أبحاث

الذاكرة السورية من “التابو” إلى الصدمة/ عبير نصر

دعونا نتفق، بداية، على أنْ أسوأ ما حصل في سورية، خلال العقود الخمسة الماضية، صناعة أجيال كاملة من السوريين، لم ترَ سوى صور الأسد، وتماثيله المنتشرة في كلّ مكان، ولم تسمع سوى خطابات العروبة والقومية الزائفة، متشرّبة الثقافة البعثية، وسموم وسائل إعلام الدولة المسيطرة، والقابضة على كلّ مفاتيح الثقافة. أجيال أُشبعت بحقائق مطلقة مشوّهة، فأمست بلا أسسٍ سليمة تتّخذها مرجعاً ليُردّ الأذى ويُرفع البلاء إبّان الأزمات. وعبر سياسة خبيثة وممنهجة، مرّت شخصياتٌ كثيرة مؤثّرة في التاريخ السوري مرور الكرام، من دون أيّ شرح، مثل شكري القوتلي وعبد الرحمن الشهبندر وجميل مردم بك وهاشم الأتاسي، ومنها لم يرد نهائياً في النص، مثل خالد العظم وفخري البارودي ولطفي الحفار.

ومع كلّ المثالب التي أصبحت أصيلةً في بنية الدولة السورية، مثل انعدام المساواة، وتغييب القانون، والتعسّف الإداري، واعتبارات الولاء والطائفية والمناطقية، وغيرها من الأمراض العضال، لعلّ أبرز مخرجات الذاكرة السورية “الممسوخة” الظواهر الشاذّة التي تشهدها البلاد اليوم، كأن، مثلاً، يُعزَف النشيد الإيراني عوضاً عن النشيد السوري، خلال مباراةٍ في تصفيات كأس العالم لكرة السلة بين سورية وكازاخستان، ولم يبدُر أيّ اعتراضٍ مباشر من لاعبِي المنتخب السوري، على الرغم من علامات الاستغراب، فظلّوا صامتين، حتى إكمال النشيد وصفقوا بعد نهايته!

أجيال عاشت زمن “التابو” قبل عام 2011، وبعده غدت أسيرة زمن “الصدمة” والأزمات المتناسلة. تمرّ عليها أسماء كهضبة الجولان أو لواء اسكندرون، كما لو أنها تخصّ كوكباً آخر! لم تُعايش أحداث ثمانينيات القرن الماضي في حماة، ولم يصل إليها من تلك الأحداث سوى الأساطير والأسرار. مجازر بالجملة، لخطورتها وحساسيتها، استغلها الأسد الأب بوصفها حدثاً مؤسساً في تاريخ السوريين ووجدانهم، ليحضر بنفسه في شوارعهم ومدارسهم وبيوتهم، رمزاً صريحاً للرعب، ضمن ما تسميه الكاتبة الأميركية، ليزا وايدن، في كتابها “السيطرة الغامضة”، صمتاً وخوفاً وعجزاً وغياباً للفعل، فجعلت سورية واحدةً من أسوأ 12 دولة في الحريات السياسية في العالم. 

جدير ذكره أنه في عام 2022، بلغ عمر الكيان السوري المعاصر 104 سنوات، وقع نصفها تماماً تحت الحكم الأسدي. وهذه الواقعة السوداء هي المفصل الحساس في تفسير الحال التعس لبلادٍ عُدّت مهد الحضارات عبر التاريخ. ومتفق عليه مسبقاً أنّ مدة الحكم الأسدي زمنٌ طويل جداً في أعمار الأنظمة السياسية، خصوصا إن كان 4% فقط من المحكومين يتجاوزون الستين عاماً، ما يعني أنّ أقلّ من مليون واحد من نحو 23 مليون سوري أكبر في السن من الحكم البعثي المتمادي منذ 59 عاماً. وسوء الأمر لم يتوقف هنا، فبعدما حوّل دمشق التي كانت تسير بخطىً واثقة ومدروسة لتصبح مدينة كوزموبوليتية في نهايات العقد السادس من القرن الماضي، لتغدو، بفضله، مجموعة متلاصقة من العشوائيات المتباعدة فكرياً وحضارياً وإنسانياً، ولا يجمع بينها سوى جغرافيا المكان. وما زال نظام الإبادة هذا يعمد إلى إزالة آثار جرائمه في كل المدن السورية التي شهدت حراكاً مدنياً وعسكرياً، فأزال المقابر الجماعية وآثار القصف الكيميائي، ثم عمد إلى تغيير المعالم الرئيسية في تلك المدن، كساحة العاصي في حماة، ودوار الساعة في حمص، والآن “قرنة جعفر” في دير الزور. وطبعاً لمحافظة حماة تجارب مماثلة، بعد عام 1982، عندما دمّرت قوات النظام أحياء كاملة ومسحتها عن الخريطة السورية، كحيّ الطوافرة والبرازية والكيلانية.

تفيدنا الإشارة إلى أن لقب “الجيل الأعظم” أُطلق في الولايات المتحدة على الفئات التي ترعرعت خلال فترة الكساد، وحضرت زمن الحرب العالمية الثانية. أما “الجيل الصامت” فهو من عاش فترة ما بعد الحرب، ليأتي بعده جيلٌ سُمّي “طفرة المواليد”. بعد تلك الأجيال، ومع ازدياد مفاعيل العولمة على المجتمعات شاع الحديث عن أجيال عالمية تمتلك خصائص متشابهة، وعليه بدأ الباحثون بتقسيم الأجيال، عموماً، إلى ثلاثة أقسام (X,Y,Z).

بناء عليه، وفي الحالة السورية يقصد بالجيل الأول (X) المواليد بين عامي 1965 و1979، عاصر هذا الجيل التلفاز وحروباً عدة وثورات شعبية وأحداثا مفصلية كثيرة في البلاد. الجيل الثاني (Y) وهو جيل المواليد بين 1980- 1995، الذي وعى على عالمٍ شهد ثورة فريدة من نوعها بمجال الإعلام والاتصالات والحواسيب وبداية عصر الإنترنت. أما الجيل الثالث (Z) فهو جيل المواليد بين 1995- 2011، وللمفارقة هو الجيل الذي أسس للانتفاضة السورية في مارس/ آذار 2011، عندما كتب أطفال درعا عباراتٍ مناهضة للنظام على جدران مدارسهم، ليؤدّي ذلك إلى اعتقالهم وتعذيبهم بوحشية، ومنها كانت الشرارة. أضف إلى ذلك جيل “الصدمة” الذي وُلد بعد عام 2011. وتقدّر منظمة الأمم المتحدة لرعاية الطفولة (يونيسيف) أنّ هناك نحو 3.7 ملايين طفل سوري، أي ما يعادل واحدا من أصل كلّ ثلاثة أطفال سوريين، وُلدوا منذ بدء الحرب، يتأثرون من آثار النزاع، سواء داخل البلاد أو لاجئين في الدول المجاورة.

ولو فكّرنا بما حصل في ألمانيا بعد عام 1945، فقد كان هناك أيضاً كثيرٌ جداً من الأطفال والكبار الذين يعانون من الصدمات النفسية، وما ساعد على تخطّيها، الشعور العام المشترك بأنهم سيعيدون بناء البلاد معاً. في المقابل، لا يبدو الحالُ وردياً على الإطلاق في سورية، التي تغصّ بأجيال خارجة من جحيم عصر “التابوهات والصدمات”. في عقولها الفكرة ونقيضها، وأمامها طريقٌ وعرٌ ما عادت تبدو نهايته، ولا إمكانية للعودة إلى بدايته. يزيد الطين بلّة أنّ الوعي الجمعي للأجيال السورية قائمٌ على مبدأ طمس الحقائق وتغييرها، بما يتماشى مع مصلحة العائلة الحاكمة، التي حوّلت البلاد إلى محميةٍ لا تحمي نفسها، ولا تتحكّم بشروط دوامها. والطامة الكبرى أن تشهد تكرار الواقعة السوداء: بقاء بشار الأسد في السلطة 14 عاماً على الأقل، كي يصير حافظ الثاني في عمر أبيه وقت عُدِّل له الدستور. أجيالٌ مسيّرة بفعل منظومة حكم بطريركية، رجعية التكوين، انتقلت بسورية من مجرّد كونها بلداً متخلفاً إلى بلد منتج للعنف واليأس واللاجئين. بلد محشوّ بقطعان بشرية عمياء خرجت من التخلف، لكن هذه المرّة إلى البربرية، مثلما رأى الباحث الفرنسي، ميشيل سورا، ودفع حياته ثمناً لما رآه.

ثمّة كتاب يدعى “الخطابة لهرنانوس”، يعود تاريخه إلى عام 80 قبل الميلاد. لم يُعرف مؤلفه الحقيقي، مع أنه كان يُعزى لشيشرون، وتبيّن لاحقاً خلاف ذلك. في هذا الكتاب التعليمي عن أصول البلاغة وإبراز الحجة لإنتاج “الحقيقة” أمام جمع من الناس، حديثٌ عن “فنّ الذاكرة”، تلك القدرة على استعادة ما مضى، وجعله حاضراً في لحظة القول أو المواجهة. وبذلك نكون أمام سؤالٍ بالغ الأهمية، يتعلّق بمدى قدرة السوريين على المواجهة بذاكرةٍ وطنية “ممسوخة” ووعي مزيّف، ومن ثم الاتفاق على صيغة الدولة القادمة، التي ستحدّد مدى انصهارهم واتحادهم ضد نظام بلغ من العنجهية والانفصام أنه، وخلال الحرب السورية الطاحنة، أبدى قلقه من انقراض طائر أبو منجل الأصلع الشمالي بسبب سيطرة “داعش” على مدينة تدمر، في وقت عمل فيه جاهداً على تهجير ملايين السوريين وتجويعهم وإذلالهم وإبادتهم. 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى