شعر

مختارات للشاعر ثيسار باييخو

César Vallejo

قصائد من ﺗﺮﺟﻤة أحمد يماني

————————

لم يعد أحد يعيش

– لم يعد أحد يعيش في البيت، تقولين لي؛ رحل الجميع. تستلقي فارغة الصالة وغرفة النوم والفِناء. لم يبق أحد، فالجميع رحلوا.

وأنا أقول لك: عندما يذهب واحد، يبقى آخر. النقطة التي عبر منها إنسان، لم تعد وحيدة.

فقط يبقى وحيداً، وحدة إنسانية، المكان الذي لم يعبر منه أحد. البيوت الجديدة أكثر موتاً من القديمة، لأن جدرانها من حجارة أو من فولاذ، لكنها ليست من بشر.

يولد البيت في العالم ليس عند الانتهاء من تشييده، بل عندما يبدأون بالعيش فيه. البيت يعتاش فقط على البشر، كالمقبرة. فقط يتغذى البيت على حياة البشر بينما المقبرة تتغذى على موتهم. لهذا فإن البيت يكون قائماً بينما المقبرة تكون منبسطة.

رحل الجميع عن المنزل، في الواقع، لكن الجميع بقوا حقيقة. وليست ذكراهم هي ما تبقى بل هم أنفسهم. وليس كذلك أنهم بقوا في البيت بل إنهم يواصلون عبر البيت. الوظائف والأعمال ترحل عن البيت في قطار أو طائرة أو على ظهر حصان، على الأقدام أو زحفاً. ما يواصل في البيت هو العضو، الشخص في صيغة الفاعل والدائرة. مضت الخطوات والقبلات والغفران والجرائم. ما يظل في البيت القدم والشفاه والعيون والقلب. النفي والتأكيد، الخير والشر، تفرقت مشتتة. من يظل في البيت هو فاعل الحدث.

————————

عنف الساعات

مات الجميع.

ماتت دونيا أنطونيا، بصوتها الأجش، من كانت تصنع خبزاً رخيصاً

في البلدة.

مات القس سانتياغو،

من كانت تمتّعه تحية الشبان والبنات له،

مجيباً على الجميع، دون تمييز:

««صباح الخير يا خوسيه، صباح الخير يا ماريّا!

ماتت تلك الشابة الشقراء، كارلوتا،

تاركة وراءها طفلاً له شهور،

مات كذلك، بعد ثمانية أيام من موت أمه.

ماتت عمتي ألبينا،

من اعتادت على التغني بأيام وعادات المزرعة،

ريثما كانت تحيك في الممرات من أجل إيسيدورا،

الخادمة المحترفة والمرأة بالغة الاستقامة.

مات عجوز أعور، لا أذكر اسمه،

لكنه كان يغفو تحت شمس الصباح،

جالسا أمام باب السمكري على الناصية.

مات رايو،

الكلب الذي كان في طولي، بطلقة رصاص لا أحد يعرف من أطلقها.

مات لوكاس، صهري في سلام الخصور، من أتذكره حينما تمطر وليس ثمة أحد في تجربتي.

ماتت أمي بمسدسي، أختي بقبضة يدي وأخي في أحشائي النازفة، الثلاثة مشدودون لنوع حزين من الحزن، في شهر أغسطس من سنوات متعاقبة.

مات الموسيقار مينديث، الطويل والثمل تماماً، من كان يعزف على الكلارينيت أنغاما سوداوية، على ألحانه كانت تنام دجاحات حيّناً، قبل أن تغيب الشمس بكثير.

ماتت أبديتي وها أنا ساهر على جثمانها.

———————-

النُّذر السود

ثمة ضربات في الحياة، جد قوية. أنا لا أعرف!

ضربات كبغضاء الربّ؛ كما لو أن أمامها،

تترسب راكدةً في الروح

مرارةُ كل المعاناة. أنا لا أعرف!

إنها ضربات قليلة، لكنها ضربات

تشق أخاديد قاتمة

في أكثر الوجوه توحشا

وأكثر الظهور صلابة.

قد تكون أحصنة البرابرة الأتيليين(1)

أو النذر السود يرسلها لنا الموت.

هي السقوط العميق لمُسَحاء الروح،

لإيمان مستحَق يكفره القدر.

تلك الضربات الدامية هي طقطقة الخبز

الذي يحترق منّا

على باب الفرن.

والإنسان بائس، بائس!

يلتفت بعينيه، مثلما يحدث حين ينادي علينا أحدهم

مربّتاً على الكتف؛

يلتفت بعينين مجنونتين،

وكل ما عاشه يركد، مثل بركة صغيرة من الخطيئة،

في نظرته.

ثمة ضربات في الحياة، جد قوية. أنا لا أعرف!.

(1) نسبة إلى الملك أتيلا الهوني آخر ملوك الهون أجداد الأتراك في القرن الخامس

————————-

سوف أتحدث عن الأمل

أنا لا أعاني هذا الألم كثيسار باييخو. أنا لا أتوجع الآن كفنان، ولا كإنسان، ولا حتى كمجرد كائن حي. أنا لا أعاني هذا الألم ككاثوليكي ولا كمحمدي ولا كملحد. اليوم أعاني فقط. إذا لم تنادني باسم ثيسار باييخو فسوف أعاني أيضاً الألم نفسه. لو لم أكن إنساناً أو حتى كائناً حياً، فسوف أعانيه أيضاً. إذا لم أكن كاثوليكياً ولا ملحداً ولا محمدياً فسوف أعانيه كذلك. اليوم أعاني من الأسفل. اليوم أعاني فقط.

أتوجع الآن بلا تفسير. إن ألمي من العمق بحيث أنه لا سبب له كما أنه لا يفتقر إلى السبب.

أي سبب يا ترى؟ أين ذلك الأمر بالغ الأهمية والذي لم يعدّ سبباً له؟ لا شيء سبب له ولا شيء تمكن من ألا يُعدّ سبباً له. لماذا ولد هذا الألم، أمن أجل نفسه؟ إن ألمي من ريح الشمال ومن ريح الجنوب، كذلك البيض الحيادي الذي تضعه بعض الطيور الغريبة في الريح. لو ماتت حبيبتي فإن ألمي سيكون نفسه. لو قطعوا رقبتي من جذورها فإن ألمي سيكون نفسه. لو أن الحياة كانت، في نهاية الأمر، بخلاف ذلك فإن ألمي سيكون نفسه. اليوم أعاني من الأعلى. اليوم أعاني فقط.

أرى ألم الجائع وأفكر أن جوعه يمضي أبعد من معاناتي، وأن ببقائي صائماً حتى الموت فإن غريسة من العشب، على الأقل، ستطلع دوماً من مقبرتي. الشيء نفسه مع العاشق. يا لدمه الولاّد، على نقيض دمي الذي بلا منبع أو استخدام! ظننت حتى هذه اللحظة أن كل أشياء العالم كانت، بالضرورة، آباء أو أبناء. لكنني هنا وألمي في هذا اليوم ليس أباً أو ابناً. ينقصه ظَهر كي يغرب بقدر ما يفيض عنه صدر كي يشرق ولو وضعوه في المسافة المظلمة لما أنار ولو وضعوه في المسافة المنيرة لما ألقى ظلا. اليوم أعاني، مهما حدث. اليوم أعاني فقط.

——————–

تريلثي

(مقطع من القصيدة)

III

الأشخاص الكبار

في أية ساعة يعودون؟

يدق سانتياغو الأعمى الساعة السادسة

وها هي قد أظلمت تماماً.

قالت أمي إنها لن تتأخر.

غيديتا، ناتيبا، ميغيل،

حذار من الذهاب إلى هناك، حيث

مرت لتوها مغمغمةً ذكرياتها

أحزانٌ متضاعفة

إلى الحظيرة الهادئة، وحيث

الدجاجات التي فزعت كثيراً

لا تزال تغفو.

الأفضل أن نبقى هنا لا غير.

قالت أمي إنها لن تتأخر.

هيا لنبتعد عن الألم. لنرى

المراكب، مركبي هو الأجمل بين الجميع!

نلعب بها طوال النهار بأكمله،

دون أن نتعارك، كما يجب أن يحدث؛

لقد بقيت في بئر الماء، جاهزة،

محملة بالحلوى من أجل الغد.

لننتظر هكذا، طائعين،

دون حل آخر،

عودة الكبار وترضيتهم

هم من في المقدمة دائما

تاركينا نحن الصغار في البيت

كما لو أننا أيضاً

لا يمكننا الذهاب.

أغيديتا، ناتيبا، ميغيل،

إنني أنادي، أتحسس في الظلام.

لا تتركوني وحدي،

وأكون أنا الحبيس الوحيد.

———————–

بابل

بيت وديع بلا خصوصية،

شُيّد بضربة واحدة

وبقطعة واحدة

من شمع متموج الألوان.

وفي البيت

هي تهدّ وتبني؛

وأحيانا تقول:

«المأوى جميل؛ هنا وحسب»

وأحيانا تأخذ في البكاء!

——————

الشاعر لحبيبته

حبيبتي، في هذه الليلة

أنت صلبت نفسك

على خشبتي قُبْلتي المقوستين؛

وقال لي حزنك إن المسيح بكى،

وإن ثمة جمعة حزينة أحلى من هذه القبلة.

في هذه الليلة الصافية التي طالما

نظرت فيها إليّ،

كان الموت مرحاً وغَنّى في عظامه.

في هذه الليلة من سبتمبر

أُقيمَ قداس سقطتي الثانية

والقبلة الأكثر إنسانية.

حبيبتي، سنموت معاً، معا تماماً؛

وسوف تأخذ في الجفاف

شيئاً فشيئاً

مرارتنا السامية؛

وسوف تكون شفاهنا الميتة

قد لامست الظل.

ولن يكون ثمة عتاب في عينيك المباركتين؛

ولن أعود إلى الإساءة إليك.

وفي أحد القبور سننام معاً

مثل شقيقين صغيرين.

================

قصائد من ترجمة صالح علماني

الخطوات النائية

أبي ينامُ وجهُه الجليل

يرسمُ قلبًا وديعًا:

إنه شديد العذوبة الآن…

وإذا ما كان فيه شيءٌ من المرارة… فإنها أنا.

إنه وحده في المنزل؛ يصلي:

وليس من أخبار عن الأبناء اليوم.

أبي يستيقظ يُصيخ السَمعَ منصتًا إلىّ.

الهروب إلى مصر الوداعُ المدوي.

إنه قريبٌ الآن جدًا:

وإذا ما كان فيه شيءٌ بعيد.. فإنه أنا.

أمي تتمشى هناك في البُستان

متذوقة مذاقًا لم يعد له مذاق.

إنها الآن عذبةٌ جدًا،

إنها جناحٌ، خروجٌ، حبٌ.

ثمةَ وحشةٌ في المنزلِ الذي بلا ضجيج.

بلا أخبارٍ بلا اخضرارٍ بلا طفولةٍ.

وإذا ما كانَ ثمةَ شيءٌ مكسورٌ في هذا المساء.

ينحدرُ ويئن.

فإنَّهما دربان أبيضان هرمان.. مُنحنيان.

من أجلهما يمضي قلبي ماشيًا على قدميه.

————————–

زلزال

قُبَالةَ مَسْرحِ الكوميديا الفَرنسية ، هُناك مقهى

ريجنت; وفيهِ حُجرة

عَميقة، فيها أريكَةٌ وطاولة.

عندَما أدخلُ ينهضُ الغُبارُ ويقِفُ على قَدَمين.

بينَ شَفتيَّ المصْنوعتين منْ مطَّاط،

تُطلقُ جذوةُ اللُفافَةِ دُخاناً، وفي الدُّخان

يُرى دُخانانِ مٌكثَّفان..

إنه القَفَص الصدريُّ للمَقهى،

وفي القَفَصِ الصَّدريِّ، صدأ حُزنٍ عَميق.

لا بدَّ للخَريفِ أن يَترَصَّعَ بأكثر من خَريف،

لا بد للخَريفِ من أن يكْتَملَ بالبَراعِم،

كما الغَيْمةُ بأَنصافِ السَّنوات; والتَّجْعيدةُ بالوَجنات.

لا بدَّ من رائحةِ جُنون

يا لَسُخونة الثَّلج، يا لَسُرعة السُّلْحفاة،

كمْ هيَ بسيطةٌ “كيفَ”، وكمْ هي صاعِقةٌ “متى” !

———————

رجل يمر حاملاً رغيف خبز على كتفه

رجل يمرُّ حاملاً رَغيفَ خُبزٍ على كَتِفِه

فهلْ سأكتبُ بعد ذلك عن صنوي ؟

آخرُ يجلسُ، يحكُ، ويُخرج قملةً من إبطه.. يقتلُها

فما قيمةُ الحديثِ عن التَحليلِ النَّفسي ؟

آخر ُيقتحمُ صَدريَ وفي يدِه عصا

فَهل يمكنُ التحدثُ بعدَ ذلكَ عن سُقراط إلى الطَّبيب ؟

أعرجُ يمرُّ مادّاً ذراعَه إلى طِفْل

فهلْ سأقرأ بعدَ ذلك أندريه بريتون ؟

آخرُ يرتعشُ من البَرد، يَسعلُ، يبصُقُ دَماً

فهلْ يُجدي التَّلميحُ إلى الأنا العَميق ؟

آخرُ يبحثُ في الوَحلِ عن عِظام وقُشور

فكيفَ نكتبُ بعد ذَلك عن اللاّنهَاية ؟

بنَّاءٌ يَسقطُ من أعلى سَطحٍ، ويموتُ دونَ تناولِ الغداء

هل سنبتكرُ بعد ذلك الاستعارة والمجاز ؟

تاجرٌ يختلسُ غراماً وهو يكيلُ للزبون

أيمكنُ التحدُّث بعدَ ذلكَ عن البُعدِ الرَّابع ؟

مصرفيّ يُزوِّر ميزانيتَه

فبأيِّ وجهٍ يمكنُ البُكاء في المَسْرح ؟

منبوذٌ ينامُ وقدمُه على ظهرِه

أيمكنُ التحدثُ بعد ذلكَ عن بيكاسو إلى أَحد ؟

أحدُهم يَمضى مُنتحِباً في جنازة

كيفَ يمكنُ الالتحاقُ بعدئذٍ بالأكاديمية ؟

أحدُهم ينظِّفُ بندقيةً في مطْبخهِ

ما قيمةُ الحديثِ عن الغَيب ؟

أحدُهم يمرُّ حاسباً على أصابعه

فكيفَ يمكُنُ التحدثُ عن اللاّ – أنا دونَ صُراخ ؟

———————

في نهايةِ المعركةِ

بعدَ أن ماتَ المقاتلُ، جاءَهُ رجلٌ

قال لهُ: “لا تمتْ؛ لقد أحببتُك جداً!”

لكنَّ الجثَّةَ ــ آه ــ واصلتْ موتَها.

دنا منهُ اثنان وكرَّرا:

«لا تَتْرُكْنا أيها الجَسوُر! عُدْ إلى الحياة!»

لكنَّ الجثَّةَ ــ آه ــ واصلتْ موتَها.

هُرِعَ إليه عشرونَ.. مئةُ ألفٍ.. خَمْسُمِئةِ ألفٍ

هاتفين: “أليس لكلِّ هذا الحُبِّ قدرةٌ على الموت!”

لكنّ الجثَّةَ ــ آه ــ واصلتْ موتَها.

أحاطَ به ملايينُ البشر،

بتوسُّل مُشترك: “ابقَ مَعَنا أيُّها الأخ!”

لكنَّ الجثّةَ ــ آه ــ واصلتْ موتَها.

عندئذٍ جاءَ أهلُ الأرضِ قاطبةً

وأحاطوا بهِ؛ رآهم الميتُ الحزينُ بتأثر؛

فانتصبَ ببطءٍ،

وعانق أولَ واحدٍ منهم؛ وانطلقَ سائراً.. (*)

* يقول باييخو في الصفحة 69 من مؤلفه النقدي «ضد سر المهنة» ما يلي: “إذا ما اجتمعت رحمة البشر أجمعين وإشفاقهم في لحظة موت أحدهم لمنعه من الموت، فإن هذا الإنسان لن يموت”.

————————-

===============

قصائد من ترجمة تحسين الخطيب

الغائبة

يا الغائبة! في الصّباحِ حينَ أذهبُ

أبعدَ مِنَ الأبعدِ، إلى السّرِّ،

كأنّني أتبعُ دربًا لا مفرَّ عنهُ،

ستنزلقُ قدماكِ إلى المقبرة.

يا الغائبة! في الصّباحِ حينَ كطائرٍ هائلٍ

أذهبُ إلى شاطئِ بحرِ الظّلالِ

والإمبراطوريّةِ الصّامتةِ،

ستكونينَ أسيرةً في معبدِ الآلهةِ الأبيض.

سيكونُ ثمّةَ ليلٌ في نظراتكِ؛

ولسوفَ تُقاسينَ، وتنالينَ

تهتّكاتِ ندمٍ بيضاء.

يا الغائبة! في عذاباتكِ

قطيعٌ بريٌّ مِن ندمٍ وحسَراتٍ

سوفَ يمرُّ مسرعًا ببكاءٍ برونزيّ.

———————–

فتيل أبيض

صمتٌ. لقد أرخى ليلُهَا سُدُولَهُ،

والشّمسُ غاصتْ خلفَ المقبرةِ؛

ثمّةَ بكاءٌ، هُنَا، كأنّه مِن ألفِ عامٍ:

لا تَعُدْ؛ قد ماتَ قلبيْ.

صمتٌ. كلُّ شيءٍ، هُنَا، مُدثَّرٌ

بحزنٍ شديدٍ؛ والشّغفُ يفرقعُ،

مثلَ كازٍ رديءٍ، وشاحبًا يحترقُ.

سيأتي الرّبيعُ. ستغنّينَ “حوّاء”

مِن برهةٍ أفقيّةٍ، مِن

حلقةِ غازٍ سيلمعُ فوقَها مِسْكُ إيروس.

اِصهري في تلكَ النّارِ غفرانَكِ للشّاعرِ وشكّليهِ،

ولسوفَ يعذّبني،

كالمسمارِ الذي يغلقُ الكفنَ!

بَيْدَ أنَّ . . ليلًا مِن غنائيّةٍ، ستجلدُ

صدرَكِ الرّقيقَ، وبحرَكِ الأحمرَ

أمواجٌ عمرها خمسةَ عشرَ عامًا

حينَ ترى في المسافةِ، وقد أثقلَتْها الذّكرياتُ،

سفينَتي الغازيةَ، وعُقوقي.

ثُمَّ، بعد ذلك، سيموتُ

بستانُكِ، وشفتُكِ التي نلتُها

وسحقتُها لآخرِ مرّةٍ،

مضرّجةً بالدّماء مِن كثرةِ الحُبِّ،

كصورة وثنيّةٍ للمسيحِ.

يا الحبيبة! ستُغنّين؛

وكلُّ ما هُو أنثويٌّ سوفَ يهتزُّ في روحي،

كأنّه في كاتدرائيّةِ حِدادٍ معتمة.

————————–

مطر

في ليما . . إنّها في ليما تمطرُ

المياهَ الآسنةَ

لحُزنٍ مُميتٍ. إنّها تمطرُ،

تدلفُ عبرَ شقوقِ حُبّكِ.

لا تتظاهري بالنّومِ، تذكّري

شاعرَكِ الجوّالَ؛

فأنا أفهمُ الآنَ . . أفهمُ

معادلةَ حُبّكِ الإنسانيّةَ.

جوهرةٌ مُغريةٌ وغدّارةٌ

تدمدمُ في حنجرةِ النّايِ الصّوفيّةِ،

في سحرِ “نَعَمِكِ”.

ولكنّها تنهمرُ. تنهمرُ

على كفنِ طريقي،

حيثُ لا سوى عظامٍ يتركُ الحُبُّ.

———————–

وحدانيّة

تلهثُ في هذا اللّيلِ البهيمِ ساعتي

قُربَ فَوْدِيَ المُظلَّلِ، كقُرصِ الرّصاصِ

الذي يدورُ في المسدّسِ

على الرّغمِ من أنّ الزّنادَ لا يعثرُ على الرّصاصةِ.

القمرُ الأبيضُ، السّاكنُ، ذو العينِ الرّقراقةِ،

عينٌ مصوّبةٌ . . وأشعرُ

كيفَ يُسَكُّ السرُّ الأعظمُ في

فكرةٍ عدائيةٍ، بيضويّةٍ، في رصاصةٍ حمراءَ برّاقةٍ.

آهٍ، أيّتها اليدُ التي تُقيّدُ، التي تتوعّدُ،

خلفَ كلِّ بابٍ، والتي تتنفّسُ

في جميعِ السّاعاتِ، تذعنُ فتمرُّ!

فوقَ العنكبوتِ الرّماديّةِ لهيكلكِ العظميِّ،

يدُ نُوْرٍ عظيمةٌ أخرى تحمل

رصاصةً في شكلِ قلبٍ أزرق.

———————-

حبيبتي

لم تَعُدْ تأتينَ، يا حبيبةُ، إلى عينيَّ الميّتتَيْنِ؛

وكيفَ أنّ قلبيَ المثاليَّ يبكي عليكِ.

كؤوسي كلّها فارغةٌ، تنتظرُ

قرابينكِ الخريفيّةَ وأنبذتكِ الفجريّةَ.

يا حبيبةُ، يا الصّليبَ الإلهيَّ، اِرْوِ صحاريَّ

بدمكِ النجميِّ الذي يحلمُ وينتحبُ.

لم تَعُدْ تأتينَ، يا حبيبةُ، إلى عينيَّ الميّتتَيْنِ

الخائفتَينِ التّائقتَيْنِ إلى مرثيّةِ فجركِ!

أنا لا أحبُّكِ حينَ تبتعدينَ يا حبيبةُ

وتُمنحينَ كباخوسيّةٍ مُخضّبةٍ يستبدُّ بها الفرحُ

أو كامرأةٍ واهنةٍ شمّاءَ.

فتعالَي، يا حبيبةُ، بلا جسدٍ، كدمِ إلهةٍ أولمپيّةٍ،

حتّى أستطيعَ، على شاكلةِ اللهِ، أن أكونَ رجلًا

يُحبُّ ويُنجِبُ بلا لذّةٍ شهوانيّةٍ!

——————–

===================

وُلدتُ يومَ كان الله مريضًا

وُلدتُ ذات يومٍ

حيث كان الله مريضًا.

جميعهم يعرفون أنني أحيا،

وأنني سيىءٌ شرير: لكنهم لا يعرفون شيئًا

عن كانونِ أولِ كانونِ الثاني هذا.

فأنا وُلدتُ

يومَ كان اللهُ مريضًا.

ثمة فراغٌ

في هيئتي التجريديّة

لن يشعُرَ به أحد:

دَيرُ صمتٍ

بالنار تكلَّم.

اسمع يا أخي، اسمع…

حسنًا، لن أرحلَ

دون أن أحمل معي كوانين الأولى

وأترك كوانين الثانية.

فأنا وُلِدتُ

يومَ كان اللّهُ مريضًا.

جميعهم يعرفون أنني أحيا،

أنني أمضغُ… لكنهم لا يعرفون

لماذا تَصِرُّ في أشعاري،

خيبة جنائزية مظلمة،

ورياحٌ فُصلت

عن أبي هول الصحراء

الذي لا يكتم سرًا.

جميعهم يعرفون… ولا يعرفون

أن الضوءَ مسلولٌ،

والظلَّ سمينٌ…

لكنهم لا يعرفون أن الغموضَ يُوَلِّف…

أنه الحَدبة

الموسيقية الحزينة التي تعلنُ من بعيد

مرورَ خطّ الهاجرة من التخوم إلى التخوم.

وُلدتُ ذات يومٍ

حيث كان الله مريضًا

على نحوٍ خطِر.

ﺗﺮﺟﻤة أسامة أسعد

—————————

حجر أسود فوق حجر أبيض

سأموت في باريس أثناء عاصفة مطرية،

في يوم أتذكره مسبقاً،

سأموت في باريس – ولن أحجم عن ذلك –

ربما في يوم خميس خريفي،

مثل هذا اليوم.

سيكون يوم خميس،

لأن اليوم هو الخميس،

حيث أنظم هذه الأبيات،

والتي حملتها على كتفي بمزاج معكر،

واليوم كما لم يحدث من قبل، انعطفت،

وعدت من الطريق الطويل الذي قطعته،

لأرى نفسي لوحدي.

مات ثيسار باييخو؛

لا زالوا يقرعونه بها

جميعهم، مع أنه لم يفعل لهم شيئا،

قرعوه بشدة بالهراوة والحبل أيضاً؛

الشهود على ذلك كانوا: أيام الخميس وعظام الأكتاف،

العزلة، العاصفة المطرية، والطريق الطويل.

ﺗﺮﺟﻤة حسن حسن

———————–

الثقة بالنظارة، لا بالعين

الثقة بالنظارة، لا بالعين؛

بالسُلّم، وليس أبداً بالخطوة

بالجناح، لا بالطائر

وبنفسك فقط،

بنفسك فقط،

بنفسك فقط.

الثقة بالشَرّ، لا بالشرير؛

بالكأس، لكن ليس أبداً بالخمر؛

بالجثة، لا بالرجل

وبنفسك فقط،

بنفسك فقط،

بنفسك فقط.

الثقة بالكثيرين، لا بواحدٍ

بحوض النهر، وليس أبداً بالتيّار؛

بالسروال، لا بالرِجلين؛

وبنفسك فقط،

بنفسك فقط،

بنفسك فقط.

الثقة بالنافذة، لا بالباب؛

بالأمّ، لكن ليس بالأشهر التسعة؛

بالمصير، لا بالطلاء الذهبي؛

وبنفسك فقط،

بنفسك فقط،

بنفسك فقط.

ﺗﺮﺟمة نزار سرطاوي

———————

ولد باييخو في سانتياغو دي تشوكو (البيرو) عام 1892 وتوفي في باريس عام 1938. كان الأصغر بين إخوته الأحد عشر. فكرت عائلته أن توجهه ناحية السلك الكهنوتي، وقد يفسر هذا الحضور الوافر في شعره للمفردات الإنجيلية والدينية وانهمامه بمعالجة مسألة الحياة والموت والتي تحمل بلا شك خلفية دينية عميقة. بدأ عام 1915 دراسة الفلسفة والآداب في «جامعة تروخيّو»، ودراسة القانون في «جامعة سان ماركوسل» في العاصمة ليما، لكنه هجر الدراسة كي يعمل في التدريس. نشر كتابه الشعري الأول «النّذر السود» عام 1918، وتُرى فيه بوضوح التأثيرات الحداثية وخاصة تأثير خوليو إيريرا وروبين داريّو وليبولدو لوغونيس، على أن الكتاب كان أيضاً أساساً لما سيكون عليه شعره بعد ذلك. في عام 1920 تم اتهامه ظلماً بالسرقة وإشعال الحرائق خلال الانتفاضة الشعبية البيروفية، وحكم عليه بالسجن لمدة ثلاثة شهور، وهناك كَتب جزءاً من كتابه الثاني «تريلثي» والذي نشر عام 1922. انتقل إلى باريس عام 1923 وهناك تعرف إلى الشاعر التشيلي الكبير بيثنتي ويدوبرو، وعلى الرسّام والنّحات الإسباني الشهير خوان غريس، وعمل بالصحافة كما أنشأ مجلة أدبية. زار موسكو مرات عدة أعوام 1928 و1929 و1931 وهناك التقى ماياكوفسكي. سافر إلى إسبانيا حيث ظهرت الطبعة الثانية من «تريلثي» واستقر في مدريد لمدة قليلة ونشر روايته الاجتماعية «التنجستن» (عنصر كيميائي يستخدم في صناعة الأسلاك المتوهجة) عام 1931. انضم للحزب الشيوعي الإسباني وعاد إلى باريس حيث عاش في الخفاء. وعندما اندلعت الحرب الأهلية الإسبانية قام بتجميع الأموال في باريس من أجل الجمهوريين، ومات قبل نهاية الحرب في أشد الظروف معاناة وصعوبة. بعد وفاته، قامت زوجته الكاتبة الفرنسية جورجيت باييخو بتجميع قصائده، وقد لعبت دوراً في منتهى الأهمية في الحفاظ على تراث باييخو ونشر كتابه «قصائد إنسانية» بعد وفاته عام 1939 ثم كتابه الشعري الآخر «إسبانيا، أبعدي هذه الكأس عني» عام 1940. بقي أن نشير إلى معنى كلمة «تريلثي»، عنوان الديوان الثاني للشاعر، وفي الحقيقة ثمة نظريات عدة تتناول الأمر، ولعل أقربها التأويل القائل إن الكلمة تتألف من كلمتين هما Triste بمعنى حزين وDulce بمعنى عذب، على أن باييخو نفسه يقول في إحدى المقابلات معه إن الكلمة لا تعني شيئاً، لقد أراد وضع عنوان مناسب لكتابه ولما لم يجد أي عنوان ملائم قام باختراع هذه الكلمة. المصدر: أحمد يماني

تريلثي وقصائد أخرى

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى