أبحاث

هل تصلح المواطنة للتعددية الثقافية في سورية؟/ شفان إبراهيم

يلعب التنوّع الثقافي، في الحالة الإيجابية، وحين تكون “مرتاحة” في ممارساتها، دوراً بارزاً في عملية تبادل الاعتراف الاجتماعي والسياسي بين الجماعات القومية. ويعدّ هذا الاعتراف بين اللغات والثقافات القومية المتنوعة، ضمن البلاد، لبنة البناء الأساسي في التنظيم الاجتماعي والسياسي ضمن الدولة. أو “ستحتلّ” الكراهية مركز الصدارة في العلاقات ويتولد العنف؛ نتيجة لرفض الجماعات القومية/ الثقافية سياسات الاستيعاب القائمة على النفي والرفض لها، والتي تُفرض عنوة من الدولة، أو حتّى النُّخب الثقافية المؤيدة والتابعة للسلطة. علماً أن الإنتاج العنفي هنا ليس بالضرورة أن يكون على صعيد المواجهات المباشرة وإراقة الدماء، بل يكفي أن يسود شعور الغبن والضعف، ومنع ممارسة الطقوس الخاصة بتلك الثقافات ويتحوّل إلى سلوك، ويتجسّد عبر العنف اللفظي، من مصطلحات تُهيج القواعد الاجتماعية… إلخ، حتى يكون العنف ساري المفعول.

من أكثر القضايا التي تُثير هواجس الشعوب غير العربية في سورية ومخاوفها، من الناحيتين، الثقافية والسياسية، الإصرار على طرح قضية المواطنة حلاً سياسياً وحيداً في سورية، وهو طرحٌ لا يزال في بداياته غير المستوية بالمعنيين، الفكري والسياسي، بل إن المواطنة، مفهوماً وتطبيقاً، لا تزال تحبو في غالبية الدول العربية التي لم تشهد كل هذا الصراع. وإذا كان نموذج دولة المواطنة هي التي يتمتع فيها الجميع بمجموعة الحقوق المشتركة نفسها، والتي تتطوّر أساساً في سياق مجتمعات سياسية أكثر تجانساً واستقراراً أمنياً واقتصادياً واجتماعياً، لا تخاف فيه الجماعات الثقافية من تميّزها وتفرّدها، فما بالنا بسورية وحمامات الدم والقتل على الهويّة. والإصرار على طرح المواطنة بوصفها حاملاً جمعياً وحلاً عميقاً للمشكلات السياسية والاجتماعية والثقافية، على حجّة أن المواطنين سيتمتعون كمجموعة بحقوق المواطنة المشتركة نفسها، كان يُمكن لهذا الطرح السياسي أن ينتعش ويتطوّر في سياق مجتمعاتٍ سوريةٍ أكثر تجانساً سياسياً وهويّاتياً، وليس في ظلّ دولة مفتتة جغرافياً ومقطوعة الأوصال، وتعاني من تصدّعاتٍ وشروخ وشلّال دم قائم أساساً على صراع هويّاتي.

وتقول الجماعات القومية والثقافية المغايرة في سورية إن هذا النموذج من المواطنة ليس سوى ردّة فعل على دعوات اللامركزية التي يُمكن للثقافات والقوميات جميعاً العيش فيها بأريحية من دون غلبة إحداها على الأخرى، وإن الاندماج سلمياً لمجموعات واسعة من الثقافات يُمكن أن يلعب دوراً في تنشئة هويّاتية جامعة من جديد، ضمن نظام لا مركزي، ولا مجال لذلك الدمج مع القطيعة والخلافات السياسية والإقصاء الثقافي والتعامل الكارثي خلال نصف قرن، بما فيه منذ عام 2011 مع مسائل التنوع العرقي والثقافي. وأي حلّ سياسي يجب أن يُرافقه معالجة القضية الثقافية في المناطق التي تشهد صراعات هويّاتية، وتخصيص جزء من إيرادات الدولة والاقتصاديات خدمة للثقافات وأنشطتها وفعالياتها المختلفة. وينطلق المعترضون على طرح المواطنة حلاً سياسياً في سورية، من أن المساواة التي تطرحها تُشكل معياراً يُعارض التمايز أو الخصخصة، مترافقاً مع انعدام أي وسيلة لتحقيق المساواة، خصوصاً أن الأغلبية/ الأكثرية العددية تنطلق من مقاربة أنها أيضاً مظلومة، وأن التنوع الثقافي خارج هويّة عروبة الدولة غير ضروري، مع وجود اعتراف بالأقوام ضمن إحدى المواد الدستورية. مقابل إصرار الجماعات على التمسّك بموقفها الرافض المواطنة، بمقاربة أنها لا تمنح خصوصية لأحد، فتصبح سورية أمام مشكلة أن التنوع العرقي الموجود لا يُقنن التنوع الثقافي الهويّاتي، خصوصاً مع طرح مفهوم “العروبة” هوية حضارية تشمل الجميع. ولا مجال لذكر باقي الهويّات الثقافية باسمها وحقوقها ومطالبيها. في حين أن القواعد الاجتماعية تعرف نفسها أنها ذات هويّة قومية ثقافية خاصة، وتنتقل تلك الهويّة من جيل إلى آخر، ومقاربتها أن عدم الخصوصية لها يجعل من هويّاتها الثقافية في خطر، والإصرار على الاكتفاء بلغة واحدة على الصعيد الرسمي، يهدف إلى إنهاء تلك اللغات على المدى البعيد.

وفي المقابل، لا بد أن يقدّم مروّجو مصطلح التعدّدية الثقافية مشروعاً وبرنامجاً سياسياً واضح المعالم، فالمجتمع في الدول المركّبة تعدّدي، قومياً وثقافياً ولغوياً، وهذا التنوّع الاجتماعي سمة واضحة وحاضرة في المجتمع السوري، بل أصبح صفة أساسية له، وطالما لن تكفّ التكتلات السياسية والجماعات العرقية/ القومية والأطر الثقافية بالبحث عن سياسة الاعتراف الرسمي بها، عبر مجموعة سياسات عامة تُسبغ على مختلف الثقافات اعترافاً رسمياً، يستتبع ذلك لزاماً وجود برنامج عمل ثقافي وخطط مطروحة بشكل واضح، فنصبح أمام مسألة ضرورة الانتقال من الحديث والوعود لواقع القوميات والثقافات المختلفة، إلى المعايير حول وجود جماعات عرقية غير عربية في سورية، مُتمسّكة بثقافاتها، وتقبل الدولة عبر الدستور والتطبيقات المختلفة لهذا الواقع المتنوع لغوياً وثقافياً وهويّاتياً، يؤكد حينها حقيقة المساواة ومعاييرها؛ لأن التميز والاختلاف لا يتحقّقان ضمن المواطنة القائمة على المساواة من دون معايير تحقيق ذلك الاختلاف، ولا يجري الانتقال من الواقعة إلى المعيار دون تحقيق المتطلبات الثقافية كهوية خاصة. أو أن إنتاج الصراع سيبقى دائماً وأبداً، لأنها أبرز أدوات الجماعات الثقافية الخاصة الساعية صوب تعبئة الجماهير بفاعلية وحركية قوية، للثبات على مطالباتها السياسية والثقافية، وتنقلها إلى الأجيال اللاحقة. ومن الطبيعي أن يتحوّل ذلك الصراع إلى جزء أساسي من التبادل اليومي بين المطالب والرافض، خصوصاً أن سياسة ترسيخ الاختلاف صيغة من شأنها إنتاج مزيد من الصراع. حيث ينظر إليها أصحاب الثقافات الخاصة على أنها وسيلة لمزيد من قهرها وضرب عمقها الوجودي، وتجدها الجماعات الرافضة التعدّدية الثقافية وسيلة مناسبة لمزيد من التعبئة على نحو أكثر فاعلية لمنع أية مطالباتٍ على مستوى التنظيم السياسي والحقوق الثقافية.

التنوع الثقافي حقيقة قائمة وواقع في سورية، ويجب إلغاء التدابير المتطرّفة في مسألة التنوع العرقي والثقافي، ويعدّها بعضهم بمثابة الإبادة الجماعية عبر منع تداول القوميات للغاتهم، وفرض الانسجام الثقافي بالقوة، خصوصاً أن أساس كل الجماعات القومية هو أساس ثقافي، لذا يجري اللجوء للتميع والمنع أو الإتيان بثقافات جديدة على مقاسات السلطة، تتمكّن من اللعب ضمنها والسيطرة عليها. والهويّة القومية لتلك الجماعات تقوم أساساً على إحساسها بالتمييز الثقافي، ليس بالضرورة تمييزاً سلبياً أو نفياً للآخر، إنما قائم على الحقوق، وعدّم التفريط بما يميّزها عن غيرها. لهذا تلجأ الهويّات القومية لترسيخ نفسها عبر الإعلام والأحزاب واللغة والتراث والفلكلور والأغاني والتاريخ والجغرافية، مقدمة نفسها كثقافة قومية/ مجتمعية/ فكرية إلى جانب أنها هوية سياسية.

ودوماً ما تلعب السلطة، وعبر أذرعها وأدواتها، الدور المحوري في إنتاج الصراع بين الثقافات المختلفة وهويّاتها، وتُغذيه بشكل هائل، مترافقاً بسيولة ضخمة من حملات التشويه للثقافات الخاصة. في حين أن الثقافة كهوية لا تحتوي على شيء متأهل في حد ذاته يؤدّي حتماً إلى حدوث الصراع بين الثقافات المختلفة، بل غالباً ما تسعى الثقافات صوب الاستقرار، وتغذية شعور الانطلاقة دوماً عند غيرها، والتعاون فيما بينها؛ لإحداث التجانس المطلوب. وفي المقابل، الخصوصية ومعايير تحقيق الحقوق الثقافية للقوميات ضمن البلاد، يجب أن تتحوّل إلى استراتيجية وموقف حازم تجاه ذلك التنوّع الثقافي. وتقوم على جملة قواعد ترشدها إلى ما هو متاح أمامها القيام به، وهو يجب أن يكون جزءاً من السياسات العامة المثبتة بقوانين ومواد دستورية لا رجعة عنها.

العربي الجديد

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى