الناس

“بدي قبر لإبني…”: وماذا عن معتقلي سوريا سيد بايدن؟/ ديانا مقلد

“ابني ماهر لما دخل السجن كان عمره 31 سنة، اليوم ماهر بيكمل الـ40 سنة وأنا ما بعرف وينه…”

رغم لجوئها منذ سنوات إلى برلين هرباً من الموت في سوريا، تعيش المعتقلة السابقة فدوى محمود (65 سنة) هاجس الزنازين المعتمة الموحشة كمحطة باتت ملازمة لحياتها وحياة أجيال مختلفة في أسرتها.

فدوى ناشطة سياسية منذ السبعينات ضمن تنظيم “حزب العمل الشيوعي” ، الذي كان محظوراً في سوريا.

في عهد حافظ الأسد تعرض الحزب لحملات اعتقال وترويع في مطلع التسعينات، واعتُقلت فدوى بتهم واهية، فاضطرت أن تترك وراءها ماهر وأيهم وكانا دون العاشرة من العمر.

بعد نحو عامين من اعتقالها خرجت فدوى لتشعر بالانكسار حين سألها صغيراها: “ماما ليش تركتينا ورحتي ونحن بحاجتك”، فأجابت فدوى أن ما فعلته كان لتجنيبهما مصيراً مشابهاً في المستقبل.

لكن للأسف، لم تستطع فدوى حماية أفراد عائلتها من مصير مماثل، إذ عانوا بدورهم من مصير أشد قساوة.

فدوى تلاحقها اليوم مأساة اعتقال زوجها المعارض البارز عبد العزيز الخير وابنها الشاب ماهر طحان اللذين تم اختطافهما من مطار دمشق عام 2012.

منذ ذلك التاريخ لا تعرف أي معلومة عنهما.

“اليوم ماهر بالمعتقل ويا خوفي إذا استمر هيك نظام بسوريا يعتقلوا أحفادي”.

بعد اعتقال زوجها وابنها غادرت فدوى إلى لبنان عام 2013 حيث تعرضت للمضايقة الأمنية. وبعد تنقلات استقرت كلاجئة في ألمانيا وشرعت هي ونساء أخريات في تأسيس رابطة “عائلات من أجل الحرية” المعنية بمتابعة قضايا معتقلي سجون  نظام الأسد والمخفيين قسراً، “ابني ماهر لما دخل السجن كان عمره 31 سنة، اليوم ماهر بيكمل الـ40 سنة وأنا ما بعرف وينه. لا عندي علم وينه وانا وأمهات سوريات عم يعدوا اللحظات والساعات حتى ما يضيعوا عمرهم بالمعتقل.”

محنة فدوى هي محنة عشرات آلاف السوريين الذين لهم أحبة وأفراد عائلات محتجزين أو مفقودين خلال الحرب الوحشية التي طال أمدها ولامس مدة العشر سنوات.

وقعت أحداث كثيرة ورهيبة خلال هذه السنوات العشرة، إلى درجة تجعل شرح ما حصل مهمة شاقة. إنها قصة الثورة المستحيلة التي دُمِّرَت تدميراً وحشياً.

تشير تقديرات متحفظة إلى أن عدد المعتقلين أو المختفين قسراً في سوريا بلغ 149 ألفاً، أكثر من 85 في المئة منهم على يد النظام، بحسب “الشبكة السورية لحقوق الإنسان”. اختفى معظمهم أو اعتقلوا بعد فترة وجيزة من اندلاع الاحتجاجات السلمية ضد حكومة الأسد عام 2011، التي ردت على التجمعات بقمع وحشي.

نداء العدالة

أطلق ناجون من السجون السورية وعائلات محتجزين ومفقودين أول نداء جماعي من أجل العدالة عبر ميثاق حمل رسالة واضحة: أوقفوا التعذيب في المعتقلات فوراً واكشفوا عن مصير عشرات آلاف المفقودين. عندها فقط يمكن إيجاد طريق لإنهاء الصراع السوري.

يهدف الميثاق إلى ضمان حضور قضية المعتقلين والمفقودين في المفاوضات حول حل نهائي للحرب. حتى الآن، لم تؤد الجهود المبذولة لوضع هذه القضية على جدول أعمال المحادثات التي تقودها الأمم المتحدة عبر مبعوثها الأممي غير بيدرسون إلى أي نتيجة.

“في 2019 اجتمعنا مع غير بيدرسون ولقيت نفسي عم قله بدي قبر لابني… اللي حواليي عيونهم كلها دموع. وجه بيدرسون كان حزين وقلتله منشان ما نطالب بقبور للمعتقلين اعمل على اخراج المعتقلين. وضع ايده على صدره وقال هذا أول الملفات وأول حديث مع النظام”.

تروي مريم الحلاق عن لقائها وأهالي المعتقلين، المسؤول الأممي لنقل معاناة آلاف العائلات السورية. ومريم فقدت ابنها أيهم (25 سنة) الذي كان طالباً بالدراسات العليا في طب الأسنان، عندما تعرض للاختطاف من حرم جامعة دمشق، في تشرين الثاني/ نوفمبر 2012 وقتل تحت التعذيب.

أمضت أكثر من 17 شهراً وهي تجول على الإدارات الحكومية بحثاً عن شهادة وفاة لابنها. زميل ايهم في الكلية، والذي كان اعتقل معه وتم الإفراج عنه في ما بعد، أخبرها أن أيهم تعرض للتعذيب لساعات وتعرض للضرب على رأسه، ولفظ أنفاسه الأخيرة بين ذراعي زميله، بعد خمسة أيام من القبض عليه. ظهرت صورة جثة أيهم ضمن ما عرف لاحقاً بـ”صور قيصر”. كان على جبهته ملصق يقول الجثة رقم 320 من مركز الاحتجاز رقم 215.

شكّلت «صور قيصر» منذ بدء ظهورها عام 2013 صدمةً كان وقعها شديداً على أهالي المغيّبين قسراً في سجون النظام، لا سيما أولئك الذين تمكنوا من التعرّف إلى صور ذويهم. أصبح لـ«صور قيصر» موقع مهم في ملفات قضائية عدة تعمل جهات حقوقية مختلفة على المضيّ فيها لمحاسبة النظام السوري، وشغلت موقعاً مهماً في النشاطات الباحثة عن تضييق الخناق على النظام في السنوات الأخيرة، تكللت بتسمية حزمة العقوبات الأميركية الأخيرة، الأشد حتى تاريخه، باسم «قيصر».

مريم حلاق أسست مع مجموعة من أهالي الضحايا رابطة “عائلات قيصر” للكشف عن مصير هؤلاء. تتذكر حلاق لقاءها مع بيدرسون الذي وعدها فيه بجعل ملف المعتقلين والمخفيين قسراً أولوية، لكن الأسابيع والأشهر مرت ولم يحصل شيء، “التقينا بعدها مع بيدرسون وسألته عن وعده وشو صار. هز راسه وقال النظام ما عم يتعاون معه بهالملف”.

عادت القضية إذاً إلى المربع الأول، مربع النظام الذي تمكن من الإفلات والنجاة من حمام الدم الذي سببه، بل ونهج الاعتقال والتعذيب لا يزال هو أداة الحكم الأولى للنظام في سوريا.

“عام 2020 حسب توثيق منظمات حقوقية هناك 1882 شباً وصبية اعتقلوا بشكل تعسفي، فيما 157 قتلوا تحت التعذيب. الأرقام غير دقيقة وممكن بكل لحظة عم يصير اعتقال وإخفاء. نحنا كسوريين نعرف الارقام ما هي وردية لكن الحقيقة اسوأ”، تقول فدوى محمود.

الاعتقال والتعذيب نهج قامت عليه ما عرفت بـ”سوريا الأسد”، وهذه التسمية تسقط فور انتفاء المعتقلات والتعذيب، إذ لا شرعية لـ”حزب البعث” الحاكم وحكم آل الأسد لولا عشرات آلاف الأجساد التي أفنيت قتلاً وتعذيباً وإخفاء. فالمعتقلات من صلب فكرة النظام، وركن تأسيسي من أركانه منذ نشوئه، لكن في السنوات العشر الأخيرة تمت مضاعفة هذه الوظيفة.

ما يضاعف مرارة تجربة فدوى محمود أن اعتقالها في التسعينات كان بقرار من شقيقها عدنان محمود الذي كان مسؤول فرع الأمن السياسي، وهو من اقتادها إلى السجن بل وصفعها على وجهها، “حسيت وقتها قديش قدر النظام يشق البيت الواحد. لعبة حافظ الأسد كانت قذرة”، تروي فدوى بمرارة عن الشرخ الذي سببه نظام البعث وحكم الأسد.

إذاً، التعذيب والإخفاء القسري لم يتوقفا ولا جدية في التعاطي الدولي مع الملف.

ضغوط على مصر  والسعودية… متى سوريا؟

أخيراً، ساهم الضغط الأميركي بعد تولي الرئيس الجديد جو بايدن مهماته، في الإفراج عن الناشطة السعودية المعروفة لجين الهذلول وأخريات بل وإعلان السعودية إلغاء حكم الاعدام عن بعض سجناء الرأي والمعارضين، كما ساهم في الإفراج عن الصحافي في قناة “الجزيرة” محمود حسين في مصر. لكن المقاربة الأميركية والغربية عموماً لملف المعتقلين والمخفيين قسراً في سوريا لا تزال قاصرة ومحدودة.

“طال الانتظار وكان لا بد أن نبادر نحن أصحاب الألم من عائلات الضحايا ونضع المجتمع الدولي أمام مسؤولياته. المجتمع الدولي الذي خذلنا كسوريين وكضحايا. هذه الوثيقة خطة عمل وخارطة طريق” تقول فدوى.

في السنوات الأخيرة، بدأت دمشق تحديث السجلات المدنية وإرسال إخطارات وفاة مع عدم تحديد سببها إلى العائلات. ورأت جماعات حقوقية في الخطوة محاولة لإغلاق الملف وسط ضغوط دولية من دون أي محاسبة أو كشف للحقائق.

من يتحدث مع أهالي المعتقلين والمخفيين قسراً يمكنه أن يرى الأثر الذي خلفه هذا الملف، فالعائلات والأقارب يبدو وكأن الزمن عندهم معلق، والسنوات لا تزيدهم سوى ألماً. هم مجبرون مثلاً على دفع رشاوى لمعرفة مصير أحبائهم أو البحث بشكل يائس من خلال شبكة السجون ومراكز الاحتجاز. يواجه المخفيون قسراً والمعتقلون تغييباً من الحياة وهو المصير الذي لاقاه نصف مليون سوري على الأقل خلال السنوات العشر الماضية.

تحصل هذه المعاناة في بلد تشرد أبناؤه، فهناك أكثر ثلاثة ملايين ونصف المليون في تركيا، وحوالى مليون في لبنان، وفوق 600 ألف في الأردن، وحوالى مليون في أوروبا، وقد يبلغ نصف مليون عدد من تناثروا في القريب والبعيد من البلدان، من مصر والعراق إلى أميركا واليابان والصومال والبرازيل.

هذه المرارة هي التي كانت حافز المنخرطين في الروابط الخمس لانطلاق الميثاق وتأسيسه، حتى يسعى لتكون قضية المعتقلين والمختفين قسراً لدى النظام السوري وجميع الفصائل المتورطة في النزاع ومن بينها تنظيم “داعش” في صلب أي نقاش لمستقبل سوريا.

أحمد حلمي كان معتقلاً في سجون النظام عام 2013 وبقي نحو 3 سنوات. يتذكر كيف كانت إشاعات احتمال حدوث عفو عام بسبب الأعياد تبقي المعتقلين المكدسين في زنزانة يعيشون على آمال كاذبة من دون جدوى. لكن بعد اليأس من أن يُفتح باب الزنزانة كان المعتقلون ينتظرون منتصف الليل حتى ينام السجانون ليتمكنوا من البكاء، “ليلتها كل اللي معنا بالسجن ناموا وبعد نص الليل سمعت كل واحد من المعتقلين عم يبكي… استنوا حتى يناموا السجانين حتى يبكوا على أنفسهم وعلى عوائلهم. هذا الأمل الكاذب كان معيشنا، كنا مضطرين نتعلق بامل كاذب”.

يعتبر أحمد الذي أسس بعد خروجه من المعتقل مبادرة “تعافي” المعنية بمصير المعتقلين، اعتبر أن الأمل الكاذب الذي سيطر على مشاعره ومشاعر آلاف المعتقلين كان الحافز للعمل اليوم كي لا يترك القابعون خلف الزنازين من دون أن يعرف عنهم أحد.

درج

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى