صفحات الثقافة

مقالات تناولت فكر وآراء”ألكسندر دوغين” + حوارات مسجلة

دوغين .. الأحلام الإمبراطورية تقتل الأبناء أيضاً/ غازي دحمان

غير معلوم إلى أي درجة أثر الفيلسوف والجيوبولوتيكي الروسي، ألكسندر دوغين، في قرار الحرب ضد أوكرانيا الذي اتخذه الرئيس بوتين، إذ لا يوجد ما يؤكّد قرب الرجل من الكرملين، ولا تأثيره في صناعة القرار، والذي يبدو أن بوتين يتفرّد به بشكّل كبير، إلى درجة أنه جعل من الشخصيات والرتب التي تتحلق حوله مجرّد منفذين بالقطعة لتكتيكاته.

لكن المؤكد أن أفكار دوغين كانت جزءاً مما يمكن تسميتها عودة صعود القومية الروسية، والتي تشكّلت من خليط من الأفكار السياسية والاقتصادية والعسكرية، التي أثّرت في النخبة الروسية التي سيطرت على زمام السلطة بعد الانحطاط الكبير في مرحلة حكم الرئيس بوريس يلتسين، حينما وصلت الأمور إلى حد تلميح الغرب إلى احتمال تعيين لجان دولية للإشراف على الأسلحة النووية، في ظل دولة تعيش على عتبات الفوضى، وتحكمها مافيات يمكن حتى أن تفكّر ببيع الأسلحة النووية في السوق السوداء.

لم يكن دوغين مجرّد معلق سياسي يلقي خطباً شعبوية، ولا حتى حزبياً ينتقد السياسات الحكومية في إدارة العلاقات الخارجية، بل رسم خطة طريق واضحة، ليس لاستعادة مجد روسيا فحسب، بل لإعادة إحياء عصرها الإمبراطوي، عبر السيطرة على التخوم الأوراسية، حتى وإن كان عبر اتحاد أو تكتل إقليمي تكون روسيا مركزه وصانعة دينامياته.

عندما يقال إن دوغين هو الأب الروحي لبوتين، ليس معنى ذلك بالضرورة أنه يشرف يومياً على صناعة حيثيات السياسة الروسية، وقد لا يكون من زوّار الكرملين ولا مستشاريه، لكن المؤكّد أن فلسفته التي لامست النوستالجيا الروسية، وأثرت في قطاعاتٍ واسعة من النخب الروسية، قد دفعت بوتين، المجروح بعمق من سقوط الإمبراطورية السوفييتية، والشاهد على بوريس يلتسين وهو يحطّم الشخصية الروسية بثمالته وقهقهات الرئيس الأميركي بيل كلينتون، إلى أن يجد في دوغين صانع مناخ مناسباً لركوب اللحظة الروسية الطامحة للتغيير.

دوغين، وإنْ بطريقة غير مباشرة، من صنّاع الديكتاتورية في روسيا، عبر رفضه الحداثة والعولمة، اللتين اعتبرهما مخاطر من شأنها تدمير الشخصية الروسية وتمييعها، هذه الشخصية التي ترتكز على بعدي السلافية والأرثوذكسية، بما يعنيه ذلك من تمجيد للإمبراطوريات والديكتاتوريات الروسية على مرّ التاريخ، منذ عهد كاترين الثانية في القرن الثامن عشر.

يستحقّ دوغين لقب الأب الروحي لروسيا اليوم، فمن يتابع خطوط المشروع الجيوسياسي الروسي يكتشف أن خريطته ومساراته حدّدها دوغين في كتاباته “الجغرافيا السياسية لما بعد الحداثة” الذي صدر بالعربية عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات (2022)، وكتابات أخرى من نوع “أوكرانيا حربي، يوميات جيوسياسية”، و”إنتقام روسيا الأوراسي”، وسواها من عشرات الدراسات والمقالات.

إذاً، وضع دوغين آليات المشروع الجيوسياسي الروسي، وجهّز دوافعه، وشحن طاقاته، ووضع بوتين ذلك كله موضع التنفيذ، عبر تكتيكات واستراتيجيات عديدة، مستفيداً من تراخي القوّة الغربية، أو ربما وصولها إلى مرحلة الانهماك في الترف، اللحظة التي رأى ابن خلدون أنها تشكّل مرحلة سقوط الدولة، والتي يبدو أن دوغين ارتكز عليها في تحليل أوضاع الحضارة الغربية، وبالتالي، نجد في كتاباته وصف هذه الحضارة بالانحلال والانحدار، وقد انتقلت هذه الصفات، بكثافة، إلى خطابات بوتين، وخصوصاً في المرحلة الأخيرة.

مؤكّد أن دوغين يعلم الأثمان الباهظة التي تدفعها الأمم وهي في طريقها إلى أن تصير إمبراطوريات، وهذه الأثمان الباهظة تدفعها الشعوب على الطرفين من لحم أبنائها ودمائهم، وهؤلاء الأبناء لهم آباء وأمهات سينهارون لحظة علمهم بمقتلهم، سيشعرون بانهيار مستقبلهم وضياع أعمارهم وموت كل شيء جميل في هذه الدنيا، ولن تعوّض الإمبراطورية وأمجادها هؤلاء الأبناء الذين تأكلهم نيران الحروب.

شرب دوغين نفسه من هذه الكأس عندما رأى النيران تلتهم ابنته داريا في حادث مدبّرٍ مُدان، ووقف عاجزاً ومذهولاً وانهار مثل عشرات آلاف الآباء الذين قتلت الحرب الأوكرانية أبناءهم. ولكن هل كان دوغين يتصوّر أن هذه هي تطبيقات أفكاره الحرفية؟ هل كان مؤمناً فعلاً بأن استعادة مجد روسيا يتطلب هذه التضحيات العزيزة؟ أم أنه كان يعتقد أن النار لن تصل إليه وأنها فقط ستأكل أبناء الفقراء الذين جاءوا إلى الدنيا ليكونوا أدوات بيد أمثاله، لتحقيق أحلامه ورغباته وتصوراته؟

ليس سرّاً أن بوتين، وقيادات الدول الكبرى، لديهم طائرات تسمّى “طائرات يوم القيامة” صُنعت لهم خصيصاً في حال اندلاع حرب نووية كبرى، يضعون فيها أولادهم وأحبتهم، ويرحلون إلى أماكن آمنة، ويتركون الشعوب تحترق، مع أن هؤلاء لا هم صنعوا الحرب، ولا هم من سيجري تخليدهم وتمجيدهم حين إعلان النصر.

والحال، كل فلسفة لا تهتم بالقيم الإنسانية وبحياة البشر منحطّة، حتى لو تلطّت خلف عناوين كبيرة، القومية والسيادة والمجد. وفلسفة دوغين ليست سوى روشتات لصناعة الديكتاتورية الروسية، الديكتاتورية الفاسدة والفاشلة في إنتاج أي قيم حقيقية، والتي ستبرّر فشلها بالاستحواذ على مزيد من أراضي الدول والأمم المجاورة وسحق شعوبها وتدمير حيواتهم، لأنهم في نظر تلك الفلسفة منحرفون، طالما هم يتبعون القيم الغربية.

العربي الجديد

———————–

تحالفات حضارية جديدة أم صراعات وهمية.. هل دفع دوغين ثمن قربه من بوتين؟/ رشيد الحاج صالح

يعد الفيلسوف وعالم الاجتماع الروسي ألكسندر دوغين من المفكرين الذين يحظون بمتابعة وحضور عالي المستوى في روسيا الاتحادية وبعض بلدان المشرق، وحتى في أوساط عدد من الجامعات الأوروبية. أسباب شهرته كثيرة منها القول إن أفكاره لها تأثير كبير على فلاديمير بوتين، ومنها قوله بما يسمى النظرية السياسية الرابعة، ومنها أراؤه السياسية المتطرفة، كقوله “لا عالم بلا روسيا”، وإن “الله ضد الإنترنت”، وأن ترامب صديق لروسيا، وأن روسيا ذهبت إلى سوريا لمحاربة أميركا هناك. أما آخر أسباب شهرته فيبدو أنه سيكون مقتل ابنته قبل يومين في تفجير سيارة قيل إنه هو المستهدف منه. فما هي قصة هذا الرجل؟ وهل هو من أشار على بوتين بالتوجه إلى سوريا، وشن الحرب على أوكرانيا، لا سيما أن المحللين يبينون أن بوتين أستخدم مصطلحات لدوغين في خطاباته التي ألقاها قبيل تلك التدخلات؟

يلقب دوغين بأنه “راسبوتين بوتين” (للتذكير بالتأثير الذي مارسه راسبوتين على قياصرة روسيا)، كما يلقب بـ “رأس بوتين”. أما دوغين فيبين أن علاقة التأثير هذه لا تعدو، في حقيقتها، أن كلا الرجلين يتبنى نفس الأفكار والنزعات القومية الأوراسية، مثلما يتبنى نفس الرؤى حول الأزمة التي تعانيها الليبرالية العالمية اليوم. أما أهم نظريتين يقول بهما دوغين فهي النظرية السياسية الرابعة ونظرية أن الحضارات الأوراسية مختلفة عن الحضارات الأطلسية الأوروبية، أي إن روسيا هي بنت آسيا وليست بنت أوروبا.

تقول النظرية السياسية الرابعة إن العالم عاش في القرن العشرين ثلاث أيديولوجيات سياسية هي الليبرالية، والشيوعية، والفاشية أو النزعة القومية بما فيها النازية. في نهاية الحرب العالمية الثانية انتصرت الليبرالية على الفاشية والنازية، وفي نهاية الحرب الباردة انتصرت الليبرالية على الشيوعية. ولكن كل من الأيديولوجيات الثلاث لم تجلب الأمن والاستقرار للعالم. أما مشكلة الليبرالية فهي أنها تركز على الحريات الفردية المفرطة، كما أنها تركز على اقتصاد السوق والتكنولوجيا للسيطرة على البشر، ولذلك يطرح دوغين النظرية السياسية الرابعة. وهي خليط من أفكار فلسفية ودينية وقومية تقول بضرورة تحرير الفرد من تغول التكنولوجيا والعودة به إلى حياته الوجودية الحقيقية، كما تركز على المجتمع قبل الفرد لأن المحيط المجتمعي هو الذي يجلب الاستقرار وليس الفرد.

أما نظريته حول الحضارات الأوراسية (أي الأوروبية الأسيوية)، والتي طرحها في عدة كتب أهمها كتاب “الخلاص من الغرب” ومدى اختلافها عن الحضارات البحرية الأطلسية فتقول إن هناك مجموعتين حضاريتين في العالم: الأولى هي الحضارات الأرضية (الروسية، الهندية، الإيرانية، التركية، الصينية) أي الحضارات في آسيا والجزء الأوروبي القريب من آسيا. أما المجموعة الثانية فهي الحضارات الأطلسية والأوروبية ويعني بها أوروبا وأميركا. والمشكلة عند دوغين أن الحضارة الأوروبية الليبرالية تريد أن تفرض قيمها على كامل العالم وتسيطر عليه، في حين إن هذه القيم لا تناسب الحضارات الأرضية. ولذلك يدعو لما يسميه “عالم متعدد الأقطاب” بحيث كل حضارة تعيش وفق قيمها الخاصة، وكفى الله المؤمنين شر القتال. أما الأوراسية الروسية فتعني بالنسبة له أن تسيطر روسيا، مرة ثانية، على معظم بلدان الاتحاد السوفييتي السابق، إما بشكل مباشر عن طريق الاحتلال وتعيين حكام محليين موالين لها، أو بشكل غير مباشر عن طريق اتفاقات هي في جوهرها جعل تلك الدول تحت العين الروسية.

طبعا لا يخفى على المتأمل في كلام دوغين أنه ينظّر لبقاء الأنظمة الدكتاتورية في العالم بحجة أن الليبرالية الديمقراطية لا تناسب بقية حضارات العالم، مستغلا الأزمات الاقتصادية التي تظهر من حين لآخر في العالم الليبرالي الديمقراطي، وكذلك النزعة الإمبريالية التي تدفعه إلى السيطرة على العالم، إما عن طريق الحروب أو عن طريق الاقتصاد. دون أن يصارحنا بأن الحروب هي اللعبة المفضلة لدى الطغاة – أيضا- من أجل إلهاء شعوبها عن حقوقها وبناء أمجاد شخصية، لا سيما أن الحروب تشعل المشاعر القومية المتطرفة وتوفر أداة فعالة بيد الطغاة لإسكات المعارضات وقمعها.

 دوغين متحمس للحروب، وهو من أكبر المشجعين لبوتين في حربه ضد أوكرانيا وتدخله الوحشي في سوريا. تطرف دوغين وصل إلى حد قال فيه إن العالم أمام خيارين: إما أن تتنصر روسيا وإما أن يتوقع العالم حربا نووية. كما دعا إلى عدم العمل بالإنترنت في العالم (وهي دعوات هستيرية شبيهة بدعوات ضباط المخابرات السورية الذي دعوا لقطع الإنترنت عن سوريا عام 2011 للسيطرة على الاحتجاجات). كما دعا إلى إعادة هيكلة الاقتصاد الروسي على طريقة ستالين والسور الحديدي الذي يقلل الاستيراد والتصدير من الغرب إلى أقصى درجة ممكنة.

قبل يومين قتلت داريا ابنة دوغين (30 عاما) عندما تم تفجير سيارتها في موسكو، وبحسب غالبية المحللين فإن دوغين هو نفسه كان المستهدف. كما تحدثت الأخبار عن حصول انهيار عصبي لوالدها أدخله المشفى بسبب خبر وفاة ابنته. طبعا الموالين لبوتين بدؤوا بالتنديد ووصف العمل بالإرهابي، لا سيما أن دوغين موضوع على قائمة العقوبات الأميركية ويعمل كمستشار كبير في الحكومة الروسية. حتى ما يسمى بـ “الجبهة الديمقراطية العلمانية (جدع) السورية (مقرها دمشق) كانت مهتمة بالخبر ووجه أنصارها التهم للغرب بتنفيذ التفجير”.

يقول التاريخ إن قتل أي مفكر في البلدان الدكتاتورية، بل قتل أي مواطن، والتضحية بهم تعد من أسهل الأعمال السياسية على الإطلاق، ولا فرق في النهاية بين معارض وموال، إذا كانت هناك مصلحة للطاغية. وحسبنا هنا أن نذكّر بعدد الموالين للنظام السوري الذين قتلوا في دمشق ودير الزور والسويداء ومدن كثيرة. الجريمة حصلت قبل يومين وما زالت الأخبار عمن نفذ العملية شحيحة، ولكن في دولة مثل روسيا لا نسمع إلا بالحقائق التي يريد بوتين أن نسمعها فقط. في مصر كان حسني مبارك هو من يسهل عمليات تفجير الكنائس لتوتير الأوضاع السياسية وجعل مسيحيي مصر يخافون على أنفسهم مما يضطرهم لتقديم الولاء له، (وهي استراتيجية يبدو أن السيسي يسير على خطاها). وفي سوريا لم تكن عملية قتل محمد سعيد رمضان البوطي ورستم غزالة وآصف شوكت وهشام بختيار وحسن تركماني وداوود راجحة وجامع جامع وغيرهم لتتم بدون علم أو تسهيل أو تنفيذ من قبل المخابرات السورية. والحسابات هي دائما مدى استفادة الطاغية من  أعمال كهذه.

جرائم القتل في بلدان مثل روسيا وسوريا وأشباهها من البلدان قد تحصل لأتفه الأسباب. فقد يريد الطاغية من وراء الجريمة تشتيت الرأي العام وإلهاءه بخبر صادم (أكشن)، أو من أجل تخويف أطراف أخرى، أو لتوجيه رسائل، أو للتغطية على خسارة تلوح في الأفق. ولكن من الثابت أن دوغين لم يكن يحسب حساب أن لا كرامة لمفكر في بلدان مثل روسيا أو سوريا. وأنه سيكون ممن يدفعون ثمن تلاعبهم بالتاريخ والسياسة

تلفزيون سوريا

——————–

ألكسندر دوغين.. الجغرافيا السياسية في عصر الإمبراطوريات الجديدة

ضمن سلسلة “ترجمان” في “المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات”، صدرت حديثاً النسخة العربية من كتاب “الجغرافيا السياسية لما بعد الحداثة: عصر الإمبراطوريات الجديدة، الخطوط العامة للجغرافيا السياسية في القرن الحادي والعشرين” للباحث الروسي ألكسندر دوغين، بترجمة إبراهيم إستنبولي ومراجعة إسكندر الكفوري.

يبحث الكتاب في قضايا الجغرافيا السياسية عمومًا، وقضاياها لما بعد الحداثة خصوصًا، ويتناول أهم المراحل في تطور علم الجغرافيا السياسية، ويتطرق إلى النظريات والتيارات الرئيسة في هذا العلم. ويبحث بعمقٍ وتفصيلٍ السمات الأساسية للمرحلة الحالية من التاريخ المعاصر؛ حقبة العولمة الأحادية القطب، ومحاولة الولايات المتحدة الأميركية تعزيز هيمنتها على العالم، ومتطلبات ومآلات الجهود التي تبذلها بعض الدول من أجل عرقلة العولمة الأميركية أحادية القطب وقيام عالم متعدد الأقطاب. ويشرح أيضًا سعي روسيا والصين ودولٍ أخرى لإقامة تحالف أوراسي بوصفه مشروعًا بديلًا أو موازيًا للعولمة الأميركية.

تتأسس ما بعد الحداثة بحسب الكتاب على فرضية مفادها أنّ تحديث المجتمع التقليدي انتهى بنجاح، وأنه لم يعد ثمة وجود لبُعد المقدَس في المجال الاجتماعي والسياسي والاقتصادي، وهذا هو واقع الحال في الغرب أو قريب من ذلك، إذ بلغت هيمنة الغرب على كوكب الأرض حدًّا بعيدًا اليوم أكثر من أيّ وقت مضى، ونحن أمام وَهْمٍ كامل بأنه جرى دمج ناجح لكل النخب الإقليمية من البشرية غير الغربية في سياق “الحداثة”. وقد جرى رصد ظاهرة مثيرة للاهتمام في هذه الظروف: يفوّض الغرب بالتدريج الأخبار المتعلقة بـ “ما بعد الحداثة” إلى النخب غير الغربية؛ وهذا يعني تحديد مساحة أنموذجية جديدة مدعوّة لأن تحلّ تدريجًا مكان القواعد والأنظمة “الحداثية”، وذلك بعد أن يجري حرمان المجتمعات غير الحديثة بدرجة كافية من ملامحها التقليدية بصورة فعالة ونهائية.

يمكن التمييز بين خطّين رئيسين في “ما بعد الحداثة” الروسية. الخط الأول “استعماري” بحت، وهو ليس سوى “ما بعد حداثة” غربية جرى تطبيقها في روسيا بوساطة نخب فكرية “كمبرادورية”، وكان مطلوبًا منها أن تخلق شعاعًا أو ناقلًا صريحًا لعملية التحديث المتسارع، حيث يجري تفكيك كل ما كان في جوهره “غير حداثي” في “الحداثة الروسية الزائفة” بوتيرة سريعة. وعلى هذا النحو، قامت ما بعد الحداثة بدور المؤشر والناظم لصحّة المسار التحديثي. وكانت ما بعد الحداثة في روسيا، من حيث وظيفتها في تسعينيات القرن العشرين، شكلًا من الكولونيالية المفرطة. وفرض هذا الاستعمار المفرط “نهاية التاريخ المُنجَزة” في الغرب بالقوة، وبطريقة عنيفة، على البلاد التي كان تاريخها، في مجمله، موجّهًا من أجل التخلّص والهروب من هذا المنطق (بل ربما دحضه).

أما الاتجاه الثاني في ما بعد الحداثة، فيطوِّر ما سبق ورُمِي على أعتاب العصر الحديث، أي ما قبل الحداثة بعد أن جرى تحويلها ومنحها وجهًا جديدًا. هذه نظرة ساذجة ومقدّسة، وهي تشكِّل خلفية للوجود البشري، لمنطقة اللاوعي لديه، ولطبيعته المادية، ولما هو قديم جدًّا بعامة. وفي الجوهر، يدور الحديث حول أنه نتيجةً لعملية من نوع “التنظيف بالفراغ” (Nettoyage par le vide) (يعود هذا المصطلح إلى جان بارفوليسكو)، أساس الثقافة البشرية، تبدأ بالظهور ملامح قديمة رئيسة. ويحمل هذا في طياته احتمال أن يدعى ذلك “عودة العصور العظيمة” (Le retour des Grands Temps) (المصطلح يعود إلى جان بارفوليسكو أيضًا وهو عنوان روايته الأخيرة) وتعني هذه العبارة العودة إلى ما قبل الحداثة، وإلى إعادة تقويم كل ما سبق أن جرى التخلّص منه ورميه عند أعتاب الحداثة. وهنا نحن نقترب حثيثًا من موضوع الإمبراطورية. ذلك أن فكرة الإمبراطورية سبق أن وقع تجاهلها على أعتاب العصر الحديث، تحديدًا مع البدء في تأسيس الدولة البرجوازية – الأمة فالإمبراطورية من حيث الجوهر تنتمي إلى ما قبل الحداثة، وهي تَبْسط توازنها بين الفردية والشمولية، وحيث إن هذا التوازن يقوم على موقف قديم جدًّا من علم الوجود ومن المجتمع ومن الثقافة.

وتعني العولمة عادة شيئين مختلفين، ولذلك ينشأ مثل ذلك الخلط في المفاهيم. التعريف الأول للعولمة (العولمة الفعلية أو الحقيقية) هو أنها عملية تجري على أرض الواقع، من أجل فرض الصيغة الاقتصادية والسياسية والثقافية والتكنولوجية والمعلوماتية الغربية، على جميع دول العالم. ويشرف على تحقيق هذه العولمة “الشمال الغني” (بلدان حلف شمال الأطلسي “الناتو”) و”المليار الذهبي”، وهي موجهة من أجل تعزيز سيطرة هذه الدول على العالم. إنها شكل من “الاستعمار الجديد”. “الأثرياء” يتحكمون في “الفقراء”، والأكثر تطورًا يتحكمون في من هم أقل تطورًا؛ وهذا يؤدي إلى فقدان الشعوب والبلدان النامية لما تبقى لها من “سيادة”، ومن ثم لا يبقى أمامها سوى أحد خيارين: إما أن تندمج في النظام العولمي، أو أن تصبح بلدانًا “منبوذة”، مارقة، “محور الشر”.

تصرّ هذه العولمة، من الناحية الاقتصادية، على ضرورة تبنّي النمط الليبرالي للاقتصاد في كلّ مكان، إلى جانب سياسة نقدية راديكالية، واعتماد المذهب المالي (تطوير سوق الأوراق النقدية وشركات رأس المال الاستثماري وغير ذلك). أما من الناحية السياسية، فتؤكد العولمة الحقيقية ضرورة ترسيخ نظام ليبرالي ديمقراطي وعلماني على نطاق واسع وشامل، وسيطرة أيديولوجية “حقوق الإنسان” و”المجتمع المفتوح”، و”المجتمع المدني”؛ وهذا ما يقود بالتدريج إلى إلغاء مؤسسة الدولة وإدارات السلطة في مختلف البلدان.

أما التعريف الثاني للعولمة، فهو العولمة المرتقبة أو المحتملَة أو “الإنسانية” – عبارة عن مشروع نظري بحت ينتشر في الدوائر الإنسانية (غالبًا “اليسارية”، والبيئية والعِلمَوية وغير ذلك) في البلدان المتطورة. يُنظَر إلى العولمة الإنسانية على أنها تطوير للحوار بين الثقافات والحضارات، بعد انتهاء الصدام في عالم ثنائي القطب. فبهذا المعنى، يمكن أن تُفهَم “العولمة” على أنها “تبادل عالمي للخبرة” وحوار مكثّف بين أطراف فاعلة مختلفة، وليس على أنها فرض الغرب لنمط اقتصادي وثقافي وسياسي ومعلوماتي وقيمي على بقية شعوب العالم وبلدانه. وإن مثل هذه العولمة تفترض سلفًا التخلّي عن النهج “الكولونيالي” (“العنصري”) واستئصاله. وهي تسعى لأن تمنح مختلف الشعوب الحرية في اختيار طريق تطورها التاريخي والثقافي.

وبالنسبة إلى روسيا، يرى دوغين أن من الأفضل والأجدى أن تشغل موقعًا مناهضًا للعولمة، من خلال نسخة مخففة من “العولمة الإنسانية”، وليس من خلال موقف راديكالي ومتطرف. وما هو أكثر جدوى هو أن تعلن روسيا عن دعمها والتزامها “عولمةً متعددة الأقطاب أو إقليمية”.

—————————-

رأي عام| حوار خاص مع الفيلسوف والمفكر الروسي ألكسندر دوجين

المقابلة | تأثير نظريات المفكر الروسي ألكسندر دوغين على سياسات بوتين في الحكم – الجزء الأول

المقابلة | المفكر الروسي ألكسندر دوغين يتحدث عن النظرية السياسية الرابعة – الجزء الثاني

كتاب مسموع | مستقبل روسيا الجيوبوليتيكي “الكسندر دوجين” الجزء 1 | رواية سياسة مسموعة | كتب مسموعة

كتاب مسموع | مستقبل روسيا الجيوبوليتيكي “الكسندر دوجين” الجزء 2 | رواية سياسة مسموعة | كتب مسموعة

====================

تحديث 02 أيلول 2022

———————

ألكسندر دوغين… نبي عودة الإمبراطوريات الجميلة/ وضاح شرارة

أذاع اغتيال داريا دوغين (29 عاماً)، ابنة ألكسندر دوغين (60 عاماً)، الداعية “الأوراسي” (أوروبا + آسيا = قلب البر العالمي؛ في مقابل الأطلسي المائي وكتلة ضفتيه)، اسم والدها. وطغا اسم الوالد على اسم الصحافية البوتينية الشابة، في وقت أول دام يوماً واحداً وبعض اليوم، قبل أن تختار الأجهزة الأمنية الروسية تبرئة عملية الاغتيال، ومَن دبّرها، من تقصُّد الوالد بالقتل، ونقل القصد إلى البنت وتخصيصها به.

وفي الأثناء، أي في اليوم وبعض اليوم اللذين دامتهما صيغة الخبر الأولى، وصفت وكالات الأخبار والصحافة والتعليقات “الاجتماعية” الخاصة الرجل المفجوع تارة بـ”عقل بوتين”، وتارة ثانية بـ”المفكر العالمي”، وثالثة بـ”منظّر النهضة الروسية”، وقالت فيه مصادر أوكرانية إنه غير معروف في أوكرانيا.

ومهما كان من أمر مكانة الكاتب السياسي الروسي الحالية، وعلاقته بالرئيس الروسي المحارب و”الإمبراطوري”، فسابقته السياسية العملية هي شراكته في إنشاء الحزب البلشفي الوطني، ثم الجبهة البلشفية الوطنية. ويتقاسم الحزب والجبهة محاولة دمج التراث الشيوعي، في مرحلته “الحربية” و”الوطنية” (أي الحرب الوطنية الكبرى، على ما يسمّي الروس، منذ 1945، حصتهم الباهظة من الحرب العالمية الثانية)، في التراث القومي الروسي والسلافي العصبي والقيصري.

شغل دوغين، وقتاً قصيراً، رئاسة قسم علم الاجتماع في جامعة موسكو الحكومية قبل أن يُقصر عمله على التدريس. و”تأخير” رتبته الأكاديمية كان عن أمرٍ نزل من فوق، وينسبه بعضهم إلى الحلقة القريبة من الرئيس الروسي. ولم يدَّع دوغين معرفة مباشرة بالرئيس، ولا صلة. وهو أحد مستشاري رئيس مجلس الدوما السابقين. والمنصب متواضع. فالرئيس هذا هو أحد أعضاء جهاز فلاديمير بوتين الحزبي، الثانوي في مراتب الأجهزة النافذة.

وحين يُجرَّد الكاتب والمدرّس الجامعي من ألقابه وميدالياته السياسية الشرفية، يبقى من هذا الوجه، ناشطٌ “متعدد اللغات” ووثيق العلاقة بـ”القوميين في أنحاء أوروبا” وبالأحزاب (المحلية) التي يبدو أن الكرملين يؤيد استعمالها طابوراً خامساً في الغرب، على قول ليونيد بيرشيدسكي، أحد كتّاب وكالة “بلومبيرغ”، وعلى ما تشهد زيارات دوغين إلى بلدان أوروبا القريبة وأحزابها اليمينية المتطرفة، وإلى بعض بلدان المشرق مثل لبنان (حيث حل ضيفاً على بعض أنصار “حزب الله”).

بعث الأصول

ولا جدال في أن الرجل وجهٌ من وجوه تيار روسي، فكري عريض، خلّفه انهيار الاتحاد السوفياتي، وخصوصاً بقاء هذا الانهيار واقعة مبهمة، غير متوقّعة، وتمتنع من الإدراج في التاريخ الروسي الإمبراطوري (القيصري) و”التاعس” والمأساوي معاً. (والقول إن واقعة الانهيار “تمتنع” معناه أن شطراً كبيراً من الروس يمتنعون من إدراجها وفك إبهامها.

وانقسام الروس، ومثقفيهم على الخصوص، حزبين أو رأيين: حزباً وجهُه وقلبه وعقله إلى أصول روسية أو سلافية فريدة في “عبقريتها” وفي “رسالتها”، على ما كان ميشيل عفلق (1910- 1989) مؤسس “البعث العربي” ولسانه يقول، وآخر يوقن بأن خلاص الروس يفترض تخفّفهم من أثقال ومعوّقات خصوصيتهم، ولحاقهم بالركب الأوروبي. هذا الانقسام يتجدد منذ بدايات التاريخ الروسي، ويتنازعه رأيان: أوروبي شمالي تحدّرت منه الأرستقراطية الحاكمة، ومغولي آسيوي تحلّل في الأرض الروسية.

ولا ينكر دوغين مصدرَيْ أفكاره ومعتقداته، وهما مكانة واقعة الانهيار وأثرها في تربية جيله، وتراث الترجّح الروسي بين القطبين التاريخيّين المتنازعين. وموضوعه “العلمي”، الجغرافيا السياسية التي كتب فيها معظم أعماله، يُلبِس لباساً مجرّداً، وخطابياً ذهنياً، شاغلاً شخصياً وذاتياً، يتشاركه على الأرجح مع عشرات ملايين “المواطنين” السوفيات سابقاً، ومنهم فلاديمير بوتين، “القيصر”، على ما يسمّيه كثر من أنصاره ومن أعدائه.

وهو يعود إلى المسألتين المتداخلتين والمتشابكتين في عمله المنقول إلى العربية أخيراً، “الجغرافيا السياسية لما بعد الحداثة، عصر الإمبراطوريات الجديدة، الخطوط العامة للجغرافيا السياسية في القرن الواحد والعشرين” (2007، تاريخ الطبعة الروسية؛ 2022 تاريخ الطبعة العربية الصادرة عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، قطر- بيروت).

ويتفق نشر الكتاب، في حزيران/ يونيو من السنة الجارية، مع مضي أربعة أشهر على عدوان روسيا بوتين على أوكرانيا. والأرجح أن إعداد الترجمة يعود، على وجه التقدير، إلى سنتين أو ثلاث. ولا شك في أن الناشر والمترجم حدسا، منذ 2014، تاريخ العدوان على القرم والدونباس، في تواطؤ الرجلين المختلفين على أفكار وميول وخيالات، و”أساطير” (الفصل الثالث، ص 42)، اضطلعت بدور عملي في صوغ السياسات الروسية من قبل ومن بعد، إلى اليوم.

المكان في ذاته

فعلى مثال تقليدي يقصر المعرفة الدقيقة والراسخة، أو “العلمية”، على موضوعات ثابتة وعامة، يرسي الكاتب “المنهج الجيوسياسي”، بخلاف انصراف “الأوروبيين الغربيين” إلى “التاريخ وحده” (المقدّمة، ص 9-10)، على المكان الذي “في حد ذاته لا يتغير”. ويعلّق هذا على قول مأثور لأحد أعلام الجغرافيا السياسية الفعلية، نابليون الأول، اقتصر على ملاحظة احتواء التاريخ على عامل ثابت هو الجغرافيا. ولم يقابل بين المكان وبين الزمن التاريخي. ولم يغفل تغيّر بعض عوامل المكان، وهو غير الموقع وأوسع منه، مع تغيّر السكن والسكان والهجرات والبداوة والزراعة والتمدين، وأطوار التقانة وثمراتها في وسائل النقل والإنتاج، إلخ.

ويضمر تعريف دوغين معارضات أولية لا يتأخر عن الإعراب عنها. فمكانه وهو البر الكبير، أي انتخاب المكان في “ذاته” موضوعاً راجحاً ووحيداً، يصدر عن منهج “مكاني”، غير زمني ولاتاريخي. والانتخاب العلمي قرينة على نسب قومي وعرْقي، من غير وجل سياسي، روسي أوراسي وإمبراطوري. ولا يلبث الكاتب أن يرفع الأوراسية، المكانية، والجيوسياسية، والإمبراطورية، إلى مرتبة “النهج” أو “العلم”.

فيقرر أن “لا مكان للإمبراطورية في علم الحداثة السياسي” (الفصل الرابع، ص 51، وشأن الشواهد الأخرى، يكرر الكاتب مقالاته وأحكامه في مواضع كثيرة أخرى). وعلى هذا ينقسم “العلم السياسي”، على شاكلة العلوم الاجتماعية والاقتصادية والتاريخية وربما الجيولوجية والطبيعية عموماً، علمين: علماً أوراسياً أي روسياً اتحادياً “جديداً” (ص 60) يتصدّر “كوكبة الإمبراطوريات البرية” (ص 88) الملحقة بروسيا الأم، وعلماً، غير علمي، أطلسياً وغربياً أوروبياً مائياً أو بحرياً.

أي أن الاثنينية الجيوسياسية، البر والبحر، تتناسل اثنينيات، وتتطاول هذه إلى حقول السياسة والاجتماع والفكر والشعور والوجود (“الأنطولوجيا” أو علم الموجود بما هو موجود، على تعريف أرسطي متعارف). وعلى الاثنينية “الموضوعية” هذه يرسي صاحب العلم السياسي الجديد اثنينية أعمق وأسبق هي اثنينية روسيا الأوراسية وأوروبا الغربية والأطلسية.

الداخل والساحل

ومن طريقها يبلغ دوغين “الحال القائمة اليوم” (ص 16). فالحرب الباردة (1946- 1989) بين العالم الغربي (أميركا الشمالية+ أوروبا الغربية) والاتحاد السوفياتي، وحلفائه في أوروبا وآسيا، جَلَت وبلورت على نحو ناتئ وبارز “الحرب العظمى بين القارات”.

ولا ينبغي للقارئ أن يفهم “بين” على معنى التبادل والتفاعل. فالحرب، على ما يرى دوغين وبوتين وسيرغي لافروف (وزير خارجية بوتين) وسيرغي شويغو (وزير حربه) وغيرهم، هي على الدوام حرب “على” روسيا، والاتحاد السوفياتي، أحد أعراض روسيا “الأزلية”، وعموم الروسيا القيصريّة من قبل. والحرب الباردة، إذن، هي محاولة حضارة البحار “الاستيلاء على الفضاء الأوراسي”.

والقرائن لا تُحصى: “منع الخصم (الأوراسي البري) من الوصول إلى البحار الدافئة”، وهذا أضعف حقوقه الجغرافيّة على رغم موضعه المنحاز والمتحيّز، بعيداً منها. ثم تعمد البحرية العسكرية، البريطانية بالأمس والأميركية اليوم، “خنق” الخصم/ العدوّ. ويخمّن القارئ في أن “الخنق” المقصود جغرافي، مكاني، في البحار المتجمّدة، مثل بحر بارينتس. ولكن الجيوسياسة تنقل البندقية من كتف إلى كتف. فـ”مكان” الخنق هو “داخل حال من الجمود الداخلي”. وينجز العدوان البحري والمائي من طريق فظّة، “الهيمنة على المناطق الساحلية والتحكّم فيها” (ص 14- 15).

ويخلص القارئ من الإحاطة الجيوسياسية والاستراتيجية هذه إلى أن “الجمود الداخلي”، السوفياتي في هذا المعرض أو السياق، إنما نجم عن عزل الداخل الجغرافي، “داخل الأراضي” على قول فرنسي، عن “المناطق الساحلية”، المتحركة والفاعلة والقادرة على النماء والتجارة والتجدّد. فعلى الكاتب، بهذه الحال، أن يعزو إلى “المكان”، وتعاليه عن التاريخ والتغيّر والإرادة، لعنة البر الأبدية. وإلى هذا تقود مقدّمات كتابه ومبادئ “علمه”.

حرب الأطلسي على أوراسيا

إلا أن ألكسندر دوغين، الروسي “الكبير” (على ترتيب هرمي لا ينكره ينزل أوكرانيا في المرتبة الثانية من “الروسية”، وبيلاروسيا الثالثة)، يحمل ما يفترض في الأقدار المكانية والجغرافية أن تضطلع بالمسؤولية عنه على إرادات عدوانية، ومقاصد مدركة. وتصبّ مياه التعليل الجيوسياسي القارية في نفسانيات داروينية ومعيارية في آن واحد.

ويمهّد التعليل هذا- وفحواه أن الحرب، الباردة والساخنة على حدّ واحد، لا تشنّها إلا الدول أو القوى البحرية الغربية، وهي تشنّها بواسطة إقرار القوى البرية، الأوراسية، على طبيعتها البرية المنكفئة و”تجميدها” في هذه الطبيعة وعليها- الطريق إلى تفسير السقوط الروسي السوفياتي. والأمثلة على التجميد، في الداخل البري، والعزل، عن البحور والمحيطات، لا تعوز المفكر الجيوسياسي الأوراسي.

فالغرب الأطلسي، غداة الحرب العالمية الثانية، وضع يده على بلدان شرق أوروبا، وهي من ممتلكات القيصر الروسي القارية، وحجزت بوارجه بينها وبين البلطيق، وبينها وبين المحيط الأطلسي والمحيط الهادئ والمحيط الهندي. وكاد النزاع عليها أن يحرم روسيا السوفياتية من حزام قاري يقيها عدوان ألمانيا الفيدرالية وبلجيكا واللوكسمبورغ، ويبلغ عرضه فوق الألفي كيلومتر.

وكوبا مثلٌ آخر على الحرب الأطلسية على أوراسيا (ص 15). وحصارها البحري الأميركي حال دون أوراسيا الكبرى، (روسيا+ بلدان رابطة الدول المستقلة السوفياتية سابقاً+ الإمبراطورية الإسلامية القارية: إيران+ تركيا+ باكستان+ الهند) (ص 457)، وبلّ قدميها في مياه البحر الكاريبي. وثارت حركات التحرر في القارات الثلاث، وكلها برية وقارية شأن فيتنام وكوريا وأميركا اللاتينية على “الإمبراطورية”، الأميركية حكماً، في سبيل مد جسور متينة بين أراضيها الداخلية وبين سواحلها التي صادرتها الأساطيل الغربية.

وأوعزت “نقطة ارتكاز العملية الجيوسياسية العالمية” (ص 181) إلى “الإسلاميين المتطرفين” الأفغان بالقيام على الاتحاد السوفياتي، الشاخص حالماً إلى المحيط الهندي وبحر العرب وخليج العجم، والثورة عليه. ودعتهم، مكرهين، إلى الانتفاض على أدواته الناعمة: حزبه الشيوعي الهامشي والمفكك والمنقسم على نفسه و”أقوامه”، و”إصلاحه” الزراعي الغريب والمجاعة في ركابه، وحوامات أم-آي-24 المدرّعة، ودبّابات ت-72، إلخ.

وفي نهاية المطاف، جمع القادة الشيوعيون عوامل الخسارة كلها: “العناصر البرية الإسبارطية” (ص 16) في نظامهم، واصطناع صبغة أيديولوجية مضلّلة للصراع الجيوسياسي، والرغبة الشيوعية الممضّة في سكن “بيت أوروبي مشترك” (ميخائيل غورباتشوف الراحل)، وحل حلف وارسو وإخلاء موسكو مواقع شغلها حلف الأطلسي (الناتو)، واضطرته إلى شغلها “مصالح الجغرافيا السياسية”.

وأدى تغليب المعالجة التاريخية والزمنية، ومراحلها الملزمة (مجتمع تقليدي، مجتمع حديث أو معاصر، مجتمع ما بعد الحداثة)، على “المنهج الجيوسياسي”، واستدلاله بـ”النماذج التاريخية” الثابتة واستقوائه بـ”استقرار المجتمع التقليدي” وقوّته على مقاومة التحديث، إلى الاستسلام، وطلب المساعدة الغربية، وطبابة دوغين لا تتعدى افتراض “التنبؤ” (ص 17) بهذا كله، و”تحاشي بعض الصفحات المخزية في تاريخنا الحديث”. وهذا قليل في ضوء التوقّعات العظيمة التي علقها “المفكر” على علمه الجديد.

ويتراءى وراء الظاهرات المدمّرة التي يحصيها الكتاب طيف شيطاني أسود هو “القضاء على (روسيا) نهائياً”. وتتردّد أصداء موت روسيا، وروحها وحضارتها و”إمبراطوريتها”- وهذه ألفاظ ومعانٍ مترادفة ومتكافئة- في صفحات الكتاب.

ويترجّح تناول الكتاب وأفكاره بين التسليم بحتم الأفول والتلاشي وبين النفخ في أبواق أريحا وعناد بروميثيوس البطولي: “نعم، نحن الروس، ما زلنا اليوم نعيش في روسيا، ولا نزال روساً إلى حين، ولكن إلى متى يدوم هذا الحال؟” (ص 75، بتصرف في الصياغة). وهذا ما ردّده الرئيس الروسي في خطبة 21/2/2022، عشية حربه، التي أرادها خاطفة و”ألمانية”، على أوكرانيا “الروسية”. وما يردّده التيار القومي الروسي المتطرّف، وتردّده الحركات القومية الأفولية و”البعثية” الثأرية، أو الانبعاثية، في بلدان الإمبراطوريات القديمة والمتجدّدة، من روسيا إلى الصين، وبينهما إيران، على سبيل المثال لا الحصر.

الحداثة الشريرة

والأرجح أن ركاكة التناول “الجيوسياسي” الدوغيني لأحوال العالم المعاصر وفي القلب منها روسيا الغورباتشوفية فاليلتسينية والبوتينية، وضعفه، يتستران على مسائل أخرى. و”النهج” الذي يلوّح به الكاتب أداةً يتوسل بها إلى هجاء الحداثة الأوروبية الغربية هجاءً مرّاً و”فرزدقياً”، إذا جازت العبارة. فالتبعة الكاملة عن ضعف روسيا، والكوكبة الأوراسية المتوقعة، تقع على الحداثة.

والحق أن مثالب ورذائل الحداثة، وما بعد الحداثة التي ختمتها وأنهت سطوتها وفتحت الأبواب في وجه نقيضها (على ما يأمل دوغين)، سجلّ لا ينتهي. فالعصر الحديث “أقر برنامجاً يرمي إلى القضاء القاطع والكامل على المجتمع التقليدي”، وينفي حقه وحق معاييره، الإنسانية والطبيعية الأساسية، في الوجود. وقيم العصر الحديث، الأوروبي الغربي، تُعلي منزلة العلوم والتجربة، وتعوّل على التطور التقني، وتحتكم إلى العقلانية، وتسوّغ النقد، وتدعو إلى إعمال الرأي الفردي.

وينهض هذا، على ما يرى المنظّر الأوراسي آسفاً، على أنقاض اللاهوت، والمعرفة الجميعية والكلية الأصولية (الأنطولوجيا، على ما تقدّم)، والحدس، والروحانية الباطنية. وطاقة النفي والإنكار التي تتمتع بها الحداثة لا تقتصر على الأفكار والمعتقدات، وتتطاول إلى أركان الاجتماع السياسي. فتُحِلّ الدولة- الأمّة الوطنية والضيقة محل الإمبراطورية الجامعة والفسيحة (على مثال بيزنطية والفضاء المغولي). وتُصدِّع العائلة، والجماعات المحلية المتجذّرة، وهرم المراتب بين الأعراق والجماعات والشعوب والأديان، وتسوّي بينها مساواة تُفقدها سماتها وخصوصياتها وهويّاتها من غير رحمة. وتتلاشى الفروق بين الجنسين، وتغلب الأحوال “الانتقالية” بينهما فتحضن الأنابيب الأجنّة، ويسود إدمان المخدرات و”استراتيجية الهلوسة الفردية” (ص 48).

ولما كانت الحداثة، وهي واحدة ولا تقبل الكثرة على زعم الكاتب، وقفاً على الغرب الأوروبي وفروعه القريبة، اختلت موازين التاريخ كلها. فلا سبيل فعلياً لمنافسة الغرب في ميدان الحداثة الذي ابتكره، واستنّ قوانينه ومعاييره، وأملت “عنصريته المعرفية” و”المركزية” الذاتية (ص 33- 35) قواعد المعاملات داخله. فتوسّطت “كولونيالية (الغرب) المفرطة” (ص 37) علاقة غير الغربيين- “بقية” البشرية على قول محرّف للأميركي صمويل هنتنغتون (صاحب “صدام الحضارات”)- بأنفسهم، بين الوريد والوريد.

وحملت هذه الكولونيالية العنصرية كثرة الأوراسيين (ص 197) على ازدراء تواريخهم وهويّاتهم. وحالت المعارف الغربية بينهم وبين رعاية أشكال عمرانهم الخاصة، وشقّ طرقهم الفريدة إلى ذواتهم ومعارفهم وتجاربهم.

والانصراف عن الغرب، والتوجّه إلى إحياء المواضي، على ما تقترح ما بعد الحداثة في صيغتها الدوغينية، ينبغي أن يلد عالماً كثير الأقطاب و”الإمبراطوريات المضادة”، أو الإمبراطوريات “الديموقراطية”، أو “اللاإمبراطوريات”، على ما يسمي الكاتب العالم الموعود، محتاراً بعض الحيرة. وكثرة الأقطاب، وهي تستدعي حرب “البقية” على إمبراطورية القطب الواحد، تكاد تكون الكلمة التي تفتح مغاليق أبواب العظمة، من جديد، في وجه روسيا أولاً.

وفي ختام “جردة العالم” (ماركو بولو المعاصر) هذه، وإنْ على نحو تقريبي وضبابي، ييمم ألكسندر دوغين وجهه صوب عالم 2050، وروسياه (“روسيانا”، كتب ألكسندر سولجنتسين، آسياً وعاطفاً، في 1992) في القلب منه. فتطالعه “نهاية الكون عن يد العولمة”، ودور “المسيح الدجّال” فيها. ومن علاماتها استبدال الناس الأحياء بمصنوعات تفبركها الهندسة البيولوجية، واستنساخ الإنسيين. وترد “الثورة الأوراسية” على تشويه “الإعلام الجماهيري المعولم”، وتفضح أضاليله. فيظهر “أن بن لادن، وتنظيم القاعدة لم يكن لهما وجود قط، وأن هذا كله كان مجرّد صورة ثلاثية الأبعاد على مستوى العالم، وقصده ترهيب أعداء العولمة وخصومها” (ص 453- 460).

وهذا مسك ختام جغرافيا ما بعد الحداثة السياسية، وما قد يقرأه القارئ العربي في كتب الإسلام السياسي ومذهبيه الرئيسيّين، وما ربما قرأه قبل نحو القرن في كتابات “نهضوية” و”إحيائية” حسبت أنها تستأنف عصراً ذهبياً، إمبراطورياً لا محالة، وظنّت أنها تتجاوز “الانحطاط” إلى “الزمن الجميل حقاً”، على قول خميني- خامنئي، ودوغيني، سائر.

رصيف 22

————————-

وداعاً ماركس .. مرحباً دوغين!/ ممدوح الشيخ

ألكسندر دوغين باحث سياسي اشتهر بأوصاف مثل: “راسبوتين بوتين”، و”عقل بوتين”، “أخطر فيلسوف في العالم”، وجميعها وردت في عبارة واحدة في تقرير لموقع بي بي سي المرموق، لتلخص ظاهرة كان يبدو أن العالم قد ودّعها إلى غير عودة مع زوال الاتحاد السوفييتي. فما يمثله الرجل الذي أودى تفجيرٌ، كان يستهدفه، بحياة ابنته، يعيد إلى الحياة القصص الأسطورية عن تأثير مفكّر أو فيلسوف في تاريخ مملكة أو إمبرطورية عبر صلته بصاحب السلطة. وخلال العصر الحديث، كان التطور الكبير في بنية “الدولة” وبيروقراطيتها، والتضخم الكبير لتاثير “الأداتية” في عمل البيروقراطيات الحداثية الرشيدة، يوحي بأن ماركس ربما كان الأخير في طابور أمثاله. وروسيا المهلهلة المتخلفة في نهايات القرن التاسع عشر كانت مرشّحة بقوة لأن تكون أرضًا خصبة لأن تحتضن الماركسية، وأن تظلّ نخبتها سبعين عامًا تصرخ من دون جدوى: “يا عمال العالم اتّحدوا”.

ما الذي تعنيه “ظاهرة دوغين”؟ .. إحدى الأفكار التي أحسب أنها مفتاحية في الإجابة عن السؤال كتاب انتهيت من ترجمته، يصدُر بالعربية قريبًا، ويؤرّخ للاتحاد السوفييتي، وهو بالتالي يؤرّخ، ضمن هذا السياق، للدولة والحزب الشيوعي والمجتمع والنخبة. ودرس الرئيس في الكتاب يلخصه عنوانه الفرعي: “فضاء المقدّس لا يعرف الفراغ”. وما لا يعرف الفراغ في عالم الأفراد والشعوب، أحد أهم ينابيع الأفكار السياسية الكبرى في العصر الحديث، وجميعها لم تغفل أنها تتأسّس، صراحة أو ضمنًا، على مفهوم لـ “الطبيعة البشرية”. واليوم تحتضن التربة الروسية، بالحماس نفسه، أفكار ألكسندر دوغين، وهو حماسٌ يرجّح كثيرون أنه أحد أهم أسباب قرار غزو أوكرانيا، والأكثر طرافة أن دوغين برّر الفكرة بـ “إنقاذ السلطة الأخلاقية لروسيا”!

وبعد ما يزيد على قرنين من التحرّك داخل عالم “أيديولوجيات الرؤى الشاملة” من الليبرالية الكلاسيكية إلى النيوليبرالية (مرورًا بالماركسية والفاشية والفيمنست)، يضيق أفق التفكير والتنظير والتعبير، ليدخل العالم، أو على الأقل روسيا، مرحلة “العقائد السياسية”، بخيال فقير ولغة كئيبة وأفكار تدعو إلى احتقار العالم بدلًا من التبشير ببناء الجنة فيه. و”العقائد السياسية” تحتقر طوباوية الأيديولوجيات وكونيّتها وتختصر الكوكب كله في “دولةٍ كبرى ما”. وعلى مذبح “المجال الحيوي”، قدّم أدولف هتلر القارّة بأكملها ضحيةً في طقسٍ عبثي انتهى بانتحاره هو شخصيًا. وعلى مذبح “صربيا الكبرى” سفك الصربيون المهووسون دماء مئات الآلاف من دون طائل. وفي حالة روسيا، فإن دوغين، الذي يتقدّم بقوة ليحتل المكان الذي شغله كارل ماركس خلال الحقبة الشيوعية، تحرّكه قناعة بأن “الروح الروسية” أيقظها النزوع الانفصالي الذي أطلق عليه اسم “الربيع الروسي”. وهو في ردّه على خطر تمزّق “الجغرافيا المقدّسة”، اختار أن يكون العقل المدبر لقرار احتلال القرم، وهو من صكّ تعبير: “روسيا الجديدة” الذي يستخدمه بوتين. وعليه، فإن مسيرة هذه الجغرافيا توّجت مسارها بإشعال الحريق الأوكراني الذي لا يعلم إلا الله أين تنتهي حرائقه!

والأيديولوجيات، رغم بؤس حصاد كثير منها، كانت تدّعي قدرتها على ملء “ما لا يعرف الفراغ” في عالم الإنسان. أما “العقائد السياسية” فلا تعبأ بالنوع البشري، بل بالعِرق الذي تتمحور حول قداسته، ولا تعبأ بالكوكب، بل بجغرافية الفكرة. وهي بالتالي لا تطمح إلى أن يعتنق أحد مقولاتها، بل أن يذعن الجميع لما تترتب عليه. ولذا لا تسعى “العقائد السياسية” إلى أن تملك من كفاءة مخاطبة العالم، بل أن تملك عصا غليظةً تلوّح بها في وجه العالم.

والمصير المأساوي الذي آل إليه الاتحاد السوفييتي بعد 70 عامًا من تقديس الماركسية يؤكّد حاجة أية بيروقراطية إلى “تصوّر ما” يتجاوز خطاب المصالح المباشر، ويتجاوز منطق الدوران في فلك قوة عظمى هربًا من عبء اختيار ما تملأ به “ما لا يعرف الفراغ”. وعندما لا تملأ الأمم هذا الفراغ بإجاباتٍ تتصف بالرشد، يتقدّم دوغين وأمثاله ليملأوا الفراغ. وإذا كان مصير الشيوعية درسًا بليغًا، فإن مصير العالم في حال اتسعت دائرة انتشار هذه العقائد قد يكون أشدّ سوداوية.

العربي الجديد

————————–

أوراسية ألكسندر دوغين طريقا للخلاص من الغرب/ عمر كوش

لا يكلّ المفكر الروسي، ألكسندر دوغين، من طرح الأوراسية، في معظم أطروحاته ومؤلفاته السياسية، بوصفها طريق الخلاص من الغرب، ومن الهيمنة الغربية، ممثلة بهيمنة الولايات المتحدة، ومن سطوة تأثيرها على روسيا وسائر الدول، حيث طرحها في كتابه “أسس الجيوبولتيكا: مستقبل روسيا الجيوبولتيكي” (ترجمة عماد حاتم، دار الكتاب الجديد المتحدة، بيروت، 2004)، وكذلك فعل في كتابه “الجغرافيا السياسية لما بعد الحداثة – عصر الإمبراطوريات الجديدة – الخطوط العامة للجغرافيا السياسية في القرن الحادي والعشرين” (ترجمة إبراهيم استنبولي، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، بيروت، الدوحة، 2022). ويتكرّر الأمر نفسه في كتابه “الخلاص من الغرب – الأوراسية – الحضارات الأرضية مقابل الحضارات البحرية والأطلسية” (ترجمة علي بدر، دار ألكا للنشر والترجمة، بغداد، 2021).

الأوراسية الكلاسيكية

تندرج الأوراسية، حسب تصوّر مفكرين وكتّاب روس عديدين، تحت مسمّى النظرية السياسية الرابعة التي تأتي بعد النظريات الثلاث، الليبرالية (يمين ويسار) والشيوعية (بما في ذلك الماركسية والاشتراكية إلى جانب الاشتراكية الديمقراطية) والفاشية (بما في ذلك الاشتراكية القومية وأنواع أخرى من الطريق الثالث).

وتعود جذورها إلى الأوراسية الكلاسيكية التي ظهرت مع نهايات القرن التاسع عشر، وتطوّرت في كتابات نيكولاي روبتسكوي، ومن بعده المؤرّخ جورج فيرنادسكي وعالم الإثنولوجيا ليف غوملييف ويوتر سافيتسكي وسواهم. وهي تقوم على منهج التحليل الجغرافي السياسي (الجيوسياسي) للتاريخ، الذي يربط الأحداث بالمصير المشترك والمصالح المشتركة لعدة شعوب أو قوميات تقع ضمن فضاء ثقافي حضاري واحد، وتحدّدها الجغرافيا السياسية التي تضم هذه الشعوب وهذه الثقافات المتقاربة. وكانت تمثل تياراً سياسياً اجتماعياً، يدافع عن الثقافة الروسية باعتبارها ظاهرة غير أوروبية، ومشكلة مع مزيج من الصفات والخصائص الشرقية والغربية، التي لا يمكن اختزالها إلى الشرق أو الغرب، فالحضارة الروسية تشكّلت من مكونات (وتجارب) الشعوب الأوروبية والآسيوية معاً، وتحتلّ مركزاً وسطاً بينهم وبين حضارات العالم.

وإذا كان مفهوم الأوراسية ليس جديداً في الفكر الجيوسياسي، وطرحه مفكّرون روس وأوروبيون عديدون وسواهم، إلا أنه بدأ يتردّد كثيراً، في السنوات والعقود القليلة الماضية، لدى مفكّرين وكتّاب روسٍ عديدين، وتطوّر إلى أوراسية جديدة معادية للغرب وللحضارة الأوروبية بعد سقوط الاتحاد السوفييتي، من خلال إعادة ربطه بوضع روسيا الجغرافي وتكوينها الثقافي والحضاري، من جهة أنها ليست غرباً ولا تنتمي إلى أوروبا، وفي الوقت نفسه، ليست شرقاً ولا تنتمي إلى آسيا، والمحاججة أنها تشكّل واقعاً جغرافياً وإثنياً وثقافياً مميزاً، يربط بين الشرق والغرب، وعليها أن تصلح إمبراطورية مترامية الأطراف، كي تقوم بدورها وتحمل رسالتها إلى العالم، عبر المجال أو بالأحرى المدى الروسي. ومن أجل هذا الهدف، لا بد من إنشاء الاتحاد الأوراسي، الذي سيعمل على تصحيح الأخطاء التاريخية وإعادة الألق إلى الإمبراطورية الروسية الناجحة التي كانت موجودة قبل تشكّل الاتحاد السوفييتي.

ولا يخفي دوغين أن طريق الخلاص الذي يبتغيه في الأوراسية يخصّ به روسيا أولاً، التي يحضّ على تحوّلها إلى إمبراطورية تحت قيادة فلاديمير بوتين، كي تقود الدول التي تنتمي إلى فضائها، لتتحوّل الأوراسية إلى نزعة روسية تمركزية، وأقرب إلى قاعدة إيديولوجية للسلطة الروسية الجديدة. ولأجل ذلك، يسعى جاهداً إلى توظيف أفكار صراع الحضارات ومقولاته، وإبراز ميادين المواجهة بين حضارات اليابسة أو البرّ وحضارات البحر أو “الحضارات الأطلسية”، وذلك كي يجترح مفهومه الخاص لأوراسية جديدة، ويُضمّنه أطروحات جيوسياسية وفلسفية معادية لليبرالية تماماً، ومناهضة للنظم الغربية وللعولمة وللحضارات الأطلسية، إلى جانب عرض تناقضاتها، واستشراف انهيارها الوشيك، وبما يجعل انتصار الأوراسية على الأطلسية حتمية تاريخية، على الرغم من أنه يقدّمها فلسفةً لا تدّعي عالميتها، ولا قطبيتها الوحيدة، ولا تفرض نفسها على الحضارات والثقافات الأخرى، مثلما فعلت الليبرالية طوال القرن العشرين، ولا تزال تفعله.

الأوراسية الجديدة

تستند الأوراسية الجديدة إلى التحليل البنيوي، وتستخدم الحضارة موضوعا لها، والبنيوية أداتها في التحليل، على أن تنظر إلى الحضارة بوصفها بنية كليّة أكبر من مجموع أجزائها، حيث يقدّم الأوراسيون نظريتهم السياسية القائمة على أساس تعدّد الحضارات ومعاداة الحداثة الغربية، وامتلاك روسيا بنية خاصة بها، وتميّزها عن غيرها مجموعة قيم ومعتقدات يجب الدفاع عنها وحمايتها مع غزو الغرب وحداثته الليبرالية. وعليه، يطرح دوغين مجموعة من المنطلقات من أجل قيام الإمبراطورية الروسية، تتمحور حول عقدها تحالفات تسمح لها بمدّ حدودها البحرية حتى أطول مدى ممكن، وأن تبتعد عن المادية والإلحاد، وتولي الجانب الروحي الأهمية القصوى، إلى جانب اعتمادها منهجاً مرناً في تسيير اقتصادها، بعيداً عن الخصخصة والرسملة، إضافة إلى سيرها في اتجاهٍ تعتمد فيه على مبدأ الاستقلال الذاتي الثقافي واللغوي والاقتصادي والحقوقي بالنسبة لكل من الإثنيات والأعراق والشعوب الداخلة في إمبراطوريتها الواسعة.

ويأمل دوغين في أن تشكّل “الأوراسية رؤية عالمية وفلسفة ومشروعاً جيوسياسياً ونظرية اقتصادية وحركة روحية ونواة يمكنها توحيد طيف واسع من القوى السياسية حولها”، وأن تشكّل الإمبراطورية الأوراسية بقيادة روسيا إمبراطورية قارّية عظمى، كونه يعتقد أن “معركة الروس من أجل السيادة على العالم لم تنته بعد”، وأن طريق تحقيق ذلك يكمن في خطواتٍ تتجسّد في تجميع قوى الإمبراطورية ومكوناتها، والعودة إلى الدين والقومية، وفتح الآفاق السياسية للقدرة العسكرية الروسية، وكذلك فتح الآفاق الاقتصادية لمختلف قوى الإمبراطورية الروسية. وتحتل الديانة المسيحية في نسخته الأرثوذكسية الروسية ركناً ثابتاً وأساسياً من أركان الأوراسية، ثم تتبعها الديانات الأخرى التي تؤمن بها الشعوب الأوراسية، والتي لم تتمكّن العولمة ما بعد الحداثية من إنهائها.

وتنهض الأوراسية على مركبين أساسيين، جيوسياسي، وسياسي إيديولوجي وفلسفي، حيث ينهض الأول على مثنوية البر والبحر، التي تعتبر أوراسيا منطقة ممتدّة بين أوروبا وآسيا، تحتضن أربع حضارات، هي الروسية، والصينية، والهندية، والإيرانية، وتمثل “الحضارات الأرضية”، والأدقّ حضارات اليابسة أو البر، وهي في حالة صراع دائم مع “الحضارات البحرية أو الأطلسية”، أو بالأحرى حضارات البحر، والتي كانت تتزّعمها قديماً كل من بريطانيا وفرنسا. وفي عصرنا الراهن، تقودها الولايات المتحدة. كما أن المرتكزات والمبادئ الأساسية للأوراسية تتحدّد في الاستراتيجية الجيوسياسية، التي تتكامل فيها السياسات استراتيجياً بمختلف أنواعها لكل بلدان أوراسيا بفضائها الصغير والأكثر اتساعاً، فيما تمثل الروحانية المسيحية الأرثوذكسية والروحانية الإسلامية الأسلحة الفكرية الثقافية للأوراسية التي تمانع بواسطتها ممانعة للثقافة الغربية.

وتنهض الفكرة الأساسية في الحضارات الأرضية على فلسفة تفسّر الناس وحياتهم وثقافتهم من خلال الأرض التي يسكنونها. ولذلك تفترض أن الشعوب القاطنة لها تتمسّك دوماً بما هو قديم وتراثي وروحاني، وتتّسم بأنها حضارات شمولية، وتمتلك عاداتٍ محافظة وتقليدية، ولذلك تقاوم بضراوة قيم الحضارات البحرية الأطلسية، التي تميل إلى التغير الدائم، وتدافع عن فكرة التقدّم. إضافة إلى أن الحضارات الأرضية تنافي قيم الحضارات الدنيوية، وتعادي أفكارها، ولا سيما الأفكار الليبرالية وأيديولوجيا الحداثة وقيم عصر الأنوار. أما المركّب الثاني، فينهض على النظرية الرابعة، التي تقدّم رؤية للعالم بديلة عن العولمة الغربية أحادية القطب، وتتأسّس على رفض فرض النموذج الأطلسي، وعلى عالم متعدّد الأقطاب، معتبرةً أن هناك ثلاث نظريات سياسية أثّرت على العالم في العصر الحديث، الليبرالية والشيوعية والفاشية.

وقد انتصرت الليبرالية (عقيدة الغرب) على الفاشية في الحرب العالمية الثانية التي انتهت عام 1945، وانتصرت على الشيوعية مع انهيار الاتحاد السوفييتي عام 1991، لكنها تواجه أزمة قاتلة في المرحلة الراهنة، وباتت محكومةً بالموت المحتوم، لأنها تحاول تحرير نفسها من التفكير العقلي وقيود العقل التي ينظر إليها الليبراليون أنفسهم بوصفها “فاشية في ذاتها”. وباعتبار أن النظريات الثلاث ميتة البديل، فإن البديل عند ألكسندر دوغين هي النظرية الرابعة، أي الأوراسية الجديدة، التي لا تركز على الفرد أو العرق أو القومية، وإنما تركّز على الوعي الذاتي للإنسان الذي همّشته التكنولوجيا والتقنيات. وباعتبار أن الوعي الذاتي الإنساني يختلف من فرد إلى فرد آخر، ومن ثقافةٍ إلى ثقافة أخرى، لا بدّ وأن يكون العالم متعدّد الأقطاب بدلاً من القطب الواحد، الأمر الذي يطرح ضرورة إيجاد البديل عبر صياغة نظرية سياسية تصير فيها كل واحدةٍ من الحضارات الأساسية قائمةً ضمن مجالها الجغرافي الخاص، حيث يشكّل مجال روسيا مجموعة الأقاليم الناطقة بالسلافية والديانة الأرثوذكسية، ويمتدّ جنوباً حتى يصل إلى مناطق القوقاز وحتى تركيا، فيما يتشكّل مجال الحضارتين الصينية والهندية كل مساحات آسيا الوسطى والغربية، في حين أن مجال الحضارة الإيرانية يمتد إلى المناطق الإسلامية والشرق الأوسط. وتتشكّل الحضارة الأوراسية من كيان قارّي واحد، يضم الروس والسلاف والرومان واليونانيين والصينيين والهنود والمسلمين. ويتشكّل التحالف المشرقي الكبير بين الشعوب السلافية بقيادة روسيا والشعوب الطورانية بقياده كازاخستان وتركيا من أجل تصفيه النفوذ الغربي الإمبريالي، وتطهير شعوب الشرق منه.

وتلجأ الرؤية الأوراسية إلى تقسيم العالم إلى أربع مساحات أو أحزمة جغرافية عمودية أو مناطق خط الطول من الشمال إلى الجنوب، حيث تشكّل القارّتان الأميركيتان مساحة مشتركة واحدة موجهة نحو الولايات المتحدة، وتسيطر عليها في إطار مبدأ مونرو، وهذه منطقة خط الطول الأطلسي. وتشمل المساحة الثانية الاتحاد الأوروبي والفضاء العربي الكبير، الذي يدمج شمال أفريقيا وعبر الصحراء الكبرى والشرق الأوسط، منطقة أوروبا وأفريقيا، ويقع مركزها في الاتحاد الأوروبي، وتتكوّن المنطقة الثالثة، أو منطقة آسيا الوسطى، من ثلاث مساحات كبيرة تتداخل آحياناً مع بعضها بعضا، الأولى تضم أوراسيا أو الاتحاد الأوراسي، والثانية تشكّل الفضاء الكبير للإسلام القارّي، وتضم كلا من تركيا وإيران وأفغانستان وباكستان، وتتقاطع الدول الآسيوية لرابطة الدول المستقلة مع هذه المنطقة، والثالثة تضم فضاء هندوستان، وهي منطقة حضارية مكتفية ذاتياً. أما المساحة الرابعة فتشمل منطقة المحيط الهادئ، وتضم الصين واليابان وإندونيسيا وماليزيا والفيليبين وأستراليا. ويجري إنشاء مناطق تنموية داخل هذه الأحزمة، إلى جانب اعتمادها التنظيم الجديد، وبما يجعل الحروب والنزاعات أقل احتمالاً في العالم.

نزعات التصعب والصراع

يظهر من خلال أطروحات دوغين تبنّيه نزعة واهية من التعصّب الإيديولوجي والقومي والإثني، من خلال تبنّيه أفكارا قديمة عن الصراع والتميز والتفوق الأخلاقي الطهراني والروحي والثقافي للكيان الأوراسي وحضارته، وخصوصا روسيا، مقارنة بالغرب المادي والحداثة وما بعد الحداثة والعولمة، وتكمن في خلفية هذه النزعة في التفوق توظيفات طهرانية مسيحية، تجسّدها أرثوذكسية شرقية روسية، تدّعي التفوّق الأخلاقي الروحي للعرق السلافي، وتزعم امتلاك الحقيقة والمعرفة اللاهوتية الصحيحة. ويعتبر دوغين أن الصراع مع الغرب الأطلسي ليس سياسياً، بل هو “صراع روحي ووجودي من أجل الدفاع عن روح روسيا”، ويتجلى في صورة صراع حضاري محتدم بين حضارتين تحمل كل منهما مفاهيم ومنظومات قيم ومبادئ مختلفة.

ويجتمع في أطروحة النظرية الرابعة مزيج من أفكار تعصّب فاشية واشتراكية وطوباوية، تنهض على مسوغات ردّ فعل على انهيار الاتحاد السوفييتي، واعتقاد أن الأوراسية ستنتصر حتماً على الليبرالية وتنهي القطبية الأميركية، وتشغل الفراغ التاريخي بعدها. وتعتبر الأوراسية الجديدة أن الشيوعية والقومية والليبرالية مجرّد إيديولوجيات غربية وأطلسية المصدر، وتمثل جميعاً تمظهرات للحضارة الغربية ونزعتها الاستعمارية، التي تريد فرض نموذجها بالقوة على الشعوب، مع أنها نتاج المنطق الأوروبي الغربي في نظرته إلى الإنسان والكون والمجتمع والتاريخ الحضارة، القائم على نزعة التمركز على الذات الأوروبية، بوصفها أعلى تجليات العقل التاريخي والحضاري. في المقابل، يقدّم دوغين الأوراسية الجديدة بوصفها نظرية متسامحة ومنفتحة على كل الشعوب السلافية والطورانية القاطنة في المجال الأوراسي الصغير، ومنفتحة أيضاً على الشعوب الهندوسية والصينية والمسلمة القاطنة في المجال الأوراسي الكبير، وترفع شعارها المركزي المتمثل في الخلاص من الغرب، وطرده من المجال الأوراسي، وإنهاء الهيمنة الأميركية والأطلسية على العالم.

العربي الجديد

—————————–

====================

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى