الناس

علامَ يضحك السوريون؟/ مالك ونوس

إزاء ما يحصل للسوريين وبؤسهم، واليأس الذي أصبحوا عليه، لم يبقَ لهم سوى اجتراح النكتة والضحك العزيز والسخرية من كل ما يمرّ في حياتهم، بعدما فقدوا القدرة على فعل أي شيء يغيّر من واقعهم، أو يُحسِّنه على أقل تقدير. والضحك سبيلهم لدفع الأسى عنهم، بل والموت الذي بات ينتشر في هذه الأيام، ويصيب أصحابه فجأة، لا لسببٍ، سوى ضغوط الحياة وانعدام الأمل الذين يكللهما القهر. والسوريون لا يصدّقون ما يقال لهم عبر الإعلام الرسمي، ولا ما ينطق به هذا المسؤول الوزاري أو ذاك من وعود أو خبريات، بل يضحكون ملء أشداقهم، بعد فترة، حين يلمسون عكس ما بُشِّروا به. هذا الضحك وهذه النكتة وهذه السخرية التي انخفضت نسبتها بعد إقرار قانون “الجريمة المعلوماتية”، ليحلّ محلها الخوف والكمد وزيادة احتمالات انفجار القلوب.

حصل هذا أواسط الشهر الماضي (يونيو/ حزيران)، حين تناقلت وسائل التواصل الاجتماعي تصريحا حمل العبارة التي حفظوها عن ظهر قلب: “إن واقع الكهرباء سيشهد تحسناً ملحوظاً في الأيام المقبلة”، ليفاجأ الجميع بانقطاع تام للتيار الكهربائي عن عموم مناطق سيطرة النظام، بعد خروج كل محطات التوليد عن الخدمة بسبب عطل طرأ على إحدى محطات التحويل، كما قيل. يومها جاءت ردود الأفعال على وسائل التواصل الاجتماعي تقول: “كلما قالوا وصلت ناقلة وقود، أو دخل حقل غاز جديد في الخدمة، تزداد ساعات تقنين الكهرباء”. وينطبق هذا الأمر من الوعود الخُلَّبية على خدماتٍ أخرى، وعلى سلعٍ مفقودة أو أخرى ازداد سعرها، ما يستدعي الضحك، وفي أحيان كثيرة الأسى والأسف.

لقد تحدّدت طريقة عيش السوريين بمحدّداتٍ، من دونها سيفقدون القدرة على العيش، بسبب وجودهم في زجاجة يضيق عنقها ساعة بعد أخرى. منذ سنوات، تحدّدت ساعات التغذية بالكهرباء لمناطق كثيرة بساعة واحدة وصل وخمس ساعات قطع، أي يرى السوريون الكهرباء أربع ساعات فقط كل 24 ساعة، وأحيانا تختصر تلك الساعة، لتصبح ثلاثة أرباع الساعة وأحياناً نصف ساعة. كما تحدّدت حياتهم بأسطوانة غاز مخصصة للعائلة كل شهرين، وهي لا تكفي إلا 20 يوماً، وإذا ما فرغت الأسطوانة، تصبح العائلة بلا طبخ بقية الشهرين، أو تشتري أسطوانة غاز من السوق السوداء بسعرٍ يعادل راتب موظف حكومي شهرا. وتحدّدت أيضاً بثلاثة أرغفة ونصف الرغيف للفرد كل يوم، ما عدا يوم الجمعة ويوم آخر خلال الأسبوع، ليست له مخصّصات من الخبز خلالهما، ولأن الخبز بات طعامه الأساسي ومصدر غذائه الرئيس، فعليه، والحال هذه، ادّخار الخبز لهذين اليومين الأسودين. كما تحدّدت بخمسين ليتراً مازوتاً للتدفئة كل سنة، بينما يحتاج بين أربعمئة وخمسمئة ليتر على الأٌقل، في منطقة يشهد شتاؤها برداً قارساً، وقد يتسبّب بالموت لبعض القاطنين بسبب نقص وسائل التدفئة. ولا نتحدّث هنا عن تخفيض مخصّصات وسائل النقل، الذي انعكس تكدُّساً للركاب فوق بعضهم داخل ما تبقى من وسائل نقل، أو عدم قدرتهم على التنقل للأسباب عينها، فهذا الأمر يحتاج ملفات للبحث فيه.

تجلّت مظاهر السخرية والضحك قبل أيام، حين نقل موقع “البعث ميديا” عن مديرة التخطيط والتعاون الدولي في وزارة الداخلية وحماية المستهلك السورية قولها إن “من ضمن خطط الوزارة لتحسين منتج الخبز ستُدخل مغذيات دقيقة ترفع القيمة الغذائية وتحسّن الواقع الغذائي المبني على أسس ركيزة لرغيف الخبز الذي يشكّل العنصر الأساسي على المائدة السورية”. لا يملك السوريون سوى الضحك بعد هذا التصريح، فهو يثبت ما هو ثابت، أن الرغيف، والذي يكون، في أحيان كثيرة، غير صالح للاستهلاك البشري، قد تحوّل ليصبح الوجبة الأساسية على موائد السوريين، وبذلك تعترف الحكومة أنها عاجزة عن تأمين دخل مناسب للمواطنين، يستطيعون عبره إضافة أي صنف غذائي آخر على موائدهم سوى الخبز. وقد تلقى كثيرون هذا الخبر بريبة، وربما فطنوا إلى أن زيادة في سعر الرغيف سوف تطرأ بالضرورة، من أجل الوفاء بهذا التحسين، خصوصاً أنها أشارت إلى أن “كلفة المشروع تقدّر بالمليارات”، مع كلام سابق ردّد غير مرةٍ أن تكلفة ربطة الخبز المدعوم تساوي أضعاف سعرها. ولا ريب أنه، مع مرور الأيام وبعد زيادة سعر الربطة، ستزال هذه المحسّنات و”المغذّيات الدقيقة”، بينما يُحافَظ على السعر الجديد لمنتج سيئ.

في ظل هذا التغيير، هل سيعود الرغيف ليصبح مصدر قلقٍ للسوريين، ويضاف إلى العجز الذي أصبحوا يعانون منه؟ ربما، خصوصاً أن العجز الذي هم فيه يعد نتيجة عدم قدرتهم على تغيير أحوالهم، وتحسين مستوى معيشتهم بفعل التضخّم الذي طرأ على عملة بلادهم، وأدّى إلى الوصول إلى حد تصفير مداخيل الموظفين والعمال؛ إذ لا يكفي الدخل الشهري لبعض الموظفين لتغطية تكاليف تنقلهم ووصولهم إلى مقرّات أعمالهم، وهذه من سخريات القدر الذي يتلاعب بحيواتهم. طبعاً تضاحك السوريون، وسخروا من خبر تدعيم الخبز بالإضافات والمغذّيات، وتساءل بعضهم إن كانت الإضافات ستكون هي ذاتها المعتادة من صراصير وأعقاب سجائر. وتوقع آخرون (بطبعهم الشكّاك) أن يكون الأمر مجرّد زيادة على سعر الخبز. بينما تساءل آخرون عما إذا كانوا سيتوقفون عن الطبخ ويتناولون الخبز وحده لبقية حياتهم، بعد إضافة هذه المغذّيات. وطبعاً، لم تَفُتْ كثيرين المطالبة بتأمين خبز قابل للاستهلاك البشري قبل كل شيء، وسيكونون بعدها مستعدّين للتنازل عن تلك المغذّيات.

معروف أن بعض السوريين يعتمدون على ما يأتيهم من مساعدات عائلية من أقربائهم في الخارج، وحتى من اللاجئين الذين يقتسمون القليل الذي يستطيعون تحصيله، ويرسلونه إلى أبناء بلدهم، من أقرباء وأصدقاء، وإلا لكانوا قد أصبحوا ضحايا مجاعة محققة. ومن الأقوال (المأثورة) في هذا الأمر، والتي ضجّت بها وسائل التواصل الاجتماعي، وسخر منها السوريون طويلاً، اعتراف مسؤول كبير في حزب البعث بهذه الحقيقة، في إبريل/ نيسان الماضي، حين قال: “لولا النقود المرسلة من السوريين في الخارج كنا تبهدلنا”. ولم تتأخّر السخرية من هذا التصريح، فتساءل بعضهم: “ألهذا السبب ترفعون الأسعار؟ تعتقدون أن جميع أبناء البلد يقبضون بالعملة الصعبة؟”.

ليس علينا أن نستحضر أقوال ابن خلدون أو عالمي النفس سيغموند فرويد وألفرد أدلر عن انتشار السخرية والنكتة والضحك المرّ في زمن الأزمات، ونطبقها على الواقع السوري، لنتبين مدى انطباقها حرفياً، فالواقع السوري يحتاج مقولات أكثر مما قاله ابن خلدون عن الإكثار من “الكلام المُضحك وقت الكوارث”، أو ما حدّده فرويد من أن النكتة “آلية دفاعية للتفريغ والتنفيس عن المكبوتات”، أو ما عرَّف به أدلر السخرية من أنها “خليط من انفعالين، الاشمئزاز والغضب”، للتمكّن من تشريح الحالة السورية. لقد صارت الحالة السورية حالةً فريدةً، وربما ستصبح مقياساً يقاس عليه واقع دول أخرى إذا ما أصيبت بما أصاب سورية، لا سمح الله. لذلك ربما يكون التنعّم بالضحك والسخرية وإطلاق النكتة هو ما أبقى السوريين أحياء، وربما من دون دراية منهم.

العربي الجديد

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى