منوعات

جنازتان بدلاً من عرس في دير الزور… انتحرت فانتحر أمام جنازتها/ محمود عبد اللطيف

شهدت قرية الجرذي الواقعة شرق نهر الفرات بريف دير الزور انتحار حبيبين لرفض عائلة الفتاة تزويجهما، ما أعاد التذكير بحكايا الحب الخالدة في المنطقة الشرقية من سوريا، والموسومة حالياً بالتديّن.

كل شيء في زمن الحرب أقسى، والحب ليس استثناءً، فالحرب قادرة على تغيير مفردات وأدوات التعبير حتى عن أرق المشاعر، لا سيما لمن هم في بداية حياتهم ولمن عاشوا معظمها في ظل أخبار الموت والقتل.

الحب في زمن الحرب

بحسب ما صرّحت مصادر عائلية وأهلية لرصيف22، فقد أقدمت إلهام التي بالكاد أكملت العشرين عاماً على إطلاق النار على نفسها من بندقية آلية تعود لشقيقها فجر الأربعاء 13 آب/ أغسطس 2022، تهديد الفتاة بالانتحار جاء بعد أن قُضي أمر زواجها وحُدّد موعد عقد قرانها على رجل من خارج قريتها له زوجتان، وكان غالب الظن أن تهديدها ليس إلا كلام شابة صغيرة لا تقوَ على تقدير مصلحتها، فقرار تزويجها جاء بعد رفض خطبتها لحبيبها صالح العجيل، الذي تقدم لطلب يدها أكثر من مرة.

ضجّت القرية لخبر انتحار إلهام، ومع خروج الجنازة من منزل ذويها ليُصلى عليها في مسجد القرية، أقدم صالح على إطلاق النار على نفسه أمام موكب التشييع من مسدس حربي يمتلكه كحال كل شاب يسكن في مناطق شرق الفرات، في انعكاس واضح لحالة فوضى السلاح التي تعيشها المنطقة.

وعلى حد وصف أحد الشهود الذين تحدثوا لرصيف22 فإن “محاولة إنقاذ الشاب باءت بالفشل وتوفي متأثراً بإصابته داخل مستشفى بلدة الطيانة”.

الحادثة قسمت المتابعين قسمين، قسم استنكر فعل الانتحار لأنه “كفر ويؤدي بفاعله إلى جهنم” ورأى أن “الابتعاد عن الدين يؤدي لمثل هذه الحوادث”، و”متابعة المسلسلات التركية وقصص الحب على الشاشات يدفع الشباب إلى الطيش والتهور”.

وقسم اعتبر أن الحكاية تعكس حباً كبيراً وصافياً، وحمّل ذوي الفتاة المسؤولية من منطلق أنهم رفضوا تزويج الحبيبين رغم تكرار الخطبة وعدم وجود عائق مجتمعي أو ديني.

حكاية صالح وإلهام فتحت باب الموروث الشعبي لحكايا حب شهدتها المنطقة سابقاً، ومنها ما يُروى بدون أسماء، وأخرى خُلدت من قبل معاصريها بطريقة لا يمكن أن تنسى.

قصة سودا وعبد

جنوب مدينة الحسكة بحوالي 17 كيلومتراً تقع قرية أخذت اسمها من حبيبين لا يُعرف على وجه التحديد الزمن الذي عاشا فيه.

قصة صالح وإلهام تعيد للذاكرة الشرقية قصة سودا وعبد في قرية قريبة ، الفتاة التي قتلها أخوها بداعي الشرف ولم يلبث أن مات حبيبها حزناً وكمداً فوق قبرها.

تقول حكايتهما أن سودا أخذت اسمها من ولادتها ببشرة داكنة أكثر من السمرة بقليل، وحين كبرت زاد جمالها بشكل كبير، وقد جمعها الحب بعبد الشاب الفارع الطول كما تصفه حكايا كبيرات السن في القرية، ثم إن صيت حكايتهما ذاع في المنطقة إلى الحد الذي لم يعد يذكر أحد اسم قريتهما الأول.

على الرغم من أن لقاء الحبيبين كان محدوداً ومقتصراً على مرور عبد بمكان توجد فيه سودا مع جعل شقيقته مرسالاً، لنقل الغزل والشوق والعتب مشافهة، إلا أن شقيق سودا قرر أن “يغسل عاره” فأقدم على قتلها بداعي الشرف، لكن حين أشرفت النساء على تغسيل الشابة وجدنها عذراء وقد لام الناس شقيقها، فرحل عن القرية.

ظل عبد يزور قبر حبيبته حتى بات مستقره الدائم، وكلما مرّ به أحد من زوار المقبرة وجده يبكي بحرقة، وبقي على حاله هذه ما يقارب الشهر حتى تمكن منه الهزال والمرض لكونه أقسم ألا يذوق زاداً أو ماءً بعدها، ولم يطل الأمر حتى توفي ودفن بجوار حبيبته وفقاً لطلبه.

تقول الحكاية الموروثة مشافهة بين كبار السن أن شقيق سودا عاد بعد سنوات، فوجد قبراً بجوار قبر شقيقته، وأن شجرتي كينا نمتا في جوار القبرين والتفّت الواحدة على الأخرى، وحين عرف أن من يجاور شقيقته في آخرتها هو عبد نفسه، حمل سيفه وراح يضرب الشجرتين به حتى قطعهما مردداً “من جمعتكم الدنيا ولا تجمعكم آخرة”.

الجزء الأخير من حكاية سودا وعبد يبدو مبالغاً به، لكن القرية لم تزل تحمل اسم الحبيبين حتى يومنا هذا.

سرديات العشق أمانة في أفواه النساء

في المنطقة الشرقية من سورية، يطلق الشاب كنية خطيبة على الصبية ما إن تقع في قلبه موقع المحبوبة، ولا يشترط أن يكون قد تبادل معها حتى تحية عابرة ليخلع عليها اللقب، إنما هو من منطلق تقديس الفتاة والإيحاء لمحيطه بأنه صاحب نية صافية تجاهها، في هذه المرحلة تكون كلمة خطيبة مرادفاً مساوياً لمصطلح “Crush” بالإنجليزية.

وبعد أن يعترف لها الشاب بحبه، بطريقة مباشرة من خلال رسالة مكتوبة أو شفهية تحملها فتاة أخرى يختارها من شقيقاته أو بنات عمه ستبقى خطيبة أياً كان ردها، فالتوصيف هنا يرادف الحبيبة.

في هذه المرحلة يجب أن تكون حاملة الرسالة محل ثقة وكتومة، ويفضل أن تكون على علاقة مباشرة بالخطيبة كأن تكون صديقة لها مثلاً.

تطورت هدايا العشاق في المنطقة من شريط كاسيت يجمع الشاب عليه أغاني يختارها إلى قرص “CD”، وقد تكون هدية الحبيب للمحبوبة وشاحاً من الحرير يعرف باسم “هبرية” أو حتى بعضاً من الشّعر الذي يكتبه باللهجة المحكية ليصل محبوبته فتفرح به. الأكيد أن “الدبدوب” و”الجوري الأحمر” لم يكونا من مفردات حكايا العشق في المنطقة الشرقية ولن يكونا.

إما إذا كان الشاب متعدد العلاقات فيحصل على لقب “أبو الخطايب” والمصطلح هنا ينوب عن كلمة “نسونجي” المتداولة في بقية أنحاء سورية، فالخطبة التقليدية التي يعرفها الناس في الشرقية تبدأ غالباً وتنتهي خلال أسبوعين، فإن تقدم الشاب لخطبة فتاة فسيكون يوم خطبتهما هو يوم عرسهما، ونادراً ما يكون هناك خطبة بالمعنى التقليدي للكلمة.إن قصة مثل التي شهدتها قرية الجرذي لن تكون عابرة في ذاكرة المنطقة، وستظل النساء أمينات على بقاء الحكاية حية من جيل لآخر، والسرد الشفهي سيجعل من الإضافة عليها أمراً طبيعياً، وربما بعد جيلين أو ثلاثة ستكون نهاية حكايتهما بنمو شجرتين متعانقتين، أو ورد حول قبريهما أو سردية ثالثة أكثر رومانسية على الطريقة الشرقية.

رصيف 22

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى