنع له في الشويفات. وفي سهرة جمعت والدي بصديقه اللبناني في منزلنا بحلب بعد حوالى 10 سنوات، سمعت صديقه يسأله عن المبلغ المالي الذي تقاضاه من صاحب المصنع لقاء التوصية أو الرسالة التي زوّده بها وساعدته في إنشاء مصنعه. فاستغرب والدي السؤال، وسأل صديقه اللبناني: لماذا آخذ منه مالًا؟! هو قريبي وأنت صديقي، وطلبتُ منك طلب صديق لصديق أن تساعده مساعدة إنسانية عادية. ضرب صديق والدي كفًا بكف قائلًا: لو كنتُ أعلم أنك لم تأخذ منه شيئًا لطلبتُ منه أنا المبلغ المرقوم، فصناعته تطورت في لبنان وصار مليونيرًا.

وكنت في الثانية عشرة من عمري سنة 1977، عندما بدأت تتكاثر في “سوريا الأسد” السيارات التي كان يسرقها الضباط السوريون من الديار اللبنانية، ويقودونها متفاخرين بفخامتها في الديار السورية. كان والدي آنذاك مدير الجمارك في حلب. ولا أزال أذكر ليلة إصداره أمرًا بمصادرة السيارات التي تحمل لوحات لبنانية ويقودها عسكريون سوريون في حلب. أثار الأمر وإجراءاته العملية لغطًا وتوترات في المدينة، فاستدعى والدي إلى دمشق رئيسُ الأركان حكمت الشهابي ورئيس جهاز المخابرات العسكرية علي دوبا، وطلبا منه إلغاء القرار الذي اتخذه والكف عن تنفيذه. فما كان منه إلا أن طلب منهما الطلب من الحكومة إصدار قانون ينص على السماح للضباط السوريين العائدين من لبنان، أن يقودوا على الأراضي السورية سيارات لبنانية مسروقة، فيقوم هو بتنفيذه في حلب، ويرفع بذلك المسؤولية عن نفسه. كان والدي على ما روى لي، يعلم أنه يحرج الرجلين على نحوٍ كوميدي في ما طلبه منهما. وبعد أيام صدر قرار بتعيين أياد الكواكبي مديرًا عامًا للجمارك في سوريا كلها. فأدرك والدي إن ذلك القرار يعني أن عليه أن يستقيل من وظيفته، لأن قرارات الترفيع الوظيفي على هذا النحو لم تكن تعني في “سوريا الأسد” سوى أن يعلنَ الموظفُ استقالته ويذهب إلى بيته. وهذا ما فعله والدي، وكان لا يزال عمره 52 سنة، وأمامه سنوات كثيرة بعدُ كي يتقاعد. وروى له لاحقًا أحد الوزراء أن وضعه نوقش في اجتماع وزاري، قال فيه رئيس الوزراء: أياد الكواكبي حمارٌ، لا يعرف كيف يعيش ويرتشي، فماذا نفعل به؟!

وسنة 1980 كنتُ عائدًا من بلجيكا إلى مطار دمشق، فقال مفتش الجمارك في المطار لعنصر في السلك أن يفتش حقيبتي. ولما قرأ المفتش اسمي في جواز سفري، قال للعنصر الجمركي: لا، لا لزوم لتفتيش حقيبته. هذا ابن مدير الجمارك في حلب أياد الكواكبي الذي ظل فقيرًا، وابنه مثله “فقري”. وفي تلك اللحظة اعترتني الحيرة والاضطراب إياهما اللذان كنت أشعر بهما صغيرًا عندما كان يقال إن والدي غشيم ومستقيم.

————————————————————

حلب ومدرسة اليسوعيين: سجنٌ وحقلُ إعدام وهجرةُ أجنّة/ محمد أبي سمرا

حلقة ثالثة من سيرة عائلية وسخصية في حلب، روى مادتها الأولية أو الأساسية سلام الكواكبي (راجع “المدن” 13 و15 كانون الأول الجاري). وتتناول هذه الحلقة عمران حي السيبل الحلبي، وحال مدرسة الآباء اليسوعيين فيه، وتليها حلقة رابعة. وقد كُتِبت السيرة بصيغة المتكلم، وأُضيفت إلى مادتها الأساسية هوامشُ وتعليقاتٍ وملاحظات، ربما توسّع إطارها وأفقها الاجتماعي.

حي السبيل وحديقته

استأجر والدي وإخوته الأربعة طابقًا في بناية حديثة شُيّدت سنة 1953 في ضاحية ريفية خارج مدينة حلب، غير بعيد من حديقة السبيل العامة التي يعود إنشاؤها إلى أيام الانتداب الفرنسي. وكانت الطرق في تلك الضاحية لا تزال ترابية أو برّيةً بعدُ، لما بدأت تشيّد على جنباتها في مطلع الخمسينات بناياتٌ حديثة لا تتجاوز طبقاتها الثلاث أو الأربع، ولا تصل إليها السيارات. وهذه من علامات غياب التخطيط المُدني وفوضى عمران ضواحي المدن أو عشوائيته في الأزمنة العربية الحديثة. وكان سكان تلك البنايات يمشون راجلين على التراب أو يخوضون في وحول الشتاء للوصول إلى بيوتهم. لذا ابتكر والدي طريقة توفرُ على زائريه عناء سيرهم على تلك الطرق، في حال كانت زيارتهم بلا موعد مسبق. فأخذ ينصبُ على شرفة المنزل علمًا أخضر، دليلًا على أنه في البيت، وعلمًا أحمرَ يُعلِمُ الزائرين بغيابه عنه.

وسرعان ما تكاثرت البنايات وعُبّدت الطرق وصارت المنطقة حيًّا للفئات البورجوازية والوسطى الحلبية، ومقرًا للقنصليتين الأميركية والفرنسية، فيما كانت البنايات تزدحم وتحاصر الحديقة العامة، حتى اجتثتها تمامًا، فلم يبقَ منها سوى اسمها الذي صار إسمًا لمنطقة أو حي السبيل المتصل بحلب.

وكان أن تزوج إخوة والدي، فاستقلوا في سكنهم، وظل والدي وأمي يقيمان ذلك البيت الذي فيه ولدتُ سنة 1965، ونشأتُ في جوّ عائلي تحضر فيه السياسة اهتمامًا وكلامًا على نحوٍ كثيف ودائم تقريبًا، إلى جانب القراءة. فوالداي من جيل عاش فتوّته وشبابه في الأربعينات والخمسينات، أيام كانت سوريا تزدحم وتتلاطم فيها سياسات عائلات كبار الملاّكِ والأعيان، والتيارات والأحزاب والأفكار والأيديولوجيات السياسية القومية واليسارية، قبل أن تحاصرها وتمحقها الانقلابات العسكرية المتناسلة، ونظامُ الوحدة الناصري، ثم النظام البعثي الشمولي، وصولًا إلى نسخته الأسدية المدمّرة.

مدرسة الآباء اليسوعيين

تعلمتُ في مدرسة الآباء اليسوعيين من بداية المرحلة الابتدائية حتى نهاية المرحلة الثانوية. ولم تكن المدرسة تلك تبعدُ عن بيتنا في السبيل سوى مسافةِ 10 دقائق سيرًا على الأقدام. ومنذ أيامي الأولى فيها كان مديرها محازبًا بعثيًا، ونائبه شخصٌ رائع اسمه اسكندر شدياق الذي وهب حياته للمدرسة وللحفاظ عليها، وظل ركنَها وعِمَادها منذ دخولي إليها وحتى تخرّجي منها سنة 1980، فيما كان من تناوبَ عليها من مدراء بعثيين دائمًا موظفين تافهين يتكسّبون من المنصب الذي يشغلونه، كأنهم “خيال صحرا”، ومنهم زهير مشارقة الذي صار لاحقًا نائبًا للرئيس حافظ الأسد. ولك أن تحدس أو تتخيّل حال أمثال هؤلاء الجهلة إلا في تقاضي مرتباتهم الشهرية، والتسابق الوصولي المحموم على الولاء والطاعة لأجهزة نظام البعث، الذي أنعم عليهم وكافأهم بتعيينهم مدراء مدرسة الآباء اليسوعيين العريقة، وأحلّهم مكان كبار مثقفي أولئك الآباء المجتهدين في سائر مناحي العلوم، وعلى رأسها علوم اللغة العربية وآدابها.

وكان مبنى المدرسة ثكنة عسكرية فرنسية مطلع عهد الانتداب الفرنسي، ويقع وسط قطعة أرضٍ فسيحة تحوطها أجماتُ أشجار برّية معمرة وملاعب رياضية، قبل أن تصير ديرًا ومدرسة للآباء اليسوعيين الحلبيين. ولما أقصاهم النظام البعثي عن إدارة المدرسة وراح يعيّن محازبيه مدراء عليها، وحرمهم من التعليم فيها، وترك لهم الدير لإقامتهم، جعلوا من الحفاظ على مدرستهم ومستواها التعليمي همّهم الأوحد. فأخذوا في أوقات الفرص النهارية يتجولون بين التلامذة والطلاب في الملاعب، ويوزّعون عليهم السكاكر، ويحادثونهم ويحضونهم على المثابرة والاجتهاد في دروسهم. والأرجح أنهم كانوا في نشاطهم هذا يحوّلون آلام إقصائهم عن التعليم في المدرسة وإدارتها طاقة إيجابية، تدفع عنهم تلك الآلام الممزوجة بحنينهم إلى ماضي مدرستهم وعملهم فيها.

سجن وحقل إعدام

وفي السبعينات عايشتُ مرحلة جديدة من التغييرات في المدرسة: بعدما كانت ملاعبها وحدائقها مفتوحة متصلة لتخالط تلامذة المراحل التعليمية وطلابها وأجيالها، عمدت الإدارة البعثية إلى تشييد جدران بها بوابات حديد تفصل بين ملاعب ومباني تلامذة الإعدادي وطلاب الثانوي، فشعرتُ بضيق خانق طالعني لاحقًا ما يشبهه في أحاديث السوريين عن سجون الأسد.

وربما في نهار من العام 1972 وقف الناظر مراقب الدوام في ملعب المدرسة صباحًا، وصاح في تلامذة المرحلة الإعدادية: المسلمُ منكم يصطف على اليمين، والمسيحي على اليسار. فوقف التلامذة مصعوقين يحملق كلٌ منهم في وجه الآخر، ثم يتلفّتُ حوله مستطلعًا حتى جسَمَهُ، كأنما يحاول التعرُّفَ على نفسه على نحو لم يعهده من قبل. وفي غمرة ذهولهم كرّر الناظر صيحته إياها، فبدأ التلامذة ينقسمون صامتين صاغرين في صفّين منفصلين متقابلين، متساويين تقريبًا في عددهم. أما أنا الذي شعرتُ كأنما سوف يقودوننا إلى حقل إعدام، فقد وقفتُ في الوسط بين الصفّين، فتقدّم الناظر مني وصرخ بي: أنتَ شو، أين مين، هل أنتَ يهودي؟!، فأجبته: لا أعرف. فصفعني على وجهي قائلًا: أنت بلا مربى، ناقصك تربية، شو اسمك ولاه؟ ولما ذكرتُ له اسمي، قال: مسلم، مسلم، روح صف هونيك ولاه، ما بدي شوف وجهك أبدًا.

كنتُ في الثامنة من عمري آنذاك. وأذكرُ أن التعليم الديني في مدرستنا كان يقتصر على دروس مضمونها إنساني وأخلاقي عمومي وبسيط. وكنا نحن التلامذة ندرك مَنْ منا مسيحي ومَنْ مسلم، على مثال إدراكنا العادي أن المسلمين يعيّدون في عيدي الفطر والأضحى، ويعيّد المسيحيون في عيدي الميلاد والفصح، معتبرين ذلك من طبيعة الحياة وسنّتها. ولما لم نكن نضع في بيتنا شجرة ميلاد في رأس السنة، كان ذلك أمرًا بديهيًا لا يستوقفني أو يثير أسئلتي، ويبهجني منظر أشجار الميلاد في بيوت أقراني التلامذة المسيحيين.

البعث وهجرة الأجنّة

وتتالت الصدمات في حياتنا المدرسية. بعد صدمة الفصل الديني في ملاعب المدرسة، حلت صدمة الانتساب إلى اتحاد الشبيبة والطلائع البعثي، وإرغام الأوائل والمتفوّقين دراسيًا من التلامذة والطلاب على الانتساب إلى الطلائع التي حضرتُ بعض اجتماعاتها الأولى، ورحتُ أتكلم في السياسة على هواي كما في بيتنا، فطردوني من الاجتماعات وسرّني ذلك. ولما كان مدرّسو التاريخ والجغرافيا والتربية القومية الاشتراكية يدخلون إلى قاعة الدروس، غالبًا ما كانوا يردّدون ببغائيًا كلمات خطابية بالية في الربع الساعة الأولى من حصص التدريس، ثم يقولون: افعلوا ما تريدون، شريطة ألا يصل ضجيجكم إلى الخارج. ودروس الرسم والموسيقى المتحدّرة من مناهج الآباء السيوعيين، كانت تسير على المنوال نفسه من الضجر والخواء.

والحق أن المدرسة لم تعلّمني إلا القليل القليل. ولولا أهلي وانكفائهم على حياتهم البيتية ومواظبتهم على القراءة والمطالعة، لما كنتُ تعلمتُ شيئًا الرياضيات ولا التاريخ ولا الجغرافيا التي درستها على والداي في البيت. فأساتذة مدرستنا القدامى الجيدين كانوا قد غادروها وهاجروا من سوريا، فلم يبق منهم سوى الموظفين اليائسين المحبطين وفاقدي الأمل والروح والحماسة، إلا في استظهارهم مواد التدريس مثل ببغاواتٍ، بعدما خرّب البعث الأسدي ما تبقى من برامج تعليم اليسوعيين. وأصدقائي وزملائي القدامى في المدرسة، منتشر معظمهم اليوم في العالم كله. وعندما يُقال إن حافظ وبشار الأسد حميا المسيحيين في سوريا، تبيّن الأرقام أي حمايةٍ أسداها نظامهما للمسيحيين: عندما تسلّم حافظ الأسد الحكم في سوريا سنة 1970، كانت نسبتهم 15 في المئة من سكانها، وهي لا تتجاوز اليوم واحدًا في المئة.

نعم حمى نظام الأسدين مسيحيي سوريا، إذ حملهم على الهجرة منها. وحلب المشهورة بكاثوليكيِّها، بدأت في مطلع السبعينات موجات هجرتهم إلى كندا. وقد كتبتُ قبل سنوات بحثًا عن حلب عنوانه “هجرة الأجنّة”، عندما كانت السلطات الكندية تمنح جنسية بلادها لمن يولدون على أرضها. فأخذتْ نسوةٌ حلبيات مسيحيات خصوصًا، تسافرن إلى كندا وهنّ في ما قبل الشهر الرابع من حملهنّ. فنظام الطيران يمنع سفر من تجاوز حملهن شهره الرابع. وهناك نساء ابتكرن أساليب كثيرة لإخفاء حملهن. ولما اكتشفت السلطات الكندية هذه الظاهرة منعت الحوامل جميعًا من السفر إلى ديارها، بعدما كان شطر من جيل مسيحي حلبي قد وُلد في كندا والولايات المتحدة أيضًا. وبعض رفاق مدرستي أوصلتهم سكك الهجرة إلى تريننداد.

————————-

حلب اللهجات ومَقاتل الإخوان.. وضباطُ الأسد “يتزوجون” بنات العائلات/ محمد أبي سمرا

حلقة رابعة من سيرة عائلية وسخصية في حلب، روى مادتها الأولية أو الأساسية سلام الكواكبي (راجع “المدن” 13 و15 و18 كانون الأول الجاري). وتتناول هذه الحلقة اللهجات ومَقاتل الإخوان المسلمين في حلب وزيجات ضباط من بنات تجار وعائلات مرموقة في دمشق. وتليها حلقة خامسة وأخيرة. وقد كُتِبت السيرة بصيغة المتكلم، وأُضيفت إلى مادتها الأساسية هوامشٌ وتعليقاتٍ وملاحظات، ربما توسّع إطارها وأفقها الاجتماعي.

لهجات طوائف وطبقات

كانت مدرستي، مدرسة الآباء اليسوعيين في حلب، مرآة للحوادث والتحوّلات التي عاشها المجتمع السوري والحلبي تحت سلطة نظام حافظ الأسد منذ سنة 1970. ومن الظواهر الأولى التي زامنت بدايات ذاك النظام، استقدامه ضباطًا وعناصر من الأجهزة الأمنية والجيش وعائلاتهم إلى المدن السورية، وإسكانهم وتوطينهم فيها، ليكوّنوا “جاليات” أو “حاميات” موالية له، وتعملُ على ترسيخ سلطانه الأمني عليها وزرع الخوف في نسيجها الاجتماعي. لكن أبناء “الجالية” الأمنية والعسكرية التي استقدمها النظام إلى حلب، غالبًا ما كانوا يتعلّمون في المدارس الحكومية أو العمومية، سوى أبناء رؤساء الفروع الأمنية وكبار ضباط الجيش، الذين تعلّموا في مدارس خاصة ومنها الآباء اليسوعيين. وهؤلاء الأبناء التلامذة كانوا قلّة في مدرستنا. وأذكر أن العلويين منهم راحوا يتقرّبون من التلامذة المسيحيين، فيتمثلون لهجتهم ويقلّدونها.

والحق أن اللهجات المحكيّة في حلب كثيرة التنوّع طائفيًا وطبقيًا. فتستطيعُ سريعًا أن تحدُس وتصيب طائفةَ هذا الشخص أو ذاك وطبقته الاجتماعية في طائفته، ما أن تسمعَه يتكلّم. وقد تكون هذه الظاهرة الحلبية من علامات تنوّع الفئات الاجتماعية والطائفية والطبقية وكثرتها في المدينة، قدر ما هي أيضًا علامة على ضعف النسيج الاجتماعي المديني في صوغ فضاءٍ عام يوائم بين الفروقات واللهجات، ويصوغ منها لهجة مدينية مشتركة “بيضاء”، غالبًا ما تعمل المدن على صوغها. ولربما كان مردُّ هذا الضعف أو القصور، تلك الفوضى وذاك التخبُّط وانعدام التخطيط التي واكبت توسُّع العمران إلى خارج الدوائر العمرانية التراثية القديمة في سائر المدن العربية في الأزمنة الحديثة. فنشأت أحياؤها السكنية أو ضواحيها الجديدة على نحو فوضوي، لإسكان موجات الوافدين إليها من أريافها، ومن الراغبين في مغادرة المدن القديمة للسكن في الأحياء الحديثة. لكن هذه الجماعات غالبًا ما اختارت لسكنها أحياءً تناسب هويّاتها الأهلية والطائفية والجهوية، لتباشر فيها أنماط عيشها ولهجاتها المتجانسة.

لذا أذكر في حلب طفولتي وفتوّتي وشبابي، أن الحلبيين غالبًا ما كانت لهجاتهم المختلفة والمتمايزة، مدخلهم الصائب أو الصحيح لتمييز المسلم من المسيحي، والكاثوليكي من الأرثوذكسي، ولمعرفة الطبقة الاجتماعية لكل منهم وفي أي حيّ من المدينة يسكن ويقيم. فإذا قالت لك لهجة هذا الشخص إنه مسيحي، فإنها تقول لك أيضًا في أي من الأحياء يسكن: أفي العزيزية التي يسكنها الأغنياء المسيحيون، أم في السليمانية التي تسكنها فئاتهم المتوسطة والفقيرة. وهذا ما ينسحب على المسلمين السنّة الذين تدلُّ لهجاتهم على طبقاتهم الاجتماعية والأحياء التي يسكنونها.

لكن نظام الأسد، وريث النظام البعثي الشمولي، عمّق تلك الفروق والتمايزات، وجعل لضباط أجهزته الأمنية المتكاثرة وعائلاتهم دوائر سكنية خاصة في المدن السورية، ليكوِّنوا حاشيةً نخبويةً مغلقةً لتسلّطه عليها. وسرعان ما تحوّل ذاك التسلط دينًا أمنيًا شموليًا، تتصدّره تلك الحاشية التي لا تبثُّ في دوائر الحياة العامة سوى الخوف والذعر والقهر والصمت بين الناس، فلم يعد من سبيل لحياتهم ومعاشهم وتواصلهم إلا بانكفائهم إلى دوائر حياتهم الخاصة المغلقة والتحصّن فيها تداركًا للرعب الأمني العمومي. وهذا عمّق الفروق والاختلافات ورفعها حصونًا صلبة، قوّضت كل احتمال للتواصل والكلام غير الوظائفي الخالص وشبه الإيمائي، المتواطئ حتى على النفس. والكلام هذا أقرب إلى خرسٍ في مملكة الأبد الأسدي وغثيان كلماتها الشمولية الخاوية عن الأمة وقائد مسيرتها المعجزة والمقدّس.

زيجات واغتصابات سلطوية

بلى، عَمِلَ الأسد ونظامه على تشجيع الانفتاح والتواصل والاختلاط، لكن في دوائر نخبة سلطته أو مجتمعه الأمني والعسكري المغلق: لقد حضَّ حافظ الأسد على المصاهرات بين ضباط حاشيته الأمنية والعسكرية وأبنائهم، وبين بنات العائلات المرموقة والتجار الأثرياء من السنّة المدينيين. فاستدعى، غداة انقلابه وتسلمه رئاسة الجمهورية، رئيس غرفة التجارة في دمشق (وكان من آل الشلاّح)، وأبلغه عن رغبته في تلك المصاهرات التي تنطوي على مركّب طبقي لا تخفى نواته الاغتصابية، لتمتين ركائز السلطة وأعمدتها في دوائر “المجتمع المدني” المديني السنّي.

فضباط الأمن والجيش الذين قرّبهم نظام الأسد وجعلهم في بطانته وحاشيته، هم غالبًا متسلّقون ووصوليون، أو جعلهم النظام نفسه كذلك، فلم يعد من عملٍ لهم واهتمام وشاغل في حياتهم سوى القفز أو الخروج من طبقاتهم الأدنى، إلى طبقةٍ أعلى مرتبةً ومكانة، واغتصابها من طريق المصاهرات مع عائلاتٍ “عريقة” (حطمها أصلًا نظام البعث والأسد) ومن الأثرياء والتجار السنّة في دمشق وحلب وحماة وحمص.

وحين يتزوّج ضباطٌ هذه حالهم من أولئك البناتِ ويصاهرون عائلاتهن، ألا يكون الزواج- المصاهرة منطويين على اغتصابٍ رمزي ذكوري، طبقي وسلطوي لا رادّ له ولا مهرب منه؟ فمن بمستطاعه في “سوريا الأسد” أن يتملّص ويتهرّب من سلطان الأب القائد وحاشية سلطته الأمنية والعسكرية؟ فغالبًا ما يرقى مثل هذين التملُّص والتهرُّب إلى مرتبة خيانة عظمى للأمة وقائدها المعجزة. أما استجابة البنات وعائلاتهن لتلك الزيجات والمصاهرات، والمُنْزَلَة عليهن وعليها من علٍ كقدرٍ محتومٍ، فتشبه اغتصابًا يماثل اغتصاب الأسد ورهطه وحاشيته السلطةَ في سوريا. وما أن ورث بشار الأسد والده القائد المؤسس حتى أقدم على الزواج من ابنة عائلة سنّية مرموقة.

لكن ألا تنطوي هذه الزيجات والمصاهرات الاغتصابية في دوائر السلطة الأسدية على ما يشبه تقديم عائلاتٍ وتجارٍ بناتهن أضاحيَ على مذبح رغباتهم في التقرُّب من تلك الدوائر، والانضمام إليها صاغرين أو مختارين أو متواطئين، حفاظًا على المرتبة والثروة والأعمال، ما دام لا ثروة ولا مرتبة ولا أعمال ولا أمن ولا حماية ولا صفقات في “سوريا الأسد” خارج دوائر تلك السلطة المغلقة؟

مَقاتل الإخوان المسلمين

وعشت في مدرسة الآباء اليسوعيين في حلب المجابهات الدامية بين نظام الأسد والإخوان المسلمين. وهي بدأت سنة 1976، وزامنت مع بدايات دخول الجيش السوري إلى لبنان، ودشّنتها حادثة كلية المدفعية في حلب: أقدم الضابط الأمني البعثي السنّي المناوب إبراهيم اليوسف على جمع الطلاب الضباط في الكلية، وفصل العلويين منهم عن السنّة، ثم أطلق النار على العلويين فأرداهم جميعًا. وكان قد سبق هذه الحادثة بسنوات قليلة إقدام المدير البعثي في مدرستي على الفصل بين التلامذة والطلاب المسلمين والمسيحيين في ملعبها، استعدادًا لفصلهم في تلقيهم دروس الدين. وأذكر من تلك الحقبة الشعارات الشتائمية البذيئة للرئيس أنور السادات بعد زيارته القدس في إسرائيل: تلامذة مدارس حلب وطلابها تُخرجهم منها إداراتها بالألوف إلى شوارع المدينة، هاتفين صارخين: “يا سادات ويا قيقة/ ويا صرماية عتيقة”.

وفي خضمّ المجابهات بين السلطة والإخوان المسلمين، ظن مدير مدرستنا البعثي أن الإخوان سيتغلّبون في تلك المجابهة الدموية، فنزع صورة الأسد عن جدار مكتبه، وشرّع بابه ليراه الطلاب والأساتذة يصلي مراتٍ خمس في اليوم. وشاع آنذاك في حلب أن نظام الأسد آخذ في التحلُّل والانهيار، على نحو ما أصابه لاحقًا في العام 2015، عشية التدخُّل العسكري الروسي وإنقاذه، عندما كانت دمشق محاصرة ومهددة بالسقوط.

وحدثت في حلب اغتيالات أشخاصٍ لم نكن نعلم أنهم علويون، وكانوا مدنيين وليسوا ضباطًا أمنيين ولا عسكريين، وبينهم أساتذة في جامعة حلب. وأشاع النظام أن الإخوان أقدموا على اغتيالهم. والأرجح أنه هو من قام بذلك. فعائلة عميد كلية الحقوق في دمشق، محمد الفاضل، قالت وأكدت أن النظام اغتاله. وبعد عمليات الاغتيال تلك في حلب، قسّم النظام المدينة إلى إحياء، وشرع في اقتحامها على طريقة النازيين في ألمانيا. وكانت الدبابة تقف في مداخل الأحياء التي لا تستطيع الدخول إليها، فيما الجنود يحاصرون تلك الأحياء. وعندما يدخلونها يطلقون نيران أسلحتهم عشوائيًا على الأهالي ويقتلون منهم العشرات، ثم يدخلون إلى البيوت فيحطمون أثاثها، باحثين عن الكتب الممنوعة في عُرف النظام. وهذا بعدما كان الإخوان قد فروا من الأحياء ونصبوا كمائن للجنود وقتلوا منهم العشرات أيضًا. وما حدث في حلب آنذاك كان تمرينًا مصغّرًا لما فعله النظام سنة 1982 في حماة.

وفي غمرة تلك الحوادث في حلب قُتل مدرّس الدين الإسلامي في مدرستنا، وربما كان إخوانيًا، وقد يكون قُتل خطًأ وظلمًا. وكانت دروسه الدينية غالبًا ما تثير سخريتنا في الصف. وقال لنا مرة: لقد رأيتكم في الملعب تتسلقون السور كي تتفرّجوا على البنات. هذا حرام. أمسكوا أنفسكم، غدًا في الجنة يحظى كل واحد منكم بسبعين حورية بالبيكيني، فما بالكم تطاردون بناتَ هذه الدنيا الفانية؟! وأذكر أنني وقفتُ وقلت له متندّرًا ساخرًا: نريد واحدة الآن وبلا حوريات الجنة، فطردني من الصف، ومنعني من حضور دروس الدين.

وفي نهار من تلك الأيام كنتُ وزملائي في المدرسة نسير في شارع بحلب، ففوجئنا بجنود يقفون في ناحية من الشارع مستنفرين، وأطلقوا علينا زخاتٍ من رصاص بنادقهم، فجمُدنا في مكاننا وشعرنا أننا قُتلنا وتتصاعد أرواحنا لباريها، فيما جَمُدت أبصارنا التي راحت تتبادل نظرات وداع الدنيا ووداعِ كل منا رفاقه الموتى. ثم راحت أكف أيدينا تمسح وجوهنا وتتحسّس أجسامنا، متبادلين في صمتٍ نظرات الدهشة والرعب من أننا لا نزال أحياء ولم تصبْنا تلك الرصاصات القاتلة. ولاحقًا علمنا أن الجنود الذين أطلقوا علينا النار ما كانوا هم أنفسهم يدركون أن قيادتهم عبّأت بنادقهم بطلقاتٍ صوتية خلّبيّة، لأن النظام لا يثق إلا بفرقه الخاصة من الجيش وبسرايا أجهزته الأمنية.

كان عمري 15 سنة آنذاك، سنة 1980. فأراد أهلي إبعادي عن سوريا، فقرروا أن أتابع السنة الأخيرة من مرحلة تعليمي الثانوية في بلجيكا، فسافرتُ إلى بروكسل، لكنني لم أمكث فيها سوى شهرين وحيدًا مكتئبًا، قبل عودتي إلى حلب.

—————————————-

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى