شعر

يو جيان: شاعر الحداثة الصينية

اسم الشاعر بالصينية: 于坚

اسم الشاعر بالانجليزية: Yu Jian

ترجمة شوقي عبد الأمير

هذا النصّ الشعري الذي أقدمه للمرّة الأولى في اللغة العربية نشر في العدد 120 من مجلة شعر الفرنسية التي يرأس تحريرها الشاعر الراحل ميشيل دوغي. نقله عن الصينية مترجمان مختصان بـ يو جيان هما: جينجيا لا وسباستيان فيج.

ولد الشاعر يو جيان في مقاطعة “يونان” جنوب الصين عام 1954 وانتقل إلى أوربا تاركًا الصين كمعارض سياسي وما زال يعيش متنقلًا بين بريطانيا وفرنسا وأوروبا الشمالية.

كتبت هذه القصيدة عن رحلته الأولى بالطائرة عندما ترك الصين وكان عنوانها الأصلي “طيران”، لكنني اخترت لها عنوانًا من داخل القصيدة: “الطائرة المؤمنة” وهو الذي يرد في النص، أو بشكل أدقّ “هذه طائرة مؤمنة هنا لا مجال لأيّة مشكلة”.

وهذه قصيدة طويلة تقع في 80 صفحة مـن القطع الصغير مليئة بالمرجعيّات الثقافية الصينية والعالمية كما هو واضح من الهوامش. وتُرجم للشّـاعر ديوان واحد منذ مغادرته الصين وهو الذي يحمل عنوان “ملف رقـم صفر”، وقد نقله إلى الفرنسية نفس المترجمين اللذين ترجما هذا النص.

‎يو جيان شاعر مفاجئ، يمتاز بالبساطة والهدوء والعمق. لكنّ هذه البساطة ليست خالية من التداعيات والمرجعيات الثقافية والاستشهادات الشعرية من تراث الشعر والفكر الصيني أو الأوروبي، وبالأخص ت. س. إيلوت.

يو جيان في هذا النص يحاول إختزال حياته في الصين من القرية إلى المعمل، من المنزل إلى ساحة الثورة ومن الحبيبة إلى العاهرة. القصائد كلها تدور في مقعد الطائرة وتداعيات الحياة ومشاهدها تختلط بصورة الركاب والمضيفات والأكل. لكن مشـاهدات يو جيان تخترقك بلغة هادئة باردة ومريرة کالنّصال تسقط. الصورة تتداعى بجمال ورشـاقة وتلقائية في لغة تتسلسل وكأنها لا تقول شيئًا في حين أنها تزلزل طمأنينتك واسترخاءك.

يقول: “حبي الأول أعطيته لأمي وهي تغسل قدميها في طشت يوم السّبت”.

تتداعى القصيدة في ضربات شعرية غير مألوفة، وحتى يمكن القول لا ماضي لها في الحداثة الشعرية لا الغربية ولا سواها.

“أسفل الطائرة صقر ينظر بأرستقراطية فضائية قديمة لقد كان في كل التأريخ هو الكائن الأعلى لكنه الآن تحت كعب قدمي مثل كلسون قذفة الليل”.

‎لا أعرف نصًا حداثيًا بهذه الروعة والغرابة.

المفارقة الأولى الّتي تواجه القارئ لشعر يو جيان أنه شعر حديث جدًا. لا علاقة لهذه الحداثة بالشعر الغربي حيث هيمن مفهوم الحداثة الشعري في الغرب على أغلب تيارات الشعر الحديث خاصة في منطقتنا.

‎إنّ يو جيان يؤكّد بخطابه الشّعري هذا أنّ الحداثة يُمكن ألا تخضع لأبوة الغرب، ويقدم نصوصًا شعرية في غاية الأهمية كما في ديوانه “طائرة مؤمنة” الّذي يمثل رحلة الطائرة في ست ساعات، وكذلك ديوانه الأول “الملف رقم صفر” الذي وضع فيه ما كتبته الاستخبارات الصينية عنه، وكيف نقلت بشكل فوتوغرافي حتى انعدامه وبحّة صوته وتفاصيل مذهلة عن جسده وطريقة أكله ونومه.

‎كما أن يو جيان يكتب نصه بطريقة خاصة فهو لا يستعمل التشطير الشعري ولا يبسط النثري ولا يضع نقاطًا، لا فواصل ولا علامات استفهام، إنّما يترك النّص يسيل لوحده – إن جاز التّعبير- ولهذا فهو يترك فراغات صغيرة بين الكلمات والجمل في مواضع يختارها وكأنّه يريد لقصيدته أن تتنفس أو أن يعيد تركيب الفراغات والوقفات كما يحلو له لا لمنطق اللغة ذاتها.

 أفضّل أن أترك القارئ مع مقاطع معدودة لهذا الشّاعر الغريب والسّاحر لأنّي لا أحبّ وأتجنّب التّعليق أكثر على النص. علمًا أنني سأعود إليه في حلقة مقبلة بلا تقديم لأستعرض فيها نصوصًا أكثر كنتُ قد نقلتُها بنفسي عن الفرنسيّة.

لعبةٌ لِخلعِ أطرافِ الزّمنِ

وفقَ مبادئ أهم علوم الاقتصاد

خلع السّاعات الفائضة

اجتياز سيبيريا في ساعة

امّحاء الدّون بعد عشر دقائق

عبورُ براغ الضبابيّة

بدقيقة أو بدقيقتين

والتأخّر فوقَ آثارِ روما

لثلاثِ ثوانْ.

*

نسيانُ كلّ الأطرافِ

والاحتفاظُ بالهدفِ النهائيّ فقط

نسیانُ سان بطرسبورغ

نسيانُ أطراف مثل كافكا أو واترلو

نسیانُ مصلّى كنيسة القيامة بروما

نسيانُ أطراف أخرى مثل نهر الكونج والنيل

وبلاد ما بين النهرين واليونان

“لأن هذه الأجنحة ليست للطيران لكنها تخفق في الهواء فقط”.

*

الكلُّ بشوش ولطيف

يُبدي ابتسامة مُشِعّة

لا أحدَ يبصِقُ على الأرضِ

ولا يستسلمُ لتصوّراته الخبيثةِ

الحياة مختومة في قِدرِ ضغط المستقبل

جدرانٌ معدنيّةٌ كثيفةٌ

أنابيبُ محكَمةٌ للسّوائلِ

انتهى التعقيمُ

أنت الآن مُنتجٌ مُتكامِلٌ بينَ المُنتجاتِ

لم يعد عندكَ همومٌ ولا غثياناتْ.

*

عندما يقتربُ الهدفُ الموضعيُّ

وبعدَ أن تنزعَ ملابسَ العمل

يكتشفُ الخائنُ الأكيدُ أنّ لجسدها الإسفنجيّ أفكارًا غاليةً جدًّا

غاليةً جدًا

من انحناءة الرّأس إلى البروستات

المسافةُ تمتدُّ بسعَةِ 50 فلوران هولنديّ!

*

زوجٌ عجوزٌ

صارَ الكذبُ طبيعةً ثانيةً فيه

المملكةُ السّوداء الّتي ترغمه على الكذب

ليسَتْ دكتاتوريّة ما

إنّها زوجته منذ عام 1966

لم يلتقِ بعاهرةٍ لكنْ بفتاةٍ في السّاحة

ولهذا

فإنّ الشّيء الّذي يخشاهُ أكثرَ هوَ الرّقّة

يمكنهُ تصوّرُ كلّ حالات العادَةِ السريّة

لكنّهُ

أهدى يدهُ إلى المنظّمة

لا يُمكنهُ بعدَ ذلكَ استعمالُها للعمليات السريريّة

لديه بعض الرّغائب المتعفّفة في أمستردام

فهو يحبُّ أن يرى النّساء على القنال

مجرّدُ مُداعبة

أفضلُ من أن تكونَ مَسكونًا بهنّ

ليلَ نهارْ.

*

حليبٌ وأطفالٌ

صدريّاتٌ ورجالٌ

موضاتٌ وأوانسُ

مراهِقونَ مُسرِعونَ

کھولٌ مبطئونَ

الأظافرُ الجميلةُ تطيرُ الآنَ

المقاعدُ والمكيّفاتُ يمكنكَ تعديلُها كما تشاء

في السّاعة المحددة

غداءٌ مدوزنٌ بشكلٍ جيّد يقدَّمُ أمامكَ أوتوماتيكيًا

المضيفاتُ يُمكِنُ أن يعملنَ كعارضاتِ أزياء

وجوههنّ تشعُّ ابتسامات معطّرة: هل تحبُّ الشّاي أم القهوة؟

سيدتي: لدينا الفاينانشال تايمز لهذا اليوم

الهدفُ محدّدٌ بدقّة

الرّادارات تقودُ الطّائرة منَ الأرض.

*

أقدامُ الأميرةِ الممتلئةِ

تدخلُ براحةٍ في مشاءات زجاجيّة

حسبَ القياس

عالمٌ جديدٌ ينتظركُم بوقار

أمامَ الزّمن مثلَ جنتلمانٍ مهذّبٍ

سيقذفُ بكَ منْ سطحِ الأكواخِ بسكينة شريحة لحم

ثم يستركَ فوقَ خبزٍ عظيمْ

مع مفتاحٍ إنجليزيّ للزّبدة.

*

تُرى

ماذا جاءَ يبحثُ في هذه الأرضِ البعيدةِ

وماذا تركَ في قريته الصّغيرة الّتي ولدَ فيها

إنّ شخصًا ما يمكنهُ أنْ يعبرَ ثلاثةَ أجيالٍ في حياته

أن يستعملَ ثلاثةَ أنواعٍ منَ القواميس

إنّ مدينةً ما يُمكنُها أنْ تصبحَ ثلاثَ مرّات ساحَةً للبناءِ

يُمكنُها أنْ تتغيّر مِن أعاليها إلى أسافلها.

الترا صوت

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى