صفحات الثقافة

الإباحية المحافظة أو «الانضباط الليبيدي» في عالم الحياة والعمل/ محمد سامي الكيال

تبدو استعادة أفكار ودراسات المعالج النفسي والمفكر النمساوي فيلهلم رايش، أمراً مُتجاوزاً وعتيق الطراز في أيامنا. ليس فقط لأن «الثورة الجنسية»، التي كان ممن دعوا إليها، بدت وكأنها حققت انتصارات كبيرة، خاصة في الدول الغربية، وصارت من بديهيات الحياة الاجتماعية، بل أيضاً لأن أبحاث رايش المتأخرة عن الطاقة الحيوية في الكون Orgon صُنّفت بوصفها «علماً زائفاً». وأثارت اعتراض كثير من العلماء، وعلى رأسهم ألبيرت آينشتاين نفسه، وكذلك تعرّض لنقد، اعتُبر ساحقاً، في عمق تخصصه الاجتماعي والنفسي.

في أوج الثورة الجنسية المرافقة للحركات الطلابية ابتداءً من الستينيات، التي أعادت اكتشاف كتابات رايش بعد وفاته، وباتت توزّع نسخاً منها في أروقة الجامعات الأوروبية والأمريكية، وترفع أغلفتها في المظاهرات الطلابية، خصص المفكر الفرنسي ميشيل فوكو جانباً مهماً من عمله الشهير «تاريخ الجنسانية» لنقد ملهم الثورة الجنسية بشكل غير مباشر: لا يمكن اختصار علاقة السلطة مع الجنس بالقمع، كما ظن رايش وغيره، فهي عملت على تكثير الخطابات المعرفية عن الجنس، وكثّفت وجوده بشكل غير مسبوق، وبدلاً من الاعتراف المسيحي السري والخصوصي أمام الكاهن، عن نزعات الجسد والنفس المحرّمة، عممت السلطة الحديثة مبدأ «الاعتراف» عبر الطب والتحليل النفسي، لتتوصل إلى تدوين وأرشفة الجنسانية الإنسانية، وتحويل المعرفة عنها إلى سلطة أكثر عقلانية وشمولاً. لم يكن إطلاق الجنسانية والإعلان عنها إذن «ثورة» بقدر ما هو مزيد من الخضوع لسؤال المعرفة السلطوي.

رغم هذا تبقى لعمل رايش جوانب مهمة، ربما لم يول لها فوكو كثيراً من الاهتمام في منهجه، وعلى رأسها البحث في عمليات «الانضباط الليبيدي» في عالم العمل. فالمفكر النمساوي، الذي أسس في الحزب الشيوعي الألماني في الثلاثينيات مركزاً لدراسة جنسانية الطبقة العاملة، قدّم إسهامات مهمة في تحليل أساليب ضبط الطاقة الحيوية والجنسية في المعامل الكبرى. وتوصل إلى نتيجة مفادها أن الجنسانية العمالية، الأكثر تحرراً من جنسانية العائلة البورجوازية المحافظة، تم كبحها على الدوام، لضمان توجيه طاقة العمال نحو الإنتاج الصناعي. هكذا سُرقت «الرعشات الجنسية المتحررة» من الطبقات الأدنى. وترافق كل تحسّن للأحوال المادية للعمال بتبنيهم مزيداً من القيم البورجوازية المحافظة، ما أدى لانتشار أشكال من العُصاب الجماعي، ساهمت بنشوء «الشخصية الفاشية».

وإذا كانت نظريات رايش عن «الشخصية الفاشية» ليست ذات أهمية كبيرة اليوم، فإن فكرة «الانضباط الليبيدي» في عالم العمل تبدو شديدة الراهنية، خاصة في عصر يمتزج فيه الانتشار الواسع للإباحية بدعوات أخلاقية قوية، تطالب بضبط وقوعدة أخلاقيات الجنس في الحيزين العام والخاص، فهل نشهد نموذجاً جديداً للانضباط الليبيدي في زمننا؟ وما علاقته بالتطورات الحاصلة في عالم العمل المعاصر؟

ثنائية حياة/عمل

يختلف عالم العمل الحالي عن العالم الذي عايشه رايش في النصف الأول من القرن الماضي، فالإنتاج لم يعد مقتصراً على قوة العمل داخل المصانع، بل بات متعلقاً بالذاتية الإنسانية نفسها، بكل قدراتها العاطفية والتواصلية والثقافية. ولا يشمل فقط المنتجات المادية، بل أيضاً كثيراً من المنتجات غير المادية، مثل الرموز والبيانات والقيم، وبالتالي فالعمل لم يعد يتم في مواطنه التقليدية وحسب، مثل المزارع والمصانع والمؤسسات الخدمية، بل في كامل الجسم الاجتماعي. وزال، من ناحية ثانية، الفرق بين عملية الإنتاج وعملية إعادة الإنتاج. والمقصود بالعملية الأخيرة النشاط المعني بتجديد الحياة وقوة العمل، أي الضرورات الأساسية للاستمرارية الحيوية للعمال وأسرهم، التي وفرتها سابقاً فئات اجتماعية متعددة، على رأسها النساء العاملات، من خلال عملهن المنزلي غير المأجور.

اليوم صار من شبه المستحيل التفريق في مهارات وقدرات العاملين بين ما هو موجه للإنتاج المباشر، وما هو موجه لإعادة الإنتاج. فالبراعة التواصلية والذكاء العاطفي والقبول الاجتماعي تؤدي لإنتاج سلع غير مادية، ذات «قيمة تبادلية» من الممكن تسويقها. وصار من الصعب بالتالي التفريق أصلاً بين وقت العمل، ووقت الفراغ، فكل ما في حياتنا قابل لإنتاج مزيد من القيم القابلة للتحوّل إلى رأسمال متراكم. تدريجياً يجد البشر أنفسهم يعملون طيلة الوقت، فعليهم دوماً أن «يطوّروا قدراتهم»، ويتعلموا مزيداً من المهارات، ويخضعوا لعدد غير متناه من الدورات التعليمية والتأهيلية، ويكتبوا كثيراً من «السير الذاتية»، ويستوعبوا مزيداً من الأفكار والمصطلحات والأخلاقيات والقيم، في كل مكان يوجدون فيه.

باختصار لم يعد هنالك انفصال بين عالم العمل وعالم الحياة. في أيام رايش كان العمال يكافحون لتقليص ساعات عملهم، وزيادة أوقات فراغهم. وما زال كثير من العمال حتى يومنا هذا يعانون من العمل الشاق المستمر لساعات طويلة، إلا أن من «يتمتعون» بوقت فراغ جيد لا يبدون مستمعين به حقاً، بل يكافحون طيلة الوقت لإنتاج وإعادة إنتاج ذواتهم نفسها، ومن ثم تسويقها في عالم عمل/حياة لا يرحم. ووسط تهديد متزايد بإفقار، بل حتى تشريد، من لا يتمتع بـ»المرونة» الكافية.

ضمن هذا الشرط لا بد أن «الانضباط اللبيدي» بدوره صار أكثر اتساعاً، فلم يعد المطلوب من العمال أن ينضبطوا فقط أمام الآلات الضخمة، موجهين كل حيويتهم للعمل عليها، وفاقدين بذلك جانباً كبيراً من قدرتهم على إطلاق رغباتهم بعد يوم عمل شاق، بل على البشر أن يكونوا أكثر التزاماً بقيم ومعايير تتحكم بحيويتهم في كل مكان، أثناء العمل وبعده، وفي الحيز العام والخاص، وإذا كانت الحركات العمالية والطلابية في سبعينيات القرن الماضي طالبت بـ»تحطيم الآلات» لإطلاق الرغبة، فكيف بالإمكان تحطيم «أدوات العمل» السائلة المعاصرة، بما فيها من قيم ورموز وأنماط سلوك، قادرة على النفاذ إلى حياة البشر في كل مناحيها؟

الجنس الملتزم

إلا أن عصرنا لا يشهد كبتاً جنسياً مباشراً بالتأكيد، فالجنس خارج إطار الزواج، الذي طالما دعا أنصار الثورة الجنسية لشرعنته، بات أمراً مقبولاً وسائداً، والمتعة بلا قيود صارت لها نواديها ومؤسساتها الترفيهية المعروفة والمعلنة، دعك من أن المواد الإباحية وشبه الإباحية، باتت منتشرة بشدة، ليس فقط في أندية الفيديو ومواقع الإنترنت «المخصصة للبالغين»، بل حتى على تطبيقات مثل «يوتيوب» و»إنستغرام» و»تيك توك»، التي لا ترى فيها دائماً مخالفة لما تسميه «قيم المجتمع»، فيما توفّر تطبيقات المواعدة فرصاً كبيرة للقاء الجنسي.

في الوقت نفسه نشهد تصاعداً لدعوات أخلاقية تطالب بضبط العلاقات الجنسية، ووضع محددات صارمة لها، تدخل في القوانين الجنائية للدول، ولكن ليس لأسباب تتعلّق بالعفة أو الفضيلة، بل لمنع الاعتداء على الذوات الفردية، التي قد تشعر بالتعرّض للتحرش والاغتصاب والأذى النفسي، وكأنه كلما ازدادت الإباحية ازداد معها التشديد الأخلاقي والرقابة على كل تواصل إنساني، هنالك كثيرٌ من الجنس، ولكنه يجب أن يكون جنساً «ملتزماً» على ما يبدو.

يمكن بهذا المعنى القول إن الانضباط الليبيدي في عصرنا يتعلّق بتكريس نمط الذاتية الحالي، وهو الاستثمار الأساسي في عالم الحياة/العمل. فلا بد من حماية الذوات المفردنة من انتهاك حساسياتها وخصوصياتها، الذي يزداد احتماله مع ازدياد ما هو معروض من علاقات جنسية، ولذلك يقترب تعريف التحرش والاغتصاب، الموسّع بشدة في أيامنا، من تعريف «العدوان المصغّر»، ويُربط بالإحساس الذاتي للضحية، وأسلوبها الحالي في تأويل ذاكرتها، وليس بمعايير جنائية موضوعية، وتغدو الجنسانية المنطلقة اليوم أقرب لاستعراض الذات الفردية ومفاتنها، من الدخول بعلاقة اجتماعية من آخر، ستؤدي حتماً إلى «أذى». يذكّر هذا بحديث فوكو عن تكثيف حضور الجنس، وزيادة الخطابات حوله في الآن ذاته، إلا أنه لا يمنع العودة مجدداً إلى «ثورية» رايش.

العودة لرايش

لم يرد رايش من «تحرير الرعشة الجنسية للعمال» الدعوة لمجتمع إباحي، كما اتهمه حتى رفاقه من الشيوعيين الألمان، بل علاج نوع من العُصاب الجماعي ذي الأبعاد السياسية والطبقية. ويبدو أن نمط الذاتية المعاصر ينتج بدوره كثيراً من أنماط العُصاب، المؤدية للعجز عن التواصل الفعلي مع الآخر، والشعور المتزايد بالأذى، والغرق بمشاعر الخوف والتوتر والاكتئاب ورثاء الذات. ربما لا يكون «التحرير» على النمط الرايشي اليوم يتطلّب ثورة جنسية جديدة، بقدر التخلّص من تكاثر خطابات الجنس المحاصرة للذوات، وضبطها الليبيدي شديد الإرهاق، أي معارضة توجيه جنسانية البشر بتعليمات أخلاقية فوقية، أياً كانت مبرراتها، وإعادة شرح تجاربهم لهم بمنطق أيديولوجيا التظلّم السائدة، والأهم التخلّص من التعريف السلبي للذات، بوصفها موطناً لتراكم الأذى والمظالم، وسجنها ضمن دائرة سحرية تحميها من اعتداءات الآخرين بالغة الصغر. فقد يمكن للبشر في النهاية اكتشاف متعهم في حيزهم الخاص، وخوض تعقيدات التواصل الإنساني، ومناطقه الرمادية الكثيرة، دون تدخّل من «المؤثرين» والمشاهير وناشطي المنظمات غير الحكومية.

كاتب سوري

القدس العربي

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى