الناس

عن وحدتنا في دمشق … بعد أن غادر الأبناء/ ميساء بلال

لم يعد يعنينا كثيراً المشاركة في كل هذا الهراء الذي تتناقله وسائل الأنباء. صرنا فقط نلاحق أشباح خوفنا في وجوه الآخرين.

ركضت العاملة المنزلية وكانت تردّد بصوت مسموع كأنّها تتكلم مع نفسها: “إنه صوت الغسالة الكهربائية، لا شيء هناك، صوت الغسالة فقط”.

كنت أحاول أن أدفع الغسّالة إلى مكانها الذي تجاوزته مثيرة عاصفة من الأصوات المختلفة وهي تكمل دورتها في التجفيف النهائي. كان الباب الذي اصطدمت به يهتزّ والمقبض النحاسي يصدر رنيناً مؤرّقاً عدا عن صوت هيجان المحرّك الذي يعمل بشكل غير طبيعي في محاولة من الغسالة أن تمضي إلى الأمام. وعندما نجحت في إعادتها إلى موقعها وهدأت الأصوات نظرتُ إلى وجه العاملة واكتشفت أنّها هرمة، إنها عجوز مذعورة. اكتشفت أنني لم أنظر قط إلى وجهها. لم يحدث أن التقت أعيننا تحت أي ظرف. كل ما يهمّني عادة هو يديها، طريقة مسح الأرضيات، طريقة إزاحة الكراسي، طريقة فك وتركيب الستائر. كل ما أنظر إليه هو مجهودها. لم أرَ وجهها من قبل. إنها بعمري تقريباً، ربما تكون أصغر قليلاً، أي أنها من نفس الجيل  المذعور.

صديقتي التي لم تنجب أسرّت لي أنها حجزت دوراً في بيت المسنين الوحيد في دمشق منذ الآن. قالت لي سأذهب إليه فوراً عندما يعلموني بقبولي، أنا وحيدة وستؤمّن لي دار المسنين الخدمات اليومية المختلفة وتوفر عليّ المواصلات ودفع الفواتير وقد أكون محظوظة وأجد الصحبة المناسبة.  تُرى بعد عشر سنوات من الآن كيف يستوعب هذا البيت جيلاً كاملاً سوف يكون بحاجة إلى خدماته؟ نحن جميعاً _ مثل صديقتي التي لم تنجب، وحيدون . نحن جيل الخائفين مهما كان موقعنا في المجتمع. متقاعدون رغماً عنا بسبب الكساد الاقتصادي والسياسي.

“إنه صوت الغسالة الكهربائية، لا شيء هناك، صوت الغسالة فقط”.

المحظوظة منا من استطاعت أن ترسل أولادها وراء أعالي البحار لتنتشلهم من هذا المستنقع، ثم جلست في وحدتها تتحسّر على أيام وصلهم.

يتجوّل زوجي في المنزل ثم يجلس على كنبته المفضلة أمام شاشة التلفزيون بوضعية الاستلقاء الجانبي ويبدأ يومه بالبحث عن قنواته المفضلّة على اليوتيوب. وغالباً ما يتابع أصحاب الأصوات العالية ومن يتمتّعون بخيال خصب في سرد الأحداث التاريخية.

أصبح المنزل جنّته الخاصّة منذ أن تقاعد في سنّ مبكّرة جداً. وبسبب خلوّ البيت من الأولاد وظروف سفرهم وجدنا أنفسنا فجأةً وجهاً لوجه أمام تناقضاتنا العديدة، لم يعد لديّ فسحتي من الوحدة التي لا أستغني عنها، ولم يعد يُحاط بالاهتمام الذي كان يحظى به عندما كان يعود إلى البيت مساءً فيجد طلباته تصل إليه قبل أن يسأل عنها.

تتحوّل الحياة إلى قفص صغير لكلينا. يجلس كل منا في ركن منه متحاشياً الاتصال بالآخر . تجمعنا وجبات الطعام التي يجب عليي أن أحضّرها بنفسي ويبدو أن عقد الزواج لا ينصّ على سن معيّنة للتقاعد. إن للمرأة عقد خدمة يستمرّ حتى الموت إلاّ إذا سبقه العجز بسبب المرض. وإذا مرضتُ قبل زوجي فمن سيتكفل بخدمتي؟ لكل هواجسه وشياطينه الخاصة التي توسوس في عقله ليل نهار.

أصبحنا نقضي جزءاً كبيراً من أحاديثنا المشتركة مع أصدقائنا في استعراض النهايات الحزينة لجيل سبقنا كنا نعتبره مثلنا الأعلى ولم نكن نفكر أن نهايته ستكون مثلنا الأسوأ. جيل نجح في تكوين أسر متماسكة تفككت، وفي تأسيس أعمال مزدهرة سقطت، وفي تجميع ثروات معتبرة لم تعد تُشبِع الكفاف.

إقرأوا أيضاً:

كانت الأسر في الماضي تحمل كبار السن فيها على كفوف الراحات. لم يكن الأب أو الأم يخافان أن يموتا وحيدين. كان الأولاد والأحفاد حاضرين في المشهد، قريبين في المكان والزمان، كان المسافر للدراسة في الخارج يعود منتصراً وتستقبله العائلة بالدهشة والفخر، تدعم تدشين حياته العملية مادياً ومعنوياً، وتتوقع منه في المقابل دعمها في أيامها الصعبة قبل أن تودع الحياة.

اليوم نحن نعلم أن الراحلين لن يعودوا وأننا سوف نواجه نهاياتنا وحيدين بمواجهة حياة قاسية وظروف لا تناسب هشاشتنا وقوانين يصرّ القائمون عليها على تعقيدها كل يوم بما يتناسب مع تدهور الاقتصاد وانحراف السياسات الدولية.

لم يعد يعنينا كثيراً المشاركة في كل هذا الهراء الذي تتناقله وسائل الأنباء. صرنا فقط نلاحق أشباح خوفنا في وجوه الآخرين.

أتمعّن في وجوه صديقات صفي وأبحث في آثار العمر على أطراف العيون وفوق الشفاه، طريقة المشي، والخوف، الخوف الرابض وراء الكلمات المتردّدة في التعبير عنه. مازال هناك بعض الأمل عند من أمّن إقامة في الخارج قريباً من أحد أولاده، لكن الخوف من الوحدة موجود بقوة لدى الجميع.

هل يعلم من سبقونا أن اليوم الذي سنحسدهم فيه على نهاياتهم قد حلّ بالفعل؟

درج

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى