صفحات الحوار

حوار مهم مع “فواز طرابلسي” 2022

الأدب والفن أقدر على الإحاطة بالصراعات من النص السياسي

(1-3)

مصطفى ديب

السياسة والتاريخ والاقتصاد والفن والأدب، وما يرتبط بها ويتفرع عنها، هي المجالات التي كتب فيها وعنها الكاتب والمؤرخ والمفكّر اللبناني فوّاز طرابلسي، الذي أقام بينها روابط وصلات عديدة أعاد عبرها قراءة أحداث سياسية وتاريخية فارقة، وقضايا اقتصادية واجتماعية مختلفة. فالتاريخ، بالنسبة إليه، هو الأنسب والأشمل للتعبير عن الحروب والتجارب الكبرى التي خبرها. أما الأدب والفن، فهما في نظره الأقدر على الإحاطة بالتحولات الاجتماعية والسياسية من النص السياسي الصرف.

قرأ طرابلسي من خلال الأدب والفن وظائف العنف وطقوسه في الحروب الأهلية، وتناول عبرهما تحولات السلطة والمجتمع في لبنان خلال النصف الثاني من القرن الفائت. ورغم شغفه بهذين المجالين، إلا أن كتاباته لم تقتصر عليهما فقط، بل شملت السياسة والتاريخ والاقتصاد والأنثروبولوجيا وغيرها. ناهيك عن السيرة واليوميات والشهادات الشخصية التي تحيل إلى سيرة حافلة بالمغامرات الممتدة من بيروت إلى ظفار وصولًا إلى عدن خلال سنوات حكم اليسار لجنوب اليمن.

أصدر فوّاز طرابلسي، على مدار أكثر من 3 عقود، أكثر من 20 كتابًا، منها: “غيرنيكا – بيروت: الفن والحياة بين جدارية لبيكاسو وعاصمة عربية في الحرب” (1987)، و”صورة الفتى بالأحمر” (1997)، و”صلات بلا وصل: ميشال شيحا والإيديولوجيا اللبنانية” (1999)، و”إن كان بدك تعشق: كتابات في الثقافة الشعبية” (2004)، و”يا قمر مشغرة: المحسوبية، الاقتصاد، التوازن الطائفي” (2004).

إضافةً إلى: “فيروز والرحابنة: مسرح الغريب والكنز والأعجوبة” (2006)، و”تاريخ لبنان الحديث: من الإمارة إلى اتفاق الطائف” (2008)، و”حرير وحديد: من جبل لبنان إلى قناة السويس” (2012)، و”الديمقراطية ثورة” (2012)، و”ثورات بلا ثوار” (2014)، و”دم الأخوين: العنف في الحروب الأهلية” (2017)، و”سايكس – بيكو – بلفور: ما وراء الخرائط” (2019). كما ترجم أيضًا عدة أعمال أدبية وفلسفية وسياسية لكبار الكتّاب والمفكرين العالميين، مثل أنطونيو غرامشي وإدوارد سعيد.

في هذا الحوار الذي سيُنشر على 3 أجزاء، يجيب الكاتب والمؤرخ والمفكر اللبناني على مجموعة من التساؤلات حول قضايا ومواضيع مختلفة تشمل السياسة والتاريخ والأدب والفن، إلى جانب ثورات الربيع العربي والديمقراطية والدولة الوطنية والطائفية ومفهوم المجتمع المدني والتأريخ وغيره.

طرح عليّ الأخ مصطفى ديب أكثر من 15 سؤالًا يدور معظمها مدار نظريات وأفكار من فترة ما بعد الحرب الباردة، وقد وصلت إلى المنطقة العربية وباتت فاعلة في الحياة الفكرية والثقافية وبدأ تداولها، حتى لا أقول استهلاكها، وقد حلّت بسرعة محلّ مفاهيم ونظريات سابقة، جرى التخلي عنها، وتبني الجديدة قبل أن تتعرّض لما تستحقه من تدقيق ونقاش.

قبلت التحدي، خصوصًا أن بعض الأسئلة حفزني إلى التفكير والكتابة في مواضيع لم أكن قد تطرّقت لها من قبل. وغني عن القول إن الإحاطة بهذا العدد من المواضيع استدعى مقدارًا من الضغط والاختصار.

1- السياسة والتاريخ

    بدايةً، ثمة سؤال لا بد منه، وهو: نعرف فوّاز طرابلسي كاتبًا وباحثًا ومؤرخًا ومفكّرًا أيضًا، ولكننا لا نعرف فعليًا ظروف لقائه بالتاريخ والسياسة. هلّا تكرمت وحدّثتنا عنها؟

نشأت في زمن الثورات وثرت مع الثوار. كنت أرى إلى نفسي مناضلًا في حركة التحرر الوطني والاجتماعي العربية، ومارست ذلك النضال بما هو نضال للتحرر الفردي أيضًا. لعب عدوان السويس دورًا كبيرًا في تأسيس وعيي السياسي والوطني.

لم أمارس السياسة بالمعنى التقليدي، إذ كان إطار عملي السياسي هو دومًا العمل الحزبي الجماعي، وقد مارسته بالتزامن الدائم مع التفكّر بتلك الممارسة، وخدمتها، عن طريق الإنتاج الفكري والثقافي. عملت في الصحافة منذ وقت مبكّر، وبعد الانتهاء من تفرّغي الحزبي، الذي دام عقدًا ونصف من الزمن، امتهنت التدريس لكسب العيش.

والسياسة هي أيضًا اختصاصي الأكاديمي، درستها في المرحلة الجامعية ودرّستها في الجامعة. بعد العام 1984، قررت استكمال دراستي نحو الدكتوراه التي قطعتها العام 1970 حين عدت إلى البلاد للمشاركة في تنظيم كنت قد شاركت في تأسيسه، وهو “منظمة العمل الشيوعي”. انتقلت إلى باريس، اخترت أن أكمل دراستي بقسم التاريخ وقد بتّ مقتنعًا بأن علم التاريخ هو الأنسب والأشمل بين كافة الاختصاصات للتعبير عن التجارب والحروب التي عشناها، وقد قررت أن أتفرّغ للكتابة عنها، بوسائل متعددة، منذ تلك الفترة.

قررت أن أروي تلك التجارب في أعمال أسميتها “تصنيع التجربة”، وهي مزيج من شهادات عن التجارب ومحاولات إعطاء معنى لها ومراجعتها نقديًا أضعها بتصرّف القراء والثوار من الأجيال الجديدة، وسنتكلم عن ذلك فيما يلي.

2- الأدب

    الجد شاعر، والأخوال شعراء أيضًا، بمعنى أن الظروف كانت مهيأة لتُصبح شاعرًا أو كاتبًا أو رسامًا، ولكنك تركت كل ذلك جانبًا وانخرطت في السياسة وبعدها كتابة التاريخ. هل تشعر الآن بأنك أديب ضلّ طريقه إلى السياسة؟ أم ترى نفسك اهتديت إليها؟ وعند الكتابة في السياسة أو التاريخ، ألا تراودك الرغبة في كتابة قطعة أدبية خالصة؟

الجد عيسى إسكندر المعلوف مؤرخ ولغوي. ثلاثة من الأخوال شعراء، وثلاثة من أخوال الأخوال شعراء. كنت مصابًا بالربو في الطفولة ومنزلنا رطب، فسكنت خلال فترات طويلة منزل جدي وجدتي في بيروت في الشتاء، أو في زحلة خلال الصيف. تعلّمت من الجد الولع بالكتب وباللغة العربية، واكتسبت متعة القراءة وفضول التحري والبحث.

لكني أنتمي أيضًا إلى عالم آخر. تنحدر أسرة الوالد من بلدة مشغرة المختلطة (مسيحية – شيعية) في البقاع الغربي، وقد توزّع أفرادها بين العمل في دباغة الجلود والتجارة بها والهجرة. عرفت صناعة الجلود الازدهار خلال الحرب العالمية الثانية بسبب الطلب العسكري على الجعب والأحزمة والجزمات الجلدية. كان الوالد يعمل موظفًا في “فندق الشرق” (أوريانت پالاس) بدمشق، فتزوّج وانتقل خلال الحرب إلى بيروت، حيث افتتح محلًا لبيع الجلود التي تنتجها دباغة أخيه، وكانت له حصة متواضعة فيها. انتكست صناعة الجلود انتكاسة كبيرة في نهاية الأربعينيات عندما أُقفلت الحدود مع فلسطين، المستورد الأول لجلود البلدة، بسبب الاحتلال الإسرائيلي. كما أقفلت مع سورية بسبب القطيعة الاقتصادية بين لبنان وسوريا 1948 – 1950، فأخذ الوالد حينها يزاوج بين تجارة الجلود واستثمار فندق في بحمدون حتى تفرّغ للأخير.

لم أفكّر كثيرًا بهذا الأثر العائلي المركّب، ولكنه فاعل دون شك، وأحسب أنه أغنى حياتي ونوّعها ووسّع آفاقها. لكنني صنعت حياتي بقدر كبير من الاستقلال عن البيئة العائلية.

مثل أي مراهق عربي، كانت لي محاولات شعرية لم تعمّر بعد المدرسة الثانوية. لكن ولعي الأول منذ أيام الدراسة كان بالفن التشكيلي، ما دفعني، في خواتم المرحلة الثانوية، إلى دراسة الفن في معهد فني بمدينة مانشستر نهاية الخمسينيات، ثم اكتشفت الاشتراكية والماركسية، وقررت دراسة الاقتصاد والسياسة.

لم تقتصر كتاباتي على السياسة. مع أن كتاباتي السياسية موزعة على عدة مؤلفات ومجموعات مقالات في السياسة اللبنانية والعربية والدولية مع وفرة من المقالات والأبحاث عن ثورات العام 2011، إضافةً إلى عدة مؤلفات تلامس السياسة دون أن تنحصر بها: نقد الأيديولوجيا اللبنانية من خلال فكر ميشال شيحا (1998)؛ إلى هذا، ألهمتني مشغرة دراسة في الأنثروبولوجيا بعنوان “يا قمر مشغرة: المحسوبية، والاقتصاد، والتوازن الطائفي” (2004)، وفي الاجتماعيات أصدرت “الطبقات الاجتماعية والسلطة والسياسة في لبنان” (2016) إلخ..

أثناء التفكير في أجدى وسيلة للتعبير عن تجارب الحرب والثورات، توصّلت إلى أن التعبير الأدبي والفني أقدر على الإحاطة بالصراعات والتحولات الاجتماعية والسياسية من النص السياسي الصرف. وأدركت عكسًا أنه يمكن قراءة تلك الصراعات العنيفة والتحولات الجذرية من خلال تعبيراتها في الأدب والفن.

قرأت تحولات المجتمع والسلطة في لبنان بين حربين أهليتين (1958 – 1975) من خلال مسرح الأخوين رحباني وفيروز “فيروز والرحابنة: مسرح الغريب والكنز والأعجوبة” (2006)، وفي مقالات وأبحاث في الثقافة الشعبية في “إن كان بدّك تعشق” (2004). في “غيرنيكا – بيروت: الفن والحياة بين جدارية لبيكاسو وعاصمة عربية في الحرب” (1987) قرأت جدارية بيكاسو الشهيرة بعيون شاهدت حربًا أهلية، وختمت بمقارنة بين مقاطع من جدارية عن الحرب ومشاهد من مدينة في الحرب.

واصلت الإنتاج عن الحروب الاهلية والعنف في “دم الاخوين: العنف في الحروب الاهلية” (2017) من خلال أعمال هاينر موللر، ومحمد الماغوط، ولوحات كارافاجيو، وفيلم عن حصار ساراييفو البوسنية، والتعريف بطائفة الكاثار الفرنسية، وملصقات الحروب اللبنانية، وتاريخ القصف الجوي ضد المدنيين، وغيرها. وفي اليوميات، كتبت عن حصار الجيش الإسرائيلي لبيروت صيف 1982 في “عن أمل لا شفاء منه” (1984)، وعن زياراتي لليمن في “وعود عدن” (2000). ونشرت مختارات من أعمال مجهولة لأحمد فارس الشدياق، مع عزيز العظمة (1995) مساهمةً في التعريف بهذا الكبير المنسي بين شخصيات النهضة العربية في القرن التاسع عشر. وفي كل هذا، أدين بالكثير الكثير إلى صديقي وأخي الناشر والصحافي رياض الريّس صاحب الدور الأكبر في تحريضي على التأليف والنشر وملاحقتي على التنفيذ.

لا تراودني كتابة الأدب لذاته. لست أملك الموهبة ولا القدرة لكتابة رواية، مع ثقتي بأن أفضل نوع أدبي للتعبير عن الصراعات والتحولات المجتمعية هو الرواية. أتوسل الأسلوب الأدبي من أجل أفضل أداء في المواضيع التي أكتب عنها. ترجمت الشعر الحديث من وإلى العربية، كما ترجمت أعمالًا ثقافية وأدبية لإدوارد سعيد وإتيل عدنان وجون برجر وآخرين.

كتبت في النقد الأدبي والفني على سبيل الهواية. وحظيت بصداقة شعراء وأدباء وفنانين أقدّر نتاجهم وأشخاصهم وأعتز بصداقتهم. وأنا أصدر منذ عقد من الزمن فصلية ثقافية اسمها “بدايات”. أتابع ما استطعت في الشعر والرواية والمسرح والفن والنقد. وأنا محاط بأسرة تتعاطى الفن. شقيقتي آمال تدير “غاليري” للأعمال الفنية في بيروت، وزوجتي نوال عبود فنانة ترسم كالأطفال للأطفال، وكلانا يتابع بشغف وإعجاب شغل ابنتي جنى في الرسم والتصميم الغرافيكي.

3- الصورة باللون الأحمر

    بما أننا نراوح بين الماضي والحاضر، اسمح لنا أن نسألك عن صورة الفتى بالأحمر: ما الذي تبقى منها؟ لبنان الاشتراكي، منظمة العمل الشيوعي، الحرب الأهلية، ظفار، اليمن، وغيرها. ما الذي تبقى من صورتك في تلك المرحلة؟ ما الذي ظل ثابتًا؟ وما الذي تغيّر أيضًا؟ ولماذا؟

عايشت عدة ثورات مباشرة، وشاركت ببعضها. وقد شهدت على تلك التجارب وراجعتها نقديًا في “جنوب اليمن في حكم اليسار: شهادة شخصية” (2015) بمساعدة الروائية والمناضلة بشرى المقطري، وفي “ظفار: شهادة من زمن الثورة” (2003)، وفي كتابات عديدة في القضية الفلسطينية والمقاومة الفلسطينية وغيرها.

لم أكتفي بالشهادة والمراجعة لتجاربي، بل حرصت أيضًا على تحرير ونشر شهادات لتجارب رفاق من المناضلين اليساريين العرب، بينهم اليمني جار الله عمر، واللبناني جورج البطل.

أشدد على الشهادة والمراجعة، أي على تقييم تلك التجارب وتعيين الأخطاء المرتكبة في سياسة معينة وأسبابها، وتعيين المسؤول أو المسؤولين عنها. لست مقتنعًا بالنقد الذاتي لأنه طقس تكفيري لا يفسّر الخطأ، ولا يتضمن في العادة استعداد من يمارسه، فردًا أو جماعة، لتحمّل المسؤولية أو التعرّض للمحاسبة. ينتهي مفعول النقد الذاتي عادةً بمجرد الإدلاء به. كما أنني لست معجبًا بفعل الندامة، فمثله مثل نقيضه الذي يتباهى بتبني التجربة بحرفيتها لو قدّر لها أن تتكرر. أما اعتبار أن عكس الخطأ في الممارسة السياسية والمجتمعية هو الصح، فطقس بليد لا يثبت بذاته صحة الصح.

خلاصة تجربتي في اليسار الشيوعي و”اليسار الجديد” تقول إنهما ينتميان بالجملة إلى مرحلة انقضت هي مرحلة التحرر الوطني التي لا تزال تهيمن على الوعي والرؤية لديهم. واليسار الآن بقايا أحزاب وتنظيمات معظمها انشق تحت وطأة الانهيار السوفييتي بين مكوّنين رئيسيين: المكون القومي، والغالب عليه عداء بدائي للاستعمار الكولونيالي، والأحرى لأميركا، أكثر مما هو عداء للإمبريالية الجديدة والرأسمالية النيوليبرالية، من جهة. والمكون الليبرالي، أكثر مما هو ديمقراطي، داعية تعددية، أكثر منه داعية مساواة سياسية وقانونية، شديدة التأثر بالثقافوية وسياسات الهوية ومقولات “المجتمع المدني” والرأسمالية النيوليبرالية.

والتشديد هنا على أنه لا وجود ليسار واحد. اليسار متعدد، كما في كل مذهب أو تيار، وقد انتهى عهد احتكار المرجعية على أمل استكمال ذلك بالقضاء على منطق التكفير بين اليساريين. رأيت في ثورات 2011 فرصة كبيرة لليساريين كي يلتقطوا أسباب وآليات وخصائص تلك المرحلة، ويعيدوا تأسيس تنظيماتهم وإنتاج رؤية يتعاقدون عليها وبناء قواهم وتجديد قواعدهم الاجتماعية. فالمؤكد أن الثورات والانتفاضات مناسبات استثنائية لكشف أعماق السلطة والمجتمع وآليات تشغيل هذه وذاك. كانت تلك فرصة ضائعة ولا يزال ثمة دور ينتظر من يضطلع به.

ولا أزال مقتنعًا بأن اليسار، واليسار الماركسي خصوصًا، هو الأقدر بين المذاهب والتيارات المعاصرة على فهم عالمنا المعاصر، وخصوصًا هذا الطور الأخير من الإمبريالية والرأسمالية. إلا أن ذلك يقتضي الاستعداد للبدء من البداية في إنتاج رؤية للوضع العربي الراهن تستجيب لتحديات المرحلة الجديدة، رؤية لا تقضي على الخاص بحجة العام. أي لا تستسلم للتعميمات على مجمل العالم العربي، الصادرة عن المؤسسات الدولية أو الأكاديميات الأميركية: من تعميم نمط إنتاج كولونيالي على المنطقة، بحجة أن فلسطين لا تزال تحت الاحتلال الاستيطاني، إلى التصنيفات الاختزالية المختلفة للاقتصاد، الريعية والباتريمونيالية وأخواتها، المبنية على تعميم تجربة الدول النفطية، والكل للتغطية على عولمة الرأسمالية وحقبتها النيوليبرالية. 

بعبارة أخرى، الصراع الفكري موجود ومحتدم مقدمة لبلورة الرؤية الجديدة التي ترقى إلى مستوى مواجهة تحديات العولمة والطور الجديد من الرأسمالية في وقعهما على العالم العربي. ومن أبرز التحديات الإضافية المطلوب هنا التفكّر بها نجاح الولايات المتحدة لأول مرة في عقد علاقات تحالف بين قاعدتيها في المنطقة: الأنظمة النفطية وإسرائيل. وهو منعطف تاريخي لا يختزل بالتطبيع، ولا تنحصر آثاره قطعًا بالقضية الفلسطينية.

لا أزال أرى إلى صورتي باللون الأحمر، مع أن النشيد الذي أحب وتدمع له عيناي هو نشيد “موطني”.

كانت الماركسية ولا تزال مرجعي الفكري الأول. أقصد نقطة الانطلاق الرئيسية في الجهد النظري لا نهاية المطاف. الماركسية نظرة شاملة إلى العالم تنطوي على فلسفة واقتصاد وتاريخ واجتماع، وهي تشكل أبرز تراث فكري لفهم الرأسمالية في اتجاهاتها وتحولاتها وقوانينها.

ليس غريبًا أن رجال الأعمال اليابانيين يقرأون “رأس المال” ماركس ليساعدهم على فهم آليات تشغيل الاقتصاد الذي يترأسون عليه. ولا عجب أن يكون السيد فوكوياما قد تراجع عن نظرية نهاية التاريخ وأبدية النظام الرأسمالي، في استدارة نقدية ضد النيوليبرالية، وأخذ يدافع عن ضرورة تدخل الدولة في التوزيع الاجتماعي لتعديل الفوارق بين الطبقات. ولعل في ذلك ما يجب أن يشجّعنا نحن أبناء القارات الثلاث أن لا نهلط كل ما يأتي من فكر أو نقد قبل أن يمتحنه الزمن.

أتصور الرأسمالية والماركسية بطلين تراجيديين مثل أبطال التراجيديات الاغريقية، في مبارزة لا متناهية بينهما لن تنتهي إلا بمصرع الاثنين.

أسترشد بما أسميه “الماركسية العملية”، أي ما يمكن استنسابه من التراث الماركسي، بكل موارده ومدارسه وتياراته، من مفاهيم وتجارب لإنتاج معارف عن أوضاعنا العربية. وهذه بعض نقاط الاستدلال:

    أبرز ما أنتجه ماركس يتخطى التناقض بين تطور قوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج. إنه الفكرة التي تقول: بفضل الرأسمالية والتطور العلمي والاقتصادي، بات العالم قادرًا على أن ينتج ما يفي الحاجات الضرورية لجميع سكانه. ولكنه في ظل سيادة السوق ومبدأ الربح والملكية الفردية، لا يزال يعرف المجاعات، وتنامي الفوارق بين القارات، وبين المداخيل والثروات والموارد. وقد بلغ هذا التناقض ذروته الفاضحة في العصر النيوليبرالي، حيث يملك 62 من أثرى الاثرياء ما يزيد عما يملكه ثلاث مليارات من البشر.

    التناقض بين الفرد والمجتمع مقولة خصبة في الماركسية تقدّم الدليل على كيفية تجاوز قطبي المعادلة السائدة: إما سحق المجتمع للأفراد في المذاهب القومية والشمولية، وإما الفردانية الليبرالية الواهمة بأنه يمكن للأفراد أن يولدوا وينموا خارج العلاقات المجتمعية وأحكامها، أو بالضد منها.

    الديمقراطية ثورة بذاتها وإنجازًا تاريخيًا بذاته تحقق المساواة السياسية والقانونية بين مواطنين في الدولة. لم تأت تاريخيًا على يد البرجوازية، على عكس ما يروج له ليبراليون وماركسيون معًا. نشأت وتراكمت وهيمنت بواسطة الثورات والحركات الشعبية ضد الرأسمالية، وانتهت إلى مساومة تاريخية شرعّت الحرية والمساواة السياسية والقانونية في الدولة، وكرّست وحمت اللامساواة في المجتمع المنقسم إلى طبقات وأشكال تراتب وتمييز مختلفة. وهذا التناقض بين المساواة في الدولة وعدم المساواة في المجتمع ينخر المساواة في الدولة بتقييد الحريات والحقوق السياسية والقانونية وإخضاعها لسلطة المال. وقد تصور ماركس وإنغلز أن يكون حل هذا التناقض هو الانتقال من الديمقراطية السياسية والقانونية إلى الديمقراطية الاجتماعية، التي هي الاسم الآخر للمساواة الاجتماعية، أي الاشتراكية.

    في المادية التاريخية، يمكن الانطلاق من الرفيق ابن خلدون: “إن اختلاف الأجيال في أحوالهم إنما هو باختلاف نحلتهم من المعاش”. وقد أضاف ماركس إلى إنتاج المعاش “إنتاج الحياة الحقيقية”، أي دور المرأة في التاريخ. وفي أبرز تطويراته باتت تتخطى التحديد الاقتصادي، أي تفسير الحياة والمجتمع والسلطة وفق مبدأ تفسير وتسيير واحد. بل يزداد الاهتمام لدى الماركسيين بما يسمّى “التحديد المضاعف” الذي يجدل الاجتماعي والسياسي والثقافي في دراسة الرأسمالية. وكم هو معبّر أن نُقّاد المادية التاريخية المعاصرين، الذين يرفضون أحادية العامل الاقتصادي في تفسير الحياة والتاريخ وتسييرهما، ينتهون في معظمهم إلى الأخذ بالتحديد السياسي، أي القول بمبدأ تفسير وتسيير أوحد للحياة والتاريخ هو السياسة، وهي نظرية تقع في مجملها في أسر الليبرالية الجديدة.

    على عكس ما ينسب إلى الماركسية من تتابع حتمي لأنماط الإنتاج، أبان إنغلز في التأريخ للإمبراطورية الرومانية كيف يمكن لنمط إنتاج أن يدمّر نفسه بنفسه دون أن يفضي إلى نمط إنتاج جديد وتشكيلة اجتماعية أرقى. ومن هنا الخيار التاريخي الفاجع الذي أطلقه ماركس وإنغلز، وتستعيده روزا لوكسمبورغ: “الاشتراكية أو البربرية!”. وأحسب أننا نقارب هذه الاخيرة في عهد التوحش النيوليبرالي.

    كل المجتمعات منقسمة إلى طبقات تتعايش – ولو بنسب متفاوتة – مع مراتب وتكوينات أخرى مثل القوميات والأعراق والإثنيات والمذاهب الدينية والأقليات المسيّسة وسواها. والصراع بين الطبقات، الخفي منه والسافر، ليس يختصر الصراعات السياسية والاجتماعية، لكنه قائم وفاعل ومتفاوت القوة والأثر، يتدخل فيها جميعًا ويتقاطع معها ويتغذى منها. وغالبًا ما يمارَس الصراع الطبقي من فوق لتحت أكثر مما يمارس من تحت لفوق. صدق الأميركي وارن بافت، رابع أغنى أغنياء العالم، إذ قال إنه لا يعترف فقط بوجود “حرب طبقية”، بل يؤكد أن طبقته، طبقة الأغنياء، هم الذين يخوضون تلك الحرب وينتصرون فيها. ومن يرد مثالًا عينيًا راهنًا عن حرب طبقية تشنها طبقة حاكمة بمكونيها الاقتصادي والسياسي، فليتابع سطو الأوليغارشية اللبنانية على أموال اللبنانيين وعلى حياتهم ومستوى معيشتهم ومستقبلهم في الأزمة متعددة الأوجه المستمرة منذ العام 2019.

    في نظرتها إلى الدين والتديّن، تتجاوز الماركسية النظرة العقلانية المجرّدة القائمة على معادلة “ظلمات الجهل يبددها نور العلم”. تثير حاجة البشر إلى الدين، حاجة المقهورين إلى العزاء وإلى تحمّل العوز والقهر والألم (“لا تهملني لا تنساني، يا شمس المساكين” تصلّي فيروز). تعترف الماركسية بهذا الوجه من الدين، وتؤكد التناقض القائم في كل الديانات: إنها تفرض الاستكانة بل الامتثال، قدر ما تحرّض على الثورة على الظلم والاستغلال. ثم إنها تحوي أقوى وأبلغ تسويغ للعنف والقتل، مثلما تحوي أعظم الدوافع للتضحية والغيرية والتضامن الإنساني.

    لا يكفي التنوير في الدين، الحاجة ملحة للتثوير. وهؤلاء هم بعض الثوار المعاصرين: فقه التحرير في أميركا اللاتينية، محمد محمود طه السوداني، وعلي شريعتي الإيراني.

    المهتمّون الجدّيون بالتغيير السياسي والاقتصادي والاجتماعي لا يمكنهم الاستغناء عما تحويه الماركسية من تراث زاخر في نظريات وتجارب الثورة، والتحرر الوطني والاجتماعي، والتوحيد القومي، والتغيير السياسي والاجتماعي، والحركات الاجتماعية، والتجارب النقابية والتعاونية.

    أخيرًا ليس آخرًا، تثير الماركسية الإشكالية الوجودية الكبرى للاجتماع البشري، إشكالية العلاقة بين الحرية والمساواة، وإن تكن ليست تحمل وحدها وسائل معالجتها أو التعبير عنها.

4- المرحلة الجديدة والثورات

    ذكرنا للتوّ أحداثًا وعناوين مختلفة رسمت فصلًا مهمًا من تاريخ المنطقة. والآن، هناك أحداث جديدة تُحاول رسم فصل جديد لتاريخ المنطقة؛ ثورات شعبية وثورات مضادّة واضطرابات لا تعد ولا تحصى. كيف ينظر فوّاز طرابلسي إلى هذه الأحداث؟

افتتح العام 2011 أشكالًا جديدة من الاحتجاجات والانتفاضات الشعبية، مع أنها لم تكن دون مقدمات وسوابق. كانت ثورات بمعنى أن نواياها المعلنة إسقاط الأنظمة بواسطة الضغط الشعبي “الشعب يريد إسقاط النظام”. وقد أدّت في بعض الحالات إلى ما تؤدي إليه الثورات عادةً: عسكرة الاحتجاج والاقتتال الأهلي.

    اندلعت الانتفاضات في سياق ردود الأفعال الشعبية على فرض إعادة الهيكلة الاقتصادية وإطلاق قوى الأسواق على غاربها والخصخصة وسائر الإجراءات النيوليبرالية، خصوصًا بُعيد الأزمة العالمية الكبرى التي ضربت النظام العالمي العام 2008. ومن نتائجها عربيًا: تقلص التوزيع الاجتماعي، بما فيه دعم المواد الغذائية والمحروقات، وانهيار الخدمات العامة، واقتحام الرأسمالية والخصخصة ميادين التعليم والصحة والسكن، ونمو البطالة وانسداد آفاق العمل والمستقبل أمام الشباب، واتساع الهجرة الريفية مع ضمور القطاع الزراعي، وارتفاع معدلات الفقر، وانخفاض مستوى المعيشة لدى الطبقات المتوسطة، وتنامي الفوارق الطبقية والمناطقية على نحو غير مسبوق في التاريخ، وغيرها. وهذه ظواهر لم تأخذ نصيبها من البحث والمراجعة والتقييم واستخلاص الدروس نظرًا الى شحّة ما صدر عن القوى التي خاضت الانتفاضات.

    لعبت القوى الإقليمية والدولية دورها في الانتفاضات منذ البداية. وهذا أمر نادرًا ما يؤتى على ذكره، اللهم إلا عن طريق أصحاب نظريات المؤامرة. خلافًا لاتهامات معارضي الانتفاضات بأن الولايات المتحدة طبّقت بواسطتها سياسة “الفوضى الخلاقة”، كان المبدأ الأول للإدارات الاميركية المتعاقبة هو الحفاظ على الأمر الواقع المحلي والإقليمي: أمن حدود إسرائيل، واتفاقات السلام مع إسرائيل، وحماية الأنظمة التابعة، وخصوصًا تحصين أنظمة حكم الأوليغارشيات النفطية. وحيث وقعت الانتفاضات، في الأنظمة الصادرة عن حركات التحرر الوطني، اعتمدت سياسة التعديل/الإصلاح في الأنظمة، بواسطة تنحي الرئيس واستبداله بنائبه وتنظيم انتخابات نيابية كان واضحًا أنها ستأتي بالتنظيمات الإسلامية – أي بـ “الإسلام المعتدل” – إلى الحكم. وهي سياسات انحكمت بالدرجة الأولى بالاستراتيجية الأميركية الشاملة عن الحرب الكونية ضد الإرهاب.

طُبّقت هذه السياسة في تونس ومصر والمغرب، وحظيت بدعم من الجيش وبتدخل إقليمي سعودي وإماراتي. وانتكست الانتفاضات إلى حروب داخلية وإلى تدخلات عسكرية دولية واقليمية، عندما انكسر الجيش في ليبيا وسورية واليمن. ومع أن الولايات المتحدة دعمت فئات من المعارضة السورية، لم يصل بها الأمر الى أبعد من البحث عن بديل للأسد من داخل السلطة. والعامل الحاسم في ذلك هو القبول بأن النظام السوري نجح في أن يقدّم حربه ضد قسم كبير من شعبه على أنها “حرب ضد الإرهاب”. وقد استدرج النزاع السوري تدخلات إقليمية خليجية وتركية داعمة لقوى المعارضة المسلحة بما فيها التنظيمات الجهادية، ومعها التدخلات الدولية المباشرة من الولايات المتحدة حماية للشريط الذي تسيطر عليه التنظيمات الكردية، كما تدخلت القوات الروسية والميليشيات الموالية لجمهورية إيران الإسلامية لإنقاذ نظام بشار الأسد. الأمر نفسه يمكن أن يقال بالنسبة إلى اليمن، حيث جرى استبدال الرئيس بنائبه، بناءً على مبادرة “مجلس التعاون الخليجي”، برعاية الولايات المتحدة والمؤسسات الدولية، أعطت صلاحيات استثنائية للرئيس وهمّشت الحكومة الائتلافية التي تضم أطراف الازمة. وأُعيد تنظيم المقاطعات اليمنية بتجاهل واضح لأبرز مطالب مكونين مسلّحين في الأزمة: “أنصار الله” في صعدة، و”الحراك الجنوبي” في المحافظات الجنوبية. ومن تداعيات هذا الحل سقوط السلطة في صنعاء ومعظم الشمال بيد الحوثيين، وسيطرة الحراك الجنوبي على المقاطعات الجنوبية، واندلاع حرب استدرجت التدخل السعودي والإماراتي والإيراني معًا.

وفي السودان، انتهى التدخل السعودي الإماراتي، المدعوم من الولايات المتحدة وبريطانيا وإسرائيل، إلى دعم انقلاب عسكري أطاح بالرئيس عمر البشير، ومهّد الطريق أمام شراكة عسكرية – مدنية، تحت ضغط الانتفاضة الشعبية، لكنه كرّس، في المقابل، حضور الجيش البديل “ميليشيا الجنجويد” في رأس السلطة.

أشدد على هذا الدور الخارجي من أجل قياس مبلغ المراهنة الواهمة على القوى الخارجية و”المجتمع الدولي” و”الرأي العام الدولي” التي راجت في الانتفاضات، والتحذير من مغبة التعويل عليهما، ما أفقد الحركات الشعبية استقلاليتها وحرية الحركة. وهي دعوة للاعتماد على الذات وتنمية القوى الذاتية لتيار الحرية والتغيير، وقياس قواه الفعلية بناءً على ما يستطيع ولا يستطيع تحقيقه.

    الاختلاط بين الردة السلطوية ضد الانتفاضات والردة الجهادية، ما اضطر الانتفاضات إلى أن تقاتل على جبهتين، ومن نتائج ذلك اضعافها عمومًا واضعاف وجهها المدني والديمقراطي مع انحياز فصائل متزايدة منها إلى المعسكر الجهادي، كما في الحالة السورية مثلًا.

    الانشقاق في الانتماء المجتمعي والأهداف والوجهة في صفوف الانتفاضات بين الطبقات المتوسطة، وقطاعاتها المتعلمة والحداثية من جهة، والقوى العاملة والريفية والطرفية والمفقرة من جهة أخرى. وقد تجسد هذا الانشقاق إلى حد كبير، دون أن يتطابق، في ثنائية “مدني/إسلامي”. وبلغ تدهور النزاع بين القطبين إلى حد انحياز قطاعات من الثوار إلى الحكم الاستبدادي العسكري في بعض الأحوال، مصر وتونس مثلًا.

    سيادة رؤية وأهداف ووسائل عمل في القسم المدني من الانتفاضات مستمدة في معظمها من أفكار بعد الحداثة والمفاهيم ووسائل العمل التي راجت إبان فترة سقوط الأنظمة الأوروبية الشرقية، تضاف إليها حملات الترويج للديمقراطية الأميركية وأيديولوجيا منظمات المجتمع المدني. وهذه أبرزها:

أولًا، مع أن الأهداف الأصلية المشتركة بين كافة الساحات العربية المنتفضة – عيش/عمل، حرية، عدالة اجتماعية – حملت بذاتها رؤية عميقة لأسباب الانتفاضة، إلا أنها أُهمِلت في مجرى الاحتجاج وغلبت السياسة ووجهها الأبرز، العداء للدولة باسم رفض “السلطوية” والدعوة إلى إسقاط الأنظمة، واختفت معها المطالب الاجتماعية والمعيشية.

ثانيًا، غياب الاستراتيجية. حل محلها مطلب التغيير. تغيير ماذا؟ ما الأولويات؟ التغيير بواسطة أي قوى؟ وبأي وسائل؟ في ظل أي ميزان قوى مع السلطة والطبقات الحاكمة؟ وذلك في غياب تشخيص يسمح بتقدير حجم الأزمة، والقوى التي أطلقتها، والوضع الفعلي للسلطة وتعيين بالتالي طبيعة التغيير الممكن: فهل أن الأزمة تتيح الاستعداد لتسّلم الحكم (وبأية وسائل؟) أو تنظيم مقاومة لصد هجوم من الطبقة الحاكمة، أم أن الإمكانات مفتوحة فقط أمام تحقيق إصلاحات (وما هي؟).

ثالثًا، النفور من التنظيم ومن الأحزاب ومن القيادة باسم نزعة فردانية تزداد انتشارًا بين الشباب (“بيننا مليون قائد” في مصر؛ أو “أنا القائد” في لبنان؛ ورفض المطالبة والبرامج (“ننتزع ولا نطالب” في لبنان). ولعل أبرز المفارقات أن منظمات المجتمع المدني التي تبشرّ بالديمقراطية وتعادي الأحزاب والنقابات في آن نادرًا ما يرد في ورشاتها وتمارينها أن منظمات المجتمع المدني في بلدان المنشأ الأوروبية والأميركية ليست هي أدوات التغيير، بل أدوات التغيير هي الأحزاب السياسية ترفدها قوى شعبية ضاغطة منظمة في حركات اجتماعية ونقابات عمالية واتحادات مهنية!

رابعًا، وحدانية التكتيكات: مقولة “احتلال الفضاء العام” (المستعارة من نظرية هابرماس حول الانتقال إلى الديمقراطية مع أن الرجل أكّد أنها لا تنطبق إلا على أوروبا!!) وقد عبّرت عن نفسها بتكتيك تحرير ساحات من سلطة الدولة – ميدان التحرير بالقاهرة، ساحة الساعة بحمص، ميدان التغيير بصنعاء، شارع بورقيبة بتونس، ساحة الميدان بالخرطوم، ساحة الشهداء ببيروت، إلخ – وملحقها في الحالة اللبنانية: تطويق ساحة البرلمان بدافع من وهم أنه يكفي لفرض استقالة حكومة أو حتى تغيير نظام. وهو تكتيك مبني على ما تروجه ورشات منظمات المجتمع المدني عن انهيار أنظمة أوروبا الشرقية بواسطة تطويق البرلمانات بالتظاهرات الشعبية. وهي رواية لا تتطابق مع مجريات الأمور. فمثلًا، سقط الرئيس الموالي للروس في “ثورة الميدان” بأوكرانيا عام 2014 عندما احتلت “كتيبة آزوف” اليمنية المتطرفة عدة بنايات حكومية في العاصمة، واقتحمت البرلمان بالسلاح، واعتقلت أكثرية النواب. وفي الحالات الأخرى، سلّم بيروقراطيون السلطة السياسية لأحزاب معارضة طوعًا بعد انهيار ألمانيا الشرقية، وقد احتفظوا بحصص كبيرة من المؤسسات المؤممة.

خامسًا، الدور المتناقض للإعلام ولوسائل الاتصال المجتمعية في الانتفاضات. لا شك في أن هذه لعبت دورًا كبيرًا في تأمين الربط بين الساحات والتواصل والتبليغ والتعبئة. لكنها شكلت في الآن ذاته بيئة تلغي الفواصل بين الافتراضي والواقع، بين المتخيّل والممكن، بين الكلمة والفعل، وتروّج للسائد عالميًا: الفردانية الجامحة والثقافوية وسياسة الهويات.

————————————

المسألة الطائفية هي نتاج أشكال متنوعة من التمييز والحرمان

(2-3)

5- عن الديمقراطية

    هل أصبح تحقيق الديمقراطية اليوم أمرًا مستحيلًا عربيًا في ظل استمرار تصاعد الخطاب الطائفي والشعبوي؟ وكيف ترى مستقبلها في ظل صعودهما واستمرار مآزق الدولة الوطنية ومسألة الأقليات؟ وهل ترى أن تطبيقها قد يكون مخرجًا من هذه الأزمات؟ وما رأيك بربط البعض للديمقراطية وتحقيقها بتيارات سياسية معينة؟ هل هناك فعلًا تيار أقرب من آخر إلى الديمقراطية؟

لن تتحقق الديمقراطية ضربة واحدة أو في فترة زمنية معينة. هذا هو الوهم الذي أشاعته وتُشيعه حملات الديمقراطية الأميركية ودعوات تبشير منظمات المجتمع المدني وورشاتها وتمارينها. وهل من مفارقة أشنع من أن حملة الترويج للديمقراطية كانت مترافقة مع غزو العراق واحتلاله؟! الصراع ضد الاستبداد مسارات وقوى ووسائل ومرحلية.

كتبتُ أن الديمقراطية ثورة. قصدت أنها سلسلة من التحولات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية ضد الدكتاتورية والاستبداد تُفرض بالقوة الشعبية. وهي مسار يحتمل التقدم والتراجع والهجوم والانتكاس وتحقيق التراكم وتبديده. هذا هو تاريخ المسار الديمقراطي في بلادنا، وهذا هو ما يعملّنا إياه تاريخ الديمقراطية في البلدان الغربية كما في القارات الثلاث، حيث نجحت بلدان في بناء أنظمة ديمقراطية مثل الهند وجنوب أفريقيا.

لا يوجد نضال من أجل الديمقراطية لا ينطوي على نضال اجتماعي واقتصادي وثقافي ويتقاطع معه ويتأثر به، أو لا يجمع بين مقادير معينة من الحرية ومن المساواة. آخر دليل عما أقول هو الانتفاضة الجديدة في إيران. انطلقت من أجل حقوق النساء ضد بطريركية الملالي التكفيرية، لتشمل حركات الاحتجاج ضد الاستبداد السياسي وضد تدهور مستوى المعيشة، وانضمت إليها حركات المطالبة بالحكم الذاتي والحقوق الثقافية في كردستان والأحواز وبلوشستان.

في مجرى البحث في مسائل التغيير، لا بد من إثارة مسألتين: دور القوى الخارجية، ودور العنف.

الأولى: لما كانت القوى الإقليمية والدولية متداخلة إلى أبعد حد في السياسات المحلية في المنطقة، ولما كانت الأنظمة العربية تستمد شرعيتها من الخارج أكثر مما تستمدها من شعوبها، كيف يمكن أخذ هذا العامل بعين الاعتبار انطلاقًا، وكيف التعامل معه؟

الثانية: تخطت معظم الأنظمة العربية – العسكرية وغير العسكرية – مرحلة الاعتماد على الجيوش النظامية لفرض سيطرتها على شعوبها، وأنشأت جيوشًا خاصة وميليشيات موازية للجيش النظامي. تلك هي حال سورية والعراق واليمن والعربية السعودية (الحرس الوطني)، والسودان (الجنجويد) ولبنان (حزب الله)، وإيران (الحرس الثوري)، إلخ. وهذه مؤسسات تضاعف خطر الاقتتال الأهلي. وثمة وجه آخر في ترسيخ وطأة الجيوش في الحياة العامة، واكتسابها المزيد من القوة على شعوبها، وهو تحول القوات المسلحة إلى مؤسسات اقتصادية تستأثر بحصة لا يستهان بها من النشاط الاقتصادي، كما في مصر وإيران.

السؤال: كيف يمكن تفادي الانزلاق، أو الاستدراج، إلى العسكرة والاقتتال الأهلي؟ كيف يمكن الاستمرار في التحركات السلمية، وتحقيق المكاسب ضد الأنظمة العسكرية، وإعادة الجيوش إلى ثكناتها، وحصر دور الأجهزة الأمنية في الأمن الخارجي؟ التجربة الوحيدة التي أُسقط بها حكم عسكري بواسطة انتفاضات شعبية هي الحالة السودانية.

تستحق الانتفاضة السودانية الأخيرة الدراسة بما هي تجربة نجحت في خرق السلطة العسكرية وتأسيس شراكة عسكرية – مدنية، وإن تكن مختلة، بالحركات الشعبية العارمة والتضحيات الجسيمة والتقدم التدريجي، والمثابرة بالنَفَس الطويل من أجل إعادة العسكر إلى ثكناتهم وحلّ الميليشيات. ولكن، يمكن الانطلاق بالإجابة على السؤال من أن الحركة الشعبية السودانية العاملة على التغيير قادرة على ذلك لأنها قائمة على وجود حياة حزبية، بما فيها حزب شيوعي مناضل، ونقابات عمالية واتحادات مهنية قوية.

6- الدولة الوطنية والطائفية

    يرى عدد كبير من المثقفين العرب أن فشل بناء الدولة الوطنية يعد سببًا رئيسيًا لأزمات الطائفية والأقليات وغيرها، وأن تحقيقها في المقابل وتحويلها أمرًا واقعًا، قد يكون المخرج الوحيد منها. ولكن بعد بلوغ عملية التكتلات المذهبية والنزوح نحو الطائفية والتخلي عن الهوية الوطنية مرحلة مخيفة، هل لا يزال ممكنًا إقناع الشعوب العربية بفكرة الدولة الوطنية؟ ألم تعد الفكرة ضربًا من الخيال؟

هناك مدرسة فكرية في بلادنا أسميها “التفكير في الغياب”، تفسّر الاستبداد بغياب الديمقراطية، والطائفية بغياب الاندماج الوطني، والاحتكار بغياب المنافسة، والفقر بالحرمان من الحقوق الاقتصادية والاجتماعية، والاقتصاد العادل بغياب “الرأسمالية الحقيقية” التي هي إما رأسمالية الاقتصاد الحر، أو الرأسمالية الانتاجية، إلخ. وقد شكّل هذا النمط من التفكير، ولا يزال، عائقًا أمام تشخيص ما هو موجود وقائم والتعرّف إلى آليات تشغيله، وهذا أول شرط للتغيير، وأحلّ محله المرتجى والمشتهى والواجب الوجود، في تكرار لمنطق الثنائيات الذي يخنق التفكير.

أصل المفهوم هو الدولة القومية، والأدق “الأمة في دولة” (Nation State/Etat-Nation)، أي وجود أمة تؤطرها وتحكمها دولة. والتركيز هنا على الأمة أي انتماء السكان، أو أكثريتهم على الأقل، إلى قومية ولغة مشتركة وقدر من التاريخ المشترك والاقتصاد الموحّد.

أما الاستخدام المعاصر للمصطلح في المنطقة العربية، فنتاج مقولتين من مرحلة ما بعد الحرب الباردة: 1- الفكرة القائلة إن العولمة تجاوزت الدولة القومية وبات العالم قرية كونية (كأن القرية لا يوجد فيها تراتب وانقسامات ونزاعات!!). 2- السياسة الأميركية في طور الانفراد الإمبريالي وخلال عهد “المحافظين الجدد” الداعية إلى “تغيير الانظمة” (Regime Change)، بل “البناء القومي” (Nation Building).

لم يبدأ المشرق العربي من دولة وطنية – قومية. فرض علينا الاستعمار البريطاني والفرنسي كيانات مقسمة حسب مصالحه الاقتصادية والاستراتيجية والسياسية. ولم تكن المجتمعات المأسورة داخل الحدود نتاج نمو عضوي وتاريخي أو اقتصادي. تولّد وهم، وتبلورت أفكار وسياسات، رأت في تلك الكيانات كأنها أشباه الدول القومية الأوروبية، لأن السلطات الاستعمارية منحتها المؤسسات الجمهورية التي أنتجتها الدولة القومية الأوروبية عبر النمو والتراكم العضويين التاريخيين.

والواقع أن مواطني تلك الكيانات عاشوا، وعاشت السلطات التي حكمتهم، في مستويين: مستوى الأمر الواقع التقسيمي – القطري، ومستوى المرتجى القومي. وهذا مدخل لفهم الكثير من الأحداث والمشكلات والتطورات والتقلّبات في المشرق العربي أقلًا.

في التجربة الفعلية لـ “مشروع الدولة الوطنية” ينبغي التمييز بين دولة وأخرى. تشكّل مصر كيانًا مستقرًا منذ آلاف السنين، ويمكن الحديث عن مشروع وطني مصري هو مشروع تحرر وطني اجتماعي تطور في مصر الناصرية نحو تكامل التحرر الوطني والقومي. فمن خلال الصراع العربي الإسرائيلي، بالدرجة الأولى، انفتح على المدى القومي العربي (الوحدة المصرية – السورية، الدعم العسكري للجمهورية اليمنية، إلخ.) ونحو أفريقيا والعالم الثالث.

منذ نشأته، كان العراق يسعى أصلًا لاستعادة الدولة العربية التي أنشأها الملك فيصل في سورية، وتوحيد المشرق العربي تحت العرش الهاشمي، في منافسة مع مشروع الهاشمي لأخيه عبد الله حاكم الأردن الذي قضم جزءًا من فلسطين. كانت الجمهورية العراقية العام 1958 أول محاولة لبناء “دولة وطنية” عراقية، وقد قضى عليها النزاع بين القوميين والشيوعيين.

في البدء، لم يحمل مشروع “البعث العراقي” مشروعًا لبناء دولة وطنية، إذ ورث مشكلات انهيار الوحدة السورية المصرية 1961، ومحاولة إحيائها بالوحدة الثلاثية الفاشلة بين سورية والعراق البعثيين، ومصر الناصرية. افتتح صدام حسين عهده بإعطاء الأولوية لمشروع عراقي يقوم على السيطرة على مركز السلطة في بغداد ومنها التوجه إلى الأطراف.

في الشمال، خاض حربه ضد الأكراد وتنازل خلالها عن شط العرب لإيران لقاء تخلي الشاه عن دعم الأكراد. وفي الجنوب، مارس سياسات الضبط والتمييز السياسي والمذهبي ضد الأكثرية الشيعية. وقد أسهمت حرب الثماني سنوات التي أعلنها صدام ضد إيران، وخاضها في خدمة السعودية ودول الخليج وبدعم من القوى الغربية قاطبة والولايات المتحدة خصوصًا، في نشوء معارضة شيعية عسكرية بتمويل وتسليح ودعم من الجمهورية الإسلامية. على أن تداعيات تلك الحرب أفضت الى توسُّعية “قومية” في احتلال صدام للكويت وانفجار حرب الخليج الأولى.

في سورية، وضع حافظ الأسد حدًا للانقلابات العسكرية وقلب الآية من سورية بما هي موضع تنافس عربي، إقليمي ودولي للسيطرة عليها (المطامع الهاشمية والسعودية – المصرية، والتوسُّعية التركية، إلخ.) إلى سورية التي تمد نفوذها والسيطرة على مداها الحيوي: بلدان الجبهة الشرقية ضد إسرائيل، لبنان، الأردن، ومنظمة التحرير الفلسطينية، دون التخلي عن الطموح للتدخل في العراق، إلخ.

هكذا، خرّبت الدعوة القومية العربية مشاريع بناء “دول وطنية”، وقد تحولت تلك المشاريع إلى أدوات سيطرة داخلية أكثر ما كانت وسيلة دمج ديمقراطي لمكوّنات البلد، قدر ما تحولت في المدى العربي من مشاريع اتحادية ووحدوية إلى مشاريع توسّع عسكري على حساب الجوار العربي أو محاولات ضم بالقوة.

ولعل الخلاصة التي تستحق التفكير فيها هو أنه لا يمكن تطبيق مشروع من هذين المشروعين ضد الآخر أو بمعزل عنه: الاتحاد العربي المبني على المصالح المشتركة، على غرار الاتحاد الاوروبي، يمكن أن يتكامل ويتعزز من خلال بناء ديمقراطية تحقق المساواة السياسية والقانونية بين المواطنين في إطار من الاعتراف بالتنوع اللغوي والاثني ومن العلمنة المتزايدة للدولة.

المسألة الطائفية

كتبت كثيرًا عن المسألة الطائفية وبحثت ولا أزال أبحث فيها. وساجلت مع شتى التفسيرات ومنها: إنكار وجود الطائفية، وتلخيصها بالتعصبّ والنكوص عن الولاء الوطني، ونَسب الطائفية إلى الخارج، واعتبارها أداة بيد السلطات لتقسيم الشعب والسيطرة عليه، وتنزيهها عن أي صلة بالدين، وعن الاقتصاد والطبقات والتفاوت المناطقي، في حين أنها متداخلة مع هذه كلها. في ضوء أحداث نصف القرن الأخير، لم يعد البحث في المسألة الطائفية والإنتاج عنها محصورًا بلبنان، مع أن التجربة اللبنانية توفّر بعض المفاتيح لفهمها في تعبيراتها العربية.

أدعو للاعتراف بوجود مسألة طائفية هي نتاج أشكال متنوعة من التفاوت – أي التمييز والحرمان – في مواقع الجماعات المعرّفة دينيًا ومذهبيًا من السلطة والدولة، ومن القوة العسكرية والأمنية، وتوزيع الموارد والثروات وخدمات الدولة، وفروع الاقتصاد المميزة، والنصيب من النمو الاقتصادي، وفرص العمل والحياة والتعليم، ومن تسييس الفروقات العددية بين الجماعات.

من هنا نبدأ. بدون التفاوت في تلك المواقع أو في عدد منها، يصعب الحديث عن مسألة طائفية ونزاعات طائفية. وبالتالي، فإن معالجة المسألة يفترض معالجة تلك الأشكال من التمييز والحرمان. لذا أرى إلى مسار تجاوز الطائفية على أنه يتضمّن وتيرتين على الأقل.

الوتيرة الأولى: التجاوز بالوسائل المباشرة. هنا يتم تجاوز الطائفية السياسية – وهي نظام يميّز في الحقوق والواجبات السياسية بين الجماعات، أكان علنيًا أم مضمرًا – بتحقيق المساواة السياسية والقانونية بين أبناء الشعب الواحد، وتثبيت المواطنة كانتماء وطني. وهذا إجراء ديمقراطي وليس إجراءً علمانيًا. أما الإجراء العلماني – إي إعلان الحياد الديني للدولة – فيتعلّق بالأحوال الشخصية التي تُخضع الأهالي كلًا حسب شريعة دينه أو مذهبه. هنا يفيد التفكر بمسارات تأخذ بالتدرّج والواقعية باعتماد قانون مدني اختياري للأحوال الشخصية تعرض بنوده المتعارضة مع هذه الشريعة أو تلك للبت عن طريق الاستفتاءات الشعبية. وهو الأسلوب الذي اعتُمد في بلدان مثل إيطاليا للبتّ بالتحريم المسيحي الكاثوليكي ضد الإجهاض ومنع الحمل.

لكن اقتراح الحلول ليس بسهولة تبيّن مسار الحل وقواه وأساليبه. لدينا على الأقل بعض التجارب في تسوية نزاعات أهلية اكتسبت طابعًا طائفيًا ومذهبيًا في العراق ولبنان تؤكد أن السعي إلى عدالة طائفية ضرب من العبث، وأن التسويات التي تسعى إلى تعديل موازين القوى بين الطوائف والمذاهب المسيّسة لا تلبث أن تستدعي ردود أفعال من الطوائف ذات الامتياز أو الحرمان سرعان ما تخرّب التسوية.

الوتيرة الثانية: مع الوقت، وبناءً على تطورات المسألة الطائفية اللبنانية ومحاولات حلّها وانتكاس تلك الحلول، صرت ميّالًا إلى التفكير بالاتكال في تجاوز الطائفية على الوسائل غير المباشرة، وهو ما أسمّيه «التجويف الاجتماعي للطائفية» وهذه محاجتي:

إذا تأمن التوظيف والترقي بناءً على معيار الكفاءة،

إذا اعتُمد نظام تعليمي رسمي ومجاني في كل مراحله،

إذا تحققت تنمية حقيقية وعادلة بين المناطق، واعتُمد توزيعٌ متكافئ لخدمات الدولة عليها،

إذا تقلّصت الفوارق في فرص العمل وفي المداخيل والثروات،

إذا اعتُمد نظام للتقاعد ونظام للضمان الصحّي الشامل،

وإذا قُطِعتْ أشواط في السيطرة على الانتفاع من المال العام (الفساد)،

هل يبقى الكثير من أسباب التظلّم الطائفي، أم تتناقص حاجات الناس للجوء إلى جماعاتهم وقياداتهم وأحزابهم الطائفية والمذهبية والمرجعيات الدينية لتدبير أمورهم معاشهم؟

ألن تضمحلّ بذلك مكونات النظام الطائفي فتتحول الطوائف والمذاهب، مع الوقت، إلى تنوّع إيماني وتعدّد ثقافي ويبقى لها من تواريخها ونزاعاتها ما شاءت من ذكريات؟ هي ذكريات مميزة ومتعددة طبعًا، لكنها أكثر قابلية لأن تنضوي داخل تاريخ مشترك.

أعتقد أنه ثمة فرق كبير بين هذه المقاربة وتلك التي تلخّص الأمر بأن “الحل” للطائفية هو “إلغاء الطائفية”.

7- سايكس بيكو والتجزئة

    يقول البعض إن الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش) حطمت حدود سايكس – بيكو التاريخية بربطها سورية بالعراق، الأمر الذي دفع ببعض الأشخاص الذي حمّلوا فيما مضى هذه الحدود مسؤولية المصائب العربية، للمطالبة بالحفاظ عليها، معتبرين أن بقائها ضرورة. برأيك، لماذا هذا التحول في الموقف من حدود سايكس – بيكو؟ أي المطالبة بكسرها سابقًا، والدعوة إلى الحفاظ عليها فيما بعد؟ وما الجديد الذي قدّمته في كتابك “سايكس – بيكو – بلفور: ما وراء الخرائط” حول هذه المسألة؟

لم تكسر “الدولة الإسلامية في العراق والشام” حدود “سايكس – بيكو” لسبب بسيط، هو أن الحدود بين دول المشرق العربي لا تمت بصلة للحدود المعينة على خريطة الاتفاقية الشهيرة.

لنبدأ في الوقائع:

    اسم الاتفاقية “اتفاقية آسيا الغربية”.

    هي اتفاقية بين ثلاث دول لا دولتين.

    فاوض عليها مارك سايكس وجورج بيكو ووقّعا الخريطة. أما الاتفاقية، فوقّعها وزيرا خارجية بريطانيا وروسيا وسفير فرنسا في لندن.

    أبرز بنودها: تعهد بريطانيا وفرنسا دعم “قيام دولة مستقلة بقيادة رئيس عربي” تشمل معظم بلاد الشام والحجاز.

    ما يسمّى تجزئة المنطقة هو أقرب إلى عملية ضم وفرز بين ألوية وسناجق في الولايات العربية في السلطنة العثمانية.

    لم تكن الاتفاقية سرّية على المعنيين بها. تبلغها الشريف حسين بعد أسابيع من توقيعها، ونشرت الثورة البلشفية نصها الكامل بعد سنة وبضعة أشهر على توقيعها.

    العمليات العسكرية للجيش العربي بقيادة فيصل ولورنس، الموضوع تحت إمرة الجنرال اللنبي، قائد جبهة الشرق في جيوش الحلفاء، ليست تستحق لقب “الثورة العربية الكبرى”. الأحرى أن تطلق التسمية على ثلاث دورات من الانتفاضات ضد الانتداب البريطاني والفرنسي في العراق وفلسطين وسورية ولبنان في 1920 – 21 و1925 –27 و1936 – 39.

القصة بإيجاز:

عام 1915، دعت بريطانيا فرنسا لتوقيع اتفاقية تكرّس ما وعدت به شريف مكة، حسين بن علي، في تبادل رسائل سرّي مع المقيم البريطاني في مصر هنري مكماهون، أي دعم الدولتين “قيام دولة عربية مستقلة يحكمها زعيم عربي”، تمهيدًا لإعلان شريف مكة الثورة العربية ضد العثمانيين.

    تبلّغ الشريف حسين الاتفاقية خلال زيارة مشتركة لسايكس وبيكو. أجاب على السيطرة البريطانية على العراق – أي ولايتي البصرة وبغداد – بالقول إنه يؤجر العراق لبريطانيا لمدة 25 سنة. ورحّب بهجرة “أبناء عمنا اليهود”، لكنه تذمّر من أن الدولة العربية العتيدة لا تملك منفذًا على البحر. وبعد أقل من سنة ونصف، نشرت الثورة البلشفية النص الحرفي للاتفاقية في تشرين الثاني/ نوفمبر 1917.

    نُقِضت اتفاقية سايكس بيكو مرّتين: المرة الأولى مع إعلان بلفور الذي قضى على الإدارة الدولية في فلسطين. والمرة الثانية عند القضاء على الدولة العربية، بعد أن انعقدت تسوية بين الدولتين انسحبت القوات البريطانية بموجبها من سورية واحتلتها القوات الفرنسية، مقابل اعتراف فرنسا بالاحتلال البريطاني لفلسطين، وتخليها عن لواء الموصل لصالح بريطانيا لقاء حصة في نفط المنطقة.

    أبرز ما في إعلان بلفور زمن إصداره هو 1- التمهيد للاحتلال البريطاني لفلسطين، وقد صدر في 2 تشرين الثاني/نوفمبر 1917 وقوات الجنرال اللنبي على حدود غزة للهجوم الذي سوف ينتهي باحتلال القدس في كانون الاول/ ديسمبر؛ 2- إلغاء حق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير، وهو المقياس المعتمد في مؤتمر الصلح بباريس 1919 للتعاطي مع البلدان المحررة من الامبراطوريات المهزومة. لم يتم ذلك بالاعتراف لليهود بما هم “شعب” بـ “وطن قومي” فقط، بل أيضًا بتعريف عرب فلسطين على أنهم “غير اليهود” واقتصار حقوقهم على الحقوق المدنية والدينية، أي حرمانهم من حقوقهم السياسية في تقرير المصير وتأسيس دولة وحتى في المشاركة السياسية.

    رُسمت مسودة الحدود الحالية في المشرق العربي ابتداءً من مؤتمر سان ريمو، نيسان 1920، وعدلت العام 1921 بإنشاء إمارة شرق الأردن، وفي العام 1923 باتفاقية بوليه – نيوكومب التي رسمت الحدود بين منطقتي الانتداب الفرنسي والبريطاني، وبالتالي الحدود بين سورية ولبنان وفلسطين، ولم تثبت في وضعها الحالي إلا عام 1927 عندما سلّم أتاتورك أخيرًا بضم الموصل إلى مملكة العراق. بل تعدلت العام 1933 عندما تخلى الانتداب الفرنسي لتركيا عن لواء إسكندرون، إلخ.  أدى تطبيق هذه المؤتمرات إلى القضاء على آمال جمهور واسع من أبناء الولايات العربية في السلطنة العثمانية في الاستقلال والعيش في دولة واحدة ورفض المشروع الصهيوني في فلسطين. وهذا ما عبّروا عنه في شهاداتهم أمام لجنة كينغ – كراين عام 1919.

ما وراء الخرائط؟

وراءها التاريخ الفعلي لولادة نمط جديد من الاستعمار تقاسمت فيه بريطانيا وفرنسا السيطرة على المشرق العربي، يرتكز إلى نخب حاكمة العربية تسيطر على السكان نيابة عن القوات الأجنبية. وهو نظام تحكمت فيه المصالح الاستراتيجية: تقاسم المرافئ وخطوط سكك الحديد، وحماية الضفة الشرقية من قناة السويس (السبب الرئيس لاحتلال بريطانيا لفلسطين ومنع وصول فرنسا إليها)، والدفاع عن طريق الهند من خلال مرفأ البصرة الذي هو في الآن منفذ مصفاة عبادان للنفط الفارسي الذي تسيطر عليه بريطانيا، وإنشاء إمارة شرق الأردن لتكون صلة وصل بين فلسطين والعراق تصل هذا الأخير بالبحر الأبيض المتوسط.

ومن حيث المصالح الاقتصادية: احتكار التجارة الخارجية، والوكالات الأجنبية، وتثبيت التبادل غير المتكافئ بين منتجات أولية (النفط، قطن، حرير، حبوب، إلخ) ومنتوجات صناعية، والسيطرة على مالية البلدان واقتصادها بواسطة المصارف الأجنبية، والسيطرة على مؤسسات الخدمة العامة، واستغلال اليد العاملة، إلخ.

ما وراء الخرائط؟

وراء الخرائط أن “سايكس – بيكو” بات الاسم الرمزي لأسطورة تأسيسية عن نشأة كيانات المشرق العربي، وشيفرة تفسّر المؤامرة المستمرة على المنطقة تمارسها قوى غربية سيطرت عليها لتقسيمها (لا العكس)، وقد تبلورت مع قيام دولة إسرائيل إلى “مشروع” متكامل ومتواصل لتفتيت المنطقة وشعوبها ودولها إلى دويلات وكيانات عرقية دينية مذهبية وطائفية تكون “على صورة إسرائيل مثالها” وتبرر وجودها.

هكذا غطت رواية الانتهاك لوحدة الجماعة المقدسة على أي مسؤولية تتحمّلها القوى المحلية في خدمة الاستعمار الجديد، وعلى دورها في الحفاظ على التجزئة بل وفي الاسهام في التجزئة الداخلية لكل بلد على حدة. إضافة إلى أن هذه الوحدانية في التأويل والنظرة أسهمت إلى حد كبير في التغطية على الأوجه الأخرى للسيطرة والاستغلال الاستعماريين ولمراحلهما المختلفة.

وحتى لو اكتفينا من تلك الرواية التأسيسية بثنائية وحدة/ تقسيم، وراجعنا مشاريع الوحدة والتقسيم، منذ تلك الفترة التأسيسية، لاكتشفنا أن القوى الغربية تعاطت مع المسألة حسب مصالحها الاستراتيجية والاقتصادية والسياسية، في كل حالة بحالها، تارة تحافظ على التجزئة وتسهم في إسقاط محاولات التوحيد وتارة أخرى تسهم بذاتها في عملية التوحيد.

——————————-

همّي تبديد الخرافات والأساطير التاريخية السائدة

(3-3)

8- الدولة/ المجتمع المدني

    في حوارنا كما تُلاحظ يولد السؤال من آخر سبقه. وبالتالي، نود أن نسألك هنا عن الأُسس التي وضعت الدولة في تناقض مستمر مع المجتمع المدني. بالإضافة إلى الأسس التي أدت إلى التسلط الراهن للدولة على المجتمع؟ وكيف يقرأ فوّاز طرابلسي مستقبل العلاقة بين الدولة والشعب في ظل هذا الفشل المستمر في إحداث عملية التحول الديمقراطي؟ لا سيما في ظل النزوح المستمر نحو الطائفة والبنى الاجتماعية ما دون الوطنية؟

يوجد فارق بين ثنائية الدولة/ الشعب والدولة /المجتمع، وثنائية الدولة/ المجتمع المدني. سأركز على ثنائية دولة/ مجتمع مدني. والمقصود هنا بالمدني ما هو غير السياسي.

أرى أن مقولة الدولة/ المجتمع المدني على قدر من التبسيط والسطيحة من الناحية المعرفية، مثلها مثل جميع الثنائيات. تفترض وجود كتلتين متضادتين: من جهة، الدولة التي هي تعريفًا مستبدة تقمع الحريات الفردية بل الأفراد وتخنق القطاع الخاص والحرية الاقتصادية في آن. ومن جهة ثانية “المجتمع المدني”، وهو القطاع الاقتصادي الخاص والمؤسسات الأهلية غير السياسية وقد طردت منها الأحزاب السياسية والنقابات. في الدولة يتجسد الاستبداد وغلبة القطاع العام على القطاع الخاص. فترتبط الحرية الفردية بالحرية الاقتصادية في وجه عدو واحد: الدولة.

وهذه الترسيمة في شيطنة الدولة من مخلفات الحركات المناهضة للشيوعية زمن سقوط الأنظمة السوفييتية في أوروبا الشرقية، مارستها قوى اجتماعية وسياسية معادية للاستبداد، وما لبثت أن سلّمت السلطة والاقتصاد إلى النيوليبرالية وأثرياء الأثرياء المتداخلين مع الأطقم السياسية إلى حد التماهي بينهما (الأوليغارك).

صودرت مقولة “المجتمع المدني” من أبرز تعبير لها عند أنطونيو غرامشي، وقلِب مضمونها ودلالتها رأسًا على عقب. كل سلطة طبقية عند غرامشي تحافظ على نفسها وتمارس دورها كسلطة، أي كسلطة أقلية على أكثرية، بمزيج من وسيلتين القسر والطواعية، وفي القسر.

تقع “الخنادق الأمامية” للدولة في المجتمع المدني حسب غرامشي وهذا قوامه المدرسة، والعائلة، والمؤسسات الدينية. ويمكن أن نضيف إليها الإعلام ووسائل التواصل المجتمعي. هنا ميدان الهيمنة، أي النفوذ الثقافي أو الدور القيادي الذي تمارسه الطبقة الحاكمة على المحكومين، وتضمن طواعية القبول بسلطتها وفكرها. وهنا ميدان الصراع الثقافي للمعارضة ضد هيمنة فكر وثقافة وأيديولوجية الطبقة المسيطرة. ويرى غرامشي إلى هذا الصراع لكسب الهيمنة على الهيمنة على أنه مقدمة لتسلّم السلطة – بالثورة – في المجتمع السياسي، أي في الدولة، وليس بديلًا منها. وتسلّم السلطة يتم بواسطة أحزاب ونقابات عمالية ومهنية بالدرجة الأولى.

“المنظمات غير الحكومية”، وتاليًا “منظمات المجتمع المدني”، هي أبرز مكونات هذا “المجتمع”. ومع أنه يصعب إيجاز البحث فيها وفي تجربتها، أود أن أجازف بطرح مضبطة انتقادات في موضوع إما يلفّه الصمت، وإما الاتهامات وهواجس التآمر.

    المجتمع المدني يعادل إلى حد كبير بيئة الطبقات المتوسطة والأفكار السائدة فيها، وهو يعبّر عن التباعد المتزايد بينها وسائر الطبقات الشعبية.

    تتوزع منظمات المجتمع المدني على اختصاصات تجزّيء قضايا المجتمع والدولة إلى دزينة من المطالب: بيئة، حقوق إنسان، عدالة انتقالية، فض نزاعات، ريادة أعمال، تسليف ميكروي، عناية بالفئات المهمشة، نسوية، خيارات جنسية، شباب، حماية اجتماعية، إلخ. ويمكن بيان كيف أن كل واحدة من هذه الحقول هي بديل عن مشاريع أو برامج سابقة خلال فترة حركات التحرر الوطني والاجتماعي في ظل النزاع بين المعسكرين. وهي عاجزة عن أن تلعب الدور الذي تلعبه الأحزاب من حيث تقديم التصورات الشاملة لقضايا الدولة والمجتمع، وعن القدرة على الجمع والحشد والتعبئة لتحقيق التغيير الاقتصادي والاجتماعي والسياسي والثقافي.

    في ظل النيوليبرالية، تسلب المؤسسات المالية والتنموية أدوارَ الدولة في التخطيط والاستثمار الاقتصادي والخدمات العامة والتوزيع الاجتماعي. ثم تأتي منظمات المجتمع المدني لتبرر وجودها وأدوارها وخدماتها بأنها تعويض عن دولة غائبة أو مقصّرة، علمًا أن كل ما تستطيع تحقيقه لا يعوّض إلا بالقليل القليل عما تستطيع الدولة.

    تقدّم منظمات المجتمع المدني نفسها، ضمنًا أو علنًا، على أنها بديل عن الأحزاب السياسية، بحجة أن الأخيرة “فاشلة” أو سلطوية أو متّهمة بالمشاركة في الحروب. وتجدر الإشارة أنها تستميل بل تستوعب الكثير الكثير من الحزبيين الذين ناضلوا سابقًا في حركات التحرر الوطني والاجتماعي ومن أجل التغيير الاجتماعي والسياسي. والمعروف أن منظمات المجتمع المدني نفسها، الدولية منها (“أوكسفام” مثلًا) أو الوطنية (المنظمات الألمانية مثلًا) ممولة من حكومات وأحزاب.

    تروّج منظمات المجتمع المدني للديمقراطية والمساءلة والمحاسبة علمًا أنها في معظمها غير منتخبة إلا من أعضائها محدودي العدد، إنها لا تضع نفسها موضع مساءلة أو محاسبة إلا لمموليها، ونادرًا ما تعقد المؤتمرات أو الندوات لمراجعة تجاربها على الملأ، وقد انتهت المرحلة التي كانت فيها منظمات عمل طوعية وباتت مدفوعة الأجر وبالعملات الصعبة.

والأخطر في ثنائية دولة/ مجتمع مدني هو مساهمتها في حجب دور الدولة في الوحدة الوطنية وتماسك النسيج المجتمعي، في الدول حديثة النشأة خصوصًا. فباسم الديمقراطية و”البناء القومي” احتلّت الولايات المتحدة العراق ودمّرت أبرز مؤسسات الدولة فيه – قسمًا كبيرًا من الإدارة، حل الجيش والاجهزة الأمنية، وحل “حزب البعث”، واستصدار قانون “اجتثاث البعث”، إلخ.

حمل الاحتلال إلى السلطة الميليشيات الموالية لإيران، وبنى السلطة الجديدة على تحالف كردي – شيعي، في نظام سياسي فيدرالي (من ثلاث محافظات كردية من أصل ١٨ محافظة) تتوزع السلطة فيه على أساس طائفي- مذهبي – إثني. فماذا كانت النتيجة؟

استدعى الاحتلال معارضة قوامها الجهادية السنية (بقيادة ضباط بعثيين سابقين، مدعومين من النظامين السوري والسعودي أول الأمر)، وتفككت أوصال الوطن العراقي، فوصل الفساد إلى حد الإسهام في انحلال الجيش العراقي، فحلّت محله ميليشيات “الحشد الشعبي” ذات الغالبية الشيعية والموالية لإيران التي دخلت إلى المعركة لتحرير الموصل من حكم “داعش”، وقد فاقم ذلك من النزاعات المناطقية والاثنية والدينية والمذهبية والعشائرية، وصولًا إلى ما نشهده الآن من انفجار النزاعات داخل المذهب الواحد.

9- التأريخ، السرد، الأدب

    أطلنا الحديث في السياسة وأمورها. اسمح لنا بالانتقال باتجاه التاريخ، وطرح السؤال التالي: في جميع مؤلفاتك نجد نبرة تاريخية تُجاورها نبرة سردية. وعليه، كيف تنظر إلى الماضي؟ كيف تتعامل مع منتوجه التاريخي؟ هل تراه نصًا ابداعيًا مبنيًا على تراكيب سردية وبلاغية تصوغ التفسير التاريخي؟ وفقًا لرؤية هايدن وايت. أم لديك رؤيتك الخاصة؟ نود سؤالك أيضًا عن رأيك في فكرة أن ما يجرد التاريخ من مكانته كأساس وطيد للحقيقة الوثيقة، ويعلي من شأن السرد بوصفه جوهر التاريخية، هو وصف الكتابة التاريخية على أنها “كتابة” والتعامل معها على هذا الأساس. إلى أي حد تتطابق هذه المقولة مع كتابك “حديد وحرير” تحديدًا؟ وإلى أي حد تختلف أو تتفق معها أيضًا؟ ولماذا؟

التاريخ هو علم الإنسان في زمانه. هذا هو التعريف الرائع للتاريخ عند ابن خلدون: “الناس بزمانهم أكثر منه بآبائهم”. في وجه تاريخ القبيلة الذي يبحث عن جذور، ينهض التأريخ الخلدوني ليروي ما يفعله الزمن في البشر. بهذا المعنى ليس التاريخ هو علم الماضي فقط بقدر ما هو علم دينامي عن الاستمرارية والانقطاع. ولأنه علم عن فعل الزمن، فما نعرفه عن الماضي متطوّر بتطور مكتشفاتنا عنه ووسائلنا المعرفية والتعبيرية. وبناءً على هذه المقدمات، لست أعتقد أن التاريخ يطمح إلى تثبيت حقيقة أو حقائق.

لست معنيًا في أعمالي بفلسفة التاريخ وبنظريات في تأويل الوقائع التاريخية عمومًا. همّي أكثر تواضعًا بكثير، وهو الشغل على تبديد عدد كبير من الأساطير والخرافات السائدة والمقاربات الجزئية من أجل المساهمة في ملء ثغرات فارغة في مداركنا التاريخية، علمًا أن جهدي لا يتعدّى تاريخ القرنين التاسع عشر والعشرين في لبنان والمشرق العربي.

لدي هذه الملاحظات على سؤالك.

    أنا شديد الفضول بشأن الطريقة التي بها تتأسس وتستبدل المناهج الأكاديمية الغربية، الأميركية خصوصًا، ثم تشيع في العالم في الأكاديميا، والإعلام، ووسائل التواصل المجتمعية، والنتاج الفكري، والرأي العام في العالم وفي بلادنا خصوصًا. هذا موضوع نادرًا ما يجري التطرّق إليه. يؤخذ على علّاته. ويغلب الفكر النقلي. تنتقل دَرْجة (موضة، تقليعة) أكاديمية – ثقافية إلى أخرى، فنجهد للحاق بالجديدة بلا تساؤل عن كيف تمت النقلة ولماذا. يحدونا افتراض بأن التقدم يساوي اللحاق بآخر دَرْجَة (موضة، تقليعة). لكن، من قال إن آخر تقليعة في الإنسانيات والعلوم الاجتماعية هي بالضرورة أجدى منهج لمقاربة أوضاعنا؟ ومن قال إنه يتعيّن علينا أن نعيد تعريف أنفسنا ومجتمعاتنا بناءً عليها؟ هذا عدا عن أن تلك الدَرجات ملغومة دومًا بالسلطة وبالمصالح.

هذا مثال.  يبشّرنا جماعة ما بعد الحداثة أن عصر السرديات الكبرى قد انتهى. ويا للصدفة! يبدو أنه انتهى مع نهاية الحرب الباردة! وماذا عن لاهوت السوق السحرية؟ وأحادية تفسير العالم بواسطة الثقافة والهويات؟ أليست هذه وتلك سرديات كبرى وشاملة، حتى لا أقول شمولية؟

    يوجد فرق بين إنكار وجود حقيقة أو حقائق عامة، وبين اعتبار الصراع الفكري صراع سرديات بلا أي مقياس للمفاضلة بينها، أي بدون القواعد التي يوفرها علم التاريخ، فيغلب فيها الرأي أي “الهوى” كما يسمّيه علماء العرب الأقدمين، أو تصير أي سردية تعادل أي سردية أخرى. بل تتفوق سردية بسبب قوة الطرف الذي يحملها أكثر من تفوقها بسبب متانة الأسناد والبحث والحجة والبراهين، ناهيك عن المقدرة البلاغية.

    يوجد فرق كبير بين اللجوء إلى الأدب في سرد التأريخ، واختزال التأريخ بالأدوات اللغوية المستخدمة لإعطاء معنى للوقائع التاريخية.

    إن اختصار التأريخ بإعطاء معنى للأحداث والوقائع، يفترض أن تعيين الأحداث والوقائع قد تم أولًا بأول، أي أن التحقق من وقوعها قد تأكد وحظي بدعم أكثرية من المراجع الثقاة. المهمة الأولى في التأريخ هي السرد، سرد الوقائع والأحداث. ونقطة البداية فيه هو التأكد من أن الوقائع قد حصلت فعلًا، وتعيين الطريقة التي حصلت بها. توجد وقائع حصلت في التاريخ ووقائع لم تحصل، أي وقائع متخيّلة بقصد أو دون قصد. هنا الشغل: التحقق والإسناد والمرجعية.

    المؤرخ البلجيكي هنري لامنس، هو صاحب رواية “لبنان ملجأ الأقليات الدينية” وبينهم الموارنة. يروي أن تلك الأقليات لجأت إلى جبال لبنان هربًا من الاضطهاد الإسلامي في القرن العاشر. الواقعة مخترعة. دحضها المؤرخ كمال الصليبي بالتذكير، في حالة الموارنة، بأن هؤلاء عاشوا ثلاثة قرون في ظل الخلافة الأموية في منطقة حمص، وأنهم هُجّروا منها لا على يد الحكم الإسلامي، وإنما على يد البيزنطيينالذين سيطروا على الشمال السوري ووادي نهر العاصي خلال القسم الكبير من القرنين العاشر والحادي عشر لاتهامهم الموارنة بالهرطقة.

    هذا من حيث الوقائع. الأهم أن بناء السرد التاريخي يتم عادةً بالسجال مع أساطير وخرافات، أو بملء الثغرات في روايات ناقصة، أو يتولى تحيين روايات قائمة بعد العثور على أدلة ومكتشفات جديدة بصددها. تكتسب هذه العملية أهمية خاصة في بلداننا، حيث القسم الكبير من تاريخنا مكتوب من خارجها، ما يعني أنه يحتمل، بل يستوجب، المراجعة النقدية والتدقيق والتفكيك وبناء سرد بديل. الاستشراقالموضوع في خدمة السياسات الاستعمارية غالب في تاريخ المنطقة. توجد روايات فاضحة في قصدها الاستعماري، ورواية لامنس واحدة من مئات من أمثالها. وكثير منها معتمد عربيًا على أنه متحقق ومرجعي.

أسلوبي في رواية التاريخ يقرره الموضوع ذاته. في “تاريخ لبنان الحديث: من الامارة الى اتفاق الطائف” (2008) أردت كتابة تاريخ يشبك الاقتصادي والاجتماعي والسياسي والثقافي في سعيي إلى التأريخ الشامل. تتبعت نشأة النواة في إمارة جبل لبنان والمتصرّفية، وصولًا إلى نشأة الكيان بُعيد الحرب العالمية الأولى، وتابعت أبرز محطات تطوره. أفردت حوالي نصف الكتاب للتأريخ للحرب الأهلية ومقدماتها خلال عقد صاخب تميّز بالحركات والنزاعات الاجتماعية الكثيفة.

عالجت الحرب كصيرورة، قسّمتها إلى ثلاث حقب بناءً على ثلاثة مقاييس: طبيعة القوى المتحاربة في كل حقبة، والموضوع الرئيس الذي يجرى عليه النزاع المسلّح، وتدخل القوى الخارجية وأثرها على مجريات النزاع. وأفردت عدة صفحات لما أسميته “الاقتصاد السياسي للميليشيات”، لبيان دور العنف والسلطة السياسية في إنتاج مصالح اقتصادية والإثراء على حساب دماء اللبنانيين، وهو ما يؤسس لفهم الاقتصاد السياسي والاجتماعي لما بعد الحرب، وتنامي الظاهرة المافياوية.

في كتاب “حرير وحديد: من جبل لبنان الى قناة السويس” (2013)، اعتمدت أسلوب التدوين المستوحى من الحوليات، وعرضته على شكل مشاهد ولقطات، ما قد يصلح لسيناريو فيلم وثائقي يشبك شخصيات وأحداثًا بعضها ببعض. ستلقى فيه: نساء جبل لبنان واقتصاد الحرير، الاحتلال الفرنسي للجزائر، حلم نابليون الثالث بإنشاء “المملكة العربية” في السلطنة العثمانية، أو على أنقاضها، برئاسة الأمير عبد القادر الجزائري، إتباع الاشتراكي سان سيمون لدى محمد علي باشا لتلقيح مصر بالحداثة الصناعية، الليدي هستر ستانهوب البريطانية تعلن نفسها ملكة على اليهود في تدمر وتنتظر عودة المسيح في القدس من منزلها بقرية جون في جبل لبنان، النهضوي اللبناني فارس الشدياق يجوب المتوسط في دورة كاملة تنتهي في إسطنبول، يدرس في الازهر ويترجم الكتاب المقدس في بريطانيا، ويشهر اسلامه في تونس، ويتأثر بالاشتراكية، ومغامرات أخرى.

تتقاطع هذا المسارات، تنعقد ثم تتفكك، لتصل إلى ذروتها في الاقتتال الأهلي العام 1860، والتدخل العسكري الفرنسي الذي يمهد لتسوية فرنسية – عثمانية ولدت بموجبها متصرفية جبل لبنان، وأفسحت المجال للمهندس الفرنسي دُ لسيبس (نسيب زوجة نابليون الثالث) لافتتاح أعمال شق قناة السويس في أكبر صفقة اقتصادية استعمارية في القرن التاسع عشر.

أما “سايكس – بيكو – بلفور: ما وراء الخرائط”، فالتأريخ فيه أقرب إلى تحقيق بوليسي، يكشف أن “الثلاثي” ليس بريئًا من ارتكاب “الجريمة” التاريخية. لكنهم ليسوا المتهمين الوحيدين، وأن “الجريمة” ليست مطابقة تمامًا لما أظهره التحقيق الذي تلاعب بالوقائع والأدلة والشهادات، وسوف يتبيّن في نهاية التحقيق المضاد أن “الجريمة” تخفي “جرائم”!

10- التاريخ/ الذاكرة

    كيف ترى النزعات التي بدأت تنتشر مؤخرًا للمساواة بين التاريخ والذاكرة؟ بل إن بعضها ذهبت نحو تفضيل الذاكرة على التاريخ معتبرةً أنها أكثر أصالة وصحة ووضوح من التاريخ الذي تراه مصطنعًا؟

أفترض أن الحديث هو عن الذاكرة الجمعية. الاهتمام بالذاكرة دائم، لكن الراهن منه من نتاج ما بعد الحداثة وإجمال التأريخ بما هو من قبيل السرديات الكبرى. النظرة التي تؤثر الذاكرة على التاريخ من مخلّفات أيديولوجيا الحرب الباردة: تتهم الأنظمة الشيوعية بطمس الذاكرة بحيث يصير التذكّر فعل معارضة، وهو ما تعبّر عنه معادلة ميلان كونديرا “النضال ضد السلطة هو نضال الذاكرة ضد النسيان”.

ليست الذاكرة والنسيان على طرفي نقيض كما سنرى بعد قليل. وقد تبدو معادلة كونديرا جذابة أدبيًا، لكنها خاوية من حيث المضمون. من الوسائل البديهية التي تملكها السلطات للسيطرة أو الهيمنة أو اكتساب الشرعية، هي إنتاج ذاكرات شعبية أو جمعية، وتغذيتها والتحكّم بها، من خلال الاحتفال بأحداث معينة، وإحياء ذكرى حكّام سابقين يبررون حُكم اللاحقين، والتذكير بمواقع عسكرية معينة، وتكريم أبطال وطنيين، والتباهي بانتصارات، بل حتى التباكي على هزائم وويلات وكوارث، إلخ. هذه كلها تغذية لذاكرة، وليست فرضًا لنسيان.

أما العلاج بالذاكرة، فوصفة من الوصفات التي يوصى بها للمجتمعات التي عانت من الكوارث والحروب، بما فيها الحروب الأهلية. والافتراض السائد أن التذكير بأعمال العنف والكوارث قابل بذاته لضمان عدم تكرارها، جريًا على المثل الشعبي الدارج “تنذكر وما تنعاد”، هذا في الحد الأدنى. ومن منوعاته، التبشير بالسلمية، وتنظيم ورشات “الحقيقة والمصالحة”، أو “الحقيقة والكرامة” في صيغتها العربية، والتربية ضد الكراهية، وما شابه.

ويقوم العلاج هنا على الافتراض بأن إعادة بناء وحدة الشعب وتماسكه وتوازنه، يتم عن طريق بناء “ذاكرة جمعية” مشتركة للأحداث، وصولًا إلى رواية مشتركة للتاريخ. لم ينجح هذا العلاج بمفرده في منع تكرار الحروب، في أي حالة من الحالات، لأنه يعوّض بذاكرة العنف والأهوال عن دراسة الأسباب والنتائج والدروس. مثلًا، وقع اقتتال أهلي ذو طابع طائفي في جبل لبنان خلال فترة 1845 – 1860 لا يزال في الذاكرة إلى الآن، مع أن ذكراه لم تمنع من اندلاع حرب أهلية صغيرة عام 1958، ولا ذاكرة الحربين السابقتين حالت دون اندلاع حروب الأعوام 1975 – 1989.

الحقيقة أنه لا توجد ذاكرة جمعية قدر ما توجد رواية تقدّم نفسها على أنها الرواية الشائعة أو الرسمية لحادثة معينة أو حقبة معينة. وهي رواية تغلب فيها الوظيفة الأيديولوجية النفسانية على الوظيفة المعرفية. خُذ مثلًا ذاكرة المجاعة في لبنان خلال الحرب العالمية الأولى. إنها مظلومية جمعية تتهم السلطات العثمانية بمشروع إبادة مسيحيي جبل لبنان، إذ تروي أن العثمانيين “أقفلوا البحر” لمنع وصول المؤن والمساعدات لأهالي جبل لبنان، علمًا أن الذي “أقفل البحر” هو الحصار البحري الإنكليزي كفعل حربي ضد السلطنة العثمانية.

صحيح أن وقع المجاعة كان الأقسى على جبل لبنان قياسًا إلى سائر بلاد الشام، لكن “الذاكرة” لا تذكر الأسباب: البُعد عن حوران وصعوبة وصول القمح والحبوب وارتفاع كلفة النقل والسعر وجشع التجار، والندرة الإضافية للمواد الغذائية بسبب انتقال جبل لبنان إلى اقتصاد الحرير وتخلي الأهالي عن زراعة القمح والحبوب واستبدالها بملايين أشجار التوت لإطعام دود القز، فساد موظفي الإعاشة العثمانيين، والأهم دور التجار والمرابين المحليين في تخزين المواد الغذائية واحتكارها، وسلب الأهالي ممتلكاتهم المتواضعة لقاء توفير القوت لهم، بل إفقارهم والإثراء على نكبات المجاعة ومآسيها.

وهي ممارسات موثقة من شهود عيان، أشهرهم رجل الدين الماروني الخوري أنطون يمّين (“لبنان بعد الحرب 1914 – 1919” 1919). يبقى “الدليل الاحصائي” أن عدد الضحايا المسيحيين أكبر من عدد الضحايا الدروز. والرد عليه بسيط: عدد المسيحيين أكبر أصلًا من عدد الدروز في جبل لبنان، وقد نزحت أعداد كبيرة من الدروز إلى حوران هربًا من المجاعة.

وهذا مثال آخر معاصر على “الذاكرة الجمعية” بما هي رواية لمظلومية: قصة البوارج الحربية الأميركية التي تحركت نحو ساحل لبنان، خلال الفترة الأولى من الحرب الاهلية (1975 – 1976) لنقل المسيحيين إلى الولايات المتحدة الأميركية وتوطين الفلسطينيين مكانهم.

بالفعل، حرّكت الإدارة الاميركية قطعًا من أسطولها في خريف 1976 لحظة دخول القوات السورية إلى لبنان، الذي توسطت الدبلوماسية الأميركية بين سورية وإسرائيل لإجازة دخولها لوقف الحرب ومنع طرف من الانتصار على الطرف الآخر، على ما أعلن حافظ الأسد. كان الإجراء البحري من قبيل الاحتياط من إمكان تدخل سوفييتي إلى جانب “منظمة التحرير الفلسطينية”، أو من احتمال صدام بين القوات السورية المتقدمة والقوات الإسرائيلية. لم يقع أي صدام، وكان رئيس الوزراء السوفييتي أليكسي كوسيغِن في زيارة رسمية لدمشق عندما أعلن الأسد دخول قواته إلى لبنان.

هذه الوقائع موثقة من المصدر في وثائق مجلس الأمن القومي والخارجية في حكومة الولايات المتحدة الأميركية، وهي مترجمة ومنشورة باللغة العربية في العدد الأول من فصلية “بدايات” العام 2012. والطريف أن النائب جميل السيّد كرر الرواية ذاتها عن مجيء دين براون إلى لبنان لنقل المسيحيين على البوارج الأميركية في حديث أخير له مع الإعلامي جاد غصن خلال كتابة هذه السطور (4/11/2022).

نأتي إلى الأهم: إن وضع الذاكرة مقابل النسيان وبالتضاد معها يحجب ما بينهما من علاقات وتأثيرات متبادلة. لا يمكن للإنسان أن ينسى كل شيء، ولا يمكنه أن يتذكّر كل شيء. كلاهما عملية انتقاء. كل عملية تذكّر تتضمن إهمال ما لا يراد تذكّره، إهمالًا إراديًا أو غير إرادي. واعيًا أم من غير وعي. ثم إننا لا ننسى إلا ما نعرفه أو ما نتذكره.

تحدث حالات فقدان الذاكرة في الحالات الفردية، وغالبًا نتيجة كبت لواقعة مؤلمة أو حادثة رضّية. لكن ليس يوجد فقدان ذاكرة أو محو ذاكرة في الحالات الجمعية.

ومثلما لا يوجد ذاكرة جمعية، لا يوجد نسيان جمعي. ما يسقط من الذاكرة تحل محله ذاكرة أخرى. و”النسيان” ما هو إلا عملية استبدال ذاكرة بأخرى. ويمكن القول بالتالي إن “التذكر” الفعلي هو نقد الذاكرة الشائعة.

خُذ تصوير الحرب الأهلية اللبنانية 1975 – 1990 بأنها “حرب الآخرين” حسب مقولة الصحافي غسان تويني الشهيرة، ولها منوعان “حرب الآخرين على لبنان”، و”الحرب في لبنان من أجل الآخرين”. هذا ليس ضربًا من النسيان. هذه رواية مفروضة، مشغولة، ومعممة بواسطة الإعلام، والأبحاث ووسائل الاتصال المجتمعية وغيرها، تحظى بنسبة عالية من الانتشار. ولها وظائف متعددة: تبرئ السلطات التي لم تعمل لمنع اندلاع الحرب كما تبرئ الميليشيات التي خاضت الحرب وقد بات قادتها في السلطة، وتطمئن اللبنانيات واللبنانيين عمومًا أن لا مسؤولية تقع عليهم على القتل والدمار الذي ألحقوه ببلادهم (دون أن ينفردوا في ذلك)، وتغيّب البحث في أسباب الحرب وتعيين المسؤوليات والمحاسبة بإلقائها اللوم على الآخرين.

وأخيرًا، تقدّم هذه “الذاكرة” التسويغ لإعادة بناء النظام الاقتصادي والسياسي الذي كان قائمًا قبل الحرب، مع تضخيم أبرز معالمه، أي الانتقال من الليبرالية إلى النيوليبرالية، وبناء مجتمع الاستهلاك، وإعادة بناء موسعة لنظام الطائفية السياسية مع تعميق طابعها الديني، وإن بتعديل في توازناته الداخلية. وكل ذلك باسم العودة إلى لبنان كما كان، أو حتى العودة إلى عصر ذهبي سبق الحرب. وشرط ذلك ألا يخطر ببال أحد ان يسأل: إذا كان ذاك العصر الذهبي عصرًا ذهبيًا كما تصفونه، لماذا أدى إلى الحرب؟ فتعود قصة إبريق الزيت: كانت الحرب حرب الآخرين على أرض لبنان. ويكون الرد: إذا كانت حرب الآخرين، لماذا ارتضى نحو 80 ألف لبناني أن يموتوا فيها؟

في المقابل، دعوت وأدعو إلى واجب التذكّر وضرورة النسيان. واجب تذكّر أسباب الحرب ومساراتها وكيفية انتهائها والدروس المستخلصة منها. ودعوت وأكرر الدعوة الى ضرورة تناسي أعمال العنف والمجازر التي تبادلها اللبنانيون خلالها. نتذكر تلك الأعمال لكي ننساها. وإننا نستطيع أن ننساها لأننا نعرفها، ولأننا نتذكرها. ويمكن لعملية التذكر والنسيان المتبادلة هذه أن تشكّل الأساس لتسوية تاريخية تصفّي بقايا الحرب. وهو ما لم يحصل في “اتفاق الطائف” وتوابعه. لذا أتحدث عن تناسي، بما هو فعل إرادي. حتى أنه يمكن إجمال كل هذه المحاجّة بالعنوان الذي أعطاه محمود درويش ليومياته عن الحصار الإسرائيلي لبيروت صيف 1982 – وما تضمنه من مراجعة الشاعر النقدية لما تحمّله لبنان واللبنانيين من وجود المقاومة الفلسطينية المسلّحة على أرضه – “ذاكرة للنسيان”.

    أخيرًا، ما هي مشاريعك القادمة؟

أنا في طور إنجاز الجزء الثاني من “صورة الفتى بالأحمر”، وهي شهادة عن تجربة “لبنان الاشتراكي” و”منظمة العمل الشيوعي في لبنان”، وعنوانه “زمن اليسار الجديد”.

الترا صوت

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى