مراجعات الكتب

تاريخ الكذب يغمر جغرافيا الأدب!/ شريف الشافعي

لطالما يحلم المبدعون بانعدام الكذب في ما ينتجونه من إبداع، وهو ما يعني تحقق تلك المطابقة الافتراضية المستحيلة بين الحالة أو الصفة أو الشيء أو المسمّى (أيًّا كان هو) الذي يعبّرون عنه، وبين ماهيته وجوهره وأصله الـ”كما هو”. وعند اعتماد المبدع على اللغة (الصنيعة القاصرة الفاسدة)، كما في الشعر مثلًا، يصير ذلك الحلم بانتفاء الكذب أصعب منالًا، حتى في أقصى درجات تجريد اللغة، وتحريرها من تاريخها، ونزع دلالاتها التوصيلية الراسخة، ومحاولة إكسابها حمولات إشارية وإيحاءات ترميزية مغايرة للسائد المباشر. 

وهكذا، في حقول الفن والأدب، كما في فضاءات الحياة كلها، يصير الانصياع للكذب لدى الكثيرين اختيارًا واجبًا، ويغدو الاعتراف بالادّعاء وإقرار الزيف والتدليس أمرًا حتميًّا، وهو ما أشار إليه مثلًا الشاعر البرتغالي فرناندو بيسوا بقوله “الشاعر مُدّعٍ، يدّعي بدرجة من الإتقان، تصل إلى ادّعاء ماهيّة الألم، الألم الذي يشعر به حقًّا”.

ولقد خلع آخرون، من المبدعين والفلاسفة والمؤرخين، مبدأ “التظاهر” على كل ما في الوجود، وعلى الإنسانية جمعاء في كل تمثلاتها، فتحدث الفيلسوف الألماني فويرباخ عن أن التظاهر هو جوهر العصر “سياستنا تظاهر، أخلاقنا تظاهر، ديننا وعلمنا تظاهر”، وتحمس المؤرخ الفرنسي ألكسندر كويريه لفكرة أن “الإنسان جُبِل على الكذب”، ووصل الروائي الأميركي فيليب ك. ديك إلى أن الكلمة أكثر واقعية من الشيء الذي تعبر عنه، لأن الكلمة ببساطة “لا تعبر عن الواقع، بل هي الواقع”، حيث لا يدرك أحدٌ عاديٌّ جوهر الأشياء.

وفي كتاب “تاريخ الكذب”(*) للإسباني خوان خاثينتو مونيوث رنخيل، من ترجمة طه زيادة، فإن هذه المقتبسات السابقة الدالة، وغيرها، تأتي كعبارات استهلالية لهذه الدراسة المثيرة الشيّقة، التي تفتح قوسين واسعين جدًّا، ليندرج بينهما الكذب بكل صوره ووجوهه ومعطياته وآثاره في هذا العالم المراوغ، العالم الذي لم يكن ليستمر حتى يومنا هذا لولا تكيفه مع الكذب.

وبالتوازي مع نهوض العالم على سلسلة من الأكاذيب المتشابكة، فإن الإنسان بدوره قد قُذِفَ به في مؤامرة من الأكاذيب، كما يرى خوان خاثينتو. فالمجتمع مبني على الأكاذيب، والبيولوجيا الحيوية اختُلِقَتْ من أجل الكذب، ولهذا فإن كافة الأنشطة الإنسانية هي مرتبطة بفعل الكذب. وإذا كان العقل مصممًا للحفاظ على التوازن، فإن الكذب ضروري جدًّا، وصحي للغاية في بعض الأحيان، فالجسد القوي يعتمد على عقل سعيد ومخادع لذاته، في حين يخفض العقل الموضوعي المكتئب دفاعاته، ما يؤدي إلى أمراض، ويضعف الجهاز المناعي، ويقصر العمر.

ويبدو كتاب خوان خاثينتو صادمًا إلى حد بعيد، بتبنيه الكذب مظلة لكل الأنساق الفلسفية والاجتماعية والنفسية والأدبية والفنية وغيرها، لكنه صادق مع نفسه، بطرحه نظريته على سبيل الاحتمال، لا اليقين، وبأسلوب القص التخييلي الممزوج بالمرارة والسخرية، وليس عبر البرهنة والمعلوماتية الباردة الحيادية، وفي ذلك أيضًا دعم واضح لفكرة “غياب الحقيقة”، وتأكيد لوجود أكثر من صيغة لكل ما هو “ليس حقيقيًّا”.

ولا يكرر خوان خاثينتو ما خاض فيه من قبل جاك دريدا (1930-2004)، صاحب الأطروحة الشهيرة التي تحمل العنوان نفسه “تاريخ الكذب”. ولكن من الممكن اعتبار الكتابين معًا ينطلقان من أرضية مشتركة، هي الهدم الكامل لمركزية المعرفة بمعناها المطلق. على أن ذلك المسار يأتي لدى جاك دريدا في إطار مشروعه الكبير في التفكيك ونقد البنيوية والتمركز الميتافيزيقي حول النسق، في حين ينطلق خوان خاثينتو من محاولة إدراك ما يقوله النص ذاته والشيء ذاته فعليًّا، وليس ما يشير إليه بدون أن يقوله، بمعنى تجاوز المجاز والفرضيات وبلوغ الكذب الكامن في كل ما نفعله ونقوله، في سائر الأمور المعقدة، والعادية، والبسيطة، وفي كل اللحظات المعيشة، بل وفي الأوقات التي سبقت وجودنا نفسه، مثلما يخاطب خوان خاثينتو قارئه اليقظ “أود أن تكون قد انتبهت إلى أنه لا توجد فحسب أكاذيب سابقة على وجود الإنسان، بل تفوقه!”.

يتطرق خوان خاثينتو في كتابه إلى مصابيح الكذب التي تضيء شتى الدروب، الملموسة والمعنوية، الذهنية والمعرفية والروحية والخيالية، العلمية والمنهجية والدينية والحدسية. وينطلق المؤلف من الطبيعة ذاتها، التي تمارس الكذب منذ الأزل، معتبرًا أن الغابة البكر تغص بفخاخ الخداع، وأن الكذب كان موجودًا في الطبيعة قبل ظهور الإنسان واللغة بكثير. ويستدل خوان على هذا المكر الطبيعي بالحرباء القادرة على تغيير لون جلدها بحسب الظروف والوسط المحيط، والحبار الذي يمكنه اكتساب لون آخر في ثوانٍ، وتغيير نسيجه وتركيبته الخارجية بالكامل وفقًا لقاع البحر، والذباب الذي يتظاهر بأنه نحل، والأفاعي التي تتخذ شكل الشعاب المرجانية لحماية نفسها من الأعداء بمراوغتهم، وغيرها من الأمثلة.

وبحسب خوان خاثينتو، فإن أول أكذوبة كبرى هي وجود العالم، حيث سمح لنا الكذب والخداع والادعاء، أكثر من أي شيء آخر، بالديمومة، كما يعد نظم الشعر والسرد وتأليف الحكايات الخرافية والحدس والتزييف مراحل أساسية ضمن عملية المعرفة، ويعتبر الخطأ واستراتيجية المراوغة والزعم والتخمين والاستعارة والافتراض من الوجوه الكثيرة لأسلوب حياتنا في العالم، بل وتعتبر هذه الوجوه كلها طريقتنا في تشييد العالم الوهمي. ولن يكون للباحث أو المبدع أو الفيلسوف خيار الإيقاع بأي شيء ذي قيمة، إذا لم تتوفر لديه إمكانية طرح شباك عباراته وفرضياته كشكل من أشكال الكذب. ومثلما نحتاج إلى الأدب لكي نحكي لأنفسنا الأحداث الخاصة بحياتنا، ونشرح أحداث التاريخ والنظريات من خلال إطار سردي مفهوم، فلا يمكن فهم الحياة ذاتها أو الهوية نفسها إلا على أنها مجرد حكاية. وبناء عليه، فبمجرد ظهورنا وجدنا أنفسنا منجذبين نحو القيام بأفضل ما نجيد فعله، وكان أول ما فعلناه الكذب والتخمين والمقامرة بإطلاق أول فرضية عظيمة “وجود العالم”!

ويستعرض خوان خاثينتو ما يصفه بمؤامرة الأكاذيب المتكاملة، بدءًا بما هو عقائدي وديني، مرورًا بتكوين المجتمعات، وألاعيب السياسة، والتجارة، والاقتصاد، والعلم، والحقيقة المفرطة، وما بعد الحقيقة، والحب، والموت، والأساطير، وسائر المجالات والعلاقات، وصولًا إلى ما يسمّيه “وهم الهوية”، حيث تظل هذه الأفكار الخرافية (الأكاذيب) تنتشر من خلالنا ككائنات وهمية، وكأن هذه الأفكار هي وحدها الكائن الحي الحقيقي. ولربما، بمجرد تجاوز وهم الهوية، فإن الشيء الوحيد الذي يهم ويبقى هو الأفكار التي نتركها وراءنا، وربما لهذا الأمر يصبح جنسنا البشري، في يوم ما، مفيدًا في شيء!

ومن أبرز فصول الكتاب وألطفها تلك السرديات أو “الفضفضات” التي ساقها خوان خاثينتو بشأن اعتبار الفن والأدب والإبداع مجرد أدوات للكذب. فالفن، بمنظوره، يظهر عندما نترك لأنفسنا العنان وفقًا لإرادة الخيال المحض، مع إدراكنا التام بأن كل شيء مجرد وهم. ويعتبر الفنان هو المبدع الحقيقي للحكاية والرمز والمجاز، ولهذا يعد هو الأفضل تأهيلًا للحديث عن الواقع؛ ليس من أجل تشويهه وفق هواه الخاص، وليس من أجل السيطرة عليه، أو تفكيكه محاولًا التحكم في وظائفه؛ بل من أجل الحديث عنه. وكثيرًا ما يترك الفنان نفسه ينسحق أمام الكذب، ويُنشِئ منذ الوهلة الأولى التي يحاول فيها إعادة تصوير الواقع، نوعًا من التدليس. ويختلف العمل الفني عن أنماط التدليس الأخرى، في أنه الغاية في حد ذاته.

ويمنح الفنان، بمجرد الاعتراف بتدليسه، العمل الفني استقلالية وهوية حصرية. والفنان الذي ينسى وهمه ويعتقد أن عمله مماثل للواقع أو أكثر واقعية من ذلك الذي يعيد تصويره، فإنه ينزلق إلى خداع الذات ويحط من شأن الفن. فالواقع أكذوبة كبيرة، والفن كذب على كذب، ويجب على الفنان أن يظل واعيًا دائمًا أنه كاذب، يكذب من أجل الكذب، بمنتهى الصدق!

وبحد ما يصفه خاثينتو، فإن الفنان الطليعي كذلك، المنتمي إلى عالم اليوم، هو منتمٍ أيضًا إلى هذه الأكاذيب، لأنه ينتمي دائمًا إلى سياق تاريخي، ويعايش الأكاذيب المتراكمة والأوهام التي تتحكم فيه وفي نظريات فنه، ولن يُعَدّ العمل الجديد فنيًّا في حد ذاته إذا تجرأ وتجرد من هذه الأوهام السابقة كلها. وإلى هذه اللحظة، يجد الفنان المتعة في إبداع أوهامه واعيًا أنها أوهام، ويظل مستقبلو العمل الفني حريصين على استخلاص المتعة من الكذب. وتعدّ مرحلة ما بعد الحداثة نوعًا من التأمل في هذا الوعي بالكذب، فالفنان الكلاسيكي يبدع من خلال المجاز، أما فنان ما بعد الحداثة، فيبني مجازًا فوق المجاز، وهو يعي الحالة المجازية، المؤقتة، الكاذبة، وما وراء الكذب، في كل ما ينجزه.

لقد كانت فكرة الوهم، وفق خاثينتو، حاضرة في جغرافيا الأدب منذ نشأته، وعبر تاريخه. وعلى مر القرون، لم يحدث تغيير في هذه الممارسة القائمة على الكذب، ولن يحدث شيء، سوى تجذر الوعي باللعبة، وبراعة الأداء، وجماليات التدليس، وهنا يمكن استعادة مقولة بورخيس الصريحة “كل أدب هو انتحال”!

(*) صدر الكتاب في 281 صفحة، عن دار الخان للنشر والتوزيع، الكويت، 2022.

المدن

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى