أبحاث

في تحوّلات السلفية السورية ومآلاتها/ أمجد أحمد جبريل

كل المقالات المرجعية لهذا المقال موجودة في الأسفل

مع حلول الذكرى الحادية العشرة للثورة السورية، تبرز الحاجة لقراءة تحولات السلفية السورية ومآلاتها، وكيف أسهمت توظيفات أطرافٍ خارجية وداخلية لها في تحويل البلاد إلى “ساحة صراع إقليمي ودولي بالوكالة”؛ فغدت نقطةً جاذبةً للتدخلات الخارجية، وشهدت صورًا من تدفق التمويل، وجذب آلاف المقاتلين الأجانب، ما وضع الثورة في أتون عمليةٍ مركّبةٍ ذات ثلاثة أبعاد: “العسكرة”، و”الطائفية”، و”تفتيت المجتمع”. وهي عمليةٌ خدمت، في المحصلة النهائية، أجندة نظام بشار الأسد (وداعميه الخارجيين)، التي عملت، ولا تزال، ضد مصالح الثورة والشعب السورييْن.

من “الفكر الإصلاحي” إلى “السلفية العلمية”

نشأت الحركة السلفية في سورية، في نهاية القرن التاسع عشر في أهم مركزيْن تاريخيين في البلاد: دمشق وحلب. وعلى الرغم من مرورها بأطوار عديدة لاحقًا، فقد كانت الحركة، في بداياتها، تشبه “السلفية الإصلاحية” التي نشأت في مصر، على يد الشيخ محمد عبده، وكان رموزها رجال فكر ودين أيضًا، مثل عبد الرحمن الكواكبي (1849-1902) وجمال الدين القاسمي (1866-1914)، ومحمد رشيد رضا (1865-1935). وقد خرجت من رحم هذه السلفية الإصلاحية عدة جمعيات، لعبت دورًا في الحياة الثقافية والاجتماعية والسياسية، من أهمها: “الجمعية الغرّاء” (1924)، التي أسّسها عبد الغني الدقر، وجمعية التمدن الإسلامي (1930) التي أسّسها أحمد مظهر العظمة وبهجت البيطار[1].

وبعد اعتراف حكومة شارل ديغول الفرنسية بالدولتين السورية واللبنانية، عام 1941، شهدت سورية انتخابات نيابية عام 1943، فازت فيها قوائم رجال “الكتلة الوطنية” بقيادة شكري القوتلي الذي انتخب بعدها رئيسًا للجمهورية؛ إذ عرف المجال السياسي السوري نوعًا من الاستقرار وانتعاش هيئات المجتمع المدني والمؤسسات النقابية والأحزاب السياسية التي جمعت الأفراد على قواعد سياسية وفكرية، بصرف النظر عن الطائفة والمذهب، قبل أن يقوم قائد الجيش الجنرال حسني الزعيم بانقلابه (30 مارس/ آذار 1949)[2].

في هذه الأجواء، ولدت جماعة الإخوان المسلمين في سورية، بعد أسابيع قليلة من نهاية الاحتلال الفرنسي، من تجمّعٍ من الجمعيات الإسلامية في دمشق وحلب وحمص وحماة، وضمّت الجماعة تياراتٍ تباينت خلفياتها بين التصوف والسلفية والتوجه الإسلامي الليبرالي، وشهدت ازدهارًا نسبيًّا في عهد مصطفى السباعي (1915- 1964)، الذي كان مؤمنًا بالعدالة الاجتماعية والنظام البرلماني؛ إذ شارك “الإخوان” في جميع الانتخابات البرلمانية، وجرى تعيين بعضهم وزراء عامي 1949 و1962. بيد أن استيلاء حزب البعث العربي الاشتراكي على السلطة في سورية، 8 مارس/ آذار 1963، وحلّ الأحزاب السياسية وإلغاء الحياة الديمقراطية كان كفيلًا بتفكيك “السلفية الإصلاحية السورية”، وتحوّلها إلى العمل الخيري والثقافي والدعوي؛ إذ انصرف أنصارها إلى “السلفية العلمية”، وصراعاتها حول العقيدة، خصوصًا مع الصوفية الأشعرية، كما تجلّى في مناظرة الشيخين محمد سعيد البوطي ومحمد ناصر الدين الألباني.

ويمكن القول إن السلفية السورية تدين، في طابعها الإحيائي المحافظ، بالفضل للألباني (1914-1999)، الذي كرّس حياته للعناية بعلم الحديث وتدريسه، حتى لقّب بـ”محدّث العصر وناصر السنّة”، واشتهرت انتقاداته لجماعة الإخوان المسلمين لاهتمامهم بالسياسة أكثر من العلم والعقيدة، وطوّر دعوته التي سمّاها “التصفية والتربية”؛ أي تنقية السنّة مما دخَلَها من أحاديث موضوعة وضعيفة، واتباع تصورات السلف الصالح، وتنشئة الجيل على العقيدة الإسلامية الصحيحة المستمدة من القرآن والسنة”. وقد كثر أتباع الشيخ الألباني في شتّى أنحاء العالمين، العربي والإسلامي، وتضافر تلامذته في الجامعة الإسلامية في المدينة المنورة، في ما أصبح يسمّى “أهل الحديث”، وخرج من رحمهم “الجماعة السلفية المحتسبة” وجهيمان العتيبي، قائد المجموعة التي احتلت المسجد الحرام في مكة أواخر 1979 [3].

تحوّلات بعد الثورة

نتيجة استراتيجية النظام السوري القمعية، انتشرت، منذ أواخر 2011، رؤية بين الجمهور للنظام بوصفه “نظاما علويًّا”، وبدأت تظهر حركات سلفية وجهادية تولّت العمل المسلح ضد النظام، وبدأت تكتسب قبولًا لدى الشارع المؤيد للثورة الذي شهد ميلاد نمط من “التدين الشعبي الجديد” يختلف عن “التدين الشعبي التقليدي” المعروف بتنوّعه وتسامحه؛ إذ تطعّم بالتدريج بمصطلحات سلفية، عبر الإعلام الديني المتلّفز وتأثيره في الوعي الشعبي، والعمل في الخليج والتأثر بأنماط التدين في السعودية، ما أبرز تناقضا طائفيا في مجتمعٍ مركّب الهوية، مع تفشّي نهج إقصائي يحيد في أهدافه عن النهج المدني الديمقراطي العام للثورة السورية”[4].

وعند هذا الحد، يمكن الزعم أن أفكار “السلفية الإصلاحية السورية” تراجعت تمامًا، ولم يبقَ لها تأثير حقيقي، ربما باستثناءٍ وحيد يتعلق بمساهمات جودت سعيد (1931- 2022)، الذي يصنّفه بعضهم في خانة “السلفية اللاعنفية”؛ إذ نشر عام 1966 كتابه “مذهب ابن آدم الأول: مشكلة العنف في العالم الإسلامي”، ربما ردًا على اتجاه الإخوان المسلمين نحو ممارسة العنف السياسي، تحت وطأة كتابات سيد قطب (1906- 1966) التي شكّلت الأساس الفكري لحركات العنف الإسلامي. وعلى الرغم من وجود ثلةٍ من المعجبين بأفكار جودت سعيد (مثل تلميذته الداعية حنان اللحام، وصهره الكاتب خالص جلبي، وبعض الناشطين الملتفين حول الشيخ السلفي عبد الأكرم السقا في مدينة داريا)، فقد ظلّت “نظرية اللاعنف” نخبويةً وقليلة الانتشار، حتى اندلاع الثورة السلمية السورية، عام 2011، التي أحيت مؤقتا رمزية أفكار سعيد لدى نخبٍ شبابية، قبل أن تتراجع، بسبب اشتداد قمع النظام المظاهرات، وإصراره على جرِّ الثورة إلى العنف والطائفية، مستعينا بحلفائه الإقليميين (إيران وحزب الله وباقي المليشيات الطائفية) (عبد الرحمن الحاج).

وفي سياق تحليل تحولات السلفية بعد الثورة السورية، برزت ثلاث قضايا جوهرية؛ أولاها دور الدعاة السلفيين السوريين في حشد الدعم المالي أو العسكري للثوار، بالتوازي مع خطاب طائفي تحريضي إقصائي، وثانيتها أدوار الشبكات السلفية الخليجية عابرة الحدود (2012-2013) في جمع التبرّعات المالية لدعم حاجات المجتمع السوري. وثالثتها توسّع نفوذ تيارات السلفية الجهادية، خصوصًا جبهة النصرة وتنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش).

وقد تصاعد تأثير شخصيات سلفية في مسار الثورة السورية، أبرزها عدنان العرعور (مواليد حماة عام 1948)، الذي تصدّر المشهدين، الإعلامي والدعوي، عبر فضائيتي “وصال” و”الصفا”؛ فأضحى أنشط الشيوخ في جمع التبرّعات بهدف تمويل فصائل “الجيش السوري الحر”، وكان يتلقّى دعما كبيرا من جهاتٍ خليجية، ويملك علاقاتٍ واسعةً مع جمعيات ورجال أعمال وأثرياء كثر، ما مكّنه من التصرّف بمئات ملايين الدولارات التي استخدمها لتمويل كتائب، وشراء ولاء أخرى، والسيطرة على الوسط العسكري الثوري الناشئ باسم العداء للنظام، وتوجيهه الوجهة الطائفية التي كانت عقيدته الرئيسية، فاختطفت هذه “الحركة الطائفية الشعبوية” الثورة، منذ بداية المرحلة المسلحة حتى هزيمتها العسكرية[5].

وصحيحٌ أن السلفية، بوصفها حركة، كانت موجودة في سورية قبل الثورة، بيد أن “مشكلة العرعورية أنها كانت الحامل لأجندة خارجية تتعلق بالصراع الشيعي السني المسيطر على الحياة السياسية السعودية، وأسهمت من حيث هي كذلك في تطويق الأجندة الديمقراطية السورية التي كانت في جوهر الثورة، وعملت على تقسيمها وتضييع بوصلتها وتشتيت قواها وحرمانها من العمل ضمن إطار وطني شامل؛ فمشكلة العرعرة لا تكمن في سلفيتها، وإنما في تبعيتها الجيوستراتيجية، إذ لم يعد هنك تفكير سياسي وطني في سورية، إنما تعبئة دينية لتكوين زعامة شخصية للشيخ العرعور تزيد من رأسماله في معركته لمصلحة الوهابية في سورية”[6].

على صعيد متصل، لعبت شبكات خليجية عابرة للحدود (في عامي 2012-2013)، دورًا بارزًا، في الصراع السوري، وكانت تديرها جهاتٌ سلفيةُ “حركية” و”علمية”، واتّخذت من دول الخليج، خصوصا الكويت، مقرًا لها؛ إذ برزت أدوار الداعية حجاج العجمي، وأمين عام حزب الأمة، حاكم المطيري، وأمين عام فرع حزب الأمة المحظور في السعودية، محمد المفرح، وأمين عام فرع حزب الأمة في الإمارات، محمد العبدولي، في دعم “حركة أحرار الشام”.

كما برز دور شبكة إقليمية من السلفيين، تُعرَف بـ”السرورية”، في إعادة إحياء تأثير الشيخ محمد سرور زين العابدين (1938-2016)، في سورية، والذي ألقى بثقله خلف “جبهة تحرير سورية الإسلامية”، التي جمعت في صفوفها آلاف المقاتلين الذين ينتمون إلى أربعةٍ من أقوى الفصائل المسلحة: “لواء الإسلام” (لاحقًا “جيش الإسلام”) في محافظة دمشق؛ و”كتائب الفاروق” في محافظة حمص؛ ومجموعتان كانتا قريبتين من الإخوان المسلمين سابقًا، “صقور الشام” في محافظة إدلب، و”لواء التوحيد” في محافظة حلب، وقد تمكّنت الجبهة من ضمّهما إلى صفوفها بفضل ما تتمتع به من إمكانات مالية[7] .

“السلفية الجهادية” والتدخل العسكري الروسي

لئن كان التنافس بين “السلفية العلمية” ممثلة في العرعور، و”السلفية الحركية” ممثلة في أنصار سرور زين العابدين قد أضرّ بمسار الثورة السورية، فإن توسّع نفوذ تيارات السلفية الجهادية، أدى إلى توفير ذريعة مناسبة للتدخل الروسي في سورية تحت عنوان “مكافحة الإرهاب”، مع إصرار موسكو على توسيع مفهوم مكافحة الإرهاب، حتى كاد أن يشمل كل القوى التي حملت السلاح ضد نظام بشار الأسد. وقد “أسهم نظام الأسد في تعزيز انخراط الحركة الجهادية في الثورة السورية؛ إذ قامت استراتيجيته على العمل لإخراج المعتقلين الجهاديين من سجونه من تنظيمات، مثل “جيش الإسلام”، و”كتائب عزام”، إضافة إلى أفراد الإخوان المسلمين والقاعدة، مثل أبي خالد السوري (كان مع أسامة بن لادن في أفغانستان)، وبلغ مجمل عدد الذين أفرج عنهم نحو ألف متشدّد، ظهروا في فترة لاحقة في صفوف جبهة النصرة، أو كتائب أحرار الشام، أو “داعش”، وهكذا شكّل صعود دور السلفية الجهادية في سورية طوق نجاة للنظام السوري، إذ انصب الاهتمام الدولي على محاربة هؤلاء، في حين واصل النظام السوري قصفه للمدنيين واستخدام الغازات السامّة والإبادة الجماعية للمعتقلين”[8].

وبعد تدخل روسيا أصبحت أهم اللاعبين الخارجيين في المسألة السورية؛ إذ “نجحت في إدارتها وتنسيق الجهود لحلها وفق أولويتيْن: إحداهما “الحرب على الإرهاب”. والأخرى “تخفيض العنف بين النظام السوري والمعارضة”. وبهذا، تحوّل الشأن السوري إلى شأن تقني/ إداري، وجرى تغييب البعدين، السياسي والحقوقي؛ إذ ركّزت موسكو على الجانب التقني لتخفيض العنف، بغرض تصفية القضية السورية وإنهاء كل بحثٍ في التغيير السياسي، والاكتفاء بالكلام عن مصالحات وإعادة إعمار بعد وقف النار الميداني، حتى يبقى النظام المسؤول عن خراب سورية وعن جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، مسيطرًا على قسمٍ واسع من البلاد”[9].

في مآلات السلفية وحصادها

إجمالا لما تقدّم، يمكن القول إن اندلاع الثورة السورية عام 2011 أدّى إلى إبراز دور الاتجاهات السلفية المختلفة، بشكلٍ يفوق نسبة الوجود الطبيعي للسلفية داخل المجتمع السوري، بتأثير عوامل: التبرّعات الخليجية الناتجة عن “التفاعل” مع القضية السورية في بدايات الثورة، وانتشار “السلفية الجهادية” العابرة للحدود، وتزايد مستويات الصراع الطائفي السني – الشيعي، على مستوى إقليم الشرق الأوسط بكامله، الذي بات مرتهنًا للصراع السعودي الإيراني، إلى حد كبير، ما يؤكد أهمية تحليل أثر السياقات الدولية والإقليمية والداخلية في مسارات تطور “السلفيات السورية”.

بيد أن “الطفرة السلفية” المؤقتة في سورية، لم تحجب حقيقة قابلية “الحركات السلفية”، للتوظيف وهشاشتها وشخصنتها وصراعاتها البينية؛ فقد تشرذمت هذه الحركات، وجرى توظيفها من جهات مختلفة، خليجية وعربية وإقليمية ودولية، سيما بعد تغير البيئة الإقليمية والدولية، من “القبول النسبي” ببعض التيارات “المعتدلة” الإخوانية والسلفية، قبل الثورات العربية، إلى الانقلاب عليها تمامًا، ومحاصرة مصادر تمويلها، ودمغ نسبة كبيرة منها بـ”الإرهاب”، خصوصًا بعد ظهور جبهة النصرة وتنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش).

ويظهر تحليل تجربة حركات السلفية الجهادية في مقارعة أنظمة الاستبداد العربي بعد الثورات العربية، عام 2011، أن هذه الحركات لم تكن مجديةً ولا فعّالة، بسبب نخبويتها وافتقادها الخبرة السياسية الوطنية وارتباطها بمشروعاتٍ “جهادية كونية”، ومحدودية حاضنتها الاجتماعية والشعبية، ما قد يصعّب في المحصلة النهائية الاعتماد عليها، بوصفها “طاقة تغيير مجتمعي”، نحو مستقبلٍ أفضل لشعوب المنطقة.

وفي سياق تحليل “الظاهرة السلفية” ومستقبلها، يجب التأكيد على أهمية الجهد التنظيري، في تأصيل “تاريخ مفهوم السلفية”، كما طرحه عزمي بشارة، عبر “الحديث عن سلفيات متنوعة، تترواح بين السلفيات الإصلاحية والدعوية والجهادية والعلمية والسنية والشيعية”.. إلخ”[10] . وعلى الرغم من احتمال بقاء مظاهر من “السلفية الاجتماعية السورية” في الأرياف والأطراف بدرجة رئيسة، واحتمال إحياء أنماط من “السلفية الشامية الإصلاحية” في المدن الرئيسة، مثل دمشق وحلب، فإن ثمّة تحدّيات مستقبلية، قد تحول دون استدامة “الطفرة السلفية”[11] .

[1] عبد الرحمن الحاج، “السلفية والسلفيون في سورية: من الإصلاح إلى الجهاد”، مركز الجزيرة للدراسات 26/5/2013. على الرابط: https://bit.ly/36pSC8a.

[2] شمس الدين الكيلاني، مدخل في الحياة السياسية السورية: من تأسيس الكيان إلى الثورة، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، بيروت، 2017، ص 25- 27.

[3] ستيفن لاكروا، زمن الصحوة الحركات الإسلامية المعاصرة في السعودية، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، بيروت، 2012، ص 111- 135.

[4] عزمي بشارة، سورية: درب الآلام نحو الحرية: محاولة في التاريخ الراهن، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، بيروت والدوحة، 2013، ص 324- 325، وص 352.

[5] برهان غليون، عطب الذات وقائع ثورة لم تكتمل سورية 2011- 2012، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، بيروت، 2019، ص 186- 197.

[6] المصدر نفسه.

[7] توما بييريه، “إخوة في الزكاة: المموّلون السلفيون والثورة السورية”، مركز مالكوم كير- كارنيغي للشرق الأوسط 4/6/2018. على الرابط:

https://bit.ly/2ttmstN.

[8]  شمس الدين الكيلاني، ص 175- 176.

[9] زياد ماجد، “نحو “تصفية تقنية” روسية- أمريكية للقضية السورية”، تقارير، مركز الجزيرة للدراسات 24/8/2017. على الرابط: https://studies.aljazeera.net/ar/reports/2017/08/170824080308680.html

[10] عزمي بشارة، في الإجابة عن سؤال: ما السلفية؟، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، بيروت، 2018، ص 16.

[11] محمد أبو رمان، الصراع على السلفية: قراءة في الأيديولوجيا والخلافات وخارطة الانتشار، بيروت: الشبكة العربية للأبحاث والنشر، عمّان: مركز الدراسات الاستراتيجية -الجامعة الأردنية، 2016، ص 115- 117.

العربي الجديد

—————————

بعض المقالات المرجعية لهذا المقال

———————–

السلفية والسلفيون في سورية: من الإصلاح إلى الجهاد/ عبد الرحمن الحاج

تتميز السلفية السورية بطابعين رئيسيين: أفرزت في بداياتها سلفية تدعو للاعنف كنتيجة للقمع الذي مارسه النظام على الاخوان في الثمانينات، ثم أفرزت سلفية جهادية كرد فعل على قمع النظام للمظاهرات السلمية ودعم قوى شيعية له.

لم تتوقف السلفية السورية عن التغيير منذ بروزها في نهاية القرن التاسع عشر في أهم مركزين تاريخيين: دمشق وحلب. في بداياتها، كانت الحركة السلفية السورية شبيهة إلى حد كبير بالسلفية الإصلاحية التي نشأت في مصر على يد الشيخ محمد عبده، وكان رموزها رجال فكر ودين أيضًا، مثل الشيخ عبد الرحمن الكواكبي (1849-1902) والشيخ جمال الدين القاسمي (1966-1914)، والشيخ محمد رشيد رضا (1865-1935)، لكن السياسة كانت في صلب اهتماماتها. ولا يختلف الفكر السلفي الشامي في بنيته عن الفكر السلفي للمدرسة الإصلاحية السلفية في مصر. وقد تأثر عدد كبير من كبار رجال السياسة الوطنيين الأوائل بأفكار روادها، وبشكل خاص بأفكار جمال الدين القاسمي الذي كان يرعى منتدى يحضره أمثال: لطفي الحفار وعبد الرحمن الشهبندر وفارس الخوري ورفيق العظم ومحمد كرد علي وسليم الجزائري وعبد الحميد الزهراوي، وآخرون غيرهم.

تفرعت عن السلفية الإصلاحية الشامية عدة جمعيات، سرعان ما لعبت دورًا مهمًا في الحياة السياسية، أهمها “الجمعية الغرّاء” (1924) التي أسسها الشيخ عبد الغني الدقر وحاولت الـتأقلم مع التغييرات الاجتماعية التي أحدثها اقتحام الحياة الغربية الحديثة، وأدى نشاطها إلى إحداث تأثير اجتماعي واسع فباتت هدفًا مغريًا للسياسيين ورجال الحكم، طمعًا في الأصوات الانتخابية التي بحوزتها، بحيث إن شكري القوتلي الذي حصل على تأييد الجمعية نجح في الانتخابات البرلمانية في 1943، وجعل أمين سرّ الجمعية، الشيخ عبد الحميد الطباع، على قائمة مرشحي “الكتلة”، ففاز بالوصول إلى “البرلمان السوري” سنة 1943.

وأيضًا جمعية التمدن الإسلامي (1930) التي أسسها أحمد مظهر العظمة والذي أصبح وزيرًا، وبهجت البيطار (أحد التلامذة المباشرين للقاسمي). أصدرت عام 1946 مجلة باسم الجمعية يمكن اعتبارها أهم سجل مرجعي للسلفية الإصلاحية الشامية وتطوراتها. وقد أُغلقت الجمعية بعد مجزرة حماة الكبرى عام 1982.

وبالرغم من حل الأحزاب السياسية وإلغاء الحياة الديمقراطية في سورية لأجل الوحدة الناصرية مع مصر، إلا أن الإصلاحيين السلفيين الشاميين ظلوا أوفياء لمعتقداتهم ومبادئهم، لكن بعد انقلاب البعث عام 1963 وحلِّ الأحزاب والتعددية السياسية، بدأت السلفية الإصلاحية بالتفكك، وتحولت جمعياتها إلى مجرد جمعيات خيرية ومجلاتها إلى مجلات ثقافية، وانصرف أتباعها إلى الجدل العقدي مع خصومهم، حيث بلغ ذروته في نهاية السبعينيات، وتحولوا إلى السلفية العلمية. ويمكن اعتبار مناظرة الشيخين سعيد البوطي وناصر الألباني مثالاً نموذجيًا على ذلك.

بذور السلفية الجهادية

في عهد حافظ الأسد تشكلت البذور الأولى للسلفية الجهادية وسط بيئة إقليمية ودولية شهدت عدة صراعات ساخنة، مثل حرب الخليج الثانية، التي أعقبها حصار اقتصادي مروِّع للعراق، والانقلاب على الإسلاميين في الجزائر بعد فوزهم في الانتخابات، وأيضًا حدوث مجاز في البوسنة ضد المسلمين، بالإضافة إلى انتهاء حرب “تحرير” أفغانستان من الاحتلال السوفيتي، وعودة العديد من الأفغان العرب إلى بلادهم، فضلاً عن انكشاف حجم المأساة التي تعرض لها الإسلاميون السوريون في السجون بعد أن أُفرج عن مئات منهم منذ 1992، فلقد تعرض ما يزيد عن 17 ألف سجين لإعدامات جماعية منظمة، وقد واكب ذلك كله انفتاح محدود على العالم الخارجي سمح بالاطلاع على معاناة المجتمعات المسلمة في الخارج؛ إذ انتشرت في ذلك الوقت، وعلى نطاق لا بأس به، أشرطة فيديو وكتب ومقالات تتحدث عن مجازر البوسنة وجهاد الأفغان العرب. وفي منتصف التسعينيات أُعلن “الجهاد” ضد الروس من أجل استقلال الشيشان؛ أسوة بالدول التي كانت ملحقةً بالاتحاد السوفيتي.

خلق ذلك كله مناخًا يغري الأجيال الشابة بالتفكير الجهادي، فتشكلت جماعات صغيرة غير منظمة يجمعها مجرد اهتمام مشترك بهذا الموضوع؛ وهي رغم تشابهها فكريًا مع تفكير الطليعة المقاتلة في نسختها الأخيرة (كما ظهرت عند قائدها الشيخ عدنان عقلة) إلا أنها بالتأكيد لا تنبت من الذاكرة الإسلامية السياسية السورية في الثمانينيات ولا حتى من أدبيات الطليعة المقاتلة مباشرة، بقدر ما تشربت معنويًا من رموز الجهاد الأفغاني والقوقازي، وبشكل أكثر خصوصًا من كارزمية الشيخ عبد الله عزام الذي تحوَّل إلى رمز الجهاد الأفغاني العربي بعدما قُتل عام 1993 في سيارته مع اثنين من أبنائه في باكستان، بالإضافة إلى بعض رموز الصحوة الإسلامية السلفية الجديدة الصاعدة في السعودية. لكن الجدير ذكره هنا أن الشيخ عزام في الحقيقة كان يمثل مفصلاً في تطور فكر الطليعة المقاتلة نحو قاعدة الجهاد العالمي.

كانت الانتفاضة الفلسطينية الأولى، التي اشتعلت في 1987 واستمرت حتى 1993، قد ألهبت مشاعر الأجيال الفتيّة وأثارت حماسهم، فعمليات المقاومة الإسلامية الفلسطينية (“حماس” و”الجهاد الإسلامي”) كانت تثير الإعجاب على نطاق واسع، وذلك بجوار ما يحدث في جنوب لبنان، حيث بدأت المقاومة اللبنانية (“حزب الله”) منذ 1994 تحقق انتصارات تحت شعارات إسلامية ثورية، ولم يكن تأثيرها بالطبع أقل من جارتيها في فلسطين رغم “تنغيص” الاختلاف الطائفي الذي لم يمنع رغم ذلك قبول القوى الجهادية بسورية وانفعالها الشديد بالمقاومة اللبنانية.

من جهة أخرى، كان الاتحاد السوفيتي الذي طالما شكّل سندًا لنظام الأسد قد انهار، ومُنيت العقيدة الماركسية بهزيمة نهائية، وهو أمر زاد الاهتمام بالإسلام على مستوى محلي وعالمي، وقد عمل النظام على دعم بعض الرموز الدينية التي تحالفت معه، بشكل خاص تلك التي عُرفت بعدائها للإخوان المسلمين، للتحكم في “الصحوة الإسلامية” التي بدأت تشهدها سورية (مع المنطقة عمومًا) كي لا تهز أسس النظام، بل إن تصاعد الصحوة الإسلامية وبروز نجم الحركات الإسلامية في الدول المجاورة دفع بالشيخ محمد سعيد رمضان البوطي أبرز خصوم السلفية وأقرب الرموز الدينية إلى نظام الأسد في ذلك الوقت، والمعروف بعدائه لجماعة الإخوان المسلمين، إلى مواجهة الفكر الجهادي الذي بدأت بذوره تنمو للتو وتبرير القمع الذي مارسه النظام السوري ضد الإسلاميين فقهيًا في كتابه “الجهاد في سبيل الله: كيف نفهمه؟ وكيف نمارسه؟” (1993).

أدت التطورات والأحداث المتسارعة والانفتاح المحدود في وسائل الإعلام والتقدم في وسائل الاتصال إلى انتشار مزاج جديد معاد للأميركيين والأنظمة العربية على وجه العموم، بين الأجيال الشابة حديثة السن التي لم يكن لها خبرة جيدة بقمع الحركة الاسلامية في الثمانينيات، هذا المزاج كان يؤدي في الغالب إلى اعتناقهم أفكارًا سلفية جهادية بشكل فردي، سهَّلت وسائل الاتصال تداول أدبياتها ومكتبتها المرئية بشكل كبير.

كانت هذه المكتبة المتداولة تستند بطبيعة الحال إلى تجربة مجاهدي الأفغان العرب، ولم يكن بمقدور معتنقيها أن يتحولوا إلى عمل تنظيمي، فعمق المأساة الدموية في أحداث القمع في الثمانينيات ترك أثارا لا تمُحى؛ فالخوف ما زال عميقًا، إلى درجة أنه لم يكن مقبولاً مجرد التفكير في أي تنظيم يتبنى العنف ضد النظام في المجتمع السوري، ومع انسداد الأفق الداخلي اتجه تركيز قوى السلفية الجهادية الجديدة تلقائيًا إلى الخارج، ولم يلبث النظام نفسه أن قدم لها التسهيلات، واتَّبع سياسة الاستثمار فيها، فبات يتسامح بشكل غير معهود مع التنظيمات الإسلامية “الأصولية” في الخارج (حزب الله، حماس، الجهاد، الإخوان الأردنيين)، فيما حافظ على قمع عنيف وغير متسامح بالمرة مع أي حالة تنظيمية إسلامية سورية يمكن أن تبدأ مجرد بداية على أراضيه، مهددًا دومًا المجتمع السوري من خلال عدة طرق بتكرار قمع الثمانينيات، الأمر الذي كان يعزز “عقم” التربة السورية في تقبل البذرة السلفية الجهادية.

السلفية الجهادية المستأنسة

أصدر أبو مصعب السوري (أحد قيادات الصف الثاني في تنظيم “الطليعة المقاتلة” وأحد رموز القاعدة) بيانًا بمناسبة وفاة الرئيس حافظ الأسد، يشكو فيه من خيبة أمله في إعراض السوريين عن “الجهاد”، وأشار بمرارة إلى أن “كثيرًا منهم [السوريين] قد رضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها، وسيرفضون هذا الكلام، بل سينتقمون ممن يدعون إليه، وأعلم أن كثيرًا من علماء السوء ومشايخ الضلال، وعميان البصيرة، سيصرفون الناس عن هذا الكلام”، وأنه من عام 1986 إلى عام 2000 “أُخمدت بذور المقاومة [الجهادية] لدى أهل السنة”، لكن أحداث 11 سبتمبر/أيلول حفزت الجهادية السلفية في كل مكان؛ وسهّل دخول الإنترنت إلى سورية التواصل مع العالم الجهادي الافتراضي، في وقت كانت السلطات السورية تجري اعتقالات وتحقق في الصلات المحتملة مع تنظيم القاعدة بالتعاون مع المخابرات الأميركية، فاعتقل العشرات، واستدعي كل من يُشتبه في انتمائه إلى التوجه السلفي (ليس بالضرورة جهاديًا)، وتم التحقيق معه للتأكد من خلوه من الأفكار الجهادية وعدم ارتباطه بأي تنظيم “إرهابي” (كان بين الذين اعتُقلوا في ذلك الوقت “شاكر العبسي” الذي أصبح لاحقًا زعيم تنظيم جهادي جديد في لبنان اسمه “فتح الإسلام” كان على صلة مباشرة بالمخابرات السورية).

في الفترة التي كانت تجري فيها التحضيرات لاحتلال العراق، ومع اقتراب موعد الهجوم الأميركي مع قوات التحالف لاحتلال العراق، كانت الأجواء تشحن على كافة الصعد؛ رسميًا وإعلاميًا وشعبيًا، باتجاه صناعة واستقبال موجة الجهاديين الجدد على أساس مواجهة استباحة الغرب “الكافر” للأراضي المسلمة. تبادل الشيوخ الرسميون والشيوخ المتحالفون مع النظام السوري الأدوار في هذا التجييش الجهادي، بالإضافة إلى تصريحات السياسيين الرسميين. ففي 26 مارس/آذار 2003، دعا مفتي الجمهورية الشيخ أحمد كفتارو المسلمين في كل أنحاء العالم إلى الجهاد، و”استخدام كل الوسائل الممكنة في هزيمة العدوان، بما في ذلك العمليات الاستشهادية ضد الغزاة المحاربين”، وهي دعوة أعادها الشيخ البوطي في خطب الجمعة؛ حيث حثّ فيها المسلمين الشباب على “التوجه إلى الأجر العظيم الذي إذخره الله عزّ وجلّ للمقاتلين” في “جهاد الفريضة” التي لم “تتجلَّ أسباب فريضتها في عصر من العصور كما تجلت في هذا العصر” في أرض العراق “الأرض الإسلامية”. وعلى الخط نفسه سار شيوخ كثيرون.

وبالتزامن مع هذا التجييش، بدأ نجم الشيخ الشاب محمود قول آغاسي في منطقة فقيرة جدًا بمدينة حلب الشمالية يصعد بشكل فجائي، حيث تبنى خطابًا سلفيًا جهاديًا علنيًا، فكان يدرب أتباعه على العمليات القتالية في المسجد- (مسجد علاء بن الحضرمي)- تحت سمع وبصر النظام، بل وراجت أقراص ليزرية مدمجة على نطاق واسع تصور هذه التدريبات باللباس العسكري المرقط، إضافة إلى الخطب الجهادية الحماسية، فكان له دور مهم وملتبس في تجييش الشباب الناشئة وتعبئتهم إلى الجهاد، الذي انطلق في العراق توًا. على أنه في خريف 2003، صدرت فتاوى من جماعات جهادية في العراق بإهدار دمه، باعتباره كان “مصيدة أمنية لمئات الشباب الذين صدقوا دعواه” فاختفى الرجل ليعود إلى الظهور بعد سنتين مهذب اللحية إمامًا وخطيبًا سلفيًا إصلاحيًا في جامع الإيمان بحي حلب الجديدة الراقي (في مدينة حلب)، تائبًا من الجهاد، ثم لقي حتفه في عملية اغتيال في 28 سبتمبر/أيلول 2007 تبنتها جماعة أطلقت على نفسها “التوحيد والجهاد في بلاد الشام”، وقد تبين لاحقًا أنها غير موجودة إلا في الإعلام الرسمي.

اندفع مئات الشباب السوريين إلى العراق، وتشكلت “لجان نصرة العراق” لتسهيل تطوُّع الشباب ونقل قوافلهم إلى ميدان الحرب، على أن معظم المتطوعين للحرب والجهاد في العراق لم يلتحقوا بساحة القتال بناء على فكر سلفي جهادي، بقدر ما كانت تقودهم مشاعر مختلطة من النخوة العربية والإسلامية، وفي أذهانهم استلهام تجربة حزب الله الناجحة في جنوب لبنان ودحره للإسرائيليين عام 2000. لكن جرى استدعاء كثير من العائدين للتحقيق، فكان طريق العودة ليس بسهولة طريق الذهاب.

في 27 مارس/آذار 2004، وفيما بدأت الضغوط تتكثف على سورية بمبررات عديدة من قبل الأميركيين وقوات التحالف، لوَّحت الحكومة السورية بالفزاعة الإسلامية، فأعلنت عبر وكالة سانا الرسمية للأنباء وقوع اشتباك في مدينة دمشق بين مجموعة مسلحة وُصفت بالإرهابية، وعناصر الأمن في عملية هي الأولى من نوعها في سورية، منذ أحداث الثمانينيات، شكّك الكثيرون في مصداقيتها، ولم يأخذها الإعلام الغربي نفسه على محمل الجد، وساد اعتقاد بأن “العملية صنّعت محليًا”، ثم توقف الإعلان عن عمليات جهادية أخرى.

في مطلع يونيو/حزيران 2005، صرّح وزير الداخلية آنذاك (غازي كنعان) خلال اجتماع للجنة الأمم المتحدة المكلفة بمكافحة الإرهاب بأنه “ليس هناك على الإطلاق أي نشاط للقاعدة أو لحركة طالبان في الأراضي السورية”. إلا أنه بعد شهر واحد فقط (في 11 يوليو/تموز 2005) أُعلن عن صدام مسلح أسفر عن ضبط مجموعات “تكفيرية” تطلق على نفسها اسم “جند الشام للجهاد والتوحيد” المرتبطة بتنظيم القاعدة، تلاها الإعلان عن حوادث شبيهة، ويرجح خبراء عديدون أن هذه العمليات تمت بالفعل من مجموعات محلية منعزلة وصغيرة ليس لها امتداد دولي، وهناك شكوك بأن أجهزة النظام اخترقتها لتوظيف عملياتها في دعايته الداخلية والخارجية. غير أن معطيات المنظمات الحقوقية (البيانات الحقوقية ومحاضر الاتهام والمحاكمات) في ذلك الوقت تشير إلى أن انتشار الفكر السلفي الجهادي محدود للغاية، والجماعات التي تتبناه هي جماعات صغيرة متفاوتة الحجم ومتأثرة بأفكار تنظيمات دولية، إلا أنه لا يوجد رابط تنظيمي معها على الأغلب، وأن تنظيمات مثل: “تنظيم جند الشام للدعوة والجهاد”، و”التكفير والهجرة”، أو حتى “القاعدة”، التي كان الإعلام الحكومي يدعي وجودها لا تتجاوز لائحة اتهامات معدة سلفًا بناء على أدلة لا يمكن الاعتماد عليها على حد تعبير الناشطة الحقوقية البارزة رزان زيتونة.

الشيء اللافت للانتباه أن النسبة الأكبر من المعتقلين، بتهمة السلفية أو السلفية الجهادية أو الانتساب إلى تنظيمات “إرهابية” دينية متشددة، كانت من ريف دمشق والمناطق الريفية الأخرى، في حين كان أبناء المدن السورية الكبرى نسبة ضئيلة من عدد المعتقلين؛ الأمر الذي يعزز أن يكون لعاملي الفقر والتهميش دور مهم في تحفيز الفكر الجهادي بالتضافر مع السياسات المحلية والظروف الإقليمية.

وفقًا لذلك، لم تكن ثمة تنظيمات دينية سلفية جهادية بالمعنى الدقيق، وتشير الدراسات إلى تزايد مستمر في انتشار هذا الفكر السلفي الاحتجاجي، ونزوح العديد من الشباب السلفيين من الفكر الديني السلفي إلى السلفية الجهادية تحت ضغط تجربة السجن، خصوصًا وأن الأكثرية العظمى من المعتقلين السلفيين لم يكونوا ينتمون إلى جماعات جهادية، وهم في حالات قليلة فقط كانوا يحملون أفكارًا جهادية غير ناضجة، وأنه رغم ذلك، لم تكن توجد في ذلك الوقت حتى في السجن أية جماعات تؤمن بالعمل الجهادي داخل سورية، الأمر الذي يعني أن السياسة الأمنية القمعية التي استخدمها النظام ضد السلفيين -وبمحاكمات استثنائية جائرة لا تتمتع بأدنى شروط العدالة- أفضت إلى توسيع الفكر السلفي الاحتجاجي.

استفزاز التبشير الشيعي

بدءً من عام  2005، أصبحت هنالك سياسة جديدة لنظام الأسد، فقد تم السماح على نطاق واسع، وبتغطية أمنية وتسهيلات غير مسبوقة، للشيعة الإيرانيين والعراقيين واللبنانيين، بالدعوة لمذهبهم، حتى يتوفر النظام على أنصارٍ جدد، ولكن تبين لاحقا أن تلك الدعوة توفر أيضا لإيران قاعدة شعبية متقدمة في سورية إذا لزم الأمر. جذور هذه القضية ترجع إلى لحظة تسلم بشار الأسد السلطة وراثة عن أبيه، كجزء من تمتين الحلف الإيراني-السوري ليكون أحد دعائم النظام. وفي الواقع، لعبت عوامل عديدة على توثيق العلاقة الاستراتيجية بين سورية وحزب الله وإيران، بعد حدثين فاصلين: احتلال العراق (2003) واغتيال الحريري (2005)، بحيث أصبح واضحًا أن النظام تعرض لضغوط بالغة قد تؤدي إلى انهياره، وكان لذلك الحلف دور مهم في الحفاظ على النظام، كما استُثمرت هذه العلاقة، كورقة تفاوض وضغط على الأنظمة العربية والمجتمع الدولي. كان هذا هو أحد الأسباب الرئيسة في السياسة الأمنية القمعية تجاه معتنقي الفكر السلفي، والسلفي الجهادي منه على نحو خاص، الذي يشكّل خصمًا مذهبيًا لدودًا للتشيع.

تَشكَّل نتيجة ذلك إحساسٌ عميق بالتمييز والغبن في السياسات الحكومية، شعرت به الأكثرية السنية المسلمة وحتى الأقليات المسيحية، مقارنة بالامتيازات والدعم الحكومي الذي أصبحت تحظى به الأقلية الشيعة الصغيرة والمتشيعون، وبدا كأنما معظم الإجراءات الحكومية موجهة ضد جماعات مذهبية ودينية محددة دون أخرى. وهكذا لعبت السياسات الحكومية للنظام في عهد الأسد دورًا في تنامي الظاهرة السلفية والسلفية الجهادية، لأنها لعبت على الغرائز الطائفية بشكل متصاعد. ولأول مرة باتت تطلعات القوى الجهادية تتلخص في موقف احتجاجي على السياسات المحلية، وهو توجه سيشكل أرضية خصبة للجهادية السلفية فيما بعد.

سلفيو الثورة اللاعنفيون

في الفرع السلفي العلمي في الأقلية القوقازية الشركسية، برز تحول جديد نحو سلفية جديدة، لم يتبلور حتى مطلع الثمانينيات، وبقي محدود الانتشار في إطار جماعة قد لا يزيد عددها على أصابع اليدين، هو السلفية اللاعنفية، وربما لم يشهد الفكر الإسلامي حتى هذا التاريخ حركة إسلامية فضلاً عن السلفية تعتبر العنف أيًا كان، حتى لو دفاعًا عن النفس، عملاً غير مشروع، ويتزعم هذا التوجه الشيخ جودت سعيد (1931) الذي ينتمي إلى الأقلية الشركسية، والذي كان قد بدأ يعمل منذ مطلع الثمانينيات على نشر فلسفته الإسلامية عن اللاعنف، وقد سبق أن خبر معنى الاعتقال السياسي الذي تكرر معه مرات عدة.

تأثر جودت سعيد بفكر “محمد إقبال” (مفكر إصلاحي باكستاني) و”مالك بن نبي” (مفكر إصلاحي جزائري). وإذا كان جودت سعيد يبدو وكأنه قد أطلق نظريته عن اللاعنف كرد فعل على أحداث الثمانينيات، فإن مرجعيته الفكرية، ودروسه التي كان يلقيها قبل ذلك لسنوات طويلة في جامع المرابط في دمشق، كانت تعكس خطًا فكريًا مختلفًا عن الإسلاميين آنذاك، وقد نشر في عام 1966 كتابه “مذهب ابن آدم الأول: مشكلة العنف في العالم الإسلامي”، الذي جاء ردًا على اتجاه الإخوان المسلمين نحو ممارسة العنف السياسي. إن أهمية هذا الكتاب تكمن في أنه أول محاولة لصياغة مفهوم لاعنفي إسلامي في التاريخ المعاصر، وفي أنه أول رد مباشر على كتابات سيد قطب (توفي عام 1966) التي شكّلت الأساس الفكري لحركات العنف الإسلامي.

لم يستطع جودت سعيد أن يشكّل جماعةً تؤمن بأفكاره إلا في مطلع التسعينيات، في وقت كانت أحداث كبرى قد بدأت تعصف بالعالم، (سقوط الاتحاد السوفيتي) وبالمنطقة (حرب الخليج الثانية)، فكانت ثمة حاجة إلى فكر جديد. استطاع سعيد أن يملأ بعض الفراغ الرمزي الذي خلَّفته حقبة الثمانينيات، إلا أن الجماعة ما لبثت أن بدأت تتفكك وتنحسر في نهاية التسعينيات تحت تأثير تصاعد الأحداث المحيطة بسورية والتي كانت تدفع نحو التطرف والتشدد. ومع ذلك، حافظت الجماعة على نخبة من التلامذة المعجبين بآرائه، وبشكل خاص في الأوساط النسائية عبر تلميذته النشطة الداعية “حنان اللحام” (التي تتزعم جماعة نسائية خاصة بها)، وصهره (خالص جلبي) أحد الكتاب والمفكرين الإسلاميين المعروفين، ومجموعة من الناشطين الملتفين حول الشيخ السلفي عبد الأكرم السقا في مدينة داريا.

لم يكن مبدأ اللاعنف مجرد فكر تنويري ديني، ولكنه كان في جوهره فكرة سياسية إصلاحية. وبالرغم من أن شيخ الجماعة جودت سعيد لم يُبدِ أي تطلعات سياسية شخصية، في أي وقت من الأوقات، إلا أنه لم يخفِ رغبته بالتغيير السلمي للنظام السياسي.

تؤشر حادثة اعتقال “مجموعة داريا” عام 2003 على توسع تأثير فكر جودت سعيد عن اللاعنف، فقد خرج قرابة مائة شاب في تظاهرة صامتة صباح يوم سقوط بغداد رفعوا خلالها شعارات لمقاطعة البضائع الأميركية ومكافحة الفساد وتنظيف شوارع المدينة، إلا أن السلطات اعتقلت 24 متظاهرًا منهم  في 3 مايو/أيار 2003، وأحالتهم إلى محاكم عسكرية ميدانية؛ كونهم ينتمون إلى تيار ديني إسلامي سلفي، وإن كان غير عنفي.

سقوط بغداد كان علامة فارقة لزعيم الجماعة السلفية اللاعنفية، فقد بدأ الشيخ جودت سعيد منذ ذلك التاريخ وفي كل المنتديات واللقاءات الفكرية العامة التي كان يحضرها يظهر مرتديًا سترة بيضاء كتب عليها بخط يده “الاتحاد الأوربي”! ملخصًا بهذه العبارة فكرته السياسية بأن الاتحاد القائم على المصالح هو الحل بدل الصراع والعنف، وقد كان هذا الظهور الاحتجاجي بمنزلة أول نشاط واضح له يدل على مواقفه السياسية على العموم. انغمست الجماعة أكثر بالفكر السياسي، حتى وإن بقي تعبيرها عنه بمفردات دينية قرآنية، فقاد ذلك زعيمها إلى أن يكون أحد أبرز الموقعين على “إعلان دمشق للتغيير السلمي الديمقراطي”، وهو إعلان جمع المعارضة السياسية الحزبية والمستقلة، وأكمل عدد من تلامذته السير نحو المعارضة العلنية للنظام. وعندما انطلقت الثورة السلمية في منتصف مارس/آذار 2011، بدأ نجم الشيخ جودت يبرز بقوة، فقد وجدت قطاعات لا بأس بها من الشباب في السلفية اللاعنفية فكرًا إسلاميًا جاهزًا يمكنها أن تستند إليه، وصار مألوفًا ظهور رمز الجماعة (الشيخ جودت) وكلماته في لافتات المظاهرات السلمية، فكان هذا ذروة العهد الذهبي للسلفية اللاعنفية التي تراجعت بعد أشهر مع اشتداد القمع ثم تحول الاحتجاج السلمي إلى ثورة مسلحة فلم تعد أفكار السلفية اللاعنفية تحظى بالاهتمام ذاته.

السلفية الثورية المسلحة

إرث الأسد والذاكرة السورية لأحداث الثمانينيات التي حرص النظام على أن لا تندمل جروحها من أجل إدامة مفعولها “التأديبي”، بالإضافة إلى السياسات الحكومية في عهد الأسد الابن والتي أشارت الأحداث إلى حدوث تغييرات جوهرية فيها، وانعطاف مهم حصل في بنيتها، يكمن في تحول تعامل النظام مع الجماعات الدينية من الاعتماد على أسس سياسية تقوم على مبدأ التفاوض والتوازنات الاجتماعية الداخلية إلى أسس أمنية بحتة تقوم على ضبط صارم لها، أساسه الترهيب ومصالح النظام السياسية الخارجية. كل ذلك سرعان ما أثار حنق الجماعات السلفية، وأحدث تغييرات مهمة في تطلعاتها السياسية. فالسلطات الحكومية اتخذت إجراءات ذات أبعاد أمنية دون أن تحسب حسابًا للانعكاسات الاجتماعية والسياسية على المجتمع السوري، خصوصًا وأنها تجاوزت فيها القوى الإسلامية إلى التحكم بكل الفضاء الديني والتدخل في مؤسساته (مثل القرار غير المباشر بحل الجمعيات الأهلية الخيرية عبر فرض مجالس منتدبة من قبل الحكومة، وإبعاد فائزين في انتخابات البلدية على خلفية تدينهم، وإلغاء مائدة الإفطار التي كان يُدعى إليها سنويًا الشيوخ وعلماء الدين، بالإضافة إلى قرار فصل المنتقبات من التدريس، وإحالتهن إلى أعمال إدارية ليس لها علاقة بالتدريس). كل ذلك في ظل أجواء ثورية انطلقت من تونس فجعلت سورية كبرميل بارود يحتاج تفجيره إلى مجرد شرارة صغيرة.

انفجرت الثورة وكانت التنظيمات الحزبية جميعها وعلى اختلاف ألوانها خارج دائرة صنعها، وانخرطت فيها كما انخرطت جميع القوى المدنية الأخرى، فلم يكن لأي منها دور القيادة، وفي الأشهر الأولى للثورة كانت السلفية التقليدية والجهادية أيضًا خارج إطار الحدث، ولم يكن ثمة أي نوع من التنظيمات الحزبية أو الحركية السلفية، ومن انخرط من السلفيين في صفوف الثورة المدنية السلمية كانوا قلة وعلى نحو فردي، وكثيرون منهم كانوا من ضحايا أحداث الثمانينيات، وشاركوا على خلفيتها.

شكّلت أحداث بابا عمرو انقلابًا في المزاج العام، فقد استمرت الثورة سلمية عشرة أشهر، فاستطاعت أن تنتشر في جميع أنحاء البلاد وحشدت تعاطف كثير من السوريين ضد نظام الأسد، ولكن أحداث بابا عمرو أقنعت المحتجين بأن النظام يمكن أن يذهب إلى مدى أبعد من قتل المتظاهرين بالرصاص، فيمكن أن يقصفهم بالدبابات والطائرات والصواريخ؛ الأمر الذي فتح الباب لتشكيل تنظيمات عسكرية تهدف إلى حماية المدنيين والمتظاهرين السلميين من القتل، ثم إلى حماية الأحياء والمدن، وسرعان ما أصبح الهدف هو إسقاط النظام بالقوة. وبالرغم من أن أولى كتائب الجيش الحر ظهرت في صيف 2011 إلا أن التحول العام في قناعة الثوار السوريين بالعمل المسلح بدأ في هذا الوقت؛ حيث أخذت تظهر الكتائب العسكرية التي تشكلت أولاً من منشقين وانضم إليهم متطوعون مدنيون بشكل متزايد.

كان الأسد قد اتبع استراتيجية إبقاء المراكز المدنية تحت السيطرة المكثفة أولاً، فبقاء النظام مرتبط ببقائه فيها، فبقيت الأطراف الريفية في وضع يسمح لها بالتحرك بحرية أكبر؛ الأمر الذي جعل الثورة ثورة أطراف فتأخرت جميع المدن عن الالتحاق بها. وعندما بدأت العسكرة تشكّلت معظم الكتائب في الريف ثم بدأت تزحف إلى المُدن، وبطبيعة الحال فإن الفقر وغياب التنمية والتهميش يجعل البيئة الريفية أكثر استعدادًا لقبول الفكر السلفي المتشدد، كما أن العنف الذي مارسه النظام السوري ضد السكان على شكل مجازر طائفية الملامح، وخيبة أمل من تدخل المجتمع الدولي لحماية المدنيين فضلاً عن تدخل إيراني متزايد على أساس مذهبي، وانتشار فكر سلفي الملامح بين معظم الكتائب المسلحة رسم خارطة جديدة للسلفية في سورية، عزز كل ذلك من فرص انتشار فكر متشدد بسيط يمكنه مواجهة هذا العنف بمزيد من التضحية والصلابة، وهو ما منح السلفية بيئة مثالية وسط المقاتلين، غير أن هذه الخارطة لم تكتمل إلا مع بروز “جبهة النصرة لأهل الشام” إلى الوجود وبدء عملياتها ضد القوات النظامية والشبيحة في يناير/كانون الثاني من عام 2012.

الخارطة السلفية الجديدة

تراجعت جاذبية سلفية اللاعنف بينما بدأت السلفية الجهادية بالصعود على نطاق واسع، ومع انتشار الكتائب أصبح من الصعوبة بمكان وضع خارطة تفصيلية لها، فالكثير من هذه الكتائب كان يتعرض للتحول والتطور أو الاضمحلال مع تدفق المتطوعين وتزايد الانتصارات التي تحققها على الأرض. على أنه في هذا السياق، لا ينبغي أن يكون تعريف الخارطة السلفية للكتائب العسكرية نابعًا من أسماء الكتائب وحدها، فلا تعكس هذه الأسماء دائمًا ميولاً سلفية حقيقية؛ ففي بعض الأحيان تكون التسميات براغماتية تهدف إلى اجتذاب ممولين خليجيين، أو تمليها مقولات دينية عامة تشكّل جزءًا من المخيال الديني الشعبي. وسرعان ما بدأ نوع من الفرز والتمايز بين الكتائب الإسلامية الجهادية وكتائب الجيش الحر؛ ففي حين تبدو الكتائب الإسلامية الجهادية متماسكة ومنظمة فإن كتائب الجيش الحر تبدو رخوة التنظيم وبالتالي أقل فاعلية مقارنة بها.

 1- النصرة: الجيل الثالث للسلفية الجهادية

بينما كانت المظاهرات في أوجها في أواخر صيف 2011، قرر مقاتلون سوريون في دولة العراق الإسلامية التوجه نحو الريف الشمالي والجنوبي للاستطلاع، وانتهى الأمر بتقدير المآل إلى عسكرة الثورة، فتشكلت مجموعة من الكتائب الصغيرة أطلقت على نفسها اسم “كتائب النصرة لأهل الشام”، كان بين بعض عناصرها مقاتلون أجانب، وذلك بدعم مالي وعسكري من أمير دولة العراق أبي بكر البغدادي، وأعلنت عن نفسها في يناير/كانون الثاني 2012.

استفاد قادة جبهة النصرة من التجربة القتالية للدولة الإسلامية في العراق، والفشل الذي مُنيت به، فحاولوا استقطاب جميع أصحاب التجربة في العراق وأفغانستان أو حتى في لبنان، والذين توثقت علاقات معظمهم في سجن صيدنايا العسكري حيث كان يُعتقل السلفيون الجهاديون وغيرهم، وقرروا العمل على أساس كسب القاعدة الاجتماعية أولاً، تلك القاعدة التي كانوا قد خسروها بالصحوات، فتميز خطاب جبهة النصرة بمعالم عسكرية تتمثل في إسقاط نظام الأسد ومواجهة الشيعة (العلويون جزء منهم) وإيران، لكن لم يكن لدى النصرة أية إشارة واضحة إلى مرحلة ما بعد النظام، ولم يكن بوسع المعارضة السياسية ولا العسكرية أن ترفض مساندة جبهة النصرة رغم شكوكها في علاقتها بالقاعدة والجهل بشخصية قائدها أبي محمد الجولاني. 

دخلت جبهة النصرة انعطافين مهمين:

    الأول: عند إعلان الولايات المتحدة في 5 ديسمبر/كانون الأول 2012 وضعها على قائمة “الإرهاب”.

    الثاني: عند إعلان أبي بكر البغدادي تبعية جبهة النصرة له، وإعلان “الدولة الإسلامية في العراق والشام”. فقد دفع الكشف الأميركي عن علاقة جبهة النصرة بالعراق، إلى إعلان الجبهة عن جميع عملياتها التي كانت تصور بعناية بأشرطة فيديو عالية الجودة ونشرها على نطاق واسع. وأدت الخيبة المؤلمة من التزام الولايات المتحدة بوعودها إلى ردة فعل عكسية استثمرتها النصرة في تكثيف دعم التأييد الشعبي، وفرض هيبتها، بحيث إن المعارضة السياسية وجدت نفسها مضطرة إلى الدفاع عن جبهة النصرة في مؤتمر أصدقاء سورية الرابع في المغرب. كما دفعت محاولة أبي بكر البغدادي استتباع جبهة النصرة وإلحاقها به إلى مسارعة قائد الجبهة إلى إعلان البيعة للظواهري تهربًا من هذا الاستتباع،؛ ولكن هذا القرار سبّب شرخًا في صفوفها وهز بعنف التعاطف الشعبي الملحوظ معها، فمعظم المقاتلين لا يعرفون هذه الصلة، فبرز تياران: تيار يريد تأييد العمل المدني التدريجي لإقامة دولة إسلامية، وآخر يؤيد إقامة دولة إسلامية في الشام تمهيدًا للخلافة الإسلامية العالمية. وقد اعتبر قادة الجهاد السوريون القدماء من أعضاء تنظيم الطليعة المقاتلة الذين لحقوا بالجهاد الأفغاني (مثل أبي بصير الطرطوسي)، إعلان البيعة للظواهري خطأ وخطرًا جسيمًا على العمل الجهادي في سورية، وخدمة كبيرة للنظام.

جبهة النصرة تمثل الجيل الثالث للقاعدة (الجهاد العالمي)، إذا ما اعتبرنا أن مجاهدي أفغانستان يمثلون الجيل الأول، ومقاتلي العراق يمثلون الجيل الثاني، وفي الجيل الثالث ثمة ميل مدني واضح، وتحول في القناعة بات منتشرًا بين قادة جبهة النصرة يتمثل في توجه قادتها (بمن فيهم أبو محمد الجولاني) إلى العمل التدريجي من القاعدة إلى القمة، والانتقال من العمل المدني إلى العمل العسكري. أما قيادات النصرة فهم من السوريين، وفي الغالب من المراكز الحضرية (بعضهم متعصب لهذه المراكز)، ولكن قواعدها ريفية في الغالب.

ظهر تنظيم جديد في مدينة حلب وشرق سورية في نوفمبر/تشرين الثاني 2012 باسم “مجلس شورى المجاهدين” يحاكي تنظيمًا ظهر في العراق عام 2006 يحمل فكر السلفية الجهادية العالمية، وتنظيمًا مماثلاً في غزة ظهر في 2010. وعلى عكس جبهة النصرة المرتبطة بالقاعدة، لا يرتبط تنظيم مجلس شورى المجاهدين بالقاعدة، وهو لا يعكس أي تطورات فكرية كتلك التي لاحظناها في الجبهة، وهو واحد من التنظيمات المتوسطة التي لا تزال فاعلة حتى الآن. كما ظهرت بعض التنظيمات تحاول تقليد جبهة النصرة، مثل “جيش الصحابة في بلاد الشام” (سبتمبر/أيلول 2012) و”جند الشام” في حلب (أغسطس/آب 2012)، ولكن هذه التنظيمات لم تلقَ أي حظ بالنجاح، فتفكك بعضها وبقي البعض الآخر هامشيًا.

توافد “المهاجرون” وهم المقاتلون الأجانب إلى سوريا لأسباب مختلفة، فقدمت طلائعهم من دولة العراق لنصرة زملائهم في جبهة النصرة، ثم تواصل قدوم الباقين عبر الشبكات الاجتماعية الخاصة تحت دوافع سياسية تخص كلاً منهم؛ فالليبيون مثلاً لديهم رغبة في الانتقام من النظام الذي ساند القذافي، والشيشانيون يقاتلون ضد الروس في سورية، وهكذا. وهؤلاء الوافدون جرت مبالغة كبيرة في تعدادهم لأغراض سياسية نتيجة الاستقطاب الإسلامي-العلماني الحاصل في بلدان الربيع العربي، ولكن واقع الأمر أن تعدادهم جميعًا اليوم لا يزيد عن ألفي مقاتل من جميع الجنسيات في جميع أنحاء سورية. يمثل المهاجرون نموذج التفكير القاعدي الصلب في شكله الجهادي في دولة العراق، فبالرغم من روح التضحية المميزة التي يتمتعون بها والإقدام والشجاعة الاستثنائية التي ينتشر خبرها في أرجاء البلاد، بحيث إن معظم “الاستشهاديين” كانوا منهم، إلا أنه مع ذلك لم يتم تقبل توجهاتهم الأيديولوجية من قبل عموم السوريين، فالشخصية الشامية المدينية المعتادة على الانفتاح لا تستطيع تقبل هذا القدر من التشدد، فانزوى الجهاديون على شكل كتائب معروفة باسم كتائب المهاجرين في الأرياف السورية الشمالية الغربية، وهي تدرك الآن أن وجودها مؤقت في سورية.

2- جهاديو الخلافة العالمية المؤجلة

بالرغم من أن جميع الحركات الجهادية السلفية تشترك فيما بينها في فكرة الخلافة الإسلامية العالمية، إلا أن القوى السلفية الجهادية في سورية تمايزت بملامح مختلفة هي حصيلة خبراتها في الصراع مع النظام والصراع مع الكتائب والبيئة السورية، فقد وُلدت سلفية جهادية تؤمن بضرورة قيام دولة سورية ولكن إسلامية توقف العمل بالحدود مؤقتًا وتعمل على تطبيق الحدود بشكل تدريجي، مع إبقاء فكرة الخلافة العالمية مؤجلة. هذه الجهادية المحلية الجديدة أشبه ما تكون بجهادية سلفية وطنية، وهي عمومًا تشترك في كثير من الصفات مع جبهة النصرة، بل إن لديها علاقات متميزة مع الجبهة على الرغم من الخلاف الفكري المحدود بينها. ومن بين هذه الكتائب “كتائب أحرار الشام” التي تكونت أساسًا في ريف إدلب الشمالي في 25 يوليو/تموز 2012 والتي تحولت في نهاية فبراير/شباط 2013 إلى “حركة أحرار الشام الإسلامية”، و”كتائب نور الدين الزنكي” في ريف حلب الغربي التي أُعلن عن تشكيلها في أكتوبر/تشرين الأول 2012، و”كتائب الطليعة المقاتلة” التي أُعلن عن تشكيلها في آب/أغسطس 2012، و”حركة فجر الإسلامية” في ريف إدلب الشرقي التي تشكّلت في نوفمبر/تشرين الثاني 2012.

وباستثناء كتائب الطليعة المقاتلة، فإن معظم الكتائب الأخرى تضم بين صفوفها بعض المقاتلين الأجانب الذين يُعرفون باسم “المهاجرين” الذين يقابلهم “الأنصار” من المقاتلين المحليين. لعب التمويل الخليجي غير الرسمي دورًا مهمًا في تقوية هذه الكتائب بخلاف التمويل الحكومي الخليجي لأنه متردد ومحدود.

3- جهاديو السلفية التقليدية

تشكَّل في ريف دمشق الشرقي تنظيم سلفي بقيادة الشيخ “زهران علوش”، خريج الجامعة الإسلامية في المدينة المنورة، باسم “لواء الإسلام” الذي ظهر في مارس/آذار 2012، يعتمد أساسًا على الفكر السلفي الوهابي المستند إلى الفقه الحنبلي، وقادته يحملون سلفية كلاسيكية عمومًا، وتصوراتهم السياسية لا تتجاوز الدولة الإسلامية في حدود الدولة الوطنية، مؤقتًا على الأقل، وإن كان عدد من قادته يمتلكون خبرة في القتال في العراق، علمًا بأن (دوما) التي تمثل معقل الثورة في الريف الشرقي لدمشق معقل الحنبلية الوحيد في سورية. يمثل هذا التنظيم أكبر التنظيمات السورية المقاتلة في محيط العاصمة دمشق، ويُعتقد أن هذا التنظيم هو الذي قام بتفجير مقر الأمن القومي في حي الروضة بدمشق، الذي أودى بحياة صهر الرئيس آصف شوكت، ووزير الدفاع داود الحجة، وقائد الجيش النظامي ونائبه وعدد من كبار الضباط. وبالرغم من ميول قادته السلفية، فإن سلفيتهم تتلاقى مع ميول إسلامية تقليدية تصلبت بفعل الحرب، فمعظم الكتائب الحليفة لهذا اللواء والمنطوية تحت مظلة “تجمع أنصار الإسلام في بلاد الشام” الذي تشكّل في أغسطس/آب 2012 مثل “كتائب الصحابة”، و”أحفاد الرسول”، هم مسلمون تقليديون محافظون في معظمهم، لم يسبق لهم أن حملوا توجهات سياسية إسلامية أو تنظيمية.

تمثل “كتائب الأنصار” في ريف حمص التي ظهرت في يناير/كانون الثاني 2012، نموذجًا مثاليًا للفكر السلفي التقليدي؛ إذ تتبنى خطابًا يركز على العقائد والسلوك وفق منظور سلفي، وتظهر ميولاً دعوية بجانب مهمتها الجهادية، وبشكل خاص في العلاقة بين الكتائب وتوجيه سلوك المقاتلين في الكتائب الأخرى.

العديد من الكتائب بدأت تُظهر ميلاً سلفيًا لأغراض التمويل، تجلّى ذلك في الاسم أحيانًا، وفي الخطاب أحيانًا أخرى، لكن ذلك لا يعني أن الكثير من الكتائب التي تعتنق السلفية التقليدية نجحت في الظهور والتمويل، بما في ذلك أهم ألوية الجيش الحر “لواء التوحيد” الذي تشكَّل في الريف الشمالي لمدينة حلب ويتزعمه عبد القادر الصالح، وعبد العزيز سلامة، اللذان يميلان نحو الفكر السلفي. أما “لواء صقور الشام” الذي أُعلن في 25 نوفمبر/تشرين الثاني 2011، والذي يتزعمه أحمد الشيخ، فقد حرص في بداية تشكيله على الإشارة إلى أنه من الجيش الحر، إلا أنه لاحقًا تجنب ذلك وأظهر ميلاً متزايدًا نحو السلفية.

4- السلفية الجهادية الديمقراطية

معظم الكتائب المشكلة من متطوعين مدنيين ذات ميول سلفية وتنطوي تحت مظلة “الجيش الحر” –الذي يمثل مظلة رمزية لا تنظيمية–. وفي ظروف الحرب والمعارك التي تجري في سورية يبدو الأمر مفهومًا، غير أن سلفية معظم هؤلاء سلفية رخوة، بمعنى أنها لا تشكّل منظومة فكرية متماسكة بقدر ما هي أفكار متناثرة وقناعات تشكلت من ردَّات الفعل أثناء القتال، ذلك أن معظمها ديمقراطي حريص على بناء دولة ديمقراطية حديثة، ينطبق هذا على العديد من الكتائب التي تشكلت من أبناء متعلمي أبناء المدن ذاتها، مثل “كتائب أبي عمارة” في حلب.

ثمة سلفية طارئة أيضًا لدى بعض الكتائب مرتبطة بردة الفعل على العنف وتأثير جهات التمويل، هي سلفية براغماتية أكثر منها سلفية اعتقادية قارَّة، مثل “لواء الحق” الذي تشكّل في حمص في أغسطس/آب 2012 من كتائب حمص العاملة في المدينة وريفها. الأمر نفسه ينطبق على “كتائب الفاروق” التي تشكلت في نوفمبر/تشرين الثاني 2011 من منشقين، ثم أظهرت بوضوح ميلاً متدرجًا في خطابها ومظاهر قادتها نحو السلفية، لكنها سلفية تشبه السلفية الرسمية الحكومية؛ فالقادة المؤسسون للكتائب هم منشقون من الجيش النظامي، وتلقوا تربية عسكرية علمانية، ولا يتفق تكوينهم مع التوجه السلفي المتشدد.

السلفية اللاعنفية التي ازدهرت في أجواء الحراك المدني تحوَّرت وأخذت طابعًا مختلفًا لكنها حافظت على الطابع المدني، فقد ظلت العسكرة مفهومًا اضطراريًا وعملاً مؤقتًا، وبقي الأصل، وهو العودة إلى حياة ديمقراطية ودولة حديثة، ماكثًا في الأذهان، بحيث أدى تأثير هذا التفكير السلفي الجديد إلى جعل الكتائب والمجلس المحلي المدني في مدينة مثل داريا نموذجًا فريدًا وجذابًا لتنظيم فعال يتميز بسيطرة المدنيين على قرار القادة العسكريين.

المآلات

على خلاف بعض دول الربيع العربي ومصر خصوصًا، شاركت السلفية التقليدية في الثورة السورية المدنية منذ البداية، ولكن مشاركتها المدنية لم تكن لقناعات دينية بدولة إسلامية على نموذج الخلافة بقدر ما كان مرتبطًا بإسقاط النظام وانتقامًا منه، فقد عانى السلفيون بمختلف صنوفهم من الملاحقة والمتابعة والمحاكمات الجائرة، في حين كانت ثمة عمل ممنهج من قبل النظام السوري لحماية وزيادة انتشار “العدو الطبيعي” للسلفية أعني التشيع بدعم إيراني، وكان النموذج المثالي لهذه المشاركة في مدينتي دوما وحرستا (ريف دمشق) معقل السلفية التقليدية الشامية، لكن عندما تعسكرت الانتفاضة سارعت إلى العمل العسكري وبدأت مفاهيمها عن الدولة تبرز، باعتبارها دولة إسلامية مدنية قد تكون جزءًا من خلافة إسلامية في المستقبل، لكنها تركز النظر حاليًا على الدولة وليس على الخلافة على نحو ما أشرنا إليه آنفًا.

لقد ظل معقل الحركة السلفية في أطراف المدن وهوامش المراكز الحضرية، أي بقيت رغم كل شيء طرفية الطابع، وتحركها الميداني كان زحفًا من الأطراف إلى المراكز، وأثرت في قلب المراكز الحضرية تأثيرا محدودًا، وأحيانًا كثيرة براغماتيًا، بحيث يمكن القول: إن التفاعل مع المراكز الحضرية أوجد سلفية رخوة قابلة للتفكك عند أول لحظة خلاف حول بناء الدولة وشكل نظامها.

وبالرغم من أن الحرب ساعدت على انتشار واسع للفكر السلفي إلا أن انتشاره الطارئ أقرب ما يكون إلى أداة حرب؛ إذ لم يأخذ من الوقت ما يكفي ليتحول اعتقادًا راسخًا، ولهذا فإن خارطة الانتشار الجديدة للفكر السلفي معرضة للتغير بشكل كبير بعد أن تضع الحرب أوزارها. غير أنه من الجدير بالملاحظة أن النزوع السلفي الجديد كان عمومًا بين مقاتلي الكتائب الثورية وليس انتشارًا في أوساط المدنيين، لكن مع التأكيد على أن تأثيره سيمتد فيما بعد إلى حاضنته الاجتماعية، وخصوصًا في المنابت التي ينحدر منها هؤلاء المقاتلون.

من الملاحظ أن معظم القادة الكبار للكتائب كانوا يمتلكون خبرات قتالية في العراق (مثل أبي محمد الجولاني وقادة الجبهات في النصرة، وبعض قادة لواء الإسلام وقادة أحرار الشام)، أو أفغانستان (مثل بعض قادة الطليعة المقاتلة)، أو لبنان (مثل قائد كتائب الزنكي)، والعديد من قيادات الصف الثاني وبعض قيادات الصف الأول اعتُقلت في سجن صيدنايا العسكري بتهم تتعلق بالسلفية والسلفية الجهادية؛ حيث اعتمدت الكتائب السلفية الصاعدة على خريجي سجن صيدنايا من خلال شبكة العلاقات التي تكونت في السجن وخارجه.

حتى الآن لم تنشأ حركات سياسية سلفية ذات أهمية، وذلك بالرغم من أن هناك حركة سياسية غير اعتيادية بدأت في صفوف الثورة منذ تعسكرت، وحتى قبل ذلك، مثل حركة (المؤمنون يشاركون) (نوفمبر/تشرين الثاني 2011)، وحزب الإصلاح والعدالة (يونيو/حزيران 2011)، لكن لم ينجح أي تنظيم سياسي حتى الآن بالظهور كقوة سياسية واعدة، وذلك لأن الثورة لم تنتهِ بعد، ويُنظر إلى العمل السياسي مجردًا عن العمل العسكري بكثير من الريبة. على أن التنظيمات العسكري شرعت تشكل أذرعًا مدنية لتكوين قاعدة اجتماعية لمرحلة ما بعد النظام تساعدها في تحقيق قناعاتها الأيديولوجية، على سبيل المثال شكلت جبهة النصرة بالتحالف مع لواء التوحيد وعدد آخر من الكتائب الهيئة الشرعية من أجل ملء الفراغ التنظيمي والقضائي والخدماتي والأمني في المناطق المحررة، وفكرة الهيئة الشرعية منتشرة على نطاق واسع، وهي فكرة شبيهة بتلك التي كانت للفصائل الأفغانية أيام الجهاد ضد النظام السوفيتي والحكومة الموالية له. وشكلت واحدة من الكتائب البارزة في الريف الشمالي لمدينة حلب هيئة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تأثرًا ربما بالنموذج السعودي أو الطالباني، لكنها قوبلت بنفور اجتماعي ملحوظ.

من المؤكد أن جميع الحركات السلفية ستواجه سؤالاً صعبًا بعد سقوط النظام حول شكل النظام الجديد، وطريق الوصول إليه دون اقتتال داخلي، ولعل الإسلاميين أصحاب فكرة الدولة الديمقراطية يمتلكون وحدهم الحظ الأوفر في المرحلة الانتقالية باعتباره حلاً لمأزق استقطاب أيديولوجي تزداد ملامحه حدة كلما استمرت الثورة المسلحة على النظام السوري.

_________________________________________

عبد الرحمن الحاج – باحث متخصص في الحركات الإسلامية، وأستاذ في جامعة العلوم الإسلامية بماليزيا.

——————————–

أخوة في الزكاة

إخوة في الزكاة: المموّلون السلفيون والثورة السورية/ توما بييريه

ملخّص: 

أصبح دور السلفيون في الخليج في الثورة السورية متضائل مؤخراً، إلا أنهم لازالوا يمارسون تأثيراً في الحيّز الديني في البلاد.

الإسلام السياسي

يركّز كل نقاش يدور راهناً حول دور الأفرقاء الإسلاميين العابرين للحدود في النزاع السوري، على التنظيمات السلفية الجهادية، مثل تنظيم الدولة الإسلامية وتنظيم القاعدة. لكن في 2012-2013، أدّت شبكات أخرى عابرة للحدود الدور الأبرز في رسم معالم النزاع، وكانت تديرها جهات سلفية حركية وعلمية مهمتها جمع التبرعات وتتخذ من دول الخليج، ولاسيما الكويت، مقراً لها.

إلى جانب تأمين الدعم الإنساني المهم للمناطق الخاضعة إلى سيطرة المعارضة، وكذلك للاجئين في الخارج، ساهم جامعو التبرعات في إنشاء أكبر تحالفات للفصائل المسلحة خلال الحرب السورية. لكن نجاح هذه التحالفات لم يُعمِّر طويلاً؛ فبحلول العام 2014، بدأت هذه التحالفات المدعومة من السلفيين تفقد زخمها سريعاً، بسبب الانتكاسات العسكرية والانقسام الفئوي في صفوف الفصائل في سورية، فضلاً عن تراجع التبرعات الخاصة من دول الخليج، مع مواجهة جامعي التبرعات السلفيين قمعاً من الدولة في الداخل، وانحساراً في اهتمام الرأي العام في الخليج بالأحداث في سورية. تزامناً، اقترنت، في الداخل السوري، الحاجة إلى تحالفات أكثر براغماتية وأقل عقائدية للفصائل، مع الحزم المتنامي للدول الأجنبية الداعِمة، ما أسفر عن ظهور أنماط جديدة من التحالفات. في معظم الأحيان، لم يؤدِّ جامعو التبرعات السلفيون في الخليج، أيّ دور في هذه التحالفات الجديدة، إلا أنهم لازالوا يمارسون تأثيراً في الحيّز الديني في البلاد.

لماذا دعم السلفيون في الخليج المعارضة السورية؟

القرار الذي اتخذه السلفيون في الخليج، في العام 2011، بأن يكونوا في صدارة مقدّمي الدعم المالي لفصائل المعارضة المسلحة في سورية، نابعٌ من الرغبة في تعزيز مكانتهم في الداخل والخارج. وهذا بدوره لم يؤدِّ سوى إلى اشتداد المنافسة بين الشبكات السلفية، ولاسيما بين السلفيين الحركيين والعلميين (الذين يدعون إلى طاعة الحكّام). وفي الكويت، نُظِّمت حملات لجمع التبرعات للفصائل السورية بقيادة سلفيين حركيين كانوا سابقاً لاعبين صغاراً على الساحة السلفية، بالمقارنة مع خصومهم من جمعية إحياء التراث الإسلامي المنتمية إلى السلفية العلمية والمنضوية تحت لواء الخط السعودي.

توما بييريه

توما بييريه باحث أول في معهد الدراسات حول العالم العربي والإسلامي (IREMAM) التابع للمركز الوطني للبحث العلمي (CNRS) وجامعة آكس مرسيليا (Aix-Marseille Université) في فرنسا.

كان الداعية حجاج العجمي الأكثر ديناميكية بين جامعي التبرعات الكويتيين. وهو أقام شراكة مع حاكم المطيري، أمين عام حزب الأمة، وهو تنظيم سياسي عابر للحدود ينادي بالليبرالية السياسية في الداخل، وبنزعة مناهِضة بشدّة للإمبريالية في الخارج. وقد لعب الحزب، في وقت مبكر، دوراً أكبر من حجمه في سورية عبر دعم حركة أحرار الشام، الذي كان في السابق الفصيل الأكبر في سورية وحجر زاوية في الجبهة الإسلامية السورية التي تأسست في كانون الأول/ديسمبر 2012. وقد ساهم محمد المفرح، أمين عام فرع حزب الأمة المحظور في السعودية، في تأسيس حركة أحرار الشام في العام 2011، ولقي محمد العبدولي، أمين عام فرع حزب الأمة في الإمارات العربية المتحدة، مصرعه أثناء القتال مع الحركة في الرقة في العام 2013.

أتاح النزاع السوري فرصة مماثلة لشبكة إقليمية أخرى من السلفيين، غالباً ما تُعرَف بـ”السرورية”، تيمّناً بمحمد سرور زين العابدين (1938-2016)، وهو داعية سوري أمضى فترة طويلة في المنفى – ولاسيما في السعودية، والمملكة المتحدة، وختاماً قطر – ومزج العقائد الدينية السلفية مع التركيز على المسائل السياسية على طريقة الإخوان المسلمين، وكان هذا المزج مصدر إلهام أساسياً لتيار الصحوة الذي تحدّى النظام السعودي في مطلع التسعينيات. كان تأثير زين العابدين في سورية محدوداً جداً قبل العام 2011، ليس فقط بسبب غيابه عنها، إنما أيضاً لأن انتقاداته كانت تتمحور حول النظام الملكي في السعودية، حيث كان يعيش معظم أتباعه.

مع اندلاع الثورة في العام 2011، أعاد زين العابدين صبّ جهوده في سورية. وفي أيلول/سبتمبر 2012، ألقى بثقله خلف جبهة تحرير سوريا الإسلامية، التي جمعت في صفوفها آلاف المقاتلين الذين ينتمون إلى أربعة من أقوى الفصائل المتمردة: لواء الإسلام (لاحقاً جيش الإسلام) في محافظة دمشق؛ وكتائب الفاروق في محافظة حمص؛ ومجموعتان كانتا مُستلحقتَين من قِبل الإخوان المسلمين سابقاً، هما صقور الشام في محافظة إدلب، ولواء التوحيد في محافظة حلب، وقد تمكّنت جبهة تحرير سوريا الإسلامية من ضمّهما إلى صفوفها بفضل ما تتمتع به من إمكانيات مالية.

قيادة السلفيين الحركيين لحملات جمع التبرعات لمصلحة المتمردين السوريين، دفعت بمنافسيهم العلميين الموالين للسعودية إلى القيام بخطوة مماثلة. وفقاً للرغبات السعودية، دعمت هذه الشبكات، في البداية، المحاولات الآيلة إلى إنشاء هيكلية قيادية خاصة بالجيش السوري الحر تحت رعاية ضباط انشقّوا من الجيش السوري النظامي. وقد وُجِّهت دعوة إلى الداعية التلفزيوني السوري المقيم في السعودية، عدنان العرعور (الذي ألقى باللائمة على جامعي التبرعات السلفيين الحركيين في الكويت معتبراً أنهم التفّوا على هذه المبادرات لمصلحة فصائل متشدّدة) لإلقاء كلمة كمتحدّث أساسي في الاجتماع الذي عُقِد في أيلول/سبتمبر 2012 لتدشين القيادة المشتركة للمجالس العسكرية الثورية، وهي من بين الأطراف المرشّحة لقيادة الجيش السوري الحر.

كذلك تولّت شخصيات شهيرة انشقّت في بداية الثورة المسلحة عن الجيش السوري وانضمّت إلى الجيش السوري الحر، مثل الملازم أول عبد الرزاق طلاس والنقيب عمار الواوي والنقيب ابراهيم مجبور، مناصب قيادية في جبهة الأصالة والتنمية التي موّلتها جمعية إحياء التراث الإسلامي المنتمية إلى النزعة السلفية العلمية في تشرين الثاني/نوفمبر 2012. يجب النظر إلى قرارها بزيادة تدخلها في النزاع السوري على ضوءموقفها الدقيق على الساحة الداخلية في ذلك الوقت. لقد تمكّن المنافسون الحركيون للجمعية من زيادة بروزهم على الساحة إلى حد كبير بفعل دعمهم الاستباقي للفصائل السورية، وقضايا أخرى في مختلف أنحاء المنطقة، بعد الثورات العربية التي اندلعت في العام 2011. علاوةً على ذلك، تعرّض التماسك داخل الجمعية إلى التهديد من قبل جناح إصلاحي انضم إلى المعارضة الكويتية الداخلية، بشكلٍ تنافى مع رغبات قيادة الجمعية. وفي وقتٍ بدا فيه النصر ممكناً للفصائل السورية، كان يمكن أن تساهم رعاية السلفيين الحركيين للتحالفات العسكرية الأكثر نفوذاً، في تعزيز مكانتهم بصورة دراماتيكية في المنطقة، الأمر الذي كان ليشكّل خطراً حقيقياً جدّاً على نظرائهم العلميين.

يدين السلفيون المقيمون في الخليج، في النجاح الأولّي الذي حققوه على الساحة السورية، بالفضل إلى مزيج فريد من العوامل. العامل الأول هو ارتفاع معدل إجمالي الناتج المحلي للفرد في بلدانهم، ما زاد من حظوظ إقبال المواطنين الخليجيين على التبرع للمجموعات السلفية. ونظراً إلى الحظر الذي فرضته السعودية على جمع التبرعات الخاصة لمصلحة الفصائل السورية اعتباراً من أيار/مايو 2012، بدأت هذه التبرعات تتركّز في دولتَي قطر والكويت الأكثر تساهلاً في هذا المجال. حتى إن نايف العجمي، وهو سلفي يجمع تبرعات لمصلحة الفصائل السورية، تولّى منصب وزير العدل في الكويت في مطلع العام 2014. في هذه الأجواء، تمكّن الداعِمون السلفيون للقضية السورية من العمل العلني، فاحتكّوا بمجموعة من المانحين أوسع نطاقاً من الشبكات المحجوبة عن الأنظار التي كانت تموِّل عادةً النزعة الجهادية الإسلامية المتشدّدة.

العامل الثاني الذي صبّ في مصلحة هؤلاء السلفيين هو صعود نجم بعض جامعي التبرعات، بحكم إطلالاتهم كدعاة عبر شاشات التلفزة. على سبيل المثال، تولّى حجاج العجمي، الذي كان عمره 24 عاماً فقط في العام 2011، تقديم أحد برامج تلفزيون الواقع الإسلامية، واقتحم العرعور عالم وسائل الإعلام بإثارته نقاشاً جدلياً مناهضاً للشيعة. وقد اعتمد شافي العجمي، وهو أيضاً من كبار جامعي التبرعات الكويتيين لمصلحة أحرار الشام، على شعبية شريكه نبيل العوضي، وهو شيخ يطل عبر شاشة التلفزة ويتمتع بشعبية واسعة، والذي أصبح بحلول أيلول/سبتمبر 2011، المغرِّد الأكثر تأثيراً في سورية. فضلاً عن ذلك، وفي حين أن دول المنطقة كانت إما معادية للشبكات الجهادية وإما تعاملت معها بطريقة غير مباشرة، جسّد السلفيون الحركيون نزعة مقبولة بما يكفي لإقامة شراكة علنية مع قطر وتركيا، فيما أقام السلفيون العلميون شراكة مع السعودية.

كذلك أفاد السلفيون من التوجّه السائد، في البداية، من مرونتهم الإيديولوجية النسبية في الجهود الآيلة إلى تشكيل تحالفات كبيرة من الفصائل السورية، حيث كانت أعداد السلفيين الحقيقيين ضئيلة داخل سورية، بسبب تعرّضهم إلى القمع لسنوات على يد الدولة. لم يتمكّن جامعو التبرعات في الخليج من التواصل مع مجموعات سلفية بحتة كبيرة، باستثناء مجموعة زهران علوش في دوما، التي انبثق عنها لواء الإسلام. بدلاً من ذلك، أقاموا روابط مع فصائل محلية عن طريق وسطاء أفراد، مثل جهاديين مخضرمين، ودعاة، ونشطاء سياسيين. وهكذا، لم يكن جامعو التبرعات السلفيون من النوع الذي يصعب إرضاؤه في اختيار المستفيدين، على الرغم من أنهم شجّعوا الفصائل المتمردة على تبنّي الشعارات والرموز الإسلامية، وحاولوا رسم معالم سياسة هذه الفصائل وفقاً لأجنداتهم الخاصة. ولم يفرضوا الالتزام العقيدي واسع النطاق نفسه الذي كانت التنظيمات الجهادية تتوقّعه من أتباعها.

إذن، على الرغم من أن حجاج العجمي، مثلاً، كان داعماً بارزاً لأحرار الشام ولفصائل أكثر تشدداً، إلا أنه قدّم الرعاية أيضاً للعقيد رياض الأسعد، مؤسس الجيش السوري الحر. لقد كانت جبهة تحرير سوريا الإسلامية المدعومة من سرور، تحالفاً ذا مكوّنات متنافرة، يضم لواء الإسلام السلفي البحت، إلى جانب إسلاميين من نوع الإخوان المسلمين. غير أن الجبهة لم تضم جهاديين، وذلك بسبب الجدل الذي أثاره زين العابدين، على امتداد عقود، حول ما أسماه “حزب الغلاة”. أما في ما يتعلق بجبهة الأصالة والتنمية، فهي انجذبت نحو الفصائل القبلية في شرق سورية. ولم يكن السبب أن السلفية العلمية كانت قوية هناك، بل يعود ذلك إلى الروابط الشخصية، مثل تلك التي تجمع أمين عام جبهة الأصالة والتنمية، خالد الحماد – وهو مغترب سوري مقيم في الكويت – بمحافظة دير الزور حيث مسقط رأسه.

بدا أنّ نفوذ جامعي التبرّعات السلفيين في الخليج بلغ ذروته في تشرين الثاني/نوفمبر من العام 2013 مع اندماج جبهة تحرير سوريا الإسلامية والجبهة الإسلامية السورية، تحت مظلّة ما سُمي بالجبهة الإسلامية. كانت هذه الخطوة غير مسبوقة لسببَيْن: الأوّل أنّها أدّت إلى أكبر تحالف للمقاتلين السوريين على الإطلاق؛ والثاني أنّه تمّ تمويل التحالف الجديد من قبل سلفيين حركيين وعلميين، بفضل شبكات المحسوبية المزدوجة التابعة لجيش الإسلام بقيادة زهران علوش، وهو فصيل أساسي في جبهة تحرير سوريا الإسلامية.

مع ذلك، ما بدا أنه عرض للقوّة والتوحّد، سرعان ما تحوّل إلى لا شيء من هذا القبيل. فمع حلول صيف العام 2014، تحوّلت الجبهة الإسلامية إلى قوقعة فارغة. كان جزء من المشكلة يتعلّق بالوقائع على الأرض، إذ أسفرت الانتكاسات العسكرية على يد النظام عن انقسامات بين الفصائل التي كانت تابعة لجبهة تحرير سوريا الإسلامية، بما في ذلك لواء التوحيد، وكتائب الفاروق، وصقور الشام التي فقدت لواء داوود القوي لصالح تنظيم الدولة الإسلامية الصاعد آنذاك. علاوةً على ذلك، أدّى التنافس بين أحرار الشام وجيش الإسلام، وهما ركنان من الجبهة الإسلامية، إلى تشكيل ائتلافات فرعية داخل التحالف، ما أفضى إلى تقويض الطموحات الأوّلية لبناء قيادة مركزية.

تجاوزت جبهة الأصالة والتنمية المتواضعة نسبياً أعمار عدد من المتنافسين الآخرين، على الرغم من أنّها تقلّصت أيضاً بسبب تقلّبات الحرب. فقد عانى التحالف السلفي العلمي من ضربة قوية في صيف العام 2014، عندما طرد تنظيم الدولة الإسلامية الفصائل المتنافسة من شرق سورية. وهكذا، شكّل أعضاء محليون من الجبهة جيش أسود الشرقية، ثم قادوا عمليات ضدّ الدولة الإسلامية في البادية (الصحراء السورية الوسطى) بدعم من قيادة العمليات العسكرية التي تخضع إلى إشراف وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية، التي افتتحت مقراً لها في الأردن. وفي العام 2016، فقدت جبهة الأصالة والتنمية ركائزها الشرقية بعد إنشاء جيش سوريا الجديد (أُعيدت تسميته لاحقًا بجيش مغاوير الثورة)، الذي أبرم شراكة مع البنتاغون. فأوّلاً، انسحب جيش أسود الشرقية من الجبهة معارضاً المشروع، ثم فصلت الجبهة من صفوفها جيش سوريا الجديد بعد رؤية قائده، خزعل السرحان، في وثائق سرّبتها الدولة الإسلامية، وهو يحمل العلم الأميركي على كتفيه ويعبّر عن عدم اكتراث بالضحايا المدنيين. الجدير ذكره هنا أن الجبهة لاتزال موجودة رسمياً في غرب سورية، لكنّها تبدو هامشية إلى حد كبير.

انقلاب الحظوظ في سورية

من العام 2014 فصاعداً، كان المموِّلون السلفيّون في الخليج غير مهمّين بشكل عام في تشكيل تحالفات الفصائل الجديدة التي بنيت على بقايا الجبهة الإسلامية والجماعات المماثلة، وذلك بفعل ثلاثة عوامل رئيسة: انخفاض مساعدات جامعي التبرّعات في الخليج نتيجة للإجراءات التقييدية والمزاج العام المتغيّر في بلادهم، والوقائع العسكرية الجديدة، والاحتياجات التنظيمية داخل سورية، إضافةً إلى جهد متنامٍ من جانب الدول الراعية لتعزيز قوّات المتمرّدين.

وفي حين أنّ استراتيجية جمع التبرّعات المعتمدة من قبل مؤيّدي السلفيين الرئيسيين في الخليج كانت تستند إلى بروزهم الإعلامي وقدرتهم على النشاط العلني، أصبح هذا الأمر في العام 2014 بمثابة عائق. فهذا البروز جعل جامعي التبرّعات عرضة إلى إجراءات صارمة شجّعتها الحكومة الأميركية، التي فرضت عقوبات على سلفيين حركيين، على غرار حجّاج وشافي العجمي، الذين دعموا في المقام الأوّل الفصائل الإسلامية الرئيسة في سورية، لكنّهم أصبحوا أكثر انفتاحاً على نحو متزايد بشأن رعاية جبهة النصرة التابعة لتنظيم القاعدة. وأدّى الضغط الأميركي إلى استقالة وزير العدل الكويتي، نايف العجمي، على خلفية انخراطه في جمع تبرّعات متعلّقة بسورية، كما ضعفت شبكات السلفيين الحركيين في الكويت أكثر بسبب قرار السلطات المحلية الانضمام إلى حملات القمع السائدة في المنطقة ضدّ المعارضة الإسلامية، في أعقاب قمع مصر لجماعة الإخوان المسلمين. وعمدت السلطات، على وجه الخصوص، إلى سحب الجنسية الكويتية من نبيل العوضي، وأمرت بإغلاق جمعية فهد الأحمد المرتبطة بسرور.

لم يكن تزايد القمع في الداخل هو العامل الوحيد الذي أدّى إلى انصراف جامعي التبرّعات السلفيين في الخليج، والجمهور، عن القضية السورية. ففي حين أنّ الإرهاق كان سيحلّ حتماً بفعل نزاع مديد ومشرذم بشكل متزايد (بدأت التبرعات بالتناقص في وقت مبكر من العام 2013) ظهرت قضايا إقليمية أخرى. وشمل ذلك الإطاحة بالرئيس المصري محمد مرسي في تموز/يوليو 2013، والقمع اللاحق للإخوان المسلمين، علاوةً على التوسّع الحوثي في ​​اليمن، والتدخّل العسكري الخليجي الذي تبعه.

لكنّ التمويل السلفي للفصائل السورية لم يتوقف كليّاً. فقد استمر السلفيون العلميون والسروريّون، الذين لم يموّلوا الجهاديين، بدعم الأطراف التي يفضّلونها: جبهة الأصالة والتنمية، وجيش الإسلام. مع ذلك، وبغض النظر عن الصعوبات التي يواجهها المتبرّعون، فإنّ التحالفات السلفية الأصلية في سورية لم تعد مناسبة للفصائل. فقد كان الطابع السوري الواسع والهوية السياسية المتميّزة لهذه التحالفات جزءاً من استراتيجية العلاقات العامة المصمّمة لاسترضاء الجهات المانحة الخليجية المعنية أساساً بوزن المستفيدين والتزامهم العقيدي. لكن من وجهة نظر عسكرية بحتة، لم تكن هذه التحالفات عديمة الجدوى، لأنّها تعمل على توحيد المجموعات التي غالباً ما تكون مبعثرة على امتداد سورية، ما يحدّ من إمكانية تعاونها على الأرض.

لم تكن هذه مشكلة مستعصية، طالما كان يبدو أنّ قوّات النظام تنهار. لكن، مع انقلاب المدّ طيلة العام 2013، أصبح التآزر التكتيكي على مستوى المحافظات بين مجموعات من إيديولوجيات مختلفة مسألة بقاء بالنسبة إلى الفصائل. بدا هذا الاتجاه واضحاً جداً من خلال إنشاء مجلس شورى المجاهدين في المنطقة الشرقية، الذي كان قصير العمر، في دير الزور في ربيع العام 2014. فقد وحّدت هذه المجموعة جميع الفصائل المحلية، من عناصر الجيش السوري الحر إلى جبهة النصرة، ضد النظام والدولة الإسلامية. وكذا الأمر في غوطة دمشق الشرقية، حيث جمعت القيادة العسكرية الموحّدة بين جيش الإسلام السلفي ومنافسه اللدود أجناد الشام، وهو فصيل يقوده رجال دين صوفيون وشخصيات مرتبطة بالإخوان المسلمين. وفي أماكن أخرى، أدّت الضرورات العسكرية، إلى جانب الحزم المتزايد للدول الأجنبية المعنية في سورية، إلى تحالفات محلية شملت الجبهة الجنوبية المدعومة من الولايات المتحدة والأردن، وجيش الفتح في محافظة إدلب، وغرفة عمليات فتح حلب برعاية تركيا وقطر. وهكذا، أصبح نمط دمج الفصائل على امتداد البلاد، والذي روّج له المموّلون السلفيّون في الخليج، بالياً.

خلاصة: ماذا بقيَ من الإرث السلفي؟

إذا ما عدنا بالزمن قليلاً إلى الوراء، سنجد أنّ الصراع السوري مثّل فترة وجيزة لاقتناص الفرص بالنسبة إلى جامعي التبرّعات السلفيين في الخليج، الذين تلاشوا في طي النسيان بالسرعة نفسها التي برزوا فيها إلى الواجهة بدايةً. مع ذلك، لاينبغي التقليل من تأثيرهم على المدى الطويل، فقد كان دعمهم المالي عاملاً رئيساً في صعود الفصيلَيْن غير الجهاديَيْن الرئيسين في سورية، أحرار الشام وجيش الإسلام، ما أدّى إلى ظهور السلفية غير المسبوق في السياسة السورية المُعارضة.

كما تضافر دعم الفصائل المسلحة في سورية مع الجهود الأقل وضوحاً من جانب المنظمات غير الحكومية السلفية الإنسانية والدعوية. وشمل ذلك جمعية إحياء التراث الإسلامي، التي واصلت تقديم المساعدات داخل سورية وخارجها، عبر لجنة إغاثة سوريا، وهيئة الشام الإسلامية المرتبطة بسرور، والتي تزعم أنّها وزّعت أكثر من مليون كتاب ديني، ووظّفت 150 داعية بدوام كامل في جميع أنحاء سورية وفي مخيمات اللاجئين.

كذلك، وسّع رجال الدين السلفيون مواطئ أقدامهم على المستوى الأعلى من النخبة الدينية السورية، التي كانت حكراً على علماء تقليديين يميلون إلى الصوفية. وتجلّى هذا التغيير في الدور البارز الذي تلعبه هيئة الشام الإسلامية في المجلس الإسلامي السوري الذي يتخذ من إسطنبول مقرّاً له، وهو المرجع الديني الأوّل في صفوف المعارضة السائدة والفصائل غير الجهادية. وإلى جانب التلقين الديني الذي تقدّمه الفصائل المسلّحة السلفية نفسها، تشير هذه التطوّرات إلى أنّه تمّت إعادة رسم خريطة الحقل الديني السوري بشكل دائم. ومن المرجّح أن يستمر ازدياد النفوذ السلفي في ما بعد الثورة لفترة طويلة بعد أن تصبح جبهات الفصائل الإسلامية، التي ظهرت في العامين 2012 و2013، حاشية في تاريخ الصراع السوري.

مركز مالكوم كير- كارنيغي للشرق الأوسط

———————-

نحو “تصفية تقنية” روسية-أميركية للقضية السورية/ زياد ماجد

تناقش الورقة التفاهم المبدئي الذي أنجزه البيت الأبيض مع الروس خلال قمة العشرين بألمانيا، في يوليو/تموز 2017، ويُفوِّض موسكو بإدارة “النزاع السوري” وتنسيق الجهود لحله وفق أولويتين: “الحرب على الإرهاب” و”تخفيض العنف بين النظام والمعارضة”، وهو ما يُحوِّل الشأن السوري إلى شأن تقني إداري.

حفلت الأسابيع الماضية بجملة تطورات سياسية وميدانية في سوريا. وجاءت هذه التطورات بعد تسريب أخبار عن اتفاق مبدئي أنجزه البيت الأبيض مع الروس واتفق الرئيسان دونالد ترامب وفلاديمير بوتين على خطوطه العريضة خلال لقائهما، في 7 يوليو/تموز 2017، في قمة العشرين في ألمانيا(1).

من معالم الاتفاق أن واشنطن في أولويتها الوحيدة، وهي “الحرب على الإرهاب”، تقبل بتفويض روسيا في إدارة الشأن السوري، وصولًا إلى حلٍّ يناسب موسكو ويترك لواشنطن وحلفائها الدور الأبرز في مهاجمة تنظيم “الدولة الإسلامية” شمال شرق سوريا (منطقة الرقة)، فيما قد ينسق الطرفان في العمليات العسكرية اللاحقة ضده في الشرق (منطقة دير الزور).

في موازاة ذلك، نشطت روسيا على خط التواصل مع بعض القوى العسكرية المقاتلة ضد النظام (جيش الإسلام وفصائل ما زالت منضوية في الجيش الحر في وسط البلاد) للاتفاق على تخفيض التوتر في أكثر من نقطة اشتباك، لاسيما في الغوطتين وفي ريف حمص الشمالي. وعملت في لقاءات آستانة وفي الاتصالات الجانبية على تقسيم مناطق النزاع، متفقةً مع الأميركيين على السعي مع الأردن لضبط حركة المعارضة المسلحة في الجنوب، مقابل وعد موسكو بِثني الإيرانيين وحزب الله عن محاولة التمدد فيه.

على أن التطورات شمالًا، لجهة التوتر التركي-الكردي الذي تلجم واشنطن تصاعده حتى الآن، وسيطرة “فتح الشام” على أجزاء واسعة من محافظة إدلب، إضافة إلى استمرار الاشتباكات والقصف في محاور الغوطة الشرقية ومحاولة النظام وحزب الله التقدم في جوبر وفي بعض النقاط الأُخرى، تؤجل تطبيق التجميد العسكري الشامل الذي تريده روسيا لتكرس من بعده صيغتها “السياسية” للحل.

إدارة الصراع روسيًّا وفق التقسيم الجغرافي ومؤدياتها

ما الصيغة التي تريدها موسكو تتويجًا لتخفيض “مستوى العنف” أو تجميد الجبهات؟

من الواضح أن الخريطة السورية كرَّست مناطق خمسًا (سبق وأشرنا إليها في ورقة بحثية بعنوان: “جغرافيا الصراع: ديناميات المناطق الخمس في سوريا” نشرها مركز الجزيرة للدراسات، في 8 سبتمبر/أيلول 2016(2)):

• منطقة أولى غربية طولية (تمتد من الساحل السوري إلى حماة فحمص ودمشق ومداخل الجنوب)، يسيطر النظام وميليشياته والقوى الشيعية التابعة لإيران عليها، بحماية عسكرية جوية ودبلوماسية روسية. وفي هذه المنطقة مناطق معزولة ومحاصرة للمعارضات المسلحة، يعمل النظام وحزب الله على قضم بعضها (محيط الحدود اللبنانية وبعض ضواحي دمشق)، وعلى السعي لوقف العمليات العسكرية في بعضها الآخر للتطبيع معها وتحييدها ريثما يُنظر في شأنها.

• المنطقة الثانية هي منطقة إدلب، وهي متروكة راهنًا لتطورات داخلها قد تطرح لاحقًا سيناريوهات مختلفة. فتمدد سيطرة “فتح الشام” فيها، “يُجيز” للأميركيين والروس اعتبارها منطقة مُسيطَرًا عليها من قبل “منظمة إرهابية”. وهذا يعني دوليًّا (نتيجة تصنيفات مجلس الأمن) “مشروعية” التعامل معها عسكريًّا. يمكن كذلك تفويض تركيا إيجاد حلول وسط فيها تُجنِّبها العمليات العسكرية “الدولية”، أو يمكن تركها نهبًا لاقتتال داخلي يُعزَل عن السياق السوري العام ويستنزف أطرافه حتى الإنهاك (ومعهم مئات الألوف من المدنيين).

• المنطقة الثالثة هي منطقة سيطرة الميليشيات الكردية، في عفرين ثم من كوباني حتى الحسكة وحدود العراق، نزولًا حتى الشدادي، وانتهاءً بمدينة الرقة. وهذه المنطقة محمية أميركيًّا، رغم التحفظ التركي الحاد على سيطرة “وحدات الحماية” الكردية عليها. ورغم الدعم التركي لفصائل من المعارضة السورية المسلحة المتواجدة في ريف حلب الشمالي على تماس مباشر معها (بما يُعدُّ جيبًا مستقلًّا للمعارضة في المنطقة، ولو أنه راهنًا محدود التأثير عسكريًّا وسياسيًّا).

• المنطقة الرابعة هي منطقة جنوب سوريا، حيث محافظتا درعا والقنيطرة وبعض أنحاء البادية على تخوم الحدود الأردنية والعراقية. وترتدي هذه المنطقة أهمية استراتيجية قصوى لوقوعها على التقاطعات الحدودية المذكورة، ولقربها غربًا من الجولان السوري المحتل ومن الحدود الإسرائيلية. وتُؤكد مختلف المؤشرات والإجراءات وجود اتفاق روسي-أميركي-أردني على تطبيق وقف شامل لإطلاق النار فيها، يستثني “جيش خالد بن الوليد” المحسوب على “تنظيم الدولة”، تمهيدًا لفتح معبر حدودي معها يُعيد التواصل الاقتصادي عبر الطريق الدولية بين دمشق وعمَّان. على أن تنسحب من تخومها القريبة من الجولان جميع مجموعات حزب الله والميليشيات الشيعية العراقية وخبراء الحرس الثوري الإيراني، وأن يلعب الأردن دور الضامن للعلاقة بكتائب “الجيش الحر” المحلية وسائر المجموعات المعارضة.

• أما المنطقة الخامسة في هذا التقسيم، فهي منطقة الشرق السوري، المحيطة بمسار نهر الفرات. وهي منطقة سيطرة تنظيم الدولة المتآكلة في شمالها (الرقة) والمتعرضة لضغط في وسطها وجنوبها (في الخط الممتد من تدمر باتجاه دير الزور). وإذا كان مطلب بعض الميليشيات الكردية وحلفائها من مسلحي مجموعات عربية التقدم بعد السيطرة على الرقة نحو معدان على طريق دير الزور، وفتح جبهة من جنوب الحسكة نحو الميادين (عبر خط الشدادي-مركدة) يلاقي بعضَ الاهتمام الأميركي، فإن في وجه ذلك عراقيل كبرى، تبدأ بالارتفاع المتوقع لحدَّة الاعتراض التركي على خطوة من هذا النوع، وتمر برفض إيران لها لما ستمثِّله من سيطرة كردية على شرق البلاد وشمال شرقها، وتنتهي بصعوبة الأمر عسكريًّا وتداعياته سياسيًّا واجتماعيًّا في ظل تصاعد التوتر العربي-الكردي وعمليات تهجير سكان عرب حدثت في العامين الأخيرين.

• بذلك، يبدو أن القرار بمن سيلعب الدور الأساسي في معركة دير الزور والميادين والبوكمال المقبلة ما زال قيد البحث. وهذا يفسِّر المحاولات الحثيثة للنظام السوري والميليشيات الشيعية الأجنبية المقاتلة معه لتحصين مواقعهم في ريف حلب الجنوبي -نحو الشرق- كما في السخنة وفي خطوط موازية للحدود العراقية التفافًا على نقطة التنف، بهدف إظهار الجاهزية لخوض المعركة. من جهتها، وبعد تقدمها في جنوب البادية السورية وتمركزها في التنف، تحضيرًا للتقدم باتجاه البوكمال بدعم أميركي، حوصِرت قوى معارِضة سورية، واتفق الأميركيون والروس على وقف تقدمها، وتجنب الصدام مع قوات النظام وحلفائه القريبين منها(3).

• تجاه هذا التقسيم لمهام وخصائص سياسية وعسكرية للتراب السوري تُديره موسكو وتوافق عليه واشنطن، يُظهر طرفان إقليميان، هما تركيا وإيران، حذرًا وبراغماتية عالية، في حين تغيب الأطراف العربية نتيجة التوترات بينها واستنزاف بعضها في حرب اليمن وبُعدها الجغرافي عن حدود سوريا(4). فتركيا القلقة من النفوذ الكردي على حدودها الجنوبية تحاول قدر الإمكان الحد من هذا النفوذ وجعله موضع مقايضة مع واشنطن وموسكو، عبر التهديد بالتدخل في عفرين تارة، والبحث عن دور في إدلب تارة أخرى. أما إيران، فتُظهر براغماتية عالية لتجنب أي اشتباك سياسي مع حليفتها موسكو، خاصة في الجنوب السوري، مقابل إظهارها حزمًا عسكريًّا وسياسيًّا في موضعين لا تبدو مستعدة للتنازل عن النفوذ القائم أو المطلوب فيهما: الحدود السورية-اللبنانية؛ حيث يتمركز حزب الله ويواصل توسيع سيطرته، والحدود العراقية-السورية؛ حيث تتقدم ميليشيا “الحشد الشعبي” في بعض نقاط الحدود من الجانب العراقي، وحيث تريد إيران أن يكون لحلفائها وجود في الجانب السوري أيضًا، بما يضمن لطهران السيطرة على الخط البري الممتد منها عبر بغداد إلى دمشق فبيروت.

إفراغ القضية السورية من أبعادها السياسية

على أساس ما جرى عرضه آنفًا، تبدو الحركة السياسية دوليًّا متجهة إلى تحويل الشأن السوري إلى شأن تقني إداري، يرتبط بسلة تفاهمات حول وقف النار في مناطق، وتصعيد القتال في مناطق أخرى وتقاسم نفوذ عبرها يُبقي موسكو الأكثر تأثيرًا شرط إقناعها إيران بإبقاء الحدود مع إسرائيل آمنة كما كانت عليه بين العامين 1974 و2011؛ وهو ما تستعد طهران للموافقة عليه مقابل انتزاعها النفوذ حدوديًّا مع العراق ولبنان وفي الخط الواصل بينهما. أما تركيا فتصارع ليكون لها تأثير مركزي في الشمال على حساب الدور الكردي المتوسع، في حين يريد الأردن بسط نفوذِه جنوبًا وفتح طريق عمَّان-دمشق للاستفادة تجاريًّا في مرحلة قد تترافق مع عودة بعض النازحين الموجودين في أراضيه إلى سوريا (وهم في معظمهم من الجنوب السوري). ويبدو البيت الأبيض راضيًا بتسوية مرحلية كهذه، تخفِّف التوتر، وتبقي لواشنطن الدور الأبرز في الحرب على تنظيم الدولة بموجباته العسكرية واقتصاد حربِه وخطابه الأيديولوجي والسياسي.

هذا يعني أن قرار موسكو بإبقاء بشار الأسد رئيسًا في دمشق، وبالتالي رأسًا محليًّا للسُّلطة على الجزء الغربي من سوريا لمرحلة زمنية غير محددة، صار مقبولًا في واشنطن. ولا يبدو التحفظ الأميركي على الحضور الإيراني داخل الخريطة السورية قابلًا للتطور إلى إجراءات ملموسة تُهدده، على الأقل في المستقبل المنظور. وهذا يعني كذلك أن موسكو ستحاول، إن استتبَّ الأمر لترتيباتها، أن تخصص المرحلة الانتقالية التي تريدها لإدماج من تقنعه من فصائل معارضة محاصرة ومطبع معها في غرب سوريا (في الغوطتين وفي ريف حمص) في آلية مصالحة مع البنية الأمنية-السياسية للنظام. وإن نجحت، تعمد إلى السعي لتكرار التجربة في الجنوب، تاركة الشرق (حيث الأولويات الأميركية) والشمال وملفاتهما المتفجرة لوقت لاحق.

ولتدعيم المسار الذي رسمته، تُراهن موسكو على مشاريع اقتصادية وإعادة إعمار تجذب مستثمرين من الصين ومن بعض الدول الأوروبية. وليس محسومًا بعدُ موقف الاتحاد الأوروبي من هذه المشاريع، خاصة أن تنفيذها يتطلب رفع العديد من العقوبات الأممية والأوروبية المفروضة على النظام السوري، وهو ما لا يسهُل إنجازه لأسباب قانونية عدَّة(5).

خلاصة

يمكن القول: إن روسيا نجحت بعد مُضي عامين على تدخلها العسكري المباشر في سوريا في انتزاع تفويض سياسي لها لإدارة ملف البلاد. وقد ساعدتها على الأمر سياسات الانكفاء الأميركية التي بدأها الرئيس أوباما واستمر بها الرئيس ترامب، وموجبات التركيز الغربي على أولوية ما يُسمَّى بـ”الحرب على الإرهاب”. كما ساعدها تعثر الأمم المتحدة ومؤسسات المجتمع الدولي في التعامل مع الكارثة السورية (ولموسكو بالطبع دور أساسي في إحداث هذا التعثر). والإدارة الروسية إذ تركز على الجانب التقني لتخفيض العنف، تجهد لتصفية القضية السورية عبر الانتهاء من كل بحث في التغيير السياسي والاكتفاء بالكلام عن مصالحات وإعادة إعمار تلي وقف النار الميداني، وتُبقي النظام المسؤول عن خراب سوريا وعن جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية مسيطرًا على قسم واسع من البلاد.

في مواجهة كل ذلك، هل ما زال بمقدور القوى السياسية والمجتمعية السورية العمل على إبقاء قضيتها، بما هي قضية كفاح ضد حكم استبدادي متوحش، حية؟ تكمن الإجابة على الأرجح في مدى قدرة هذه القوى على صياغة خطاب واضح للمستقبل، وإعادة تنظيم نفسها داخل سوريا وفي المنافي، وتركيزها على رفض أن تكون بلادها أرض حصانة للمتهمين بارتكاب جرائم حرب أو أرض إفلات من العقاب. وهذا يتطلب تكثيف الجهود الحقوقية وتنسيقها لإيجاد جميع الثغرات التي تسمح بالادعاء على أركان النظام السوري في أكثر من دولة غربية ومحفل دولي، بما سيجعل كل تطبيع معهم شديد الصعوبة، ويفرض مع الوقت على الروس والإيرانيين إعادة البحث في جدوى حمايتهم وكلفتها على المديَين المتوسط والبعيد.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*د.زياد ماجد- أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية بالجامعة الأميركية في باريس .

مراجع

(1) “روسيا والولايات المتحدة تعقدان وقف إطلاق نار جديدًا في سوريا”، foreignpolicy، 7 يوليو/تموز 2017:

Russia and U.S. Broker Another Ceasefire in Syria

(2) للاطلاع على الورقة كاملة، يمكن تصفح الرابط التالي:

http://studies.aljazeera.net/mritems/Documents/2016/9/8/078c87f79a8b43118c6d90a6a4836072_100.pdf

(3) يأتي هذا بعد تقدم وحدات للنظام ولميليشيات شيعية باتجاه التنف، وقصف طائرات أميركية لها في 18 مايو/أيار ثم في 8 يونيو/حزيران 2017، قبل أن تجمد اتصالات بين واشنطن وموسكو التوتر وتَحول دون توسعه.

(4) تحاول مصر والإمارات لعب دور جديد عبر دفع معارضين سوريين محسوبين عليهما ومرضي عنهم سعوديًّا (مثل السيد أحمد الجربا) للتفاوض مع النظام على شروط هدنٍ إنسانية في عدد من المناطق تمهيدًا لتطبيع سياسي. على أن الأمر يبدو حتى الآن محدودًا ومحصورًا بالسقف الروسي.

(5) من هذه الأسباب أن التصويت الأوروبي على القرارات يتطلب إجماعات ما زالت إلى الآن غير متوفرة. ومنها أيضًا أن جهود منظمات حقوق الإنسان الدولية وتقاريرها حول جرائم النظام السوري، كما بعض الدعاوى التي بدأت تظهر ضده من مواطنين سوريين حاملين لجنسيات أوروبية، تُقيد حركة الحكومات التطبيعية مع النظام في دمشق. ومنها كذلك أن مسألة العقوبات على الأسد وأعوانه مرتبطة سياسيًّا بالعقوبات على روسيا نتيجة الأزمة الأوكرانية، وهذا يعقِّد رفعها في المرحلة المقبلة.

—————————————-

الإرهاصات التاريخية لفشل الإخوان المسلمين في الثورة | أحمد الرمح (ملف كامل)

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى