نصوص

المضحّي بصوته من أجل الصمت/ جولان حاجي

    يعلم قرّاء القرآن أنّ “كل شيء أحصيناه في كتاب مبين”. لعلّ الرهبان هم الذين ابتكروا مفهوم الصفحات في العصور الحديثة، حين تصوّروا دفّتي الكتاب، أو جِلدتيه بالأحرى، كما يتخيّل المختنقُ رئتين نقيتين أو نافذةً مفتوحة. لعلهم آمنوا بأنّ الروح طائر غريب في هذا العالم، يصفّر في الضباب ويدلّهم عبر المجهول.

بضعة أشياء يتوجّب عليّ القيام بها قبل أن أموت

أولاً، هناك أشياء في منتهى السهولة، أستطيع القيام بها ابتداء من هذا اليوم، مثل ركوب زورق في نهر السين

ثم هناك أشياء أهمّ بقليل، تتطلّب قراراً، وأقول لنفسي إني إذا ما قمتُ بها فقد تتيسّر حياتي أكثر، مثل اتّخاذ قرار برمي عدد معين من الأشياء التي أحتفظ بها دون أن أعرف سبب احتفاظي بها

ثم هناك أشياء تتعلق برغبة أعمق في التغيير، مثل اللباس بطريقة مختلفة كلياً، أو العيش في فندق (في باريس)، أو العيش في الريف

ثم هناك أشياء تتعلق بأحلام الزمان والمكان، وهي قليلة، مثل العبور من النقطة التي يتقاطع فيها خط الاستواء مع خطّ غرينيتش، أو ركوب الجمل من المغرب إلى تمبكتو في 52 يوماً

(…)

إلخ. إلخ.

هناك أشياء أخرى كثيرة بالتأكيد.

يسعدني التوقف عند الرقم 37.

مقتطفات من قراءة إذاعية لجورج بيريك، 1981

مترجم الضباب

جورج بيريك، يتيم باريس المهووس باللغة، مصمّم شبكات الكلمات المتقاطعة وموظف الأرشيف في مختبر للبحوث الطبية، حاول أن يشيد مبنى بالكلمات، شاهقاً ومتواضعاً في آن، أركانه الصفاء والدقّة والدأب على التدوين. كان مسكوناً بالأدب والرياضيات. لاذ بالفهرسة وترتيب القوائم، قدّام اليأس وفوضى العالم وقسوتهما. حيلة أخرى من حيل الحزانى، الدقيقين المرهفين مثله في الكتابة، هي الانتباه إلى ما تحتويه اللحظات العابرة. عارض بيريك، في كتابه “أتذكّر”، كتاب “أتذكّر” للرسام الأمريكي جو براينارد، ثم عُورضت معارضة بيريك في “أتذكّر إني أتذكّر”، وهلمّ جرّا. لا نهاية لأيّ ذكرى. ما من مكانٍ آخر كالكتاب حوى مِزق الذكريات. مثل ذاك التذكر الوجيز، المرح والدقيق، المشتّت والمنضبط في آن واحد، حاجة من حاجات النفس إلى اللطف والصدق، وربما مواجهة رقيقة لهول الغياب، أو نقضٌ للبراعة والصنعة في الأدب، وسخرية الإنسان من جلالة الكمال

يُنصح المشتّتون، في عصر العبث الإلكتروني، بوجوب العمل على تقوية الذاكرة، بطرق بسيطة ما أمكن. برغم ما يعتور مفردة البساطة من غموض وسأم، وبرغم النبرة السمجة لهذا النصح، وخصوصاً المفردتان “وجوب” و”تقوية”، يطبّق اليائسون توصيات عجائبية أحياناً، فيلجؤون إلى تفعيل أدمغتهم بمنشّطات شتّى من قبيل ركوب الدراجة، أو تمارين الحساب في دروس الموسيقا، أو التأملات في جلسات اليوغا. قد يحسدون المدجّجين بقوة الذاكرة، أولئك الذين لا يكادون ينسون شيئاً- من أرقام الهواتف وعناوين الأغاني وأفلام السينما إلى كلمات السر في حساباتهم الإلكترونية العديدة.

ليس التذكر ضرورة تاريخية ولا مسعى إلى شفاء أو خلاص، حتى لو كان الخلاص الوحيد الذي يمكنني التفكير به أحياناً. أفكّر بالمخلّصين والمخلّصات، فتنهار الفكرة أو يخبو ألقها، إذْ أسترجع مصائرهم وأتخيّل وجوههم التي تخيّلها الأقدمون في الجداريات والمخطوطات، فيمتزج الحزن على إسراع الوقت بالخوف من الموت- كم من بني آدم حسد المسيح، أو بوذا، أو تبريزا الأفيلية، أو ذا الكفل على مصائرهم، لا على خلودهم؟

تسعى الكتابة إلى الاصطدام بمخاوف صغيرة، قديمة وغامضة، بمباهج ولذّات، نائمة أو منسية. التذكّر حضورٌ مفتوح في قلب الحاضر، دخول إلى أحلام اليقظة. العقل شرطيّ يلوّح بالهراوة لينظّم السير بين الصور والأصوات والكلمات، ويقبل الرشاوى. صفّارته السليطة تُجفِل المشاة الشاردين الذين لا مهرب لهم من العراقيل: تعطف خطواتهم حفرياتٌ لا تنتهي للأرصفة والشوارع، تعثّرهم جذورُ أشجار عملاقة، زقاق مسدود يغيّر وجهتهم، أو منزل اختفى من الخارطة…   

الفنّ يحوّل الذاكرة إلى شكل من الحلم. ذاكرة مَن يكتب أو يرسم تخلق وجوداً آخر في قلب الوجود. استعادة الماضي خلق واختلاق. الكاتب عتّال الكلمات، ينقلها من صمت إلى صمت. ستشلّ خطوته، ولن يكمل أي طريق، لو فكّر بجدوى الكلمة أو معناها. جنون الحلم أرحم من جنون العقل، ولهذا يفكّر كمَن يتذكر حلماً ناقصاً، جرى في يقظته أو منامه، مادته الخام موجودة داخل جسده، في العتمة والغبش، ثم يحاول أن يقصّ بمجزّات اللغة جزء ضئيلاً من هذا الضباب الكبير، ويجمّده داخل ما يستطيع من أشكال، منتحلاً هذا الشكل من ذاته أو من العالم. (كانت قوانين الإغريق، المكتوبة على لفافات من جلود الحيوانات، تصاغ منظومة مقفّاة، ولعلّ المشرعين الأوائل في طفولة اللغات كانوا كالأطفال، منقادين إلى القوافي والمقارنات). وأخيراً، يضيف الوعي أو اللاوعي إلى كلّ هذا النقصان، أو كلّ هذا التزييف، بعض الزوائد والكماليات. قد تنتهي العملية، بضربة حظ شديدة الندرة، إلى جمالٍ يشرح صدور الوحيدين والسجناء، أو يُبكيهم أو يفجّر ضحكاتهم، وقد تُنقل الحصيلة إلى صفحة شاشة أو صفحة كتاب.

يعلم قرّاء القرآن أنّ “كل شيء أحصيناه في كتاب مبين”. لعلّ الرهبان هم الذين ابتكروا مفهوم الصفحات في العصور الحديثة، حين تصوّروا دفّتي الكتاب، أو جِلدتيه بالأحرى، كما يتخيّل المختنقُ رئتين نقيتين أو نافذةً مفتوحة. لعلهم آمنوا بأنّ الروح طائر غريب في هذا العالم، يصفّر في الضباب ويدلّهم عبر المجهول.

حمَلَة الظلال

الكارثة تحطّم الزمن، فتغيّر الماضي وتخلقه من جديد.

خسر السوريون المكان. كوفئوا على هذا الخسران المبين بحريةٍ حزينة في شتات منافيهم ومناجيهم. حقنتهم هذه الحرية بأوهام جديدة تغيّرت معها معاني الإهانة والطموحات. كافحوا في بلاد الآخرين، انزووا واحتجّوا واعتصموا وأضربوا عن الطعام، وتباهوا بالمأساة وتباغضوا وتفرّقوا وتآزروا، مقتصدين على الدوام ليسدّوا من صناديق تكافلهم نفقاتِ دفن أمواتهم في مقابر الغرباء، حتى انضمّوا كجرحى التاريخ الجدد إلى فقراء الضواحي، الساعين للعثور على عمل، ملتحقين بدورة العذابات العادية والإخفاقات العادية لسائر الناس. ما عاد للهتاف صدى. الأحزان تهرم والحنين. محظوظٌ مَن يسعفه المرح بالسخرية من همومه.

ثمة سوريون قوّاهم اليأس فواصلوا التفكير بأنفسهم حتى داخوا، وساقت العذابات والأرق بعضهم إلى دُوار التصوف ومبهمات الروح وهدوء الحكمة. انسلاخهم عن واقعهم نفّذته “الأحداث” التاريخية نيابة عن إرادتهم، أو إرادة الله، ولم يتقصّدوه. حاولوا سدى أن يُلغوا المكان، توقاً للخروج من صفاتهم التي بدأ التاريخ يسجنهم فيها ليطويهم النسيان، أو ليدرسهم ويعظ باسمهم مَن لا يتّعِظ.

حين توسوس النفس بأنّ ما جرى لا يصدَّق كأنه حلم داخل حلم، وتصمّ الذكريات أذنَ القلب، يجوب العقل الحطامَ والمهملات وسِيَر المنسيين، متعثراً بمبعثرات الأفكار وأحجار الأحاسيس الملطخة بدماء الجرائم، وتجرحه شظايا منازل القلب التي انهارت. فماذا يتبقى بعد الزلزلة، ما بعد اللحظة القصوى التي استطالت وحبست المنكوبين معلَّقين داخلها؟ التخلّي فنّ المنفيين، وفاقدُ الشيء يلتذّ بذاكرته ويلعنها. الأدب يبتكر الماضي كأنه أرض أخرى للمستقبل، فيفكّ أسره ويستردّ بعضه من الذين احتكروه ولفّقوه وشوّهوه. في انطلاق معكوس، من الكلمة إلى الكون، من زوال الثمرة إلى بقاء الجذر، يتقهقر المغتربون حين يسترجعون جهنمات الماضي وفراديسه، فيما الحاضر الذي يعيشونه ينوّمهم بالآمال ويوقظهم بالكوابيس، ولا يني ينتشلهم من ذاكرتهم التي يكادون يغرقون فيها، مأخوذين بضباب جمالها وألطاف وهمها.

لا يسمح الواقع لضعاف المغتربين بفرض أسمائهم، ولا تمكّنهم أسنانهم وأظافرهم من انتزاع أيّ اعتراف “حقيقيّ”- يتعزّى بهذه الذريعة الواهمون بينهم من شعراء وروائيين فتّقتِ المصائب بذورَ مواهبهم، ثم حرمتْ عزلاتهم من الترف، وحجّرتها بالحسد والمرارات، وأجهزت على أحلام المجد والجمهور والجوائز، وأهالت على الفراغ الذي يتخبّطون فيه ركاماً من الصور والكلمات، كمدت تحته وجوههم وتهدّلت أكتافهم، حتى نفد صبرهم فاستسلموا. ربما ارتضوا أخيراً بأن يصيروا ورثة الألم، حمَلَة الظلال بدلاً من حمَلة المشاعل. من جهة أخرى، لا يكفّ القدر عن التهكّم بهم، إذ لم يتِحْ لهم ميراث الآلام، خلال العقد الذي مضى، إلا بقاعاً صغيرة قد تصلح لبناء صومعة أو كوخ من أنقاض اللغة، ولا تشيَّد فوقها الصروحُ التي يشتهون. 

أواخر 2020

مختارات من كتاب “أتذكّر” لجو براينارد

أتذكّر ولداً بديناً كان والداه أصمّين أبكمين. علّمني كيف أقول “جو” بيديّ.

أتذكّر ذاك الشريط من اللحم باهت البياض، بين أسفل البنطلون والجورب، عندما يضع العجائز ساقاً على ساق.

أتذكّر أحلام يقظة عن العيش فوق شجرة.

أتذكّر أحلام يقظة عن إنقاذي أحدهم من الغرق فأغدو بطلاً.

أتذكّر أحلام يقظة عن إصابتي بالعمى، وكم سيشعر الجميع بالأسف تجاهي.

أتذكّر أحلام يقظة عن اكتشافي على يد مخرج في هوليوود، كان سيرسلني إلى مكان خاص في كاليفورنيا، حيث يعيدون تأهيل الناس. التكاليف باهظة. سيقوّمون أسناني، ويجمّلون شعري، ويزيدون وزني، ويربّون عضلاتي، فأبدو في النهاية رائعاً. على الطريق إلى النجومية. أوّل ما أقوم به هو العودة إلى البيت لأصدم الجميع.

أتذكّر كراهيتي لنفسي بعد اللقاءات والتجمّعات، لأنني كنت خنزيراً مضجراً.

أتذكّر عدم ثقتي بطناجر الضغط.

أتذكّر مراوح كهربائية صغيرة، قد “تقطع أصابعك على الفور” إذا اقتربت منها كثيراً.

أتذكّر أحذية أطفال معلّقة إلى مرايا الرؤية الخلفية في السيارات.

أتذكّر إني لم أكن أفهم لماذا لا تتجمّد سيقان النساء اللواتي يرتدين التنانير في الشتاء.

أتذكّر قصصاً عن أطفال وُلدوا في سيارات التاكسي.

أتذكّر ملأ أواني الثلج إلى حافتها، ومحاولتي أن أعيدها إلى البرّاد دون أن تندلق قطرة ماء واحدة.

أتذكّر أحلام يقظة عن اكتشافي أن قليلاً من الوقت قد تبقّى لي في الحياة -السرطان عادة- ومحاولتي التوصّل إلى أفضل طريقة لتمضية ما تبقّى من هذا الوقت.

أتذكّر احمرار الجفنين حين يغمضان أمام الشمس.

أتذكّر برودة الشراشف في الشتاء، وفي الصباحات الباردة كنت أعدّ إلى العشرة قبل أن أقفز من السرير.

أتذكّر أن “الدنتين” كانت العلكة التي ينصح بها أطباء الأسنان.

أتذكّر رغبتي في التأثير على البائعات في المحلات بعدم اكتراثي أمام لصقات الأسعار. ولا أزال.

أتذكّر لغطاً كثيراً حول “الحارس في حقل الشوفان”.

أتذكّر أبواب مراحيض لا تغلق جيداً، ومحاولات الإسراع في التبوّل.

أتذكّر لحظات الصمت في الكنيسة حين يبدأ بطني بالقرقرة.

أتذكّر حين غزتنا ملايين الجنادب في تولسا ثلاثة أو أربعة أيام. أتذكّر أرصفة مغطّاة بأكملها بالجنادب قاسية الدروع.

أتذكّر إن 99 بالمائة من البطيخ ماء.

أتذكّر خوفي من أنّ الحلاق قد يسهو فيقطع أذني.

أتذكّر فرشاة ناعمة، مفعمة ببودرة طيبة الرائحة، تمرّ على رقبتي بعد انتهاء الحلاقة. ثم ألتفت لأنظر في المرايا فتبدو لي أذناي كبيرتين.

أتذكّر “القبلة الفرنسية”، واستنتاجي أن لها علاقة بتدوير اللسان، إذ لا شيء سواه وسوى الأسنان في الفم.

أتذكّر “شعرتان ونمشة” حين يسألك أحدهم عن التوقيت وأنت لا تحمل ساعة معك.

أتذكّر حين أخبرني ولدٌ إن تلك الأوراق الحامضة الشبيهة بالنفل، التي اعتدنا أكلها (ذات أزهار صفراء صغيرة)، حامضة المذاق لأن الكلاب بالت عليها. أتذكّر إنّ ذلك لم يوقفني عن أكلها.

أتذكّر سيجارتي الأولى. كانت سيجارة كِنْت.

أتذكّر المرة الوحيدة التي رأيت فيها أمي تبكي. كنتُ آكل فطيرة مشمش.

أتذكّر كم اشهيتُ، أيام المدرسة الثانوية، أن أكون وسيماً ومحبوباً.

أتذكّر أحلاماً كثيرة عن العثور على الذهب والجواهر.

أتذكّر إني كتبتُ “أكره تيد بيريغان” بحروف سوداء كبيرة على كامل جداري الأبيض.

أتذكّر شطائر الزبدة والسكر.

أتذكّر خطّتي لتمزيق الصفحة 48 من كل كتاب أقرؤه في مكتبة بوسطن العامة، ولكنني سرعان ما ضجرت.

أتذكّر يوم وفاة مارلين مونرو.

أتذكّر جدي الذي لم يكن يثق بالأطباء. لم يكن يعمل لأن لديه ورماً. كان يلعب الورق طوال اليوم. ويكتب القصائد. كانت أظافر قدميه طويلة وقبيحة. كنتُ أتحاشى النظر إلى قدميه، قدر استطاعتي.

أتذكّر صبياً روى لي نكتة قذرة. كانت الدليل الأول إلى الجنس.

أتذكّر اعتقادي أنّ كل ما هو قديم ثمينٌ جداً.

أتذكّر غرف الألعاب في الأقبية.

أتذكّر كيف كنت أمرّر يدي، تحت الطاولة في مطعم، حين التصقت بالعلكة.

أتذكّر أوهامي عن السجن، حيث أقبع كالراهب في زنزانة، وأكتب بخط يدي رواية ضخمة عظيمة.

أتذكّر البرق.

العنوان مقتبس عن عبارة لإدمون جابيس: “الكتاب هو المكان الذي تضحّي فيه بصوتك من أجل الصمت”. كنت قد ترجمت مختارات من كتاب “أتذكر” لجو براينارد أواخر سنة 2011 ولم أنشرها، بعد الاستمتاع بترجمتها في مقهى بوكسات Books@ في جبل عمّان. مجلة رمان

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى