مراجعات الكتب

“الاشتياق إلى الجارة “: قصة حب عابرة أم أوهام مُتحرِشٍ ساذج ؟/ عمّار المأمون

صَدَر للكاتب التونسي الحبيب السالميّ رواية “الاشتياق إلى الجارة” عن دار الآداب اللبنانيّة 2020، ومنذ العنوان، عتبة النصّ الأولى، تفترض الرواية أن هناك موضوعٌ للرغبة لا يمكن نيله. فالشوق، يختزن الرحيل، أو البُعد، أو العجز عن الوصال مع “الجارة”، وهنا تبرز المفارقة في العنوان، فالجارة القريبة مكانياً، بعيدةٌ مجازاً عن مُشتاقها الذي يُدلل مُخيلته وعاطفته ليحظى بموضوع شوقه.

المُشتاق في رواية السالمي هو كمال عاشور، أستاذ الرياضيات التونسي، الستينيّ، المتزوج من بريجيت، موظفة البنك الفرنسيّة، أما موضوع الشوق فهو زهرة، الجارة الخمسينية، خادمةٌ منزليّة متزوجة من رجل ذو ماض مضطرب ولديها ابنٌ منه مصاب بالإعاقة، أما المسافة بين زهرة و كمال، فهي ثلاثة طوابق، ومساحة اللقاء الأولى، هي بهو بناء باريسيّ.

نقرأ “الاشتياق إلى الجارة” على لسان الراوي كمال عاشور، الذي بدأت قصة حبه بعد أن رأى زهرة ” عدة مرات في اليوم”، هذه الفاتحة التي تبدأ بها الرواية، تؤسس لفانتازم الحبّ الذي أسر كمال، وأعاد بناء حياته الرتيبة وعلاقة “البالغين” التي يعيشها مع زوجتها، إذ فعّلت زهرة داخل كمال حباً “مُراهقاً”، بصورة أدق، بدأ كمال نفسه بعد اللقاء بزهرة، بإعادة قراءة روتين حياته والمصادفات التي تجمعه مع الجارة في البناء، بوصفها لعبة غواية خجولة سلبته عقله وأداءه الرصين.

هذا الفانتازم المُؤسِسْ يدور في عقل كمال فقط، لا يمكن لأحد التيقّن من دور زهرة فيه، لكن المثير للاهتمام أن رصانة كمال وموقفه من لعبة الغواية الخجولة والعذريّة يتغير بعد أن تبدأ زهرة بالعمل في منزله، خاضعةً لتحديقته ومخيّلته، ما يفعل لدى كمال أحكام ذكورية قاسيّة، تبدو غريبة حين نقرأها على لسان أستاذ جامعي في فرنسا، وكأن لقاءه مع زهرة، التونسيّة، مواطنته، حرّك داخله متخيل الذكورة الشرقيّ، ورغبته بـ”اكتشاف عالم المرأة العربيّة…وما يحتويه من أسرار”.

 كلما ازدادت أحلام كمال وشهوته لزهرة، ازدادت الأحكام القاسية التي يُطلقها على مواطنته، إذ يستغرب من امتلاكها وزوجها شقة، ويعتليه خوف من (الاختلاء) بزهرة، والأهم، تظهر نبرة الوصاية في بعض الأحيان مترافقة مع الأحكام الرجعيّة إذ نقرأ “كل امرأة تحتاج إلى زوج يلبي حاجاتها العاطفيّة ويساندها ويقاسمها أعباء لحياة. ثمّ إن المرأة العربيّة لا تستطيع أن تعيش وحيدة وتقيم بمفردها، خاصة في بلد أجنبي….. لو أقدمت على ذلك احمت شكوك كثيرة حول سلوكها…”.

هذه الأفكار الذكوريّة تكشف لنا عن كمال نفسه، والمتخيّل الذي يمتلكه عن الآخر الذي يشبهه، فزهرة، بحماسها وسذاجتها وعملها المُتقن وتفانيها لأجل تعلّم العربيّة على يد كمال، تُظهر هشاشة دور أستاذ الرياضيات الذي يؤديه كمال، هذا الدور المتقن أمام الآخر/ الفرنسيّ، يتجلى حين يردد  كمال أمام نفسه فضائل اندماجه في المجتمع الفرنسي، والعادات والقواعد التي يلتزم بها، ويشرح لبريجيت زوجته، الاختلاف بين الفرنسيين والعرب في أسلوب التعامل اليوميّ، وكأن قناع “البالغين” انهار أمام متخيله الذي يمتلكه عن زهرة، ووطنه الذي لم يزره منذ سنوات طويلة.

يتكرر على لسان كمال مصطلح “لعبة الغواية” التي شغلت أوقات فراغه، إلا أن هذه اللعبة مضبوطة عبر التقسيم المعماري للبناء الذي يسكنه كمال، ما يدفعه لسخافات يرى أنها لا تليق به ويستغرب من القيام بها، إذ يغار من الجار الإسباني في البناء، ويتسلل ليلاً إلى بهو الطابق الخامس ليسترق السمع من وراء باب زهرة، والمثير للاهتمام أنه كلماً طالت أوقات فراغه، ازداد تصرفاته رعونة، إلى حد التحرش الجسدي بزهرة، إذ يُضيّع كمال الخطّ الفاصِل بين اللعب وبين التحرش بعد سفر زوج زهرة، إذ يستفيد كمال من سذاجة زهرة ليتناسى رصانته، متحولاً إلى “الوصيّ” على زهرة، يريد الاطمئنان عليها وعلاقتها مع زوجها، بعكس تصرفاته مع زوجته.

تكشف الرعونة والحسّ بالوصاية الذكورية لدى كمال عن جهله بهويته وتكوينه الثقافيّ، أسئلة الاغتراب والآخر واللغة العربية كلها تتردد على لسانه دون أن تلعب دوراً في علاقته مع زهرة، هو يريد(ها) فقط بحب عذري كما يدّعي، لكن ينتهي به الأمر مهاناً ومطروداً من منزلها، بعد محاولته تقبيلها ولمس جسدها.

أزمة الضجر ووقت الفراغ

نتلمس في الرواية سطوة وقت الفراغ على مخيّلة الراوي، ذاك الزمن اللااقتصادي المنافي لوقت العمل، هو الذي تظهر ضمنه زهرة مهددة إيقاع الضجر، وفاتحة الباب على التأمل في الذات ضمن الفضاء الخاص الذي تتلاشى حدوده نوعا ما، كون حواف الفضاء الخاص (الباب، مدخل البناء، الممرات) هي ما ترسم علاقة كمال مع زهرة،  التي تهيمن على أفكاره بعد عملها في فضاءه الخاص، لتستبدل الضجر بالمخيّلة، إذ يدرس كمال حركاتها وحركاته والمعاني الدفينة أشبه بالمراهقين، يُمعن التفكير بالضحكة والمصافحة و النظرة، و “يقيس” أثرها بناء على ما يتخيله، مع ذلك يشعر بالإحراج ، ويسعى للحفاظ على رصانته، لكن قواعد اللياقة هذه لا تنطبق هذه حين يزورها في منزلها، وكأنه يتحول إلى شخص آخر كلياً.

موت المدام ألبير التي تسكن مواجه منزل كمال وكانت زهرة تعمل خادمة في منزلها، يعمق علاقة كمال بزهرة، إذ يجدان نفسهما فجأة أمام جثة الفرنسية العجوز مذهولين، بل ويشاركان في جنازتها لاحقاً، هذا الحدث المفاجئ يستغله كمال لصالحه، ليلتقي بزهرة خارجاً، و يمسّها لأول مرة مقبّلاً وجنتها، ما يملأ وقت فراغه بمتخيلات عن الشوق والجنس، التي يدلل احتمالاتها بعقله إلى حد كسره قواعد “لعبة الغواية” و متحولاً إلى “ذكر” يُريد فقط لحم زهراء الغض، في ذات الوقت الحفاظ على “سريّة” ما يقوم به.

الإحراج كسلطة اجتماعيّة

يتحرك كمال ضمن فضاء البناء ومنزله حذراً، وخائفاً من أن يكون ضحية النميمة والإحراج، القوتان اللتان تحكمان “لعبة الغواية”، التي يظهر ضمنها الآخرون كمصدر للخطر، لأنهم ربما مثل كمال، يمتلكون فانتازمات خاصةً عمن هم حولهم، ناهيك أن ظهور زهرة في البناء، هدد مكانة كمال نفسه، إذ وضع في ذات الخانة مع زهرة، إذ لم يعد أستاذ الرياضيات الجامعيّ بل العربي التونسي الذي يمكن له وحده أن يفهم على بني جلدته.

يظهر التلصص والإحراج كقوتين تحكمان مخيّلة كمال وتصرفاته، فخوفه من تحطم صورته التي بناها أمام جيرانه الذين لا يلتقي بهم إلا لدقائق معدودة هو ما يقف بوجهه، الأهم، أن الجيران في فضائهم الخاص  أيضاً ضحية فانتازم كمال، الذين يخاف أنهم يمارسون ما يقوم به هو أيضاً، لكنه يفترض أنهم منصاعون لمتخيله، كما حدث عندما استرق السمع من ردهة البناء، ظاناً أن زهرة الوحيدة مع رجل آخر غيره وغير زوجها الذي رحل إلى تونس، هذه الغيرة يقف بوجهها الإحراج، فلا سلطة لكمال على أحد، إلا على مخيلته التي يُغذّيها شوقه ويضبطها الإحراج أمام الآخرين لا أمام نفسه.

هذه المقالة كتبت خصيصا لتُنشر بالانكليزية في العدد المقبل من مجلة بانيبال (العدد رقم 70، ربيع 2021)، ننشر هنا النص العربي بالاتفاق مع المجلة.

==============================

عمّار المأمون

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى