سياسة

اليسار يتقدم في كولومبيا ورهانات واشنطن لا تحول ولا تزول/ صبحي حديدي

إذا تمكن المرشح الرئاسي غوستافو بيترو (62 سنة) وزميلته المرشحة لنائبة الرئيس فرانسيا ماركيز (40 سنة) من الفوز في دورة الإعادة لانتخابات كولومبيا، يوم 19 حزيران (يونيو) المقبل، فإنّ هذا البلد سوف يشهد ولادة فريق رئاسي يساري وتقدّمي وشعبيّ المنبت للمرة الأولى على امتداد 212 سنة من عمر الاستقلال عن التاج الاستعماري الإسباني. دورة الاقتراع الأولى منحت الثنائي صدارة صريحة أمام مرشح اليمين المنافس رودولفو هرنانديز، وبدا جلياً تماماً أنّ المعركة اجتماعية المحتوى تدور حول انحطاط المستويات المعيشية وإخفاق الحكومات اليمينية المتعاقبة وشيوع الفساد؛ لا تغيب عنها السياسة بالطبع، وخاصة تجذّر التبعية للولايات المتحدة، وموقع البلاد في تراث ما بعد الاستعمار ومحيط أمريكا اللاتينية عموماً.

بيترو وماركيز ترشحا على بطاقة «الحلف التاريخي من أجل كولومبيا» وهو تجمّع سياسي وانتخابي رأى النور في شباط (فبراير) 2021 فقط، وكان واضحاً أنه إنما يتأسس لاعتبارات تحالفية تخصّ الانتخابات التشريعية والرئاسية لعام 2022؛ وبالتالي توفّر مقدار غير قليل من المرونة في ترحيل الخلافات الإيديولوجية بين أطرافه، اليسارية إجمالاً ولكن تلك التي تختلف حول نهج راديكالي أو وسيط أو متشدد أو حتى ذاك الذي يقبل مسحة ليبرالية. غير أنّ السمات الشخصية للمرشحين لم تكن البتة بعيدة عن لعب الدور الأبرز في ترجيح الكفة، لأنّ بيترو مخضرم في الممارسة السياسية، وسجّله يبدأ وهو في سنّ 17 سنة من الانضمام إلى حرب العصابات و«حركة 19 نيسان (أبريل)» ويمرّ من دوره في تطوّر المجموعة المسلحة إلى «تحالف M ـ 19 الديمقراطي» الأكثر ميلاً إلى السياسة، ولا ينتهي عند انتخابه في مجلس الشيوخ وحيازة المرتبة الثانية في عدد الأصوات على امتداد البلاد، أو حلوله رابعاً في الانتخابات الرئاسية لعام 2010، أو انتخابه عمدة للعاصمة بوغوتا في سنة 2011.

ماركيز، من جانبها، ناشطة نسوية وبيئية بارزة، ومحامية تحظى بشعبية واسعة، وقد أحرزت سلسلة نجاحات كان من النادر أن تفلح في إنجازها امرأة كولومبية من أصول أفريقية؛ بينها، على سبيل المثال فقط، قيادة مسيرة نسائية ضمت 80 امرأة وقطعت 350 ميلاً للاحتجاج على ما يلحق البيئة من أضرار بسبب أعمال التنقيب غير الشرعية عن الذهب. هي، إلى ذلك، شوكة دائمة في حلق السفير الأمريكي فيليب غولدبرغ الذي لا يفوّت فرصة من دون استغلالها لتأييد المرشح اليميني، واتهام «الحلف التاريخي» بالعمالة لأطراف خارجية على راسها كوبا. وإذْ كان اختيارها، كنائبة للرئيس على بطاقة بيترو، يعكس إقراراً من سواد اليسار الكولومبي بضرورة استحداث تآلف أعمق وأعرض قاعدة بين السياسة والمجتمع والبيئة؛ فإنه في الآن ذاته يمثل خطوة متقدمة لتعزيز أدوار المرأة، سواء على أصعدة حقوقية ومدنية ونسوية عموماً، أو لجهة توطيد الحضور الإثني والأفرو ـ كولومبي خصوصاً في الحياة السياسية.

رهانات الإدارة الأمريكية، هذه الحالية أو الإدارات السابقة كافة في الواقع، لا تستهين بتطورات المشهد السياسي الداخلي في كولومبيا؛ أسوة، غنيّ عن القول، بخياراتها التقليدية الشائعة بصدد التدخل في مصائر شعوب أمريكا اللاتينية، حتى إذا توجّب تنظيم انقلاب عسكري دامٍ تارة، أو آخر «أبيض» من حيث الشكل ولكنه ليس أقلّ عنفاً في المضامين تارة أخرى. وحتى الساعة، وبعد نجاح الثنائي بيترو وماركيز في العبور إلى الدور الثاني، تبدو أعين إدارة جو بايدن، عبر مجلس الامن القومي أو المخابرات المركزية أو البنتاغون، شاخصة إلى جنرالات الجيش الكولومبي وزعماء مافيات المال والمخدرات والميليشيات.

ولم يكن غريباً أن الجنرال الكولومبي إدواردو زاباتيرو خالف الأعراف الدستورية وتدخّل في مجرى الانتخابات، فاتهم بيترو بمضايقة الجيش وبتلقّي تبرعات مالية غير شرعية. من جانبها لم تتردد الجنرال لورا ريشاردسون، رئيسة القيادة الجنوبية للجيش الأمريكي، في الاجتماع علانية مع الجنرال الكولومبي لويس نافارو، والتأكد منه على بقاء القواعد الجوية الأمريكية في البلاد، واستمرار «كولومبيا شريكاً أمنياً متيناً» للولايات المتحدة.

رهانات باقية عند معطيات تقرير معهد «راند» الأمريكي المختصّ بأبحاث «الدفاع الوطني» حول تلك الأرقام المذهلة لتهريب السلاح والإتجار به استيراداً وتصديراً، في بلد تقول أكثر الإحصائيات تفاؤلاً إنّ نسبة الجريمة فيه هي الأعلى على نطاق العالم؛ وهذه الحقيقة، حول العلاقة بين تجارة السلاح وارتفاع معدّل الجريمة، ليست مدعاة ذهول أكثر من الحقيقة الأخرى التالية: أنّ معظم هذا السلاح يأتي من مصدر واحد هو ما يُسمّى «مستودعات الحرب الباردة» أي تلك الكميات الهائلة من الأسلحة التي سبق أن خزّنتها الولايات المتحدة في بلدان أمريكية لاتينية مثل الهوندوراس والسلفادور ونيكاراغوا. ليس هذا فحسب، بل إنّ الوجود العسكري الأمريكي الراهن في كولومبيا، ومعونات أمريكية تتجاوز 3.5 مليار دولار، فضلاً عن مئات العسكريين الأمريكيين المرابطين، تكفلت بنقل البلد إلى المرتبة الثالثة في ترتيب الدول التي تتلقى مساعدات عسكرية أمريكية. وبالطبع، ليس من جديد في القول إنّ الهدف الرئيسي للوجود العسكري الأمريكي إنما ينحصر في حماية خطّ أنابيب البترول التابع لشركة «أوكسدنتال بتروليوم» في قلب منطقة أروكا النفطية.

كولومبيا بلد شهد حرباً أهلية طاحنة تجاوز عمرها نصف قرن، وذهبت بأرواح أكثر من 53 ألف قتيل، وانخرط فيها عشرات الآلاف من أعضاء الميليشيات يميناً ويساراً. لكنّ البيت الأبيض، وبصرف النظر عن هوية شاغله الأوّل وما إذا كان جمهورياً أم ديمقراطياً، اعتاد اختصار هذا الاحتشاد المعقد إلى مجرّد حرب أمريكية ضدّ المخدرات.

والاختزال ينطوي، بالطبع، على طمس الحقائق السياسية والاجتماعية وراء تلك الحرب الأهلية، وكيف أنّ الجوهريّ فيها هو مصادرة أراضي مئات الآلاف من الفلاحين، وطردهم من مئات القرى على امتداد ثلاثة عقود؛ الأمر الذي أطلق شرارة عصيان شعبي تزعمته «جبهة القوات المسلحة الثورية الكولومبية» أو الـ FARC. الحقيقة، في المقابل، تشير إلى أنّ زمرة عسكرية مهيمنة هي التي تسهّل زراعة المخدرات وتصنيعها والاتجار بها، لأنها شريكة مباشرة في الـ «بزنس» بل هي الشريك الأوّل الذي لا غنى عنه. وفي عام 1998، لتقديم مثال مضحكٍ ـ مبكٍ، هبطت طائرة رئيس أركان سلاح الجوّ الكولومبي في مطار ميامي (أي في الولايات المتحدة، للتذكير!) وشاءت الصدفة وحدها أن تُكتشف على متن الطائرة الرسمية كمية من الكوكايين لا تقلّ عن… نصف طن!

وثمة سابقة تفيد بأنّ الرئيس الكولومبي الأسبق أندريس باسترانا كان قد سارع إلى فتح حوار مع جبهة الـ FARC، رافضاً التصنيف الأمريكي الذي يضعها في خانة عصابة مخدرات، ومعتبراً أنها حركة ثورية ذات مطالب سياسية واجتماعية. فمَن الذي فرمل الحوار سوى الولايات المتحدة، سواء عن طريق الضغط المباشر على الرئيس، أو عن طريق تحريض الطغمة العسكرية على تصعيد العمليات العسكرية ضد الـ FARC بالتزامن مع إطلاق مفاوضات السلام، أو ــ أخيراً ــ عن طريق الزيادة الدراماتيكية في حجم ونوعية المساعدات العسكرية الأمريكية ورفع تلك المساعدات إلى مستوى التدخل العسكري.

اليسار الكولومبي يتقدم، وإذا فازت بطاقة بيترو ـ ماركيز في انتخابات الإعادة، فإنّ معطيات كثيرة سوف تتبدّل في قلب المجتمع والدولة، والأرجح أنها سوف تعبر الحدود إلى أكثر من جوار واحد أمريكي لاتيني؛ ولا يغيّر من هذه الحال أنّ مناهج البيت الأبيض سوف تبقى جامدة متماثلة، لا تحول ولا تزول.

كاتب وباحث سوري يقيم في باريس

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى