نصوص

“مدهوش أبداً” لفرناندو بيسوا… القراءة عبودية حالمة

من أجواء الكتاب:

1ـ الغذاء الأدبي الأول

غذائي الأدبي الأول في طفولتي تجسد في الروايات المتنوعة التي كانت تحمل طابع الغموض والرعب والمغامرة. ما يسمى بكتب الأطفال وتلك التي تخوض في التجارب المثيرة لم تكن تشدني اليها. كنت أعيش حياة سليمة وطبيعية ولم تكن الإثارة تجذبني. لم أكن أتوق إلى الممكن بل إلى الخارق. كنت أتشوق إلى المستحيل بالمطلق لا المستحيل بدرجات.

كانت طفولتي هادئة. وتلقيت تربية جيدة. ولكن بما أنني كنت واعياً لذاتي، فقد وجدت في نفسي ميلاً داخلياً للغموض، للكذب الفني. أضف إلى ذلك تعلقي الكبير بما هو روحي وساحر وغامض والذي كان، في آخر المطاف، مجرد شكل آخر وتنويع إضافي للخاصية الأخرى لشخصيتي، أي الحدس، التوق للكمال. 1906.

كنت شاعراً بدوافع فلسفية وليس فيلسوفاً بمواهب شعرية. كنت أحب أن أبدي إعجابي بجمال الأشياء، أن أتقصى الروح الشعرية للكون بأدق التفاصيل في ما هو غير مدرك.

ثمة شعر في كل شيء، في الأرض وفي البحر، في البحيرة وعلى ضفة النهر. في المدينة أيضاً، لا تنكر ذلك. بل إني أراه هنا حيث أجلس: هناك شعر في الطاولة، في هذه الورقة، في هذه المحبرة. هناك شعر في صخب مرور السيارات في الشارع، في كل دقيقة من الحركة العادية المضحكة للعامل اليدوي، الذي، على الجانب الآخر من الشارع، يصبغ يافطة دكان القصاب.

إحساسي الداخلي يتفوق بطريقة ما على حواسي الخمس فأرى أشياء في هذه الحياة ـ وأنا أؤمن بها حقاً ـ  بطريقة تختلف عن الآخرين. بالنسبة لي ثمة، كانت ثمة، ثروة من المعاني في شيء تافه مثل مفتاح، مسمار في الجدار، شوارب قطة. بالنسبة لي هناك إيحاء روحي كامل في دجاجة تتبختر مع فراخها على الطريق. بالنسبة لي هناك معنى أعمق من أية مخاوف بشرية في رائحة صمغ الخشب، في العلب القديمة الفارغة في مكب قذر للنفايات، في علبة عيدان الكبريت المرمية في مجرى الصرف الصحي، في ورقتين متسختين تتقافزان، في الشارع في يوم عاصف، خلف بعضهما بعضاً. الشعر هو افتتان، انبهار، مثل كائن يهوي من السماء وهو يعي تماماً أنه يهوي ويندهش من الأشياء من حوله. مثل شخص كان يدرك روح الأشياء ويحاول الآن أن يتذكر ذلك الإدراك، متذكراً أن إدراكه آنذاك لم يكن على هذا النحو، لم يكن بهذا الشكل وفي هذه الأحوال، ولكنه لا يتذكر أكثر من هذا.

2 ـ إنه ضروري الآن

إنه لضروري الآن أن أقول أي صنف من الناس أنا. لا يهم ما اسمي، كذلك لا يهم التوقف عند الصفات الخارجية الخاصة بي. يجب التوقف عند شخصيتي.

البنية الكاملة لروحي تقوم على التردد والشك. بالنسبة إليّ ليس ثمة أي شيء إيجابي ولا يمكن أن يكون. كل الأشياء تتحرك من حولي، وأنا أتحرك معها، غير متيقن من ذاتي. كل شيء يتسم بعدم التماسك ويتغير. كله غموض في غموض. الأشياء كلها مجرد رمز “غير معروف” لـ”اللامعروف”. من هنا الرعب والغموض والخوف ما فوق العقلي.

تبعاً لميولي الطبيعية، وللمحيط الذي شهد حياتي المبكرة، ولتأثير الدراسات التي أملتها علي تلك الميول (بذاتها)، تبعاً لكل ذلك فأنا من الشخصيات ذات الطابع الداخلي، متمركز حول الذات، صامت، لامكتف ذاتياً بل ضائع ذاتياً. حياتي كلها كانت استغراقاً في السلبية والحلم. شخصيتي كلها تقوم على كره، وخوف من، وعجز عن القيام، بكل ما يحوطني جسدياً وذهنياً، بالنشاطات الحاسمة والأفكار الواضحة. لم أتخذ قط أي قرار بإرادتي الذاتية ولم أقم قط بكشف خارجي للإرادة الواعية. لم تكتمل أي من كتاباتي، وظلت الأفكار الجديدة تقتحمني، أفكار مع كل ما يرافقها من إيحاءات خارقة لا يمكن التخلص منها، متجاوزة ما هو مرسوم لها. لا أستطيع أن أضع حداً لميل عقلي إلى كره النهايات. ميله إلى الإتيان بألف فكرة عن شيء واحد وما تجره هذه الألف فكرة معها من وشائج داخلية. ليست لدي رغبة في إزالة أو توقيف كل ذلك، ولا في جمعها في فكرة مركزية واحدة حيث من شأن التفاصيل التي ترتبط بها، والتي قد تكون غير مهمة، أن تضيع. إنها تمر من خلالي، فهي ليست أفكاري بل أفكار تمر من خلالي. أنا لا أفكر بل أحلم، أنا لا أتلقى الإلهام بل أهذي. أستطيع أن أرسم غير أني لم أرسم قط. أستطيع أن أؤلف الموسيقى ولكني لم أفعل ذلك أبداً. مقاربات غريبة لثلاثة فنون. لمسات حنونة من الخيال تداعب دماغي غير أنني أتركها ترقد هناك إلى أن تموت، إذ ليست عندي المقدرة في أمنحها قواماً، أن أفلتها لتصير أشياء من العالم الخارجي.

وضعي الذهني يجعلني أكره بدايات ونهايات الأشياء، لأنها نقاط محددة. تعذبني فكرة العثور على حلول للمسائل العلمية والفلسفية، بما في ذلك أرقاها وأنبلها. ويرعبني القول إن الله، أو العالم، يمكن أن يقرر مصير أي شيء. وأكاد أجن حين يتناهى لسمعي القول إن الأشياء يجب أن تكون كاملة وأن الناس يجب أن يصيروا يوماً ما سعداء كلهم وأنه ينبغي العثور على حل لجميع أمراض المجتمع. أنا لست شريراً أو قاسي القلب. أنا مجنون، ومن الصعب فهم ذلك.

مع أنني قارئ مستمر ونهم فأنا لا أتذكر الكتب التي قرأتها. حتى الآن تعكس القراءات ليس حالاتي الذهنية وأحلامي وحسب، بل ما يثير تلك الأحلام أيضاً. ذاكرتي للأحداث، للأشياء الخارجية، غامضة أكثر مما هي غير متماسكة. تعتريني الرجفة حين أفكر بضآلة الأشياء التي بقيت من حياتي الماضية في ذهني. أنا، الرجل الذي يؤكد أن اليوم هو مجرد حلم، أقل من أي شيء في الحاضر.

لقد تخطيت عادة القراءة. لم أعد أقرأ أي شيء باستثناء بعض الصحف والأدب الخفيف والكتب التي يصدف أن أحتاج إليها لتفحص شيء ما بشكل تقني، والتي عادة ما تفشل المحاججة النظرية في الإيفاء بالغرض بشأنها.

توقفت عن قراءة الأدب على وجه التحديد. كنت أعمد إلى قراءته للتعلم أو المتعة، والآن ليس لدي ما ينبغي أن أتعلمه. والمتعة التي كانت قراءة الكتب الأدبية توفرها بات من الممكن الحصول عليها من خلال العلاقة المباشرة بالطبيعة ومراقبة سير الحياة بشكل مباشر.

أنا الآن أملك دراية كاملة بقوانين الفن الأدبي. لم أعد بحاجة إلى شكسبير كي يهذبني ولا إلى ميلتون كي يرقيني. لقد بلغ عقلي مستوى عالياً من المرونة والطواعية يمكنني من التعبير عن أي إحساس أرغب في إظهاره وأن أتبنى أي حالة ذهنية بإرادتي الخاصة. ليس ثمة أي كتاب في مقدوره أن يساعد المرء للوصول إلى تلك الحالة التي يشقى ويجاهد للوصول إليها، أعني الكمال.

هذا لا يعني أنني تحررت كلياً من طغيان الفن الأدبي. أنا افترضت أن ذلك مجرد خضوع لنفسي.

مرت فترة كنت أقرأ فيها لمجرد القراءة. وقد فهمت الآن أن هناك القليل جداً من الكتب المفيدة، حتى في المجالات التقنية التي قد تستحوذ على اهتمامي.

علم الاجتماع شامل. من في وسعه أن يتحمل هذا التلقين المدرسي الجاف في بيزنطة اليوم؟

كتبي كلها عبارة عن مراجع. أقرأ شكسبير فقط حين تواجهني “مشكلة شكسبيرية”، ماعدا ذلك معرفتي به كافية.

لقد اكتشفت أن القراءة عبودية حالمة. إذا كان لا بد من أن أحلم فلماذا لا أحلم بنفسي؟

3 ـ ملاحظة حول المسألة الجنسية

لا أجد صعوبة في التعريف بنفسي: أنثوي المزاج ذكوري العقل. حساسيتي، وما يتمخض عنها من أعمال ـ وهنا يكمن المزاج وتجلياته ـ هي أنثوية. قدراتي في المقاربة ـ الذكاء والإرادة، أو ذكاء الميل ـ هي ذكورية.

بالنسبة للحساسية، فأنا لا أجانب الصواب عندما أقول أنني أردت دوماً أن أكون معشوقاً لا عاشقاً. ولطالما شعرت بالندم لاضطراري تحت ضغط الواجب الدارج في المعاملة بالمثل ـ الولاء الروحي ـ لأن أستجيب.

السلبية تفرحني. ولقد اكتفيت دوماً ببذل الحد الأدنى من الجهد بما يكفي لدفعي لأن أصون نفسي من السقوط في غياهب النسيان ـ جهد العشق الذي يبذله الشخص الذي يعشقني.

ليست لدي أوهام حول هذه الظاهرة. إنها انحراف جنسي مقموع، يصطدم بالدماغ. ومع هذا، فلقد بقيت دوماً، في لحظات التأمل الذاتي، مضطرباً. لم أمتلك قط اليقين، ولا أملكه الآن، بأن هذا السلوك المزاجي لن يتسرب يوماً إلى جسمي. لا أقول أنه يترتب علي عندئذ أن أمارس النشاط الجنسي الذي يعكس ذلك الميل، إلا أن الرغبة في ممارسة ذلك ستكون كافية لإذلالي. التاريخ يزخر بأمثالنا، ولا سيما تاريخ الفن. أسطع الأمثلة على هؤلاء هما شكسبير وروسو. كانت حالتهما بالنسبة لي تشكل ما يشبه الوسواس. كان خوفي هو أن هذا الانحراف الذهني سوف يسيطر على الجسم ـ كما في حالة شكسبير حيث تحول الأمر إلى مثلية جنسية، وفي حالة روسو، جزئياً، إذ تجسد في شكل غامض من النزعة المازوشية. 1915

———————————

صدر عن دار الكتب خان- القاهرة- كتاب “مدهوش أبدًا.. مختارات نثرية”،  يضم يوميات وقصائد للشاعر البرتغالي الكبير فرناندو بيسوا، ترجمة الروائي نزار آغري.

يحتوي الكتاب على اليوميات الخاصة لبيسوا والحافلة بالأفكار التي شغلته وألهمته، كما يضم 25 قصيدة جديدة لبيسوا.

ويأتي الكتاب في هيئة شذرات نثرية يقدم رؤيته لطبيعة الفن والإنسان والهوية، ذاته وحدسه وثقافته المتعمقة بتاريخ وطبائع الشعراء السابقين، باحثًا عن هويته المراوغة أبدًا والتي يرغب هو أيضًا في نسيانها ومراوغتها، بارتداء العديد من الأقنعة كالممثل الذى يتشظى إلى شخصيات عديدة، وبحيث يصبح التنوع والفقد الدائم لهوية واحدة ثابتة أكثر ثراءً وجمالاً.

ويكشف فيه بيسوا عن هوية الشعراء الذي ابتكرهم وخلق لهم أصواتًا وهويات خاصة ومتباينة أيضًا، يحلل مشاعره ورؤاه الخاصة عن شكسبير وويتمان وكيبلنغ وغيرهم من الشعراء، من خلال لغة مشحونة وحميمية، تتخذ شكل اليوميات الشخصية والتأملات.

اخترع بيسوا شعراء، وأنشأ لهم تاريخًا شخصيًا ورؤى فنية متباينة، ربما لتوسيع العالم، أو للغياب عن العالم أيضًا، لكنه كما يبدو فإن تمام الظهور في الاختفاء، صار بيسوا علمًا على مدرسة شعرية وطريقة حياة فنية بالأساس، أصبح هو الشاعر، هو القصيدة ولا شيء آخر يجاورها أو يثقلها، حوَّل بيسوا حياته وشكوكه وحدوسه إلى أصوات شعرية صارت هي العالم.

بقيت أعمال بيسوا كما هي إلى أن انكبَّ عليها الناشرون والدارسون لاحقًا لتمحيصها وعرضها للبحث والنقاش.

وكانت هذه الأعمال قد أودعت في شقة شقيقته في لشبونة وبقيت هناك، مع مكتبته وأوراقه، إلى وقت متأخر؛ حيث نُقِلَت إلى المكتبة الوطنية. اليوم، وبعد مئة عام وأكثر على ميلاده، وبعد أن نُشِرَ الجزء الأكبر من كتاباته، ينهض بيسوا رائدًا من رواد الحداثة في العالم.

المدن

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى