صفحات الثقافة

ليلى خالد: «شعبي سيحيا» وسأقاتلُه/ زيد محمد

امتدحت ليلى خالد في مقابلة عام 2020 على قناة الميادين، التي انطلقت في صيف 2012 لإعادة مركزة القوى الإعلامية لمحور إيران (ما يُدعى محور المقاومة والممانعة)، الشعوبَ العربية «الرافضة للتطبيع» والدول «غير المنبطحة». بدت خالد واثقة من أن «إسرائيل» لم تخرق «متراس الوعي» كما خرقت «الأنظمة العربية»، واختتمت بأن «محور المقاومة من إيران إلى العراق إلى سوريا إلى لبنان إلى فلسطين» يزداد قوة، مُعلّلة ذلك بأنهم «محكومون» بخيار وحيد هو خيار «المقاومة». لن يتوه الناطقون باللغة العربية عن أن المذكورة تتكلم لغة المحور؛ فـ«الأنظمة العربية» المقصودة في كلامها هي تلك التي على عداء مع إيران؛ و«محور المقاومة» هو تجميعة الأنظمة والتنظيمات والميليشيات الموالية لإيران؛ أما الدول غير المنبطحة فتُحيل إلى الدول التي تسيطر عليها أنظمة تشكل امتداداً استراتيجياً للإمبريالية الإيرانية. في المحصلة، يشكل ظهور خالد تأكيداً، لا يضيف شيئاً في جوهره لمقابلات أخرى، على تماهٍ كامل للمذكورة مع المحور سابق الذكر. لا يصعب تخيل خالد، بعد أن توقّفَ البث، مرتاحةَ البال دون ضمير يسائلها على ملايين الضحايا الذين مزّقهم محور إيران بكل أنواع التمزيق؛ السيناريو الأكثر قُرباً للواقع، رغم فجاجته، أنها أكملت يومها وكأن شيئاً لم يكن في مكان إقامتها عَمَّانْ.

لا ينشغل هذا النص بليلى خالد القيادية في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين. لا ينشغل، إلى ذلك، بالجبهة ذاتها، أو اليسار الحزبي و/أو الولائي في العالم العربي. لا يُعنى أيضاً بتقديم سيرة ذاتية للمذكورة، وإن كان يعرّج على محطات من حياتها وبعض ما أحاط بها من أحداث. هذا النص صوت إضافي ينزع الرمزية عنها ويدعو لمحاسبتها؛ وذلك دفاعاً عن ضحاياها من الناس والمبادئ والقضايا، على الأخصّ في الإطارين السوري والفلسطيني على التساوي ودون ترتيب. أَختارُ المذكورة لما صارت إليه من سوطٍ لتشويه الوعي القيمي والثوري وللقمع الرمزي والمعنوي والثقافي والسياسي، وذلك بعدما اكتسب اسمها من مكانةٍ أيقونيةٍ إيجابيةٍ في الوعي الفلسطيني والعربي والوعي التحرري العالمي؛ على خلفية العمليات الخارجية للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين تحت قيادة الشهيد وديع حداد أواخر ستينيات وأوائل سبعينيات القرن الماضي.

آملُ أن يفتح هذا النص الباب على تدقيق شامل في تحولات التموضعات الأخلاقية والسياسية لهذه الشخصية ومن شابهتها من شخصيات. قد يستشعر القارئ نبرة متشككة تجاه مواقف خالد الأخلاقية على مرّ مسيرتها، لم أبذل جهداً لإخفائها. من باب تقديم الحكمة على الحق (وهو مُحبّذ في الشأن الاجتماعي)، أشيرُ إلى أن هذه النبرة تنبع تحديداً من تَشكُّك عميق في الأسس الأخلاقية-النضالية التي ادّعت خالد يوماً تبنيها أو الدفاع عنها. ليس لذلك منطلقٌ جوهرانيٌ لا يعترف بالتحولات والتغيرات البشرية، إنما يأتي التشكّك للتدليل على تناقضات جوهرية تدفع المرء لبحث أكثر جدية من رمي كل هذا على تحولات طارئة واعتباطية في الموقف المبدئي. ومن باب تقديم الحق على الحكمة (وهو مطلوب في الشأن الأخلاقي-النضالي)، سيتناهى النص إلى ما هو أكثر من استعراضٍ وتشريح.

يبدأ النص بسرد محطات من حياة خالد ويعرّج على أحداث عاصرتها؛ ينتقل بعد ذلك إلى ما وثّقته بنفسها في سيرتها الذاتية عن اعتقالها في سوريا؛ وقبل أن ينتقل إلى الفقرة الختامية يعرّج على بعض المواقف التي اتخذتها بعد انطلاق الثورة السورية ويشرح مفاهيم مفتاحية في خطابها، ثم يفكر في مفهوم الرمز.

في مقابلة مطولة مع مجلة +972 عام 2014، سُئلت خالد عمّا إذا كان يمكن للضحية أن يتحول إلى جلاد. «نعم» تجيب خالد، «كالإسرائيليين». يبدو أنها لم تنظر في المرآة لتضيف مثالاً آخراً تراه أمام عينيها.

محطات حول «الرمز»

لِليلى خالد صورة أيقونية، ظلت بعمومها راسخة حتى انطلاق الثورة السورية، ترتبط بشكل رئيسي بعمليات خطف الطائرات التي قامت بها الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين. وقعت خالد، طفلةً تبلغ الرابعة من العمر، ضحيةً للتهجير الصهيوني من حيفا إلى صور في لبنان.1 ابنة لعائلة فلسطينية تتكون من ثماني أخوات وخمسة إخوة، تدرجت المذكورة في دراستها إلى التعليم الجامعي الذي تركته نتيجة تردي أوضاع العائلة الاقتصادية كجزء من تردي الأوضاع المعيشية للشعب الفلسطيني، لتشدّ الرحال إلى الكويت في النصف الأول من ستينيات القرن الماضي وتعمل مُدرّسة للغة الإنكليزية.2 شاركت في عمليتين لخطف الطائرات؛ إحداهما لطائرة أميركية عام 1969، برفقة سليم العيساوي الذي ستوافيه المنية في مدينة حمص أواخر العام 2012، وثانيهما لطائرة إسرائيلية عام 1970 استشهد خلالها النِكاراغوي-الأميركي باتريك أُرغويللو. اعتُقلت خالد في كلتا العمليتين، مرة في دمشق والأخرى في لندن على التوالي. استمرت بالعمل المؤسساتي في لبنان، سواء في أطر الجبهة أو الاتحاد العام للمرأة الفلسطينية وغيرها، أو في العمل الميداني في مساعدة المُهجّرين والجرحى. وضعت مولودها الأول عام 1982 في سوريا، وتدرجت في الهرم القيادي للجبهة منذ السنة ذاتها، ثم أصبحت عضواً في مكتبها السياسي بعد انتقالها للعيش في الأردن.3

مما يثير الانتباه في سيرة خالد أنها شاركت في تأسيس دار للأيتام لأبناء شهداء مخيم تل الزعتر، سُمّي «بيت أطفال الصمود». أُسِّسَ المخيم المذكور شمال شرق بيروت بعد سنة واحدة من النكبة. ولم يكمل المخيم سبعة وعشرين ربيعاً حتى أُخذَ رهينة؛ «من المحيط إلى الخليج كانوا يعدون الرماح [و] الجنازة وانتخاب المقصلة».4 حاصر الفاشيون المخيم سنة 1976 حصاراً خانقاً حوالي شهرين وقطعوا المياه عنه، إلى درجة أصبح فيها كل «كأس من الماء يساوي كأساً من الدم» بتعبير الشهيد صلاح خلف.5 استشهد الرضّع خلال الحصار. صمد الكيلومتر المربع، «وطننا بالتبني»،6 أمام عشرات الآلاف من القذائف وما وراءها من سياسات إفناء؛ رأس حربتها الدولة الأسدية، وميليشيات حزب الكتائب، وحزب الوطنيين الأحرار، وحرّاس الأرز، وجيش تحرير زغرتا، لتدخل بعد ذلك سكاكين القتلة أرض المخيم. تبارى الفاشيون في لبنان على اغتصاب النساء وتذبيح أطفالهن وتقتيل رجالهن. سُويَّ المخيم بالأرض حرفياً، ونُكب الشعب الفلسطيني مرة أخرى. لم تكن المذبحة ممكنة لولا الدولة الأسدية، تماماً كما لم تكن صبرا وشاتيلا ممكنة لولا الصهاينة.

لكن قصة الأسدية مع القضية الفلسطينية لم تبدأ في لبنان، ولم تكن خالد ببعيدة عن تفاصيلها. أظهرَ قادة البعث كالأسد الأول و مصطفى طلاس، منذ تنفيذ انقلابهم واستيلائهم على السلطة في سوريا، عداءً تجاه المقاومة الفلسطينية؛ ومنذ ذلك الحين بدأ عزف مقطوعة «الردّ في الوقت والمكان المناسبين» على الكيان الصهيوني.7 سجّلَ العام 1966 أيضاً مسؤولية الأسد عن اعتقال الشهيدين والقياديين في الثورة الفلسطينية المعاصرة ياسر عرفات وخليل الوزير (من بين آخرين)، وهما أيضاً من مؤسسي حركة فتح، لمدة شهرين في دمشق.8 على نفس المنوال، وبعد ذلك بعامين، اعتقل القيادي في الثورة الفلسطينية وأحد مؤسسي الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين الراحل جورج حبش لمدة عام في سوريا ليفك أسره بعملية نفذها القيادي في الثورة الفلسطينية والشهيد وديع حداد.9 عُرِفَ الأسد بأنه كان من القيادات البعثية «الأقل تعاطفاً مع المقاومة الفلسطينية»، كما أشار المؤرخ الفلسطيني رشيد خالدي، وتَكشَّفَت عدائيته للنضال الفلسطيني بعد انقلاب الـ1970. من الجدير بالذكر أن عرفات وصفَ تعامل النظام الأسدي مع المقاومة الفلسطينية، خلال فترة الالتجاء الاضطراري لسوريا بعد أيلول الأسود وما تلاها سنة 1971، بأنه أقسى من ثلوج جبل الشيخ.10 جاء الالتجاء آنف الذكر بعد إفشال الأسد، الذي شغل منصب وزير الدفاع وقائد القوى الجوية آنذاك، للمد السوري للمقاومة الفلسطينية في الأردن. من المعروف أيضاً أن الأسدية حاولت منذ أواسط الستينات، عندما كانت لا تزال في طور التشكّل، فرضَ سيطرتها على القرار الوطني الفلسطيني، ولم يكن اعتقال قادة في الثورة الفلسطينية إلا حلقة من هذا المسلسل المستمر. من المفارقات التي سيقف عليها النص لاحقاً أن خالد نفسها خضعت للاعتقال والتحقيق في سوريا بعد العملية الأولى. من المفارقة أيضاً أن سجن المزة الذي اعتُقلت فيه سيغلق، وأن مسلخ مطار المزة العسكري سينمو ليلتهم أرواح الأبرياء. سيوقّعُ نظام الأسد اتفاقية فك الاشتباك مع الكيان سنة 1974 بعد أقل من 6 شهور على اتفاقية مصرية مشابهة، وبعد سنوات من ترديد أسطوانة الرد المناسب. من بين أشياء أخرى، عنت هذه الاتفاقية أن النظام الأسدي قد أعلن أن سوريا لن تكون مسرحاً أو منطلقاً للكفاح الفلسطيني المسلّح.11

بالعودة إلى لبنان، سيشهد البلد سنة 1976 التدخل العسكري الأسدي لصالح القوى اليمينية اللبنانية ضد اليسار اللبناني والمقاومة الفلسطينية، والذي سيؤرخ بداية الهيمنة العسكرية الأسدية عليه لمدة ثلاثة عقود. لن تدخل القوات الأسدية إلا بعد أن تواصلَ الأسد مع الإدارة الأميركية لأخذ الضوء الأخضر للتدخل، ليجري احتلالها للبنان بموافقة إسرائيلية، بحسب وثائق أميركية رُفعت عنها السرية.12 ضربَ الأسد اليسار اللبناني والمقاومة الفلسطينية، والتزم بحدود سياسية وعسكرية تضمن عدم التضارب مع الكيان. قصف الأسديون بيروت الغربية والمخيمات الفلسطينية، شاركوا القوات الصهيونية في حصار بيروت وصيدا، وشاركوا في مجزرة تل الزعتر. لم تكن عمالة النظام السوري للكيان والولايات المتحدة بخافية على أحد، ولم يكن الحديث عن هذه العمالة تابوهاً في الأوساط اللبنانية. يُستحضر، مثلاً، كيف عرَّفَ القيادي البارز في الحزب الشيوعي اللبناني الشهيد جورج حاوي «الخصم» في صيف 1976 بأنه كافة أطراف «المخطط الأميركي – السوري – الصهيوني – الانعزالي»، وكيف حدَّدَ أن النظام السوري هو «الأداة الرئيسية لتنفيذ المؤامرة».13

تدربت الدولة الأسدية في تل الزعتر على ارتكاب الإبادة السياسية والاستثمار فيها، تثبيتاً للحكم وتقوية للنفوذ محلياً وإقليمياً ودولياً. ارتكب النظام أولى إباداته الواسعة في سوريا بعد ذلك ببضع سنين، وعلى بعد ما يقارب الـ200 كم، في مدينة حماة، وذلك تتويجاً لحملة الإبادة السياسية التي هدفت لاجتثاث أي تنظيم أو تجمع مناهض للنظام خصوصاً، والاستيلاء الكامل على الحياة العامة السورية عموماً. ترافق ذلك مع تمدد أسدي مافيوي في لبنان تُساق عليه جملة من الأمثلة منها اختطاف وقتل الشهيد الباحث ميشيل سورا (1985)،14 أحد مُعرّيه ومُشرّحيه، عن طريق جماعة الجهاد الإسلامية اللبنانية التي ستنضوي لاحقاً تحت لواء حزب الله. لماذا لم ترسم سياسة الأسديين المعادية للكفاح الفلسطيني، أو المجازر التي ارتكبها وأشرف عليها الأسديون في مجالهم الجيوسياسي، حداً سياسياً، ناهيك عن ذلك الأخلاقي، في موقف خالد من الدولة الأسدية؟ ولماذا انحازت المذكورة إلى قتلةِ من يُفترض أنهم الرفاق؟ ولأي سبب ضربت بعرض الحائط المعرفة العامة والبديهية عن تلك الدولة، بل تعدَّتْ ذلك إلى تنكّرها لمعرفتها التي خطّتها بيديها؟

كانت تعرف

إن ما يثير الاهتمام، حقيقة، أن خالد نفسها قد أقرّت بأنها على علم بنفاق البعث-السلطة في سوريا وإجرامهم. تسرد خالد في سيرتها الذاتية المنشورة تحت عنوان «شعبي سيحيا» (1973) محطات اعتقالها في سوريا على خلفية العملية الأولى، وتبدو منذ بداية سردها متشككة بالنظام القائم، وقادرةً على التفريق بين الشعب السوري المتحمس للعملية والضباط الذين لا يشاركونهم الحماس.

«هل أنا في إسرائيل أم الجمهورية العربية السورية، المناصرة للأعمال الثورية المسلحة؟»،15 هكذا أجابت خالد على وصف الجبهة الشعبية بالمنظمة الإرهابية. رفضت خالد، في بداية اعتقالها، أن تأكل الطعام احتجاجاً على حجز حريتها. أيضاً، احتجّت على الضابط الذي همّ بتفتيشها قبل تلبية طلبها بالذهاب إلى المرحاض، إذ هددته بأنها ستصرخ أنه يحاول اغتصابها إن هو أتمّ فعلته. بجانب ذلك، ترد كلمة اغتصاب ومشتقاتها بضعة مرات في السيرة الذاتية، تتصل باغتصاب فلسطين والفلسطينيات من قبل العصابات الصهيونية. نستطيع هنا أن ندوّن ملاحظتين، أولهما أن خالد، وفي سنوات شبابها المبكرة، كانت على علم بأن الاغتصاب ممكن في السجون في سوريا، وثانيهما أنها كانت في تلك المرحلة تساهم بنشر قصص الضحايا للعالم الخارجي.

استاءت خالد، على المستويين الشخصي والعام، بشدة من اعتقالها على يد السلطة البعثية، ومن السلطة نفسها. تنامى لديها، خلال ثلاثة أيام من الاعتقال في سوريا، شعور بالإهانة كونها «ثورية تُعامَل كمجرمة»، لتسقط بعدها مغمىً عليها وتُنقَل إلى المشفى. تحرص، في شهادتها على اعتقالها في «سجن البعث»، على توصيف مشاعر الفخر والاعتزاز الفردانية منها والمتصلة بانتمائها للجبهة الشعبية. في إحدى الملاحظات التي كتبتها خلال فترة تعافيها من الإغماء، تقول أنها متأكدة من أن «الصحافة الرأسمالية» قد حثت «حكوماتها» على محاكمتها ورفاقها أو تسليمهم إلى دول أخرى حيث يمكن أن يحاكموا. تُبدي أيضاً تنافراً أيديولوجياً مع من تسميهم الثلاثي الحاكم لسوريا (نور الدين الأتاسي وصلاح جديد وابراهيم ماخوس)، مشيرة إلى التباين بين «البعثية اليسارية» من جهة والاشتراكية العلمية والمادية الدياليكتية من جهة أخرى. وبينما كانت في المشفى «صُعقت» لإطلاق سراح أربعة إسرائيليين ممّن كانوا على الطائرة، والذي سيُتبع بإطلاق سراح الاثنين المتبقيين مقابل إطلاق سراح طيارين سوريين ومقاتلين. لم تستوعب المذكورة كيف أُطلق سراح الإسرائيليين بينما ظلت مع رفيقها وراء القضبان. بعد فترة قصيرة حضر رئيسَ الأركان مصطفى طلاس ليكرر ادعاء أن العملية الفدائية لا تعدو كونها إحراجاً لسوريا أمام النظام الناصري.

ترصد خالد، خلال فترة اعتقالها، طبيعة العقلية الحاكمة في سوريا. وفي حين أنها لا تخفي التدرج في تحسّن المعاملة المقدمة لها خلال الأسبوع الأول من الاعتقال، لا تخفي، أيضاً، امتعاضها الشديد منها. تقبض المذكورة، بما يكفي من الدقة، على العقلية الأمنية التي عوملت بها. تحيل في أكثر من موضع إلى النقاشات الحادة التي دارت مع الضباط والمندوبين، مُستشفّة من خلالها طبيعة النظام الحاكم آنذاك، وبالنتيجة شخوصه التي بقي جزءٌ منها في الحقبة الأسدية. في خضمّ كل ذلك، تشير إلى العملية التي قامت بها الجبهة آنذاك لفك أسر القائد حبش مما تصفه بأنه «السجن الأكثر حراسة أمنية في سوريا»، وربطه بتغيير موضع اعتقالهما مراراً وتكراراً خشية وقوع عملية من ذات النوع.16

في نهاية الخمسة وأربعين يوماً من الاعتقال التقت خالد، للمرة الأولى، بالأسد الذي كان على مشارف إعلان استيلائه الكامل على السلطة في سوريا. تبدو متشككة في شهادتها من نواياه، وتحاول أن تعبّر عن تَشكُّكها وغضبها من فترة الاعتقال، تارة بالحديث عن ضعف أجهزة المخابرات العربية وتارة بالتشديد على أنها كانت سجينة البعث السوري. بدا الأسد مشغولاً باستجواب أخير يتعلق بمعرفة سبب اختيار سوريا مكاناً لهبوط الطائرة الأميركية. تُظهر الشهادة مكرَ الأسد؛ تارة بالإشارة إلى أنه يُظهر إعجابه بالعملية «على مضض»، تارة بالإشارة إلى تلميحه بخصوص النوايا وراء اختيار سوريا مكاناً للهبوط، وأخرى بمناداتها باسمها المستعار الذي أصرت على استخدامه خلال فترة اعتقالها، «خالدة».17 اختتمت خالد اللقاء باحتجاج أخير على اعتقالها، وبتمني أن يكون اللقاء القادم على «ساحة المعركة في فلسطين».

من الواضح أن خالد، على امتعاضها المُحقّ، قد سُجنت سجناً مُرفّهاً مقابل نظرائها في تلك الحقبة، وأولئك الذين أتوا بعدها على مدى خمسة عقود. أتيحت لها فرصة التفاوض. أتيح لها الزوار. أتيح لها أن تكتب الشعر وأن تتنقل وأن تُؤخذَ في جولة لزيارة بعض معالم دمشق. استطاعت تحصيل عدد من المطالب بدخولها في إضرابات متكررة عن الطعام. قُدِّمت لها الرعاية الطبية. أُتيح لها أن تحتج أمام من سيسحق، بدم بارد، مدناً سورية وحياة سوريا السياسية ويسرق أرواح أجيال من السوريين. أُتيح لها أن تحاور من سيسحق المخيمات الفلسطينية في لبنان ويؤمنن المخيمات الفلسطينية في سوريا ويطارد ويعتقل ويقتل المناضلين الفلسطينيين على مدى عقود. أُتيح لها أن تمضي 45 يوماً في السجون من دون أن تُعذَّب فيما يحيل إليه التعذيب في سوريا. وأُتيح لها أن تمضي وقتاً مليئاً بلعب ورق الشدة والمزاح في السجون البريطانية إبّان عملية خطف الطائرة الإسرائيلية في أمستردام. أُتيح لها أن تحفظ حقوقها وأن تواجه بها جهاز الشرطة في لندن. أُتيح لها أن تُكوِّنَ صداقات وأن تعود لتزور مكان احتجازها من الخارج. حتى إن أخذنا تجربة الشخصية قيد البحث للمقارنة بين تجربتي السجن، يسهل الاستنتاج أن اعتقالها الثاني كان أفضل بما لا يقاس من ذلك الأول. على المنوال نفسه، أُتيح لها أن تعرف أن اعتقالها الأول كان «رفاهية» قياساً بما قاساه غيرها على بعد أمتار منها.

يمكن اتهام خالد أنها، وبأثرٍ رجعي، قد خانت المعتقلين في «الزنازين السورية». وصفت المذكورة كيف «هرب النوم من [عينيها]» وهي تسمع صرخات المعتقلين المُعذَّبين بين جدرانها. لم تقف عند ذلك، بل ربطت عدم تغاضيها عن آلام المعتقلين بألم الشعب الفلسطيني؛ «لا أستطيع أن أتغاضى عن التعذيب كائناً ما كانت الجريمة. أكره إلحاق الألم بأي إنسان، لأني أعرف ما هو الشعور بالألم – الألم والكرب لفقدان الوطن، خسارة شعب بأكمله، وآلام أمتي بأكملها». لم تعرف سوريا تحسناً يذكر في أوضاع السجون منذ اعتقال المذكورة. على العكس تماماً، سيؤسس الأسد بعد سنة من ذلك فرع المخابرات الجوية الذي سيصبح مصدراً للرعب خلال الحقبة الأسدية الأولى والثانية ومحرقاً لجثث المعتقلين إبان الثورة السورية؛ بالتوازي مع ما يناظره من سجون وشبكة الأفرع الأمنية وما تحتها من أرخبيل مراكز الاعتقال غير الرسمية. ستشهد بداية الثمانينيات نشوء «التقليد التدمري»، وهو مصطلح سنّه الكاتب السوري ياسين الحاج صالح، نسبة إلى سجن تدمر الصحراوي حيث سيُسجَن ويُعذَّب آلاف المعتقلين على مدى عقدين كاملين من إسلاميين ويساريين وبعثيين ولبنانيين، ويُقتل ما بين 15 إلى 17 ألف معتقل.18 يعتقد الحاج صالح أن التقليد التدمري، على عكس معسكرات الاعتقال النازية و«شرّها التافه»، كان مساحة لممارسة التعذيب بشغف وابتكار وتفانٍ و«حميمية».19 في 2015، ستُسرَّب عشرات آلاف الصور لآلاف الشهيدات والشهداء بالتعذيب، في جهنم المخابرات الأسدية التي ستطلق على إحداها منظمة العفو الدولية اسم المسلخ البشري. سيمر مئات الآلاف من السوريين والفلسطينيين على مسالخ الأسد، وستَعرِضُ قلّةٌ ممن ستُكتب لهم «الحياة بعد الجحيم» شهادات تحطم الأرواح؛ كشهادة لولا الآغا التي اغتصبت أمام زوجها، وشهادة شاهر يونس عن فرع فلسطين، وشهادة خالد العقلة عن تفاصيل مذبحة سجن تدمر، وشهادة محمد الشريف عن شرب البول والقتل بالجوع، وغير ذلك من جحائِم.

تظهر خالد، في كتابها، كشخصية معقدة ذات أبعاد متعددة تتعلق، جوهراً، بالقضية الفلسطينية؛ من تراكم وعيها اللاحق للنكبة لذاتها وشعبها ومركزية الألم في هذا الوعي إلى تبلور أفكارها التقدمية كشابة يمزقها الحنين إلى وطنها. تبدو مشبعة بالثورة، مُحتجَّة في الخطاب، متعمقة في الفكر. تبدو أيضاً ذات بصيرة سياسية وأمنية تتعلق بالمنطقة. في مَوَاطِنَ مختلفة، تظهر معولمةَ الثوريةِ باتصالها بنضالات متعددة حول العالم. تنعكس صورتها كإنسانة حساسة للقضايا الإنسانية وعلى رأسها تحرير الإنسان. ألم يكن الموقف المتوقع من شخص لا تتناقض منطلقات أفعاله مع الصورة السابقة أن ينحاز للسعي للحرية وأن يكون سنداً للمقهورين، بدل أن يؤمّن غطاءاً للاغتصاب والتعذيب والمذابح؟

الاصطفاف مع الشيطان

لا تبدو خالد مُقلّة في الظهور على وسائل الإعلام العربية والأجنبية. لا يبدو، أيضاً، عليها أي تَردّد وهي تجيب على أسئلة المحاورين. تُقدِّرُ خالد، بكل ثقة، أن الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين في حالة تطور، معيدة ذلك إلى تقديمها الكثير من الشهداء والأسرى، ويبدو أنها أيضاً واثقة من خطر الجبهة على المشروع الصهيوني. تكمل لتقول أن القيادة ليست «مؤبد»، مؤكدة أن الجبهة تعزز «الديمقراطية»، وذلك تعليقاً على سؤال مذيعة الميادين وإلحاحها على تلقي إجابة مختلفة على خلفية استقالة الأمين العام للجبهة آنذاك. ومع أن المفارقة هنا تكمن أن خالد ذاتها تؤيد نظام الأبد، إلا أن «الديمقراطية» التي تتكلم عنها لا تمت بصلة لتلك التي أَصَّلَ لها أمين سر الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين آنذاك الراحل جورج حبش. ربط حبش النهوض العربي بالتخلص من هيمنة الأنظمة العربية على مصير شعوب الوطن العربي؛20 إذ أكد على وجوب انخراط القوى الديمقراطية بحياة الناس والنضال معهم في سبيل انتزاعهم حق تقرير المصير، وذلك عبر الديمقراطية وتحقيق الحرية من الأنظمة المستبدة.21

من المستبعد أن يكون تواطئ خالد مع الأسديين قد بدأ إبّان الثورة السورية. كما أسلف النص، تشير خالد في سيرتها الذاتية إلى أنه وفي اليوم الأول من اعتقالها على يد السلطات السورية كانت قد اتُّهمت بأنها تنتمي لمنظمة إرهابية. عادت بعد ذلك لتنكر ما قالته على قناة الجزيرة في مقابلة مع سامي كليب سنة 2005، إذ نفت اتهامهم لها بالإرهاب خلال التحقيق رداً على سؤال مباشر عن تلك النقطة. في المقابلة ذاتها، تقدم خالد نسخة تعطي انطباعاً شديد الاختلاف عن لقائها مع مصطفى طلاس، إذ تقول أنه رحّبَ بها بحفاوة واصفاً إياها بالـ«بطلة»، بينما تقول في كتابها أنه كان معارضاً بشدة للعملية، واصفاً إياها بالعميلة للجمهورية العربية المتحدة ويقصد بذلك نظام ناصر. علاوة على ذلك، وحين عرج كليب على لقائها آنذاك مع الأسد، قدمت خالد نسخة تخلو من أي تَشكُّك تجاهه، مركزة على «[شخصيته الودودة]» لا على دوره في المؤسسة الحاكمة. لا أدّعي أن التحول حصل هنا، لكني لم أجد بُدّاً من الإشارة إلى التناقض والتباين بخصوص موقفها من الأسدية كمدخل من مداخل تساعد على تحديد التوقيت والكيفية التي أعادت فيها تموضعها بهذا الصدد.

لم تعترف خالد يوماً بالثورة السورية، ولم تصطفَّ يوماً معها أو تُدِن نظام الأسد أو محوره أو حُماته الظاهرين (إيران وروسيا)، ولم تشر بأي شكل إلى الحماية المتبادلة بين النظام والكيان الصهيوني. على العكس، صبغت مواقفها بدعم الدولة الأسدية. يبدو أن أحدَ أبكر، إن لم يكن أول، موقف مسجل لها قد نشر 19 كانون الثاني (يناير) 2012؛ أي بعد ثلاثة أيام من مجزرة الميغ، وهي الغارة الجوية الأسدية التي استهدفت مسجد عبد القادر الحسيني في مخيم اليرموك، وبعد يوم واحد من ظهور أنباء سيطرة الجيش الحر عليه. في تلك المقابلة مع البوابة الأردنية، لم تُشر المذكورة لا من قريب أو من بعيد لمجزرة الميغ، بل رسمت صورة إيجابية لجيش النظام حين ادّعت أنه توقف عن القيام بأية «عملية عسكرية واسعة ضد المسلحين في المخيم حفاظاً على المخيم وعدم تعرضه للخراب». شكّلَ المسجد ملجأً للعديد من العوائل الهاربة من بطش النظام، وراح ضحية المجزرة العشرات من الشهداء معظمهم من الأطفال والنساء، وأشعلت شرارة أكبر موجة نزوح في تاريخ المخيمات الفلسطينية في سوريا حسب مجموعة العمل لأجل فلسطينيي سوريا.

تُعبّر خالد عن موقفها من القضية السورية بنظام لغوي سيمرُّ هذا المقطع على ستة من مفاهيمه. أول المفاهيم «سوريا»، ويشير عندها إلى أجهزة الدولة أساساً ويستتبع لها السكانَ كملحق لهذه الدولة وليس كأصحاب السيادة عليها، الدولة التي يحتكر فيها العنف «جيش» شرعي يدافع عنها. ثانيها «التدخل الخارجي»، وهو مفهوم على مستوى الدُّول، يشير في صيغة مختزلة ومشوهة للتدخلات الأميركية (الإمبريالية) والتركية والخليجية والإسرائيلية  في سوريا ويستثني التدخلات الروسية والإيرانية. ثالها «الإرهاب»، وهو مفهوم على مستوى المجموعات المسلحة غير-الدَّولتية، يشير إلى كل من حمل السلاح خارج سلطة النظام (وتُصدَّر على أنها جميعاً مجموعات جهادية عدمية سنّية)، وتستثني كل مجموعة قاتلت تحت قيادته أو في صفّه (ولا تأتي بحال على ذكرِ الجهاد الشيعي). رابعها «أدوات المؤامرة»، وهو مفهوم على مستوى السكّان والمجموعات المدنية يشمل كافة الأفراد الكيانات والمؤسسات والتجمعات التي تعمل تحت مظلة الثورة أو المعارضةِ المطالبةِ بإسقاط النظام. خامسها «المطالب المشروعة»، وهو تعبير بلا ملامح تُدَلِّلْ عليه، لكنه محدود بألّا يعادي «سوريا» وألا يندرج تحت «التدخل الخارجي» و«الإرهاب» و«أدوات المؤامرة». وسادسها «أعداء سوريا»، وهو مفهوم يشير إلى علاقة هرمية وتسلسل قيادي بين «التدخل الخارجي» (أعلى) و«الإرهاب» (وسط) و«أدوات المؤامرة» (أدنى)، هؤلاء مجتمعون يحاربون «سوريا». يخدم النظام اللغوي آنف الذكر، والذي لم تكن خالد الوحيدة التي استخدمته، بضعة أغراض منها نزع الشرعية عن الثورة السورية ونزع ولاية الشعب السوري على ثورته وبلاده، وتأمين مساحة مناورة للدفاع غير المباشر عن الأسد ونظامه (حين تقتضي الحاجة)، والتضليل بخصوص السياق السوري وما فيه من سكّان وبنى سياسية وشبكات مصالح محلية وإقليمية ودولية.

لم تكن مجزرة الميغ المرة الأخيرة التي أبدت فيها خالد موقفاً فيما يخص القضية السورية، وما يلي عينة من تلك المواقف. في الأشهر الأولى من سنة 2013 أيدت، بشكل مباشر، الجيش الأسدي؛ في الوقت الذي قالت فيه إن الجبهة تدعم الشعب ومطالبه العادلة «لكن» هناك «تحالف أميركي-سعودي-تركي يهدف لتدمير سوريا وإضعافها كبلد». في الفترة نفسها وصفت الثوار بأنهم «أدوات محلية» للإمبريالية (الأميركية) رابطةً إياهم بالإرهاب. في يوم الأرض من السنة ذاتها اصطفّت مع الأسد ضد تسليم مقعده في الجامعة العربية للمعارضة، ولم يمض شهران على ذلك حتى بدأت بالحديث عن «مخطط تم إعداده خارج سوريا يُنَفَّذْ لإذكاء الصراع المذهبي». في النصف الثاني من تلك السنة، سخرَ الشهيد المسرحي حسان حسان،22 ابن مخيم اليرموك، من تصريح ليلى خالد بوجود «أفغان» في المخيم. في آذار (مارس) 2014، بعد ثلاثة أشهر من توقف الأمم المتحدة عن توثيق القتلى (والذي تجاوز حسب الأخيرة عتبة الـ100 ألف)، صرّحت خالد بأن «الوضع [في سوريا] لا يشبه أي بلد آخر، وهو مختلف عن كل الحالات»، بينما أبدت رأياً متفائلا23 تجاه ثورات تونس ومصر وليبيا والبحرين واليمن في الأشهر الأولى من الربيع العربي. في أواخر آب (أغسطس) 2016، وبينما كان شرق مدينة حلب تحت النيران الأسدية-الإيرانية-الروسية قبل ثلاثة أشهر من احتلاله، ورغم ادعائها أن انتقاد «النظام» يُفسَّر على أنك في صفّ «المعارضة» وأن انتقاد «التدخل الخارجي» يضعك في خانة النظام، ورغم قولها إن من حق الشعب السوري وحده تغيير النظام، إلا أنها أكدت أن روسيا ليست وحدها من منعت «تدمير سوريا»؛ بل إن «النظام نفسه» منع هذا التدمير وإن «الجيش [الأسدي] دافع عن النظام والبلاد ضد مجرمين من كافة أنحاء العالم أُحضروا لسوريا تحت أعلام داعش والقاعدة والنصرة». في شباط 2018، قبلتْ أن تكرمها ميليشيا «فلسطين حرة» المحاربة مع الأسد في دمشق، والتي ارتكبت الاغتصاب والقتل الجماعي، وشاركت في قتال الثوار في عدد من المدن السورية وفي حصار مخيم اليرموك. حرّضتْ على «قص رقبة» من لا «يحترم وطنه» في أواخر 2019، واستفتحتْ سنة 2020 بوصف قاسم سليماني بـ«ابن فلسطين». ظهرتْ في آذار (مارس) 2020 في دمشق المحتلة تحت صورة الأسد الثاني في ندوة عنوانها «نضالات المرأة العربية والفلسطينية المقاومة». يظهر في الصورة ثلاثة ميكروفونات وثلاثة مقاعد تتوسطها خالد، على يمينها امرأة وعلى يسارها كرسي فارغ؛ تحدق صورة الأسد بالكاميرا، معطية انطباعاً بأن المتكلم الوحيد هو الأسد نفسه.

لم تترك خالد أداةً في جعبتها لنصرة الدولة الأسدية إلا واستخدمتها. تعامَت عن تاريخ عداء هذه الدولة للنضال الفلسطيني وقهرها لشقيقه السوري. زجّت باسم فلسطين في كل ما لا يشبهها؛ من استخدام يوم الأرض في مساندة السفّاح، إلى ربطها باسم مهندسِ سياسات الإبادة والتغيير الديمغرافي الإيرانية في الوطن العربي، وحتى غسل ميليشيا استخدمت الاسم وهي ترتكب جرائم الاغتصاب والقتل. حاضرت عن «التحرر» تحت صورة أيقونة الاستعباد. استخدمت أدواتَ منظومةِ الحرب على الإرهاب. تسترتْ على المذابح في عموم الوطن السوري بما في ذلك عاصمة الشتات الفلسطيني. تنكرت لما عرفته من فظيع وكتمت ما وصلها عن هذا الجحيم. اشتركت في دفن الحقيقة في مقبرة سرية تحت حراسة نظام كذب وتضليل منضبط. ألم يكن عكس ذلك كله ممكناً؟

الرمز وتحطيمه

يمكن النظر إلى الرمز على أنه نتاج تفاعلات بين ثلاثة مكونات على الأقل؛ الفعل، الجمهور، والقضية. يستمد الرمز رمزيته من فعل يمسّ آخرين لا يعرفونه، ويدعم قضية عامة. يشكل هؤلاء الآخرون القاعدة التي تجعل من الشخص رمزاً. وكلما اتسعت القاعدة البشرية التي ترى الفعل شرعياً كلما تجذرت رمزية الرمز.

ومع اتفاق واسع على مستويات متعددة على أهمية وجود الرمز وصناعته، إلا أن هنالك اختلافات جوهرية في بُنى العلاقات، المعقدة أساساً، مع الرمز. يمكن، مبدئياً، تمييز مظلتين رئيسيتين لبنى العلاقات هذه؛ مقدِّسة وتحررية؛ وسيجري مرور سريع على التباين في طبيعتها، استمرارها، مصالحها، جمهورها، ومآلاتها. من حيث الطبيعة، تتسم الأولى ببنية أبدية بالتعريف يشغل فيها الرمز مكانة تُوجِبُ «الطاعة والاحترام والتنزيه»؛ بينما تنحو الثانية إلى علاقة تحررية إنسانية مع الرمز. تضمن الأولى استمرارها من فوقٍ نخبويٍ لا يتصل بحياة الناس ونضالهم؛ بينما يعتمد استمرار الثانية على استمرار تحقيق الرمز لشرط تحرري يرتبط بالضرورة بعلاقات تحتية، تنبع من حياة الناس ونضالهم. تتشكل حول الأولى ولاية نخبوية وشبكات زبائنية يُصبح فيها الرمز مُمتلَكاً نادراً لحُماته وبوابة دخول إلى شبكات المصالح؛ بينما تتشكل حول الثانية ولاية ديمقراطية للناس على رمزهم مع وجود شبكات تعبوية حول القيمة التي يمثلها الرمز. جمهور البنية الأولى أقرب للخنوع، بينما جمهور البنية الثانية أقرب للندّية. تؤول الأولى عموماً إلى تفريغ القيمة من الرمزية، وإلى استخدام أدوات الضبط القسري والقمع في حال تم تهديد رمزية الرمز؛ بينما تؤول الثانية عموماً إلى صيرورة يكون فيها الحفاظ على اتساق الجمهور مع القيمة موضع الأولوية، وإلى نزع رمزية الرمز في حالات التباعد والتضاد والتنافي بين الرمز والقيمة.

قد يتحول الرمز إلى مصبّ صراع سواءً بين أصحاب القضية ذاتها، أو بين أصحاب القضية وعدوهم. يُهاجَم الرمز من عدة جهات؛ عدو القضية التي يستمدُ الرمزُ منها شرعيته ويهدف ذلك بشكل أساسي إلى نزع الشرعية عن القضية عن طريق اغتيال أيقوناتها؛ أعداء الرمزية، وهو قطاع غير متجانس غالباً لديه مشكلة مع الترميز (ومشكلة أقلّ حدية بطبيعة الحال مع الأَيقنة) لا تتصل بالضرورة بالفعل أو القضية؛ خصومٌ سياسيون يقدمون تموضعهم الداخلي على القضية العامة؛ وفئة أخيرة لديها مشكلة فيما أصبح عليه الرمز، أي أنهم ينزعون الرمزية عن الرمز عقاباً على ما آل إليه ووفاءً للقضية التي جرى ترميزه ضمنها. يرتبط الكلام هنا بالسياق الأخير.

أدافعُ هنا عن علاقة تحررية، تبادلية، ومُؤنسنة مع الرمز، وليس علاقة رجعية سلطوية مجردة؛ عن علاقة فيها من الكرامة والندية ما يكفي لخوض معركة التصويب وكفّ الأذى ورفع الرمزية والنسف. لا تخلو عملية نزع الرمزية ممّا قد يراه البعض نزيفاً معنوياً في الذاكرة والصورة، لكنها معارك واجبٌ خوضها التزاماً بالمبادئ وخلاصاً من التشوه، خاصة حين يتعدى الإنسان-الرمز على القيمة-الرمز، تعدٍ يصبح في أكثر أشكاله تطرفاً معاداة وتناقضاً. وتجب القطعية الجذرية مع الرمز، لا نقده التحرري فقط، إن صار يُمثّل ما كان يحاربه. في هذا السياق تحوز شتيمة ما كان رمزاً، مثلاً، طاقةً تحرريةً إذ إنها تساهم في القطيعة معه؛ هذه القطيعة تمنع الانجرار، مُختلِفَ المستويات، لبنى التواطئ والخنوع وانعدام الضمير.

تُساق جملة من الحجج الواهية للدفاع عن رمزية خالد، وبالمحصلة ضرورة «احترامها» ولو «أخطأت»، من بعضٍ ممّن لا يتفقون مع جملة مواقفها بعد انطلاق الثورة السورية؛ تدعي هذه الحجج اتصالها بالوطن والسردية والتاريخ والفكر، إلا أنها إساءةٌ لكل ما سبق ذكره. بقصد أو بدونه، لا تكاد هذه الحجج في جوهرها أن تتجاوز أدوات ابتزاز واستتباع ومواربة، وإسكات (للآخر وللضمير). هل يدرك هؤلاء أن الخطأ كان في صناعة الصنم قبل أن يكون في دعمه؟ وهل يعرفون أن الصنم إن وقع على الناس قتلهم، وأن أول من يقع عليهم هم من يصلّون له صباح مساء؟

كلمة أخيرة

لم تكتفِ خالد بأن تكون «المتصامم والمتعامي»، ولم تقف صيرورتها عند الرضى بالذل والسكوت عن الحق، على ما يحيل إليه الشاعر السوري ممدوح عدوان في قصيدة «رحلة دون كيشوت الأخيرة». انحازت للكذب على حساب الحقيقة، للمصلحة على حساب القيمة، وللأقوياء على حساب المقهورين، فاستحقت صحبة من طلبت قربهم وعداء من عادتهم.

غرقت ليلى خالد في بحر الدماء البريئة التي داست عليها، وغرقت صورتها في جرائمها. إن كان من سؤال يؤرقني خلال كتابة هذا النص فهو سؤال العدالة. كيف نقتصّ من أمثالها؟ كيف نقيس مجزرة الوعي ومقابر الحقيقة؟ كيف نحاسب من صرف رصيداً نضالياً لمحاربة نضال؟ كيف نحاكم من طعن حاضرنا بتاريخنا وتاريخنا بحاضرنا؟ وكيف حدث كل هذا؟

1.الموسوعة التفاعلية للقضية الفلسطينية (مشروع مشترك بين مؤسسة الدراسات الفلسطينية والمتحف الفلسطيني).

2.المصدر السابق نفسه.

3.المصدر السابق نفسه.

4.محمود درويش. أحمد الزعتر. 1976.

5.صلاح خلف. فلسطيني بلا هوية. دار الجليل للطباعة والنشر. 1996. ص 183.

6.المصدر السابق نفسه. ص 184.

7.Rashid Khalidi. The Asad Regime and the Palestinian Resistance. Arab Studies Quarterly Vol. 6, No. 4. Fall 1984., pp. 259-260.

8.المصدر السابق نفسه. ص 260.

9.وكالة الأنباء والمعلومات الفلسطينية (وفا).

10.المصدر السابق نفسه. ص 260.

11.المصدر السابق نفسه. ص 261.

12.WIGHT, D. M. (2013). Kissinger’s Levantine Dilemma: The Ford Administration and the Syrian Occupation of Lebanon. Diplomatic History, 37(1), 144–177. Pp 145-146.

13.جورج حاوي. المخطط الأميركي-السوري أمام الهزيمة الحتمية. بيروت، الفارابي. 1976. ص 8.

14.انخرط سورا في النضال الفلسطيني، تارة كأستاذ للتاريخ وكباحث في دمشق وبيروت، تارةً كدارسٍ ومترجم لأعمال الشهيد غسان كنفاني، وتارةً في تدريس الفرنسية لأبناء المخيمات في لبنان. راجع ميشيل سورا. سورية الدولة المتوحشة. بيروت، الشبكة العربية للأبحاث والنشر. 2017 (الطبعة الثانية). ص 20.

15.Khaled, L., & Hajjar, J. (1975). My People Shall Live. NC Press, Toronto. (pp. 147-148).

16.المصدر السابق نفسه. ص. 159-160.

17.المصدر السابق نفسه. ص. 161-162.

18.ياسين الحاج صالح. الفظيع وتمثيلاته. بيروت، مؤسسة دار الجديد. 2021. ص. 76.

19.المصدر السابق نفسه. ص. 77-80.

20.محمود سويد. التجربة النضالية الفلسطينية: حوار شامل مع جورج حبش. بيروت، مؤسسة الدراسات الفلسطينية. 1998. ص. 84-85.

21.المصدر السابق نفسه.

22.حسان حسان، فنان مسرحي اعتقلته الدولة الأسدية في تشرين الأول (أكتوبر) 2013 على حاجز سبينة. تأكدت أنباء استشهاده تحت التعذيب بعد أن تم التعرّف عليه في صور قيصر.

23.ًنُشرَ الحوار بعد 10 أيام من خطاب الأسد الثاني الذي بدأ بالحديث عن «مؤامرة» تستهدف «سوريا». في ذات الشهر صدر بيان لمثقفين فلسطينيين لدعم الثورة السورية.

موقع الجمهورية

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى