منوعات

كيف يسمم الحبّ.. النساء؟/ أسماء جزائري

رسم مارك شاغال واحدة من اللوحات السعيدة الرائعة، لوحة «عيد الميلاد»، وهي تعكس –فور مشاهدتنا لها- جملتنا الشهيرة حينما نشعرُ أننا تحوّلنا إلى كائنات مُحلقّة «إنّني أطير من السّعادة»، رجل وامرأة يطيران من الحبّ داخل الغرفة، محوّلاً تلك المجازات بطريقة سوريالية إلى مشاهد واقعيّة، يرتفع الرجل في الهواء ويحني رأسه نحوها بينما تبدأ قدماها في الارتفاع عن الأرض حاملة بين يديها باقة الأزهار التي تملأ بيت شاغال وتتنافس مع لوحاته، والنّاس إذ يجمعونها لإهدائها كلفتة حبّ، ينسون أنّ صنع الباقة في حد ذاته يعني تلاشيها وموتها في نهاية المطاف.. يتأسَّف شاغال وهو يقول هذه العبارات، ما يجعل بعض الحسرة تدخلُ على المشهد فتبدو السعادة أكثر واقعيّة كلّما حملت بين يديها حزناً محتملاً، إنه يرتفع ويسبحُ تحت السّقف – الرجل في اللوحة – ثمّ يهمسُ بشيء في أذنها بلطف شديد، والآن، كلاهما يطيران، رغبتهما في الطيران من السعادة اجتازت السقف، ويريدان أن يفتحا النافذة ويذهبا بعيداً نحو الأعلى، فلم يعد ذلك السقف مرتفعاً بما يكفي ليتحمل كل تلك الرغبة، المرأة الطائرة من السعادة في الحب تظهر مجددا في لوحة «النزهة» ولوحة «فوق المدينة»، نساء أفقدهنّ الحبّ أوزانهنّ، فليس هنالك عالم أكثر واقعيّة من ذلك العالم الذي يتألف من رموز ينعدم فيها الوزن كتلك التي يضمِّنها لوحاته، فكيف يسمّم الحب الذّي يُطيّر أجساد النساء؟ هل يعيدُ إليهن أوزانهن؟ هل نساء شاغال هنّ كل تلك النساء اللواتي قفز الحب من قلوبهنّ أم أنهنّ من قفزن من شرفة الحبّ؟

وجود لا تحتمل خفته

إنّ انعدام الأوزان قد لا يكون السعّادة التّي نقصدُها، إنّما الخفّة الشّبيهة بعبثيّة الوجُود، حيثُ لا تصبح للأشياء الأهميّة التّي قد تدفعُنا للقفز من النّوافذ والجسور وشرب جرعات زائدة من الأدوية والنّوم داخل أسرة المصحات، وهذا هو الفرق بين «توماس» و«تريزا» في رواية ميلان كونديرا «كائن لا تحتمل خفّته»، فلكي ندافع عن الحب بأرواحنا على أرواحنا أولا تعلّم كيفيّة الخلود، وهي مسألة مستحيلة، هروب تيريزا من عبثية توماس لم يحمها بل عرضها مجدّدا لنهاية أخرى، فما إن التقت به بعد فراق دام سنوات حتى تحقّق ذلك الموت بحادِث سير، ففي كلّ الحالات كان محكوما عليها بالنهاية التراجيديّة، سواء بالجروح العاطفية أو الجروح العبثيّة.

ذوات محطمة

لقد انتحرت الشّاعرة سارة تيسدال لأجل الحبّ، ولجأت اديث بياف إلى المخدّرات عندما لم تستحمل خسارتها لمارسيل سيردان، راسلته بعدها بواحدة من أجمل الرسائل التراجيديّة، «إلى معجزتي» وكتبت على الغلاف عنوان: «شارع السّعادة في الفردوس»، أمّا الأميرة ديانا فظلت معذّبة بحبها المُستحيل الذّي طاردته الصّحف أكثر من قلبها، وفاقمت من عذابها ما جعلها تصرخ: كيف يكون شُعور الطّفل الصّغير عندما يقرأ أن والده لم يحبّ أمه قط؟ قفزت آنا كرنينا أيضاً تحت عجلات القطار الذي وقعت محطته في الحبّ، فالعجلات التّي حملت قلبها يوما هي نفسها من دهسته، في آنا كارنينا قدّم زوجي عُصارة جهده وفيها الكثير من نفسه تقوُل صوفيا زوجة تولستوي، بينما تسحب «ساشا» بطلة قصّة تشيخوف «الحب» في الطرف الآخر غطاء الطّاولة بكلّ الأطباق الجاهزة عن الذّات لتحطم تلك الأناقة التّعيسة، قفزت جين هيبوتيرن حبيبة الرّسام موديلياني من النّافذة بعد أن فقدت حبّها، وانهارت أعصاب زوجة العالم النفّسي «هافلوك أليس» ودخلت المستشفى بعد أن وافقت على عرض زوجها بعيش كلّ منهما في بيت منفصل، لينتهي بها الأمر ميّتة داخل سريرها.. 

المرأة التي ماتت السّبع ميتات

داليدا، يااه، إنّها المرأة التي ماتت السّبع ميتات، فحينما انتحر لويجي تينكو حاولت الانتحار بعده مباشرة، فشل انتحارها فتبنت الأغنية التي كتبها، أمسكت بجُملها اللّزجة ونهضت من فراش الموت، أما أغنية «كان قد بلغ 18» فقد ودّعت بها حبيبها لوتشيو الذّي كان يصغرها بـ 12 سنة، ومعه ودّعت أمومتها للأبد، وفي أغنية «هاتفوني» أطلقت صرخة استغاثة، أنا بنظركم نجمة، لكننّي لست سوى امرأة ترك المجد كدمات على روحها، أُريد أن أسمع كلمات غير تلك التّي تُكتب عني في الصّحف، أنا بحاجة إلى صوت، اتصلوا بي، وهكذا أمضت حياتها مكسورة أمام الحبّ، تنهارُ على المسارح والأرائك وسرير النّوم، «أنا مريضة» من أجمل أغانيها، نعم يمكن لتعاسة الآخر أن يُقال عنها جميلة، في النهاية لم يعد العالم يُحتمل، قدمت اعتذارها ونامت نومتها الأخيرة، ماتت داليدا السّبع ميتات، كان الحبّ يقتطعُ من عمرها، إذ أمكنها أن تعيش طويلاً لو أنّه توقّف عن وضعهم في طريقها، لقد اقتطعتهم منها يوماً يوماً، شهراً شهراً، وسنة سنةً، تآكلت من طرف كلّ الذين سمحت لهم بالدخول إلى حياتك، إن الأصعب من إدخال قطعة معدنيّة إلى جسدك هي كيفية إخراجها، بحيث وجبت الاستعانة بقطعة معدنيّة أخرى للامساك بها ثمّ سحبهما معاً، «السبع ميتات» نفسها التي جسّدتها الفنانة التّعبيرية الصّربية ماريا ابراموفيتش عن الديفا كلاس، وعن كلّ النّساء اللاتي كن ضحية للحب، سبع حالات وفاة صُمِّمت مع العروض الموسيقيّة، مرة خنقاً، وأخرى بسمّ الثّعابين، وتاليا بطعنة سكين، ولا نعلمُ هل ماتت من أجل الحبّ أو بسببه، كلّ ما نعلمه أن الجميع يتجاهل نصيحة الشّاعرة فيسوافا شيمبروسكا الجميلة حينما قالت: أعتذر للحبّ القديم، لأنّي أرى الجديد هو الأوّل. 

سحب الكرسيّ

تقول سيلفيا بلاث: هو الرّجل الذي كنتُ أتُوق إلى حمايته، فعملت على قتل نفسي، بينما قاومت دي بوفوار الحبّ، بالرّغم من أنّها كتبت لألغرين تقوُل: وطالما تحبّني فإنّني لا أشعر بأنّ الشّيخوخة ستصلُني ولن أموت، ماتت سيلفيا لأنّ حبهّا لم يكن كافياً، ودُفنت دي بوفوار وخاتم ألغرين في إصبعها، فهل المعرفة تحمينا من النّهايات الأشدّ تعاسة بألا تمنع من العيش مع لمسة حزن أبديّة؟

عليك أن تتعلّم النّهوض عن الطّاولة التّي لا يعُود تقديم الحبّ عليها وارداً بعد، هكذا تقدّم لنا ميلاد نينا سايمون واحدة من أجمل المُساعدات الذاتيّة، وهي جسارة النّهوض عن الطاولة، خاصة تلك الطاولة التّي لا ترغب بالنّهوض عنها، لكن ولأسباب واقعيّة عليك أن تتجاوب مع «المعرفة» وتسحب قلبك ممّا يخدشُها، إعلان القُدرة على مواجهة ذلك الغزو العاطفي، ووضع حد لتلك الأيديولوجيا التي سيطرت عليك، فأصبحت عبداً خاضعاً لذلك الوجُود المزيّف، فبعد أن ينسحب الأشخاص من حياتنا، يتركون خلفهم حقولاً من الألغام، حتّى تلك الأمكنة التي لم يمروا عليها، قمنا نحن بإخضاعها لوجُودهم، أنتَ ذاتك، قمت بمساعدته على زراعتها داخل أناك، وعليك الآن أن تفتّش عليها وتقوُم بانتزاعها بمفردك، أو تخوض تجربة أن تنفجر في وجهك يومياً عواطفك الجيّاشة.

وهم التواصل

لقد نشأت «رابطة خياليّة» مثلما أطلق عليها روبرت فايرستون أستاذ علم النفس لوصف وهم التواصل الناشئ بين شخصين، والذي يُساعد على التّخفيف من مخاوفهم الفرديّة عبر تشكيل إحساس زائف بالارتباط، هذا النوع من الارتباط يتحوّل إلى حالة مسمّمة بكُليّتها، حيث يستبدل الشّعور بالحب والدّعم بالرغبة في دمج وصهر الهويات، وفقدان الشعور بالاستقلال، فيبحث كلّ منهما عن الأمان في وهم الاندماج، أو ممارسة أحد الطرفين لدور الأب أو الأم في العلاقة من خلال وهم توفير الحماية والرّعاية، إن قدرة الأفراد في مثل هذا النوّع من العلاقات على خداع ذواتهم تُمكّنهم من الاحتفاظ بوهم القرب والحميمية، ليغلقوا أعينهم بذلك عن حقيقة افتقاد العلاقة للالتزام العاطفي الحقيقي والرفقة الحقيقية، ما يجعلهما يصنعان العقبات التّي تجعل الإنسان يدمر ذاته، التدرب على أخذ الحياة على أنها حياة يكون فيها كلّ شيء قابلا للاختفاء أو الاختباء، نحن نقلق وهذا القلق الوجوديّ مؤشر واضح على أنّ الحياة لا معنى لها ولكن الإنسان صاحب الحُضور المركزيّ في هذا العالَم هو الذي يُعطي الحياةَ معناها، ويَمنح الشّرعية والمعقولية للوجُود، وبالتالي فالإنسان يصنع نفسه بنفسه ويصنع عالَمه المحيط به، ولا يمكن للإنسان أن يجد نفسَه إلا إذا كان حراً، وحينما تفقد هذه الحريّة وتجعل من شيء فانٍ محور حياتك فإنك ترميها في المجهول وهذا هو أحد الأخطاء الوجودية المروعة.. أن تكون رهينة لشيء ما.

ضحايا الحبّ

حينما سأل الصّحافي الشّاعرة الروسيّة آنا اخماتوفا عن انفصالها عن زوجها وحبّها الأول نيقولاي غوميليف أجابت: تلك فترة زواج كافية، فقد شعرت أنّ تربتي تحتاجُ إلى الإصلاح الزّراعي قبل أن أدخل مرحلة البوار، أكثر ضحايا الحبّ هم من يؤمنون بأبدية «العاشق نفسه» في قصصهم مع الحبّ، بدل الإيمان بأبدية العشق الذّي – لربما – سيأتينا على هيئة أشخاص كثر، وعدم مقدرتنا على التّجاوز لا يعني سوى أنّنا أثناء صناعتنا للذّات قمنا بإلقاء هذا الشّخص داخل ماهيّتنا على أنه غير قابل للتلاشي، أعدناه إلى لحمنا أو أعدنا أنفسنا إلى لحمه، «غزو الأنا للهو»، فنحن قطعة منه ونتلذذ باستيقاظ حواء في عودها الأبديّ إلى تلك الأضلاع، وجوده إذن مبني على ديمومة بقائه كما أوّل مرّة، بقاء زائف، سيؤدّي خروجه إلى خلخلة كينونتنا، وكأن هذه الكينونة لا تُعنى إلا بالفراغات التّي تحدثها الأنا انطلاقاً من الـ «هو» بالرّغم من أنّ الفراغ مليء بالأنا «الذكرى» حتى في غياب الآخر، وهذا بالاتفاق مع لاكان حينما قام بنقد المقاربة الهيغلية للعالم وفق الحلم بنقد «حيث كان، سأكون» الفرويدية وخلص لوجوب تجاسر لمقاربة موقع حقيقتي، أي أنّ ما ينتظرني هنالك ليس حقيقة عميقة عليّ بلوغها، إنّما حقيقة غير مُحتملة عليّ أن أتعلم العيش معها، ولعلّ أكثر تفسير لاختيارنا الانهيار عند نهاية تؤلِّف نفسها بنفسها بعيداً عن نهاياتنا المنشودة أنّنا تبنّينا ما سماه الفيلسوف الألماني ليبنتز نظريّة الإدراكات الصّغيرة، حيث يملكُ الإنسان عدداً لا متناهيا من الادراكات الصّغيرة في داخله عن كلّ شيء في الكون وعن تجاربه وتفاعله مع الأشياء والآخرين في محيطه، هذه المعطيات الدّقيقة يستخدمها الجوهر لإخضاع العالم الخارجيّ بما فيه ذلك الآخر المنشود رافضاً وجود آخر يحمل نهايته لا نهايتنا، وهو نوع من الاستبداد العاطفيّ، حيث يفقد الإنسان الحقيقة ويستعينُ بالوجود الزائف ليعيق ممارسة الحياة، فنمط التّملك سبب لسوء التعامل مع فرصتنا الوجودية، وفقدان الأوزان جرّاء تلك السعادة لا يعني أننا طرنا فعلاً في الزمن المستمر، لأنّ الزمن الآمن لا وجود له.

* كاتبة جزائرية

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى