نقد ومقالات

أحذية أطفال وطلقات دوشكا وباكيتات دخان… زغلولة يصور الموت السوري

بديع صنيج

حدَّثني فنان التصوير الضوئي نصوح زغلولة، أن صداقةً جمعته مع الشاعر نزيه أبو عفش، إحدى أساساتها كانت محبَّة العصافير. وجاء يوم اضطر فيه نزيه للسفر، ولمحبته الكبيرة لحَسُّونٍ كان لديه، أوْكَلَ أمر رعايته إلى نصوح.

وفعلاً بعد ساعة من سفر صديقه، هَرَعَ إلى منزله ليتفاجأ بأن الحسُّون ميّت داخل القفص. ولسبب لا علاقة له بالمصداقية والثقة، بل رُبَّما للحساسية الإنسانية العالية لكلا الصديقين، أبقى زغلولة الحسون الميت في قفصه لحين عودة صديقه الشاعر أبو عفش بعد عدة أيام، إذ نظر إلى الموضوع من زاوية حق الإنسان بالتأكُّد والتَّيَقُّن من وفاة من يحب، حتى لو كان عصفوراً، بحيث لا يبقى هناك أي شكّ في حقيقة الأمر مهما كانت مؤلمة.

ربما هذه الحادثة التي يعود تاريخها إلى ما يزيد عن الثلاثين عاماً، ظلَّت راسخة في وجدان زغلولة، لدرجة أنه أعاد تخليقها ضمن معرضه الأخير المُقام حالياً في “غاليري جورج كامل” بدمشق، عبر ثماني عشرة لوحة عابقة بالموت، وبقدر ما تحتفي بالغياب، فإنها توثِّق حضوره وترصد تغيُّراته وآثار وجوده المتبقية، ليس بالمعنى الواقعي، وإنما بتعبيرية عالية وفكرة فريدة، جعلت العصافير المقتولة بيادق على رُقع شطرنج، وفي مَرَّات أخرى وَضَعَهَا في مواجهة مع “طلقات الدّوشكا”.

وبروح ساخرة كانت “باكيتات الحمراء الطويلة” خصماً للكناريات الميتة في إحدى اللوحات، وإمعاناً في تصوير الموت وآلامه، استُبدلت العصافير بأحذية أطفال مُلطَّخة بالدِّماء، ولأن الحرب دائماً جائرة، فإنها غيَّرت قوانين اللعبة برُمَّتها، فزاد عدد أحجارها ليُغطي كامل رقعة الشطرنج، ولم يعد هاماً تكتيك اللعب ولا مهارة النقلات، ولا الحسابات الذهنية المعقدة واستشراف حركات الخصم وبناء استراتيجية في تحريك الأحجار، بقدر الاهتمام بتصوير بلاغة الموت، مع مراعاة جماليات التكوين، وتوزيع عناصر كل لوحة على المربعات الأربعة والستين، التي نستنتج أن كلاً منها في اللوحات الثماني عشرة هو صورة لا تتكرر نهائياً.

ومع قليل من التدقيق، نرى أن جميع العناصر تم تصويرها على رمال صفراء وأخرى مصبوغة بالأسود، وتبدو ملساء هادئة في البداية، لكنها لا تلبث أن تشهد هي الأخرى حربها وخرابها الخاص.

خاصةً في اللوحات التي ترمز إلى المقابر الجماعية، حيث تُغطّي الرمال الكناريات المتفسِّخة، ضمن تناص تشكيلي مُبهِر للحرب السورية، بحيث يمكننا القول إن زغلولة اشتغل على فكرة معرضه بالبداية وأولاها الأهمية الكبرى، جاعلاً من لوحاته بمثابة مقاربات فلسفية جمالية، تتناول حياة الإنسان السوري في حربه الوجودية المستعرة منذ ما يزيد عن عشر سنوات وحتى الآن، ولإيضاح رؤيته كان لرصيف22 هذا الحوار:

البعد الجمالي في المعرض ينصب أساساً في فكرته الفريدة، كيف بدأت فكرة هذا المعرض؟ وكيف تطوَّرت؟

كان عندي 300 عصفور كناري في منطقة الدويلعة ضمن دمشق، ومع القصف بدأوا يموتون واحداً بعد الآخر، وكلما مات واحد كنت أُصوِّره، والموضوع في البداية كان تصويراً عشوائياً للعصافير، ثم لعُلَب الدخان التي أنتهي من تدخينها، وبعد ذلك عندما كنت أفتح ملف الصور على الحاسوب، بتُّ أراهم ضمن مربعات، ثم جاءتني فكرة لعبة الشطرنج، لكن موضوع الخلفية عذَّبني جداً، حتى فكرت بقصة الرمل والبحر الذي بلع الناس، وبدأت التجريب.

ثم اقتنعت بأن هذا ما أريده، وبدأت مغامرتي في هذا المعرض بباكيتات الدخان ثم العصافير، ثم زادت العناصر قليلاً فتضمنت طلقات الدوشكا، ثم أحذية الأطفال، ثم زهرة الحُمِّيضة.

كل الصور تتم محاكمتها جمالياً من خلالها الزاوية والمنظور والإضاءة والتكوين… لكن المُلاحظ في جميع لوحاتك أن صورك الألف ومئة واثنتين وخمسين صورة كانت جميعها تُلتَقَط من الأعلى.

كان ذلك بالنسبة لي حلَّاً لضبط العمل ككل، وفي لعبة الشطرنج هناك لاعبان، وهناك عناصر يُلْعَب بهم، لذا كان هناك ما تخيّلته خارج اللوحة، أي اللاعبين، وهناك العناصر الملعوب بها والعلاقات فيما بينها، فمثلاً كان في الدخان نوع من الفُكاهة، حيث أن عُلَب دخان الماستر تشبه إلى حدٍّ كبير عُلَب الوينستون، وهكذا أوحيت إلى أن المنتج الوطني المُتمَثِّل في الحمراء الطويلة يقع في مواجهة المنتج الأجنبي.

يقول المهاتما غاندي: “رفضت دائماً لعب الشطرنج لأني لا أريد أن أقتل جيشي وجنودي وكل ما هو على أرض الشطرنج لكي يحيا الملك”، ألا توافق هذه المقولة؟

أنا صوَّرت الجميع ضحايا، بمن فيهم الملك، فهو ضحية بالنهاية، وفي بعض اللوحات الختامية أفلتت اللعبة من يديّ، ولم تعد هي المهمة، بل صار هناك مدافن جماعية ومجازر جماعية بدأت تتوضح معالمها، إذ إن المخاض الذي عشناه طيلة العشر سنوات من الحرب، جعلني أقوم بتحليل نقديّ ذاتيّ، وأحسست أنني إن لم أقله سأختنق، لذلك قلته من خلال هذا المعرض.

ألم تقيدك فكرة الرقعة المؤلفة من 64 مربع؟

على العكس أراحتني كثيراً، وضبطتني، وبتّ أفكر بالجوهر أكثر، ولم يعد الديكور الخارجي يعني لي شيئاً، بل تعنيني الحركة، التكوين والموضوع، بحيث باتت الرقعة بمثابة البرواز الضابط للكل من دون أي تمييز. طبعاً لجأت في بعض اللوحات بناء على ألعاب حقيقية، جمعت بين أبطال الشطرنج العالميين، ساعدني فيها يوسف عبدلكي الذي يمتلك موسوعة عن تلك اللعبة، وبدأت أبحث عن التكوينات الجميلة وأوزع العناصر على أساسها.

وفق قراءتي أرى أن أحذية الأطفال الملطخة بالدماء ترمز لموت المستقبل، والعصافير تحيل إلى موت الجمال والرهافة، بينما عُلب السجائر توحي بموت البهجة وقتل الوقت، هل توافقني في ذلك؟

بالنسبة لي، رأيت الأحذية هي الأطفال، والعصافير هي نحن ببساطة، بينما الدخان ولاسيما الحمراء الطويلة فهو رمز للعمال والطبقة الفقيرة، وأنا من مدخني هذا النوع، وأعرف من يطردك من غرفته إن كنت ستدخن حمراء طويلة. لكن مهما كان العنصر أو الموضوع الذي نشتغل عليه، عندما نتعامل معه بشكل جدي، نستطيع أن نُحمِّله الكثير من الأهمية. فليست أهمية العنصر في ذاته، بل ما تضفيه عليه، لذا استمتعت مع كل صورة من تلك الصور التي تتجاوز الألف، وكل منها وضعت لها إضاءتها الخاصة.

ورغم أنني “مصور شارع” وأحب أن أشتغل ريبورتاجات، ولعل أسوأ ما يمكن أن يحصل معي هو أن أصوّر ضمن الاستوديو، لكن في سنوات العشر الأخيرة سحبوا منا الكاميرا، فما عاد بإمكاننا النزول إلى الشارع، ولأن هناك شيئاً أريد الحديث عنه، لذا أُجبرت أن أعمل ضمن الاستوديو، مع أن ذاك العمل لا يعني لي شيئاً في الأساس، والمتابع لمعارضي السابقة، منذ تخرجي من قسم الاتصالات البصرية في كلية الفنون الجميلة بدمشق، فإن هاجسي الدائم هو تصوير الشام، والنقلة النوعية الثانية في مسيرتي الفنية عندما حصلت من فرنسا على دبلوم في الاتصالات الضوئية من المدرسة الوطنية العليا للفنون الزخرفية في باريس، حينها انتقلت إلى تصوير الشارع الذي أبهرني.

لذا أعتبر معرضي هذا طفرة، فليس هذا ما أهواه، ولو قُيِّض لي الذهاب إلى سوق الحرامية أو سوق الهال، لاستطعت أن أقيم معرضاً كل ستة أشهر بالحد الأقصى، لأن الحياة شيء مختلف تماماً، أما هنا فموت.

رصيف 22

——————————

نصوح زغلولة.. منذ أن عشق التصوير إلى أن اقتنص عصافير الحرب بعدسته/ ميرنا الرشيد

في السبعينيات، بعد أن ولّت فترة الانقلابات المتتالية في سوريا، وما حملته من حراك سياسي وفكري واجتماعي، وقبل نشوب حرب تشرين وحرب الاستنزاف، كان في دمشق صبي من مواليد الشاغور قد انتقل لتوّه مع عائلته من باب سريجة إلى بيت في أحد شوارع القصور، وهو الحي الذي بُني في الخمسينيات بعد الاستقلال عن فرنسا.

في بناء كان يعجّ بضجيج الأولاد والفتيات وهم يتّنقلون بين شققه المفتوحة الأبواب والقلوب، ومع صوت حنا مينة الهادئ في الطابق الثالث، وهو يدعو الصبي مع أقرانه للجلوس على أرضية الغرفة حيث يوزع عليهم الكُتب ليواكبوا العِلم الذي حُرم منه في طفولته، تفتّح وعيُّ نصوح زغلولة، موهوب ومحترف التصوير الضوئي، والجامع بين تناقضات الضوء والظل والأبيض والأسود.

في ذلك الحي الواصل بتفرعاته إلى ساحة التحرير في نهاية شارع بغداد، وفي طريق عودته من مدرسة أُميّة الثانوية الواقعة على الطريق المؤدي إلى حي باب توما، كان انتباه نصوح يَنشدّ إلى بناء أُسّس بمرسوم صدر عن الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر قبل الانفصال بعام، هو بناء كليّة الفنون الجميلة القديم المُطل على الساحة، بطوابقه الثلاثة، وأقسامه من النحت والتصوير والرسم، وسطحه حيث كان يجتمع الطلاب والطالبات في فترات الاستراحة، يتحدثون عن الفن والحب والحرية.

“هذه هي الحياة، وهنا سأدرس”، حدّث نصوح نفسه في تلك الأيام.

بعد انتهائه من الدراسة الثانوية بعام، ورَفْض قبول طلبه بالانتساب إلى الكُليّة، تعرّف إلى الشاعر نزيه أبو عفش، ألّف بينهما فارق عُمر يقارب أربعة عشر عاماً، وآلام شقيقة مبرحة في الرأس، ورحلات صيد العصافير، وجلسات كان يحضرها أصدقاء نزيه مثل فاتح المدّرس وشوقي بغدادي ونايف بلّوز.

هناك، في كراج نزيه أبو عفش الطولي الشكل في حي القصور، حيث كان يسكن مع زوجته والعصافير، تذوق نصوح لأول مرة مذاق العنب المقطّر المخلوط باليانسون المعروف بالعرق.

تقدّم إلى كليّة الفنون الجميلة بطلب انتساب ثانٍ، وبدأ مع مئة وخمسين طالباً وطالبة الدراسة الفعلية مدة أربع سنوات عام 1978. في السنة الثالثة، طلب من أساتذته أن ينجز مشاريع المُلصقات الإعلانية باستخدام التصوير الضوئي وليس بالرسم كما كان سائداً، فوافقوا على طلبه بعد أن أبهرهم بتوظيفه الدقيق والمميز لتقنيات التصوير، وفي عام 1982، وكان قد ناهز الثالثة والعشرين من العُمر، تخرّج بترتيب أوليّ، متفوِقاً على دفعته بالكامل، مختصاً بالاتصالات البصرية، بعد أن أنجز مشروع تخرج على شكل تقويم لأشهر السنة الميلادية، ضمّنه اثنتي عشرة صورة لدمشق القديمة، اقتنته منه وزارة السياحة لشدة ما نال إعجابها.

في تلك الأيام، كانت الأحداث في سوريا تنحو نحو تبدل لا يُبشّر بالخير، فقد شهدت حصاراً اقتصادياً خانقاً، وهي إلى الآن ما تزال محاصرة، وتمدداً دينياً شوّه مسارها وصورتها الثقافية والاجتماعية وأغلق العقول المنفتحة، رافقه تمرد الإخوان المسلمين المسلح، وخَنْق أصوات المعارضين الشيوعيين للسلطة.

عمل نصوح بعد التخرج معيداً في الكُليّة لعام كامل بناءً على طلبٍ خاصٍ من أساتذته، كان على رأسهم أستاذ مادة التصوير الضوئي والفنان التشكيلي إحسان عنتابي، الذي وجد فيه متقناً فريداً لها، لكنّ دمشق التي يحبها لم تكن تتسع لطموحاته، فترك التدريس، وغرفته في بيت عائلته حيث كانت ركناً لأحواض التحميض، وولادة قصص الحبّ والشقاوات الأولى، وتجمعات الأصدقاء والصديقات، وحملها في ذاكرته إلى فرنسا لاستكمال دراسته في المدرسة الوطنية العليا، المدرسة التي أسسها رسّام بلاط لويس الرابع عشر والشخصية البارزة في الفن الفرنسي تشارلز لو برون عام 1648. اختير نصوح من بين مئتي متقدم ومتقدمة لاختبار القَبول الذي لم يتمكن من اجتيازه سوى اثني عشر منهم.

في اليوم التالي من وصوله إلى باريس، تعرّف إلى يوسف عبدلكي، أحد رواد الفن التشكيلي في سوريا و”المُعلم” حسب وصفه، “ليس بالتصوير فقط بل بالفن بشكل عام”، ليكوّن معه صداقة عميقة ما تزال حيّة إلى الآن. أمضى الأشهر الثمانية الأولى وهو يتعلم اللغة الفرنسية، ويتجول في شوارع مدينة الفن والأنوار والعطور، موثقاً بآلة تصوير الفيديو حركة الناس والطيور وعراقة الأبنية، ويتلقف من بعيد أخبار مدينته التعيسة.

بعد عام من التحضير، دخل إلى قاعة الامتحان ليجد أمامه عشرة من نخبة أساتذة التصوير الضوئي في أوروبا. عرض عليهم ملفه المكوّن من مجموعة صور لأحياء وشوارع باريس، فبدت على وجوههم علامات الدهشة والإعجاب. سأله أحدهم، وكان فرنسي الجنسية: “هل تريد أن تقيم معرضاً بهذه الصور؟” فرد عليه نصوح بالنفي.

أعاد الأستاذ السؤال بصيغة أخرى قائلا”: ” ما الذي جاء بك إلى هنا؟”

“أريد أن أتعلم التصوير”، ردّ الشاب الذي كان قد بلغ من العُمر حينها خمسة وعشرين عاماً.

امتدت فترة الدراسة ثلاث سنوات فقط، ذلك أن كفاءته جعلته يتجاوز السنتين الأولى والثانية، كان عليه خلالها أن يعمل عدة أعمال مؤقتة لتأمين معيشته، فعمل شماساً في كنيسة سان جوليان لو بوفر، وهي إحدى أقدم المباني الدينية في المدنية، يعود بناؤها للقرن الثالث عشر الميلادي، كان يجني من العمل فيها مع صديقين آخرين مئة فرنك فرنسي في اليوم الواحد، يتقاسمونها فيما بينهم، ويشتري بحصته التي تساوي ثلاثة وثلاثين فرنكاً وجبة واحدة وزجاجة بيرة، ويدّخر منها عشر فرنكات لدفع أجرة البيت.

عمل أيضاً بغسل الصحون في المطاعم وحمل المتاع والأغراض، لم تكن هذه الأعمال منفّرة لشاب عشق التصوير منذ السابعة من عُمره، وأتقنه باحترافية عالية معتمداً على إصراره وتوليفة ذهنية وبصرية مكّنته من تصوير ما هو مادي بطريقة إبداعية.

فيما بعد، حالف نصوح قليلاً من الحظ، فبدأ العمل مع بعض المجلات والصحف العربية، مزوداً إياها بصورٍ من صُلب الحياة اليومية في شوارع باريس، منها مجلة الموقف العربي، وقد توقفت عن الصدور عام 1988، كما عمل على إثراء مقالات الكاتب الراحل جميل حتمل بصور تناسب موضوعاته في جريدة القدس العربي، وكان قد أصدرها مجموعة من المهاجرين الفلسطينيين عام 1989.

بعد تخرجه عام 1987، قرّر العودة إلى دمشق، لكنّ مصادفة لقائه بيوسف عبدلكي في أحد شوارع باريس، جعلته يعدل الخطة، ويستجيب لرأيّ يوسف أن يبقى سنة أخرى ليختبر فرنسا بعيداً عن ضغط العمل والدراسة. جرّت تلك السنة على نصوح عشرين سنة أخرى من الغربة، أسس خلالها عملاً مستقلاً في طباعة الكُتب والمجلات، زاد من ارتباطه المادي في مدينة لا يجيد سكانها التواصل فيما بينهم، وتمر حركة الزمن فيها بتسارع لا يهدأ. انقطع عن دمشق تسع سنوات متتالية، لم يستطع خلالها أن يزور مدينته المحببة، ويعاين بعدسته ما يحدث فيها من تغييرات تحت السطح.

الصمت في دمشق، لم يكن يوماً علامة على سبر أعماق الذات، ومراقبة ما يعتمل فيها من غضب وعنف وكراهية ونفاق، إنه دليل اتكالية وعدم انخراط جريء في الحياة، ففي كل مرّة تقع فيها الكارثة، ويسود العنف، وتصبح الحياة أشدّ ثقلاً ومرارة، يعيد أهلها اجترار الأفكار والأفعال نفسها، فيلجؤون إلى الله الساكن حسب فهمهم في الكنائس والمساجد، ظناً منهم أنه ينتظرهم هناك.

مرت أيام نصوح في باريس بروتينها اليومي، لا شيء فيها سوى العمل المتواصل والحنين إلى دمشق. عام 2006، وبينما كان في مقهى النوفرة العتيق المواجه للمسجد الأموي، هاتَفَه النحّات والرسام فادي يازجي داعياً إياه إلى مرسمه، فلبّى الدعوة، واتجه إلى حي القشلة للقائه. في الطريق، وبين حارات دمشق القديمة، لم يستطع أن يقاوم دفء المكان وحميميته، فالتقط بهاتف النوكيا النقّال ما شعره بقلبه، وكانت حصيلة عشرين دقيقة من تصوير طرقات متعرجة، وبيوت عربية تستند إلى بعضها بعضاً، وضوء منعكس عليها ومخزّن في ذاكرته منذ الطفولة، أربعمائة صورة اعتبرها أهمّ إنجاز في حياته. عندما عاد إلى باريس، وعمل على تحميضها وطباعتها، أشار إليه يوسف عبدلكي أن يُنجز منها معرضاً، فكان معرضه الفردي الأول بعنوان “دمشقيات”.

عام 2007، أنهى إقامته في باريس وحياةً وصفها بالجحيم، واضعاً الحدّ لسؤال أتعبه لسنوات أن “متى ستحين العودة؟”، وأوقف عمله في الطباعة، وتدريس مادة التصوير الضوئي بالأبيض والأسود في المعهد العالي للسينما، وعاد أدراجه إلى دمشق بعد سبعة وعشرين عاماً، إلى المدينة التي كان سكانها في ذلك الوقت يبتعدون أكثر فأكثر عن تأمّل النفس، ويؤسسون بوعيّ وغير وعيّ كيانات داخل الكيان الأكبر، ويقتربون من وقوع الكارثة.

لم تكن عودته من أجل إقامة مشاريع فنية، فهو لم يستهوِه يوماً كسب المال من التصوير، كل ما كان يريده أن يتجول بكاميرته في مدينة يشعر أنها على مقاسه، وأن يحاورها بعين تقدّر جمالها وقِدم حضارتها، مستسمحاً إياها عن مقدار الإهمال الذي لحق بها. بعد مضي سنتين على وصوله، عمل مدرّساً في الجامعة العربية الدولية، وفي فترة لاحقة، عُين عميداً لكلية الفنون فيها، لكنه استقال قبل انتهاء المُدة المحددة بعام لعدم رغبته بالعمل الإداري، وعاد إلى التدريس، وهو الآن رئيس قسم الاتصالات البصرية فيها.

مهما يُخيّل لنا أن الارتباط بالمدينة عميق، ومهما يتصور أحدنا أنه غير قابل للانفكاك، يأتي وقت يصبح فيه هذا الشعور عبئاً، وضجيج الشوارع مُقلقاً، والهواء خانقاً، وحركة الناس رتيبة، والكلمات مكررة، والمشاعر مفتعلة، فالإنسان الراغب بالتحوّل ليس مُعدّاً أن يبقى في مكان واحد طيلة حياته، ذلك أن السير في أماكن مجهولة قدر لابد أن يصيبه.

بعد مرور ثلاث سنوات على عودته إلى دمشق، بدأ نصوح ينسحب منها ليستفرد بطقوس وحدته الاختيارية، فاشترى بيتاً لا يجاوره بيتٌ آخرُ في قرية عين الشعرة الواقعة عند سفح جبل الشيخ، فيه مئة وسبعون شجرة زيتون، وراح يزرع في الأرض المحيطة بضع أشجار من الفستق الحلبي، ويرافق الكلاب وطيور الحمام في رحلتها اليومية إلى الجبل، ويسمع هبوب الريح وخفق الأجنحة بقلب مُنصت وعقل حاضر. في تلك الأثناء، كانت عقول الناس في سوريا كلها قد وصلت إلى مرحلة تامة من التصلب والانغلاق، لم تترك موضع خُرم لنفاذ ضوء إليها يجعلها تتجنب الكارثة.

آخر سكان دمشق

اجتمعت العقول وقررت أنّ تفحُّص جذور المشكلة بتأنٍّ ووعي، أمر عقيم، وأن العنف هو طريق السلام الوحيد، مدّعية أنّ في هذا مصلحة الجميع، فمال الناس حسب ما يغذي أوهامهم وتصوراتهم إلى طرف دون آخر، وشُرّعت الأسلحة، فوقعت الحرب، وبدأت دوامة القتل النفسي والمعنوي والجسدي تدور في متاهات لم تجد منفذاً لخلاصها حتى الآن.

لم يعد للحياة مكان في دمشق، وأُعلن موتها مع انفجار القنابل وصفير قذائف الهاون المتساقطة فوق رؤوس الجميع. كان نصوح في تلك الأيام قد حُرم من معتكفه في عين الشعرة، وصار يراقب الحرب من بيته في حي الدويلعة، يفصل بينه وبين معارك جوبر ما لا يزيد عن نصف كيلو متر، فخطر له أن يضع صندوقاً كرتونياً، صنع فيه فتحة لعدسة الكاميرة، وظل جالساً فيه أشهراً عديدة، يصور الحيّ المطل على الحرب، وكان عند اشتداد القصف، ينزل مسرعاً إلى ركن آمن في البيت، تاركاً الكاميرة تكمل التقاط الملل والعجز والموت.

في الحرب، لم ينقطع عن تربية الطيور، أكثر المخلوقات قرباً إليه، فعبد أن حصل على أربعة منها، وتوالدت إلى أن وصل عددها إلى ثلاثمئة طير، راحت تموت من شدة الخوف، لقد أرعبها مشهد سماء اسود لونها بفعل القصف، حينها كان قد مضى على الحرب سنتان.

في التخطيط لتنفيذ قتل عصفور واحد، لابدّ أن تتكون بركة دماء لسرب كامل من العصافير القتلى، وقد يحدث أحياناً أن ينجو بعض منهم، غير أن حركة الشهيق والزفير لا تعني أرواحاً نابضة، فهم يعيشون القتل بصورة أخرى.

بدأ نصوح يصوّر العصافير المقتولة فوق سطح بيته. في البداية، فكّر أن الصور ستكون لطبيعة صامتة من العصافير، لكن عندما جمعها على شاشة الحاسوب، قرّر تحديد العناصر داخل مربعات، فتولدت في مخيلته رقعة الشطرنج، وتحولت فيما بعد مع عناصر أخرى إلى ثماني عشرة لوحة، تُعرض الآن ضمن معرض فردي بعنوان “آخر سكان دمشق”، في كاليري جورج كامل بحي المزة الشرقية.

صور العصافير في اللوحات ليست لعصفور واحد، ففي كل صورة عصفور مختلف عن الآخر، إنها تمثل حصيلة قتل شعب بأكمله في الحرب. وعلى الرغم من أنها ليست طيراً واحداً، إلا أنه لا فرق بين طير وآخر، فهي تظهر في مشهد واحد، الجميع فيه قتلى.

عمل نصوح على هذه التوليفة مدة ثلاث سنوات متواصلة. حينها كانت الحرب تزداد وطأة، ويزداد معها قتل الناس وغرقهم في البحر. لم يضبط اللوحات كلها حسب قواعد لعبة الشطرنج، ففي الأوقات التي انقلب فيها مزاجه تبعاً لمزاج اللاعبَين، كان يكسر القواعد. أضاف إلى مجموعة الصور عناصر أخرى منها علبة سجائر “الحمرا الطويلة”، وهي علبة ملونة بالأبيض والأحمر، مستطيلة الشكل، تشبه المدفن.

في المفاضلة بين الحرب والعودة إلى فرنسا التي يحمل جنسيتها، كانت الغلبة للأولى. ضجيج الحرب وبشاعتها والموت العبثي فيها، كان أهون على نصوح من الموت في مدينة لم يشعر يوماً بالحميمية فيها.

خلال تلك السنوات، أقام عدداً من المعارض الفنية في باريس وبرشلونة ودبي وبيروت وغيرها من الدول، كان يغادر دمشق بضعة أيام، ثم يعود إلى رقع الشطرنج، وآخر ما تبقى من سكان دمشق، لقد أصبحوا جثثاً وهياكل عظيمة، ولم يكن قد بقي منهم سوى بضعة عناصر تدل على أن أناساً كانوا يعيشون هنا.

أصبح اللاعبان يتبادلان تحريك العصافير المقتولة وعلب سجائر الدخان الوطني. في البداية كان بإمكان كل عصفور أن يحظى بعُلبة يُدفن فيها، ومع ازدياد أعداد القتلى، صارت العُلبة الواحدة مدفناً جماعياً. لم يكتفِ اللاعبان بهذين العنصرين، فالدم لا يسيل إلا بالرصاص، وأزيز الرصاص يبعثُ في نفس القاتِلين النشوة. أُدخِلت رصاصات الدوشكا المتساقطة فوق سطح بيته إلى الرقعة، وبما أنّ الرصاص لا يقتل العصافير المحلقة في السماء فقط، إنه يطال من في الأرض أيضاً، وعلى هذا اشترى نصوح من سوق “الحرامية” مجموعة من أحذية الأطفال، مكوِّناً منها عنصراً رابعاً للوحاته.

الأطفال في دمشق الآن، بعد أن هدأتِ الحرب فيها، وأصبح بإمكانهم التجول في شوارعها والنوم على أرصفتها من دون أن يخشوا على أنفسهم من الرصاصات المتطايرة، باتوا يتقنون جمع المواد الكرتونية والعُلب البلاستيكية والزجاجية من حاويات القمامة، وفي أوقات الاستراحة يُدمنون “شمّ الشُعلة”، رغبة منهم بتحطيم ذاكرتهم، علّهم ينسون أنهم أولاد وبنات الظُلم والعتمة.

تتمدد العناصر الأربعة في اللوحات المصوّرة على خلفية رملية من بحر طرطوس، صبغ نصوح جزءاً منها بلون أسود. في كل لوحة 64 صورة خالية من التكرار. في الرمل دلالة إلى البحر الذي ابتلع عناصر اللوحات وآلاف الهاربين من سوريا وجعلهم طعاماً لكائناته، وفي الوقت نفسه تمثل موجاتُه لملايين آخرين محطةَ نجاة، وبدايةَ حياة أخرى بعيداً عن الكارثة.

تُعتبر اللوحات تفريغاً نفسياً لِما خزنه صانعها بداخله في سنوات الحرب. إنها عمل غرافيكي بصري يصوّر الواقع السوري من دون ترقيع واصطفاف، يمثل فيها نصوح حسب وصفه العصفور الوحيد الممدد في واحدة من الرقع، بعد أن قتلته الحرب، وغيّرت مسار حياته إلى غير المُشتهى.

في الحرب، يسود الخوف والعنف والدموع والحزن، وترتبك الخطوات، فهي تتسارع تارة وتتباطأ تارة أخرى، كحال الأنفاس المتصاعدة من الصدور، ينفلت إيقاعها حسب اشتداد القصف، وموقع سقوط الصواريخ والقذائف، ونتف الأشلاء المتناثرة من انفجار القنابل والسيارات المفخخة. في الحرب، يتحوّل الناس فيها إلى أشلاء وبقايا كُلٍّ لم يكن في يوم متكامل، لقد كان مجزءاً في هيئةٍ لطالما أُنكِر أنها متشظية.

ليفانت – ميرنا الرشيد

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى