تحقيقات

هل يمكن للجمهور السوري أن يملك وسائل إعلامه؟/ زينب مصري | حسام المحمود

مع اختلاف التسميات التي أُطلقت على التجربة الإعلامية التي وُلدت مع بدء الثورة في سوريا عام 2011، كإعلام “بديل” أو “جديد” أو “ثوري” أو “حر”، تشترك وسائل الإعلام الناشئة في نقلها روايات أخرى تجري بعيدًا عما ينقله الإعلام الرسمي، وفي التحديات التي تواجه سير عملها، وأبرزها الاستقلالية المرتبطة بالتمويل.

ومع توجه وسائل إعلام عربية، نشأت في حالة مشابهة للحالة السورية مع اندلاع ثورات “الربيع العربي”، للبحث عن طرق تمويل تحمي “الاستقلالية المهنية”، تبقى الصورة ضبابية حول قدرة الإعلام السوري على تطوير وسائل تمويله لتحقيق الأهداف الأولى التي وُلد من أجلها.

وتتجلى أشكال تمويل المؤسسات الإعلامية السورية الناشئة بعد عام 2011، بتمويل الحكومات أو رجال الأعمال الأثرياء أو المنظمات المانحة، وترافق ذلك مع شكوك حول الاتجاهات السياسية أو “الأجندات الخارجية” ووجهات النظر التي تفرضها الجهة الممولة على الوسيلة.

لكن مؤسسات إعلامية غربية شقّت طرقًا بديلة لتمويل نفسها، وخلقت نموذجًا جديدًا يمكنه أن يرفد وسائل الإعلام بالدخل، وهو “تمويل الجمهور”، الذي قد يكون بوابة لصون الاستقلالية ومحاسبة وسيلة الإعلام على انحيازاتها تجاه “أجندات المالكين والممولين” من قبل الجمهور نفسه.

فهل يمكن تطبيق هذا الشكل من التمويل مع مؤسسات إعلامية سورية مستقلة؟ وما العقبات التي تحول دون ذلك؟ وما الخيارات المتاحة أمام وسائل الإعلام السورية لتحقيق استدامة مالية دون الانسياق وراء تطلعات المانحين؟

هذا الملف محاولة لتبسيط أزمة تمويل الإعلام السوري، وتأثيرها على مهنية المحتوى الذي تقدمه، ومناقشة فرص الإعلام في خلق مصادر تمويل جديدة بعيدة عن جيوب المانحين التقليديين، من خلال فهم أقرب لأولويات الجمهور التي تفرضها الضغوط المعيشية في زمن الحرب.

كيف يُموّل الإعلام؟

البحث عن مصادر التمويل يقود إلى أنماط ملكية وسائل الإعلام، فالمال مسؤولية المالكين، ولذلك تُقسم وسائل الإعلام تبعًا لملكيتها، وتُقاس حرية الإعلام في بلد ما من خلال شكل ملكية وسائل الإعلام السائد فيها، لكونها من أدوات التعبير.

وأبرز أنماط ملكية وسائل الإعلام:

الصحافة الحكومية

تملكها الدولة وتديرها الحكومة وتضع سياساتها، كما تعيّن رؤساء تحريريها ومديريها وفق اعتبارات سياسية في الغالب.

الصحافة الخاصة الربحية

يملكها رجال الأعمال أو الشركات التجارية، وتهدف إلى تحقيق الربح من خلال البيع والإعلانات والرعايات الإعلانية.

تعتبر الصحافة الخاصة من أشكال الصحافة المستقلة، لكنها قد تعمل أيضًا وفق “أجندات” مالكيها، الذين تكون لهم، في الغالب، مصالح سياسية وحزبية.

صحافة الملكية العامة

هي صحافة تموّلها الدولة من ضرائب الشعب، وتشرف على استدامتها واستمرارها، وتعتبر جزءًا من مرافق الدولة، لكنها مستقلة تحريريًا وتُدار داخليًا وفق آليات مهنية لا تتدخل فيها الدولة.

وينتشر هذا النموذج في البلدان الديمقراطية التي تؤمن بحق الجماهير في الوصول إلى المعلومات من خلال صحافة مستقلة غير منحازة للحكومة.

الصحافة غير الربحية/ الوقفية

هي الصحافة التي تملكها منظمات خيرية غير ربحية، وتموّلها من تبرعات المانحين، أو من اشتراكات القرّاء (تمويل الجمهور).

وهي غير مملوكة بشكل مباشر من الحكومات أو من أفراد بصفة فردية، وقد تشترك في ملكيتها مجموعة المالكين بأسهم محددة، وتكون مستقلة تحريريًا.

من أين يأتي المال؟

تندرج وسائل الإعلام ضمن عدة أنظمة عمل تختلف آلية تمويل كل منها عن الأخرى، بحسب دراسة بحثية صادرة عن “المركز الديمقراطي العربي للدراسات الاستراتيجية والسياسية والاقتصادية” عام 2017.

فهناك نظام إشراف حكومي (نمط ملكية الصحافة الحكومية) يجعل وسائل الإعلام هيئة حكومية تتبع لإحدى الوزارات، كوزارة الإعلام أو الثقافة، وتتخذ هيئة مستقلة تخضع لإشراف الدولة مباشرة، وينتشر ذلك في الدول النامية والعربية منها.

والتمويل في هذه الحالة مسؤولية الدولة التي قد تسمح بالإعلانات أيضًا لتخفيف العبء المالي جراء تمويل الوسيلة.

بينما تحقق الوسيلة الإعلامية (غير الحكومية) في النظام التجاري الحر مواردها المالية عن طريق الإعلانات، التي تختلف أشكالها وأنواعها بين تمويل برامج كاملة ورعايتها، وبيع ساعات البث وإنتاج البرامج التجارية وبيعها وتصديرها.

والإعلان إنتاج مأجور وعلني لعرض الأفكار والسلع والخدمات لمصلحة معلن ما، لكن وسائل الإعلام الناشئة والحديثة نسبيًا لا تحظى بالقدرة على جذب وإغراء كيانات اقتصادية متقدمة لاتخاذها منصة تقدم إعلاناتها عبرها، في ظل توفر وسائل متقدمة أكثر تتيح وصول الإعلانات إلى شرائح أكبر، بالاستفادة من وسائل التواصل الاجتماعي والمؤثرين وقادة الرأي والوسائل الإعلامية الكبرى.

كما أن بيع البرامج يتطلب من الوسيلة الإعلامية القدرة على تقديم برامج ذات جودة عالية تنافس بها الوسائل الإعلامية الأخرى، بما يمكنها من تغطية تكاليف الإنتاج، أو تحقيق الربح.

وتحظى بعض وسائل الإعلام غير الرسمي بدعم حكومي أو دعم القطاع الخاص، مع الحفاظ على هويتها كمؤسسة غير حكومية، لكنها ستكون مضطرة لتحقيق التقارب مع رؤية الجهة الداعمة.

وأحيانًا تخصص الدولة جزءًا من ميزانيتها لتمويل وسائل إعلام لا تديرها بشكل مباشر، بل تشرف عليها عبر مجلس إدارة، دون التدخل بعمل الوسيلة وحريتها (ملكية عامة).

ويسمى هذا النظام التمويلي بالنظام الاحتكاري، الذي لا يسمح ببث الإعلانات عادة، لكنه اتجه لفتح الباب نحوها في السنوات الأخيرة، و”هيئة الإذاعة البريطانية” (BBC) مثال على ذلك.

أما دعم المانحين، فهو قادم من منظمات دولية متخصصة بدعم وسائل الإعلام وتطوير القطاع، أو جهات تتقاطع أهدافها مع مهمة الوسيلة الإعلامية.

وتحولت بعض وسائل الإعلام العريقة التي تعتمد على أموال مالكيها أو دعم المانحين، إلى نموذج “تمويل الجمهور” والقراء بشكل كلي أو جزئي، من خلال حثّ القراء على التبرع إلكترونيًا لدعم “الاستقلالية وحرية الصحافة”، أو من خلال تقييد جزء من المحتوى الصحفي لدفع القراء للاشتراك المأجور للنفاذ إلى كامل المحتوى.

لكن عوامل عديدة، أبرزها نوع العلاقة بين الجمهور والوسيلة، وغلبة المحتوى العام على النوعي والخاص، والأوضاع الاقتصادية، وغيرها، حالت دون تحقيق تجربة مشابهة عربيًا.

صحفيون يصورون حافلات أثناء عملية إخلاء لمقاتلي المعارضة وعائلاتهم من الأحياء التي يسيطر عليها المتمردون في مدينة حلب المحاصرة في 15 كانون الأول 2016 (جورج أورفليان ، وكالة الأنباء الفرنسية)

من الجمهور إلى الجمهور.. سوريًا

تطرح العقبات المالية التي تواجه الإعلام السوري السؤال حول إمكانية التعويل على تمويل الجمهور (إعلام من الجمهور إلى الجمهور) كنموذج للتمويل البديل، وهو تحوّل في نفس الوقت يعد بمثابة ضمانة لاستقلالية الوسيلة الإعلامية عن “أجندات المانحين” إن وُجدت، وتطور في نمط الملكية يتحول فيه الجمهور إلى شريك يسائل الوسيلة الإعلامية عند اختراقها المعايير الأخلاقية والمهنية.

لكنّ سؤالًا آخر يُطرح حول صعوبة قياس هذه الإمكانية، في حين تقول الإحصائيات الأممية إن 13.4 مليون شخص في جميع أنحاء سوريا يحتاجون إلى المساعدة.

عنب بلدي استطلعت آراء سوريين عبر موقعها الرسمي ومنصاتها في مواقع التواصل الاجتماعي حول إمكانية دفعهم أموالًا مقابل الحصول على تغطيات إعلامية حول سوريا.

وبحسب نتائج الاستطلاع، فإن نحو 67% من المشاركين والبالغ عددهم 508 أشخاص لن يدفعوا، مقابل 33% من المشاركين اختاروا إمكانية الدفع مقابل الحصول على تلك التغطيات.

شاركنا رأيك.. هل يمكن أن تدفع أموالًا مقابل الحصول على تغطيات حول سوريا من مؤسسة إعلامية؟

    لا

    65%

    نعم

    35%

الاصوات: 360

تقاطعت هذه النسب مع آراء من مقابلات أجرتها عنب بلدي مع أشخاص في سوريا على اختلاف الجهات المسيطرة عليها.

ويرى فادي الحسن (30 عامًا) من أبناء مدينة الرقة، أن الاشتراك بوسائل الإعلام الإخبارية ودفع أجور أو اشتراكات أو حتى تبرعات لمصلحة وسائل الإعلام، أمر غير محبذ، مشككًا بمهنية وسائل الإعلام السورية وعدم تسييسها، أو تبنيها أفكارًا وأيديولوجيا معيّنة تسعى لإيصالها.

ويعاني السوريون أوضاعًا اقتصادية ومعيشية غاية في الصعوبة، ينخفض أمامهما إقبالهم على الدفع لمصلحة وسائل الإعلام، فبحسب تقرير صادر عن “مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية”، في 14 من أيلول الحالي، فإن تسعة من بين كل عشرة أشخاص يعيشون تحت خط الفقر.

ويرى سليمان النايف، وهو صاحب مكتبة في مدينة الرقة، أن الأخبار المأجورة خارج تفكير السوريين جراء الأزمة الاقتصادية التي يعيشونها، مضيفًا أن السوريين يبحثون عن سبل تأمين المستلزمات الأساسية لحياتهم اليومية، والأخبار المأجورة خارج سلّم الأولويات التي يركّزون عليها.

ويؤكد يوسف (25 عامًا)، من سكان درعا، عدم استعداده للدفع من أجل أي محتوى، لأسباب تتعلق بالوضع المادي، موضحًا أنه يتابع المواقع المجانية للتزوّد بالأخبار والمعلومات.

بينما تقول رقية المصطفى، خريجة قسم الأدب العربي، إنها بالكاد تستطيع تأمين تكاليف الإنترنت للدخول إلى حسابها عبر “فيس بوك”، وتتجنب فتح المقاطع المصوّرة لأنها تتطلب رصيدًا أكبر.

وتوضح رقية أنها تدفع ثمن مشاهدتها وقراءتها لمحتوى وسائل التواصل الاجتماعي، ولن تستطيع دفع أي مبلغ إضافي للحصول على مادة أو معلومة تضاف إلى دفعها ثمن الاتصال بالإنترنت.

رياض المحمد، شاب سوري مقيم في إدلب، يؤكد عدم استعداده للدفع لوسائل الإعلام بسبب غياب المصداقية برأيه، مشيرًا في الوقت نفسه إلى بعض البرامج التي تنتجها وسائل إعلام معارضة للنظام، وتنطلق في تغطياتها من الداخل السوري، معتبرًا أن هذه النوعية من البرامج تستحق الدفع في سبيل متابعتها، في حال توفرت لدى الشخص القدرة على الدفع.

وأظهر استبيان أجراه “برنامج تقييم الاحتياجات الإنسانية” (HNAP)، بالاشتراك مع “الأمم المتحدة للتنمية”، و”مجموعة التعافي المبكر وسبل العيش” في شمال غربي سوريا، “الحرمان الاقتصادي” الذي يعيشه الناس في سوريا، موضحًا أن 70% من الرجال، و61% من النساء، عاطلون عن العمل، و18% فقط من الرجال الذين عملوا في الأشهر الثلاثة الماضية يعملون بدخل منتظم.

ويرى مصعب العبد الله، من سكان منطقة الباب في ريف حلب، أن الأخبار متاحة بالمجان، وليس مضطرًا للدفع من أجل أخبار القتل والحرب والدمار، لافتًا إلى احتمالية تغيير رأيه في حال كان المحتوى الإعلامي فريدًا وحصريًا.

ويقول مصعب، إن “الإعلام السوري بشكل عام يكرر الأخبار نفسها يوميًا منذ عشر سنوات. لا شيء جديدًا يستحق المتابعة”.

وقلّصت وسائل التواصل الاجتماعي من الحاجة إلى متابعة الوسيلة الإعلامية لمطالعة الأخبار أو الاطلاع على المحتوى الإعلامي والإخباري، من خلال إمكانية نسخه ونشره عبر صفحات في مواقع التواصل دون الحاجة للوصول إلى الموقع الأصلي لمعرفة الخبر أو المعلومة حتى لو كان مجانيًا، رغم تعارض ذلك مع أخلاقيات العمل الصحفي.

فرص “ضعيفة” أمام الإعلام السوري

يرى الباحث في الإعلام بجامعة “بروكسل” يزن بدران، أن فرص وسائل الإعلام السورية لخلق مصادر تمويل جديدة بعيدة عن تمويل المانحين “ضعيفة جدًا”، فتمويل الإعلام السوري والعربي بشكل أعم يمر عبر ثلاث طرق حاليًا.

وهذه الطرق: تمويل حكومات، بشكل مباشر أو غير مباشر، مثل تلفزيون “سوريا”، وتمويل خاص من رجال أعمال أو أثرياء، كما هي الحالة في تلفزيون “أورينت”، وتمويل المنظمات المانحة كما في صحيفة “عنب بلدي”، إذ لا توجد وسيلة إعلامية لا يمر تمويلها الأساسي بإحدى هذه الطرق، بحسب ما قاله بدران لعنب بلدي.

وهناك تجارب عديدة من دول المنطقة للتفكير بمصادر تمويل ثانوية تدعم العمل التحريري، كتقديم خدمات تحريرية أو تقنية مأجورة لأطراف ثالثة، كتنظيم فعاليات، أو إطلاق برامج عضوية.

ولكن في أغلب الأحيان، فإن السياق السياسي “الشديد التقييد” يفرض نفسه كعقبة أساسية أمام هذه التجارب، ولذلك من الصعب تقييمها، وحتى على هذه المستوى، الإعلام السوري يبقى أقل تطورًا وتمرسًا من التجارب الإعلامية في تونس أو مصر أو لبنان أو الأردن.

الجمهور ليس قادرًا

الباحث يزن بدران يرى أن هناك الكثير من العوامل التي تعوق وتقف عقبة أمام تشكيل سوق إعلامية لها القدرة على دعم مؤسسات إعلامية.

وأوضح الباحث، في حديثه إلى عنب بلدي، أن السياق السياسي والاقتصادي والإداري للجمهور السوري، وتجزئة الجمهور بين الداخل والخارج، بالإضافة إلى تجزئته في سوريا نفسها، إلى جانب انهيار القدرة الاقتصادية بعد سنوات من الصراع العسكري واللجوء، يحول دون دعم الجمهور السوري لوسائل الإعلام، إلى جانب انعدام الاستقرار على المستوى الشخصي والإداري لفئة واسعة من هذا الجمهور.

ويشير الباحث إلى وجود حالة ضعف فني في الكوادر السورية المنخرطة في العمل الصحفي، موضحًا أن هذا الضعف ليس محصورًا بالمستوى الفني والتقني، بل بالإداري أيضًا.

ورغم التطور الذي شهدته السوق الإعلامية خلال السنوات الماضية، فإن البنية الإدارية للمؤسسات الإعلامية، التي تتجنب المخاطرة، وبسبب ذلك تتجنب الاستثمار في الابتكار، لها دور في هذا الضعف، بحسب بدران.

أربعة عناصر للنجاة مع تبدل “مزاج المانحين”

يبدو أن ندرة مصادر التمويل المستدام، وهو القاعدة الاقتصادية لوسائل الإعلام السورية المستقلة في المنفى، إحدى أهم نقاط ضعفهـا، وعامـل رئيس فـي إغلاقها، إذ تعتمد وسائل الإعلام في المنفى تلقائيًا على المانحين، مع وجود إمكانيات قليلة جدًا لتوليد مصادر بديلة للتمويـل خـلال فتـرة زمنيـة طويلـة، إذا أرادت البقـاء مسـتقلة عـن عواصم دول الشـتات التي ربما تكون مشحونة سياسيًا، بحسب ورقة إحاطة نشرتها المؤسسة الدولية لدعم وسائل الإعلام (IMS)، في تشرين الثاني 2020.

وأوضحت الإحاطة، أنه رغم إمكانية إنشاء عملية إعلامية أصغر حجمًا وأقـل تكلفـة فـي العصر الرقمي، فالاعتماد على دعم المانحين هو السائد، وليـس هناك بديل مجـدٍ.

وبينما تشـكّل الإيرادات الناتجة عن الإعلانات دائمًا جزءًا صغيرًا من إجمالي الموارد المالية اللازمة، لم تجد الإحاطة أي أمثلة على التمويل الجماعي الجماهيري الذي وفّر أموالًا كافية على مدى فترة من الزمن.

ومع وجود “فرصة ضئيلة جدًا” لتوليد الدخل الذي من شأنه أن يقلل من هذه الاعتمادية التي توصف أحيانًا بـ”التبعية للجهات المانحة”، يقدم المانحون التمويل عادة على التدخلات القصيرة المدى (لمدة عام واحد)، في حيـن يتطلب التطوير المهني الالتـزام بالتمويل علـى المدى الطويل، فمن السهل الحصول على أموال الطوارئ في بداية عمليات وسائل الإعلام المستقلة، لكن التخطيط الاستراتيجي والتطوير يتطلبان مصادر تمويل ثابتة.

وفي سوريا، ظهرت بعض الجهود للبحث عن أشكال أخرى من التمويل (مثل المحتوى التسويقي، والتمويل الجماعي، والتبرعات)، لكنها ظهرت كتصورات مسـتقبلية أكثر من كونها استراتيجية مجدية للنجاح بالاستمرار بالعمل اليـوم.

وأثّر تغيير أولويات الجهات المانحة في أثناء الصراع، والقرارات اللاحقة التي اتخذها بعض أكبر المانحين في إعطاء الأولوية لمجالات أخرى، بشكل كبير على نجاة وسائل الإعلام السورية، فبينما استمرت بعض الوسائل بالعمل بكامل طاقتها، يحاول بعضها الآخر البقاء على قيد الحياة.

وحددت إحاطة المؤسسة الدولية لوسائل الإعلام أربعة عناصر رئيسة لعبت دورًا في نجاة وسائل الإعلام السورية، وهي:

حجم المنظمة: بعض وسائل الإعلام التي نجت، مع وجود بعض الاستثناءات القليلة، هي منظمات صغيرة الحجم، يتراوح عدد الموظفين الأساسيين لديها عادة بين خمسة وعشرة أشخاص. وعلاوة على ذلك، لا تملك العديد من وسائل الإعلام مكاتب، ويمكنها تجنب التكاليف الثابتة مثل الإيجار والنفقات العامة الأخرى. وتميل بعض الوسائل إلى إبقاء عدد موظفيهـا الأساسيين صغيـرًا جدًا مـن أجل الحفاظ على المرونة والتكيف مع الظـروف، وتستخدم المنـح الصغيـرة لإنتاج المزيد من المحتوى.

تنويع مصادر التمويل: تعـد القـدرة على تأمين التمويـل، وخاصة التمويل الأساسـي من أكثر من جهة مانحة، أحد العوامل المهمـة للنجاة والاسـتمرار في العمل، حيث يعطي هذا التنوع المنظمـة مسـاحة للمناورة إذا قرر أحد المانحين الانسحاب، وفي الوقت نفسـه، يسـمح لها ببناء هياكل تنظيمية أقوى علـى المسـتويين الإداري والمالي.

حاولت العديد من وسائل الإعـلام تجريـب مصادر أخـرى للدخل، مثل: المحتوى التسويقي وتبرعات الجمهور، وكان نجاحها محدودًا، وتخطط أخرى لاسـتراتيجيات أكثر تفصيلًا وتنظيمًا، لكن لم توضع موضع التنفيذ بعد.

وعلـى العموم، حتى إذا فشلت هذه الجهود التي كانت تهدف إلى تغطية نسبة صغيرة من الميزانية، فالعديد من الصحفيين السوريين يعتبرونها محاولات لتخفيف اعتمادهم على المانحين، ولتعزيز جهودهم في تنظيم المشاريع بدلًا من كونهم متلقين سلبيين للتمويل الخارجي.

قدرات العلاقات العامة: تعمل وسـائل الإعلام في المنفى في بيئة عالمية، يعد فيها وجود كفاءات معيّنة أمرًا محوريًا، مثل التواصل مع الجهات المانحة، ومنظمات الدعم، وكتابة المقترحات، وعمليات التدقيق، وتعزيز صورة المنصـة، وبناء التعـاون.

الهوية التحريريـة: تحتل كيفية تصميم المنافذ لهوية الوسيلة التحريرية وتطوير صورتهـا ومكانتهـا دورًا مهمًا.

ونظرًا إلى عدم قـدرة وسـائل الإعـلام فـي المنفى على التنافس مع وسائل الإعلام الراسخة من حيث جمهورها وحجم المحتـوى الإعلامـي الـذي تنتجـه، فإن قدرتهـا علـى بنـاء مكانـة بـارزة وتقديـم خدمات محددة غالبًا تساعدها على جذب الأموال، وتكوين جمهور مخلص، حتـى وإن كان صغيـر الحجـم.

    مسارات “مثمرة” من تجارب عربية

    في كانون الأول 2018، استضافت “الشبكة العالمية للصحافة الاستقصائية” نقاشًا مع مؤسسي أربع وسائل إعلام عربية ناشئة، هي “مدى مصر”، و”حبر”، و”انكفاضة”، ودرج”، حول نماذج التمويل للصحافة المستدامة خلال مؤتمر في الأردن، تحدثوا فيه عن الطرق التي ابتكروها من أجل البقاء والنمو.

    وقال تقرير صادر عن الشبكة بعنوان “كيف تدفع الضرورة الابتكار الإعلامي في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا”، في 3 من كانون الثاني 2019، إنه كان على كل من المؤسسات الأربع إيجاد طرق لخدمة جمهورها بناء على الخصائص الفريدة لسوقها المستهدفة، بالإضافة إلى موظفيها، والتكنولوجيا المتاحة، والترتيبات المصرفية والدفع، والبيئة السياسية.

    وتتلخص الحلول التي توصلت إليها، بحسب التحديات الفريدة لكل مؤسسة، في مسارات يمكن أن يجدها الآخرون “مثمرة”، بحسب التقرير، وهي:

    – تطوير نموذج تجاري بمزيج من إيرادات الإعلانات والقرّاء، والاعتماد على التبرعات من المنظمات الغربية على المدى القصير.

    – اختيار نموذج للصحافة غير الهادفة للربح، مدعوم بشكل كامل تقريبًا من قبل المؤسسات والمنظمات غير الربحية.

    – الجمع بين المنح والإيرادات من التدريب ومساحة العمل المشترك، وتطوير تطبيق لمؤسسات إخبارية أخرى لإنتاج محتوى وسائط متعددة.

    – اعتماد نموذج هجين للإعلانات المحلية مع الاعتماد على دعم المؤسسات والمنظمات غير الحكومية.

    “مدى مصر”

    تحصل صحيفة “مدى مصر” الرقمية على 80% من تمويلها من مؤسسات مختلفة ومنظمات غير ربحية، وتأتي بقية التمويل من خدمات تحريرية وترجمة، وتدريب وفعاليات، وإعلانات وعلاقات عامة كاملة الخدمات، تقدم حلول تسويق تقليدية ومتكاملة ووسائط ذات علامة تجارية، وفرص ترفيه، وخدمات تسويق تجريبية، وتنشيط الفعاليات، وحملات “الويب” الرقمية، بحسب ما نقله التقرير عن المؤسسة المشاركة ورئيسة تحرير الصحيفة، لينا عطا الله.

    “انكفاضة”

    ذكر تقرير الشبكة أن جزءًا من نموذج الإيرادات للمؤسسة الأم لموقع “انكفاضة” التونسي الذي أُسس عام 2014، “غير معتاد”، إذ امتلكت المؤسسة مكتبًا فيه مساحة أكبر من حاجتها، وبدأت بتأجير المساحة الزائدة للآخرين للعمل المشترك والتدريب والفعاليات الأخرى.

    وتوجهت المؤسسة لأعمال الفعاليات، وأنشأت مواقع إلكترونية لكل فعالية من فعاليات عملائها.

    وبحسب الصحفي المؤسس في الموقع وليد الماجري، فإن 60% من مصادر إيرادات المؤسسة لعام 2018 قادمة من الإيجار وأعمال الفعاليات، و35% قادمة من “مؤسسات المجتمع المفتوح”، والباقي من مصادر أخرى.

    “درج”

    تعمل منصة “درج” الإلكترونية على نموذج تمويل هجين، تنتج فيه بعض المقالات المتعلقة بنمط الحياة والمحتوى المدعوم الذي “يروق” للمعلنين الذين لا يريدون عرض رسالتهم في سياق القصص المتعلقة بالسياسات المثيرة للانقسام، بحسب تصريحات عليا إبراهيم للشبكة، وهي شريكة مؤسسة ورئيسة مجلس إدارة المنصة.

 أثر التمويل على عمل الإعلام في الحالة السورية

أسهم انفتاح قطاع الإعلام أمام الملكية الخاصة في السنوات الأخيرة في تنويع التغطية الإعلامية، ومع ذلك، في معظم الحالات، اتبع هذا الانفتاح أنماطًا ثابتة لملكية الوسائط التي تم “الاستيلاء عليها”.

إذ اشترى مالكو وسائل الإعلام الخاصة المتوافقة مع الأنظمة بعض المنافذ الإخبارية بشكل مباشر، في حين أن المحسوبية وغيرها من الأشكال المعقدة للاستقطاب تمنح المصالح الخاصة السيطرة على الروايات الإعلامية بطرق أكثر دقة، بحسب تقرير صادر عن مركز “الدعم الدولي للإعلام” (CIMA).

وقال التقرير، إن الاستيلاء على وسائل الإعلام يعد إحدى العقبات الرئيسة أمام ممارسة الصحافة المستقلة المستدامة، مشيرًا إلى نقص في المعلومات حول ملكية وسائل الإعلام وتمويلها في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا.

ويجب البحث عن طرق بديلة للتمويل العام لوسائل الإعلام والصحافة للحفاظ على التعددية في سوقها وتعزيزها.

ويكون ذلك من خلال تخصيص الدعم لمؤسسات إعلامية معيّنة من قبل هيئات مستقلة عن الحكومة، كما يمكن البحث عن مصادر التمويل الخارجة عن سيطرة السياسيين، بحسب بحث “كلية لندن للاقتصاد والعلوم السياسية”.

وهناك عدة طرق يؤثر بها التمويل على العمل الصحفي داخل المؤسسات السورية، ولكن في أغلب الحالات هذه التأثيرات تتقاطع وتتفاعل مع عوامل أخرى، سياسية بشكل أساسي، واجتماعية بشكل أكثر ثانوية، بحسب الباحث في الإعلام بجامعة “بروكسل” يزن بدران.

وأوضح بدران أن عمليات التمويل قد يكون لها تأثير مباشر على المحتوى الإعلامي للمؤسسة وعلى خطها الصحفي، بطرق لا تخلو من “الفجاجة” في السياق السوري، لتطابق المصالح والاتجاهات السياسية، التي قد تختلف من يوم إلى آخر، للجهة الممولة، أو المصالح الاقتصادية، خاصة في حال كان التمويل من جهة خاصة، ويختلف هذا التأثير المباشر بحسب طريقة التمويل والطرف الممول.

ويكون التأثير غير المباشر، وهو الأعم، على مستوى الهيكليات الإدارية والفنية في المؤسسات الإعلامية، وطرق تنظيمها، والقيم والعلاقات الداخلية التي تنشأ وتتطور داخلها.

ومصادر التمويل، والشروط الإدارية، والفنية، والتقنية، التي يضعها هذا التمويل على عمل المؤسسة الإعلامية وتفاعلها مع الأشخاص الفاعلين داخل المؤسسة، ومع السياق السياسي، لها دور أساسي في تشكيل هوية المؤسسة والديناميكيات الداخلية الناظمة لعملها (الرسمية منها وغير الرسمية)، مثل العلاقة بين الجسم الصحفي والإداري في المنظمة، والاستقلالية (الفعلية) للعاملين في المؤسسة ولخطها التحريري، والاستقرار المادي والوظيفي للعاملين في المؤسسة، ونظم مراقبة الجودة داخل المؤسسة.

نماذج تمويل بديلة لوسائل الإعلام المستقلة

سلّطت دراسة للباحثة زنوبيا إسماعيل بعنوان “تعزيز الاستقلال المالي للمؤسسات الإعلامية المستقلة”، صادرة في 9 من تموز 2018 عن جامعة “برمنغهام” الإنجليزية، الضوء على نماذج التمويل التي يمكن أن تساعد المؤسسات الإعلامية المستقلة في البلدان النامية، والتي تعتمد بشكل أساسي على المنح، في أن تصبح مستدامة ماليًا.

وتحصل بعض المؤسسات الإعلامية المستقلة في الشرق الأوسط وآسيا وأمريكا اللاتينية على إيرادات من الإعلانات أو الرعاية أو الأنشطة التكميلية مثل الخدمات الاستشارية والعلاقات العامة ومبيعات الكتب، ومع ذلك لا يمكن تحديد ما إذا كانت نماذج الإيرادات هذه مستدامة، بحسب الدراسة.

المبيعات

ذكرت الدراسة أن نموذج المبيعات التقليدي حقق إيرادات من خلال بيع المنشورات أو المحتوى، لكن المحتوى أصبح رقميًا بشكل متزايد، ومن الصعب على وسائل الإعلام فرض رسوم على الوصول إليه.

ومن بعض الأمثلة على نماذج البيع البديلة المستخدمة من قبل وسائل الإعلام المستقلة في الشرق الأوسط وأمريكا اللاتينية، العضوية التي تُعد أكثر فاعلية من أنظمة حظر المحتوى غير المدفوع (جدران الدفع)، بحسب الدراسة، لأنها يمكن أن تقدم المزيد من مزايا الاتصال، مثل الاتصال بمجتمع أعضاء آخرين، والاشتراكات، ومبيعات النسخ المطبوعة من الصحف عبر الأكشاك.

    “جدران الدفع” أو نظام حظر المحتوى غير المدفوع، خاصية إلكترونية ينفذها ناشرون رقميون عبر المواقع الإلكترونية، تتطلب الدفع المالي من قبل المشتركين مقابل الوصول إلى المحتوى المنشور.

    وعادة ما تكون الإيرادات من الاشتراكات المدفوعة هي هدف الناشرين من اعتماد هذا النظام.

    توجد ثلاثة نماذج من نظام “جدران الدفع”:

    جدران دفع “قوية”، لا تسمح بمحتوى مجاني، وتتطلّب اشتراكًا مدفوعًا قبل التمكّن من الوصول إلى أي محتوى عبر الموقع.

    جدران دفع “ناعمة”، تسمح للمستخدم بالوصول إلى عدد محدد من المقالات قبل طلب الاشتراك المدفوع.

    جدران الدفع “الأكثر ليونة” (مزيج)، تسمح بالوصول المجاني إلى محتوى محدد، مع الاحتفاظ بالمحتوى المتميز للوصول إليه مقابل الدفع.

الإعلانات

تعد الإعلانات نموذج التمويل التقليدي للمؤسسات الإعلامية، لكن الإيرادات من هذا النموذج تنخفض، بحسب الدراسة.

وتواجه وسائل الإعلام المستقلة في الدول النامية ثلاثة تحديات تشغيلية عند استخدامها هذا النموذج، هي إقناع المعلنين بالدفع في الوقت المحدد، وتقييد اللغة فرص بيع المحتوى لوسائل الإعلام الرئيسة، وتحديات الموارد البشرية عند توظيف وسائل الإعلام الأشخاص الذين لديهم خلفيات في الصحافة أو حقوق الإنسان في مقابل الأعمال التجارية.

نماذج تمويل هجينة

أوضحت الدراسة أن وسائل الإعلام المعارضة تكافح لكسب الدخل من المحتوى، ومن المرجح أن تكسب إيرادات من الأعمال التجارية الجانبية التي تكمل الأنشطة الإعلامية.

ويمكن تحقيق إيرادات الإعلانات المتقاطعة والشراكة من شركة مظلة أو شركة شقيقة للربح، كإمكانية دمج منفذ إعلامي غير هادف للربح مع شركة استشارية للاتصالات، وإمكانية تحويل الإيرادات من الكيان التجاري إلى الكيان الإعلامي غير الهادف للربح من خلال تمويل المنح.

التمويل الجماعي

يعمل التمويل الجماعي من خلال إدارة حملة لجمع التبرعات، تجمع مبالغ كبيرة من التبرعات الفردية الصغيرة نسبيًا، ولديها القدرة على التغلّب على فجوات التمويل.

وبيّنت الدراسة أن حملات التمويل الجماعي لوسائل الإعلام التي تركّز على العالم النامي يمكن أن تنجح عندما ترتبط بمشروع أو نشاط معيّن وتستخدم مواقع تمويل دولية.

التبرعات

حققت بعض المؤسسات الإعلامية المستقلة العاملة في البلدان النامية نجاحًا محدودًا في جمع الأموال من تبرعات الأفراد.

وتُعد اللامبالاة والفقر مشكلتين رئيستين في عدم استخدام التبرعات كشكل ثابت من الدخل، حتى طلبات التبرعات الصغيرة ليست فعالة، إذ إن الجمهور المستهدف أكثر استعدادًا للتبرع بالمال للمنظمات الإنسانية بدلًا من المؤسسات الإعلامية، بالإضافة إلى التحديات اللوجستية التي تتعلق بالخدمات المصرفية عند جمع الأموال.

عنب بلدي

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى