أبحاث

إفساد الوظيفة القمعية للدولة/ ياسين الحاج صالح

كان لكلمة قمع وللنسبة إليها، في صيغة قمعي وقمعية، رواج حتى وقت ما من ثمانينيات القرن العشرين في سوريا، وقت كان عنف الدولة يشهد تغيراً نوعياً من القمع إلى الإبادة السياسية. بتأثير هيمنة نسبية للماركسية وقتذاك كانت الدولة تعرف بأنها أداة قمع طبقية، تستخدمها البرجوازية المسيطرة ضد الطبقات الشعبية. وكان مفهوماً أن العادات الكلامية لا تتبدل فور تبدل الواقع، يستغرق الأمر وقتاً. وربما احتل التعريف الفيبري للدولة كاحتكار للعنف الشرعي، التعريف الذي يشرط احتكار العنف بشرعية السلطة، محل التعريف الماركسي في وقت ما من تسعينيات القرن العشرين في استجابة لتحول مزدوج: في واقع الدولة من القمع إلى الإبادة، ثم في اللغة والمفردات المستخدمة بعد تداعي الشيوعية.

والحال أنه إذا أمكن المجادلة في كون الدولة جهازاً قمعياً، فإنه تتعذر المجادلة في أن للدولة وظيفة قمعية. لم يكن وجود هذه الوظيفة ما كان مثار اعتراض، بل تحولها الإبادي الذي أخذ يثير منذ أواخر السبعينيات استهوالاً متسعاً بين السوريين، وأخذ يعبر عن نفسه بلغة الديمقراطية والتنديد بالاعتقالات والتعذيب. كان المرحوم جورج طرابيشي قد توهم أن دعاة الديمقراطية، ينكرون أو يقللون من شأن الحاجة إلى الشرطي. الواقع أن المسألة لم تكن مطروحة، وأن الشرطي كان يغيب بالفعل، لكن ليس من التفكير في الدولة والسياسية في بلداننا، بل من أن يرمز للوظيفة التي يتمثل فيها القمع. في سوريا لم يعد الشرطي، وكل من يرتدي زياً رسمياً مصدر رهبة، وصار المرهوبون هم أناس بزي «مدني» لا يمكن تمييزهم عن غيرهم من حيث المظهر. هذه نقطة بالغة الأهمية ليس لأنها تصعب تمثيل الأمنيين الجدد بالشرطي، وليس لأنها تقول لنا أن الوظيفة القمعية للدولة تغولت حسب تعبير أخذ بالرواج آنذاك، ولكن لأن ما تقوله هو بالضبط أنه جرى إفساد الوظيفة القمعية للدولة. ما حل محلها هو أجهزة سرية لا تساءل، تعتقل وتمارس التعذيب روتينياً. لم تعد وظيفة هذه القمع والمنع، بل الاعتقال والتعذيب والقتل دون إطار قانوني، وهي لم تكن تضرب خصوما سياسيين أو اجتماعيين للحكم القائم، بل تنشر الخوف في ثنايا المجتمع وتردعه وتشتري الزمن لحساب الفئة الحاكمة. في سوريا، يطلق على هذه المنظمات السرية الإرهابية اسما عاماً هو المخابرات. هذا تطور لم تستطع أن يسميه التفكير الديمقراطي الناشئ، ولم تأخذ علماً به «ثقافة الديمقراطية» التي نافح عنها المرحوم طرابيشي، وقد استفرغت جهدها لتسفيه مجموعات ديمقراطية محاصرة ولا يكاد يكون لها صوت مسموع، بذرائع ثقافوية متعالمة. ليس الديمقراطيون المساكين هم من كانوا ينكرون الوظيفة القمعية للدولة، بل «الدولة» هي التي حطمت هذه الوظيفة، وصارت تمارس عنفاً سائلاً غير شرعي، وغير محجوب عن الحياة اليومية للمحكومين، ما فتح الباب للاشرعيات عنيفة، أبرزها الإسلامية (طرابيشي أرسى هذه في أذهان المحكومين، أو في «صندوق رأس»ـهم).

سار تقويض الوظيفة القمعية للدولة مع تطورين أشد خطورة في سوريا. أولهما تمايز ضمن الدولة بين دولة باطنة هي المقر الفعلي للسلطة، وتمارس عنفاً إبادياً غير شرعي، ومنه أساسا التعذيب والقتل خارج القانون، وبين دولة ظاهرة (حكومة وبرلمان وبيروقراطية) هي مناط الشرعية، لكنها بلا سلطة على الإطلاق. حيث كان ثمة عنف، لم يكن «عنفاً شرعياً» وحيث كان ثمة شرعية، كانت مغلوبة على أمرها وبلا سلطة. الشرطة وكل أصحاب الزي الرسمي ينتمون إلى هذه الدولة الظاهرة المحكومة. وبموازاة هذا الانفلاق البنيوي، وقع تطور وخيم العواقب، تمثل في نزع بيروقراطية الدولة وزوال صفتها الروتينية العمومية، وتراتبيتها المقررة والمعلنة. منبع نزع بيروقراطية الدولة هو تكوين الفئة الحاكمة منذ مطلع الحكم البعثي، وبخاصة الحقبة الأسدية، الفئة التي تطلعت إلى موقع مهيمن على التفاعلات الاجتماعية والتحكم بآليات تحريك الموارد الوطنية، فضلاً عن التفاعلات الاقتصادية والسياسية والإعلامية مع العالم. كتعليق مؤقت للقانون، حالة الاستثناء المفروضة منذ عام 1963 لا تفي بالغرض.

يلزم نزع بيروقراطية الدولة من أجل ذلك، وفرض تراتب خفي لمصلحة الدولة الباطنة يلغي التراتب المعلن في الدولة في الظاهرة. الشرطي جزء من البيروقراطية، وزيه العمومي الذي يقول لعموم الناس إنه يقوم بوظيفة معلومة يتيح لهم توقع سلوكه واللجوء إليه كذلك. المخابرات لا تعرف لها قواعد سلوك يمكن التنبؤ بها، ولا يمكن لعامة المواطنين اللجوء إليها (غاية المنى العيش بعيداً عنها) وليس هناك قناة بينه وبين القانون الجزائي والمحاكم الجزائية خلافاً لجهاز الشرطة. ثم أن الجرائم التي ترتكبها المخابرات لا تعتبر جرائم منذ عام 1969، ولم يعرف مثال واحد في تاريخ المخابرات البعثية والأسدية لمحاسبة أي مخابراتيين على جرائم بحق العموم.

والواقع أن نزع بيروقراطية الدولة هو الوجه المؤسسي لتحول أعمق تمثل في نزع وطنية الدولة عبر الخصخصة أسرياً وتطييف أجهزة عنفها الإبادي. شكلُ نزع الوطنية الذي شهدناه بعد الثورة السورية، أعني عرض النظام نفسه على حماة أجانب ليضمنوا بقاءه، لم يأت من عدم. لقد مهدت له عقود من نزع الوطنية بالخصخصة والتطييف. وإنما عبر هذين، وليس عبر وجود أجهزة المخابرات بحد ذاته، جرى إفساد الوظيفة القمعية للدولة.

ماذا جرى لمؤسسة الشرطة خلال هذا التحول؟ تراجع احترامها، وصارت مثاراً للاحتقار، وقبل الجميع من قبل من قبل المخابرات و»أولاد النظام». صارت كذلك بؤراً للفساد الصغير، فساد الرشوة الذي كانت وحدته القياسية هي قطعة الخمس ليرات في سبعينيات القرن العشرين، وربما الخمس وعشرين أو الخمسين في الثمانينيات والتسعينيات. الفساد الكبير، الملاييني، كان من نصيب الكبار في الدولة الباطنة. وتكثف واقعة شهدتها بعيني في سجن حلب المركزي (المسلمية) في النصف الثاني من ثمانينات القرن الماضي، العلاقة بين المخابرات والشرطة. كان جهاز الأمن العسكري بحلب قد اعتقل شرطياً لسبب ما غير سياسي، وقد سجن لبعض الوقت في الجناح نفسه الذي كنا فيها، نحن معتقلون سياسيون شيوعيون وموالون لبعث العراق. مرة جرى تعذيب الشرطي وأُمر أن يجري في رواق الجناح حيث نراه كلنا، وهو يهتف بأعلى صوته: شرطي وعم أرتشي! لم يكن ذلك مثالاً على محاربة الفساد من قبل المخابرات، بل تمثيلاً وافياً لعلاقات القوة بين أجهزة المخابرات والشرطة، وكذلك بين جهازي مخابرات: الأمن العسكري النافذ والأمن السياسي الأقل نفوذاً، الذي يتبع نظرياً لوزارة الداخلية (يتبعها جهاز الشرطة كذلك) أي المنزوع البيروقراطية أقل من الجهاز الآخر. كنا معتقلين عند جهاز الأمن السياسي، وكان الأمن العسكري التابع لوزارة الدفاع، الأقوى والأشد تطييفاً، يقاسمونهم الجناح نفسه، ويتحرشون بهم وبنا باستمرار.

بنظرة إلى تاريخ العقود الخمسة أو الستة الأخيرة قد نرى في مصير جهاز الشرطة كناية عن مصير الدولة ككل. كان الشرطي تجسيداً للوظيفة القمعية لدولة الاستقلال، حل محله جلادو المخابرات في الحقبة الأسدية، واليوم يبدو أننا في مسار يحل فيه مقررون أجانب، ضباط ومليشياويون، روس وإيرانيون وتابعون لهما، محل ضابط المخابرات المحلي. كان هذا تصرف كأجنبي حيال مجتمع المحكومين، يبيدهم سياسياً إن اعترضوا ويبيدهم فيزيائياً أن قاوموا، ففتح بذلك باب نفوله هو مع حلول الأجنبي الأصيل محتلاً.

نحن بعيدون جداً هنا عن أهمية دور الشرطي، أو عن وظيفة قمعية ضرورية للدولة، وعن عنف شرعي. خسرنا الوظيفة القمعية للدولة ضمن سياق تميز بما تقدم ذكره من نزع بيروقراطية الدولة ونزع وطنيتها. جرى تجاوز القمع فعلاً، لكن ليس في اتجاه إخضاعها لشرعية وطنية ممأسسة، بل في اتجاه حلول الإبادة محله. وما كان يحول دون دمقرطة البلد لم يكن غفلة معارضي النظام عن أهمية الشرطي، ولا حتى قمعية النظام ودكتاتوريته، بل أجنبيته ولا وطنيته. عبر هذا الدرب وصلنا إلى هنا. لذلك فإن نزع نزع وطنية الدولة هو المدخل لبقاء سورية كوطن (دولة وأرض وشعب) ولو في صورة معدلة، وهو من باب أولى المدخل من أجل أن يكون للكلام على الديمقراطية أي معنى.

كاتب سوري

القدس العربي

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى