صفحات الثقافة

صعود الفاشية الأمريكية: إعادة تجهيز الجاهز/ صبحي حديدي

لا يفتقر المرء إلى مؤلفات جادّة المنهج ورصينة الطرح في معالجة صعود الفاشية المتنامي في الولايات المتحدة، والأنساق المختلفة التي تتخذها هذه الظاهرة في قلب المجتمع بصفة عامة، ولكن أيضاً في المستويات القيادية العليا للحزب الجمهوري؛ وانتقال مفاعيل التفكير الفاشي إلى مؤسسات مثل الكونغرس والمحاكم الفدرالية والإعلام والصحافة والجامعات ومراكز الأبحاث. ولم تكن تلك المؤلفات تنتظر تنبيه الرئيس الأمريكي جو بايدن شخصياً، في الخطبة التي ألقاها أمام قاعة الاستقلال في فيلادلفيا مطلع أيلول/سبتمبر الماضي، وباتت الآن شهيرة ومعيارية، حتى يتعاقب صدورها؛ وتقرع عدداً من أخطر أجراس الإنذار حول الأخطار الكبرى خلف تصاعد التيارات الفاشية على امتداد الولايات المتحدة.

وفي الخطبة تلك وضع بايدن سلفه الرئيس السابق دونالد ترامب في سلّة واحدة مع جماعات الـ MAGA (اختصار الشعار الشهير «فلنجعلْ أمريكا عظيمة مجدداً»)، من حيث تهديد «ركائز جمهوريتنا ذاتها»، وإشاعة الفاشية، وتأجيج لهيب العنف السياسي، وهذه كلها تهدد «حقوقنا الشخصية، ومسار العدل، وحكم القانون، وروح بلادنا»… قلّة قليلة من أبناء أمريكا كانوا على جهل بأنّ العبارة لم يخترعها ترامب أو جماعة الـ MAGA، بل سبق أن استخدمها رئيس أسبق أيقوني في الحزب الجمهوري، هو رونالد ريغان؛ ورئيس أسبق، مشهود أيضاً في الحزب الديمقراطي، هو بيل كلنتون؛ ويندر أن تتجرد العبارة من طاقة التحشيد والتجنيد والتحريض على مستوى الشارع الأمريكي، لدى شرائح الذكور والبيض والرجعيين والعنصريين على وجه الخصوص.

صحيح أنّ ترامب وأنصاره أحيوا الشعار واستثمروه على نحو كان الأكثر توظيفاً في السياسة والاجتماع والوعي الجَمْعي، والأشدّ خطورة من حيث التوظيف والتأطير؛ إلا أنّ الجذور، كما البذور والتربة، كانت قد تهيأت منذ عقود سبقت تأصيل ترامب والترامبية.

هذه بعض فصول كتاب برترام م. غروس «الفاشية الودودة: وجه السلطة الجديد في أمريكا»، 2016؛ أو كتاب جيسون ستانلي «كيف تشتغل الفاشية: سياسة نحن وهم»، 2018؛ أو أنتوني ديماجيو «الفاشية الصاعدة في أمريكا: يمكن أن تحدث هنا»، 2021؛ أو، أخيراً وليس آخراً، كتاب غلين بيك وجستن هاسكنغ «إعادة التجهيز العظمى: جو بايدن وصعود الفاشية في القرن 21»، الذي لا يوفّر سيد البيت الأبيض الراهن من الانخراط في سردية إعادة الإرساء القديمة التي اقترنت بغالبية السياسات الاقتصادية والاجتماعية الحكومية الأمريكية، وكانت وتظلّ على الدوام بمثابة التربة الخصبة لاستنبات الفاشية. وفي معظم هذه المؤلفات، وسواها أخرى عديدة، لا يقول المؤلفون إنّ أمريكا تسير نحو الفاشية على غرار هنغاريا فكتور أوربان أو إيطاليا المقبلة في طبعة جورجيا ميلوني، بل على شاكلة ما سارت إليه عمليات اقتحام مبنى الكابيتول، وما صارت تتخذه جرائم القتل الجماعي من أبعاد سياسية أو حتى انتخابية؛ وكذلك، على نحو أشدّ تسييساً، شيوع فلسفة «الاستبدال الكبير» التي عبرت المحيط من داخل الفكر العنصري الشعبوي الفرنسي لتحتلّ في أمريكا مكانة تهديمية تنخر أولاً بنيان الدستور الأمريكي ذاته وركائز الحقوق المدنية.

والحال أنّ سيرورات «إعادة التجهيز» ليست في نهاية المطاف سوى إعادة تصنيع سلسلة من المبادئ السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي لاح أنها جُهّزت منذ السنوات الأولى في افتتاح ما سُمّى بـ«القرن الأمريكي»؛ طبقاً لتوصيف هنري ر. لوس مطلع أربعينيات القرن الماضي، الذي طالب الولايات المتحدة بالخروج من العزلة أولاً، وباعتماد مبدأ التدخل المباشر في شؤون العالم قاطبة وأداء دور القوة العظمى الديمقراطية. ولسوف تمرّ عقود قليلة قبل أن يسارع اثنان من قادة تيار «المحافظين الجدد»، وليام كريستول وروبرت كاغان، إلى اقتراح مشروعهما المسمى «من أجل قرن أمريكي جديد»؛ فلم تكن عناصره التنظيرية أقلّ من إعادة إنتاج/ إعادة تدوير/ إعادة تشغيل لاستيهامات لوس منظّر السردية الأبكر، ولم تكن خلاصاته أدنى شأناً من بوّابات فضفاضة لاستدخال تنويعات شتى من الفكر الفاشي.

طريف، إلى هذا، أنّ طرازاً مختلفاً من هوس «العلامة المسجلة» الفاشية كان قد استهوى رئيساً أمريكياً أسبق هو جورج بوش الأبن، الذي أغراه عدد من مستشاريه باستخدام توصيفات مثل «الإسلام الفاشي»، أو «الإسلاميّ الفاشيّ»، أو «الفاشو ـ إسلاميّ»؛ فكان أن ترددت هذه على لسانه خلال خطبة اشتهرت بدورها على هذا الصعيد، ألقاها بوش الابن في «المعهد الوطني للديمقراطية»، وليس في أيّ مكان آخر! ولعلّ تلك البرهة بالذات كانت واحدة من ذرى التقاء الخطّ المتشدّد للمحافظين الجدد إزاء الإسلام، والمزاج الشخصي التبشيري شبه العصابي عند رئيس أمريكي أَنَسَ في ذاته جبروتَ محاربة الشرّ على خطى الملك آرثر وفرسان المائدة المستديرة. خذوا ما جاء في مستهل تلك الخطبة العصماء:

«البعض يطلق على هذا الشرّ تسمية الراديكالية الإسلامية، والبعض الآخر يعتبره جهادية إسلامية، ويوجد كذلك مَن يسمّيه إسلاموـ فاشية. هذا الشكل من الراديكالية يستغلّ الإسلام لخدمة رؤيا سياسية عنيفة عمادها التأسيس، عن طريق الإرهاب والانحراف والعصيان، لإمبراطورية شمولية تنكر كلّ حرّية سياسية ودينية. هؤلاء المتطرفون يشوّهون فكرة الجهاد فيحوّلونها إلى دعوة للإجرام الإرهابي ضدّ المسيحيين واليهود والهندوس، ولكن أيضاً ضدّ المسلمين من مذاهب أخرى، ممّن يعتبرونهم هراطقة». وجاء في ختام الخطبة أنّ «الراديكالية الإسلامية، مثل الأيديولوجيا الشيوعية، تحتوي على تناقضات موروثة تحتّم فشل تلك الراديكالية. وفي كراهيتها للحرّية، عن طريق فقدان الثقة في الإبداع الإنساني ومعاقبة التغيير والتضييق على إسهامات نصف المجتمع، تنسف هذه الأيديولوجيا السمات ذاتها التي تجعل التقدّم الإنساني ممكناً، والمجتمعات الإنسانية ناجحة».

وبين الاستهلال والخاتمة أعاد بوش التشديد على ما يستهويه أكثر في حكاية الحرب على الإرهاب: «أنّ الأيديولوجيا الإجرامية للإسلاميين الفاشيين هي محكّ القرن الجديد الذي نعيشه. غير أنّ هذه المعركة تشبه، في أوجه كثيرة، الكفاح ضدّ الشيوعية خلال القرن المنصرم. فالراديكالية الإسلامية، تماماً كالأيديولوجيا الشيوعية، تتصف بأنها نخبوية، تقودها طليعة تعيّن ذاتها بذاتها، تنطق باسم الجماهير المسلمة. بن لادن يقول إنّ دوره تعليم المسلمين ما هو خير لهم وما هو ليس بخير. وما يعتبر هذا الرجل، الذي تربى في الرخاء والثراء، خيراً لفقراء المسلمين ليس سوى أن يصبحوا قتلة وانتحاريين. وهو يؤكد لهم أنّ طريقه هو وحده الدرب إلى الجنّة، رغم أنه لا يسير فيه هو نفسه».

لا عجب، استطراداً، أنّ بعض توصيفات بايدن بصدد أنصار ترامب من جماعة الـ MAGA، أو طرائق القدح التي يعتمدها ضدّ سلفه ترامب شخصياً، ترجّع أصداء خطاب بوش الابن بحقّ «الإسلامي الفاشي» عموماً، وشخص بن لادن خصوصاً؛ لجهة استهداف الركائز الدستورية للجمهورية الأمريكية، وللحقوق الشخصية والمدنية، ولأنّ هؤلاء «يتغذون على الفوضى، لا يعيشون في ضوء الحقيقة بل في ظل الأكاذيب»… ومن جانبها لم تتردد صحيفة «واشنطن تايمز» الأمريكية اليمينية في توظيف «العلامة المسجلة» ذاتها، ولكن من جهة اليمين هذه المرّة، فاتهمت بايدن بـ«اغتصاب السلطة التشريعية»، وأن قادة الحزب الديمقراطي تحولوا إلى «فاشيين».

وعلى هدي ترامب وجمهوريوه، يغفل بايدن وديمقراطيوه حقيقة كبرى تقول التالي: إذا كان الإسلام، مثل اليهودية والمسيحية، نتاج المشرق وعقيدة مئات الملايين في مشارق الأرض ومغاربها؛ فإنّ الفاشية نتاج أوروبي صرف انفلت من عقاله الديمقراطي الفكري والفلسفي ذات يوم، فامتدّت عواقبه الكارثية إلى مشارق الأرض ومغاربها. العقبى، مع ذلك، تتجلى في إعادة تجهيز الجاهز، وإعادة رشقه على ما قد يكون فيه، أو لا يكون!

كاتب وباحث سوري يقيم في باريس

القدس العربي

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى