أبحاث

سورية: محددات سياسية وأدوار مدنية ممكنة/ جمال الشوفي

الخروج من الأوهام والشعارات، مهما كانت ذات سمة “ثورية” و”وجدانية”، هو عمل يتطلب الجرأة والمسؤولية أولًا، ويحيل إلى إمكانية إعادة قراءة الواقع السياسي بطريقة مختلفة، ثانيًا. والنتيجة استعادة القدرة على الفعل السياسي وفق معطيات ومجريات الواقع وما آلت إليه الحالة السورية؛ حيث بات الحراك الشعبي على مستوى الداخل السوري شبه نادر، سوى بعض المناطق المتفرقة والمتباعدة زمنيًا، وأصبحت المسألة السورية عقدة دولية، استدعت معها تدخلات إقليمية ودولية متعددة الأطراف. فمنذ أن أعلنت روسيا تدخلها العسكري المباشر في سورية أواخر العام 2015، إلى اليوم، يبدو مسار المسألة السورية، ومن خلفها التغيير السياسي الممكن، مسارًا معقدًا تتداخل فيه مجموعة حيثيات دولية وإقليمية ومحلية، يصعب فكها دفعة واحدة. وتتجلى هذه التعقيدات بمفاصل عدة يبدو أكثرها وضوحًا:

    اشتداد حدة التنافس الدولي حول القطبية الوحيدة للعالم التي كانت تقودها أميركا منفردة طوال عقود ثلاثة منصرمة. واليوم، باتت تنزاح للثنائية العالمية الجيوبولتيكية التي فرضتها روسيا من خلال المعادلة السورية، هذا إن لم تتشكل محاور عالمية أخرى.

    تحول في مستويات العلاقات الإقليمية، شهد انتقالًا تدريجيًا في السياسة التركية من موقع الندّ للروس، إلى موقع التشارك الجزئي والتفاهم المحدود معها، مع تغيّر في مستويات تحالفاتها مع حلف الناتو.

    تموضع إيراني متعدد الجبهات في الداخل السوري، بات اليوم محطّ بازار سياسي في العلاقات الدولية، خاصة من خلال ملفها النووي.

    تباين مسارات التفاوض بمرجعيات محليّة سورية، تفاوتت بين العسكري والأيديولوجي، وتعدد مسارات الرؤية في إدارة ملفاته؛ ففريق يفاوض الروس عسكريًا بمرجعية أستانا، وفريق ينسجم مع السياسة الروسية من بوابة سوتشي لطريقة الحل الروسية، وفريق يفاوض النظام من بوابة جنيف ومقررات مجلس الأمن خاصة 2254/ 2015.

    شدة التنافس الأيديولوجي والسياسي بين قوى المعارضة السورية، وعدم قدرتها على الخروج من مآزقها الأيديولوجية إلى اليوم، واكتفاء كلّ فريق منها بسعيه لتشكيل كتلة بديلة عن الأخرى، وخاصة الائتلاف، دون الأخذ بعين الاعتبار موازين القوى المحلية والدولية الدائرة على الساحة السورية؛ حيث هناك فريق من القوى القومية واليسار الكلاسيكي أنجزت تكتّلها عبر جبهة (جود) مستندة إلى تاريخية وجودها المعارض في الداخل السوري، فيما الائتلاف السوري يحاول إعادة بناء هيكلته السياسية مرة أخرى، باستعادة بعض القوى التي غادرته، مستندًا إلى حليف إقليمي تركي بقوته الإقليمية في معادلات التوازن بين الروس والأميركان، وهناك فريق آخر يحاول تشكيل هيئته الوطنية بعيدًا عن (جود) والائتلاف. وبين هذا وذاك، ثمة تيارات وتكتلات أخرى تتكاثر بشكل مطرد وفوضوي. واللافت للنظر أنها جميعًا لم تدخل مع بعضها في حوار وطني جدي، بقدر دخولها في سلسلة من التباينات والتناقضات تصل إلى درجة التهكم والتخوين واحتكار الشرعية المنفردة الذي لم ينته إلى اليوم، وتحميل بقية الأطراف مسؤولية مآلات الحدث السوري كاملًا!

    تنامي النزعات والتشكيلات ما دون الهوية السورية. وقد تباينت بين نزعات دينية متعددة ونزعات قومية اثنية أخرى، تدرجت في طروحاتها من اللامركزية الإدارية إلى الإدارات الذاتية إلى شبه الحالات الانفصالية، وهي حال لا تبشر بخير إلى اليوم، بما قد تنتجه من تقسيم محتمل ترعاه الدول الكبرى.

بناء على المعطيات أعلاه؛ من الممكن تحديد معايير عامة لتناول المسألة السورية، من زاوية مختلفة عمّا تتناولها به أطراف الصراع العسكري والأيديولوجي والسياسي أعلاه:

    السوريون باتوا بمواجهة دولة نووية كبرى كروسيا ذات مشروع دولي أساسه سورية، ويجب التمييز بين موافقة الروس على القرار 2254/ 2015، من خلال فقرته الثامنة، كبوابة للدخول في الحرب على الإرهاب المفترضة لأول مرة في تاريخها من بوابة دولية وفق القانون الدولي، وبين مواد القرار التي تفيد بالانتقال السياسي. بينما يتضح أن تحقيق الانتقال السياسي هو مجال مناورة عريضة، تستخدمه روسيا للوصول إلى الاعتراف بشرعية وجودها الدولي كقطب عالمي منفرد، أو على الأقل كدولة عظمى.

    انتقال المسألة السورية من فكر سياسي يتمثل بالثورة وقوامها الذاتي فقط، إلى رؤية اللوحة الدولية وتعقيداتها. وهو ما يحتم تحييد الرغبات والأماني وتأجيل الأحلام الثورية والتعامل مع موازين القوى الدولية والمحلية بعقلانية وموضوعية.

    عدم قدرة فريق سوري وحيد يدّعي امتلاك القدرة والإمكانية على إيجاد خارطة طريق واضحة للحلّ. فمن الصعوبة بمكان أن يقوم فريق سياسي ما بدعوة باقي الفرقاء للانضمام إليه، بقدر ضرورة الإقرار بتعدد هذه الفرق واختلافها السياسي والأيديولوجي كما الاثني والديني والقومي، وبأن العقد الاجتماعي الممكن بينها أساسه هذا الاختلاف العام والبحث في موضوعة المواطنة الحقوقية والقانونية دستوريًا، مع فتح الحوار الشاق حول كيفية إنتاجه تدريجيًا.

وفق المؤشرات السابقة، باتت المسألة السورية شديدة التعقيد ومنكشفة الأبعاد برؤية موضوعية. وخلاصة المشهد الدولي السياسي حولها، بكل تعقيداته، أن لا إعادة إعمار بلا حل سياسي حسب جنيف الأممي، ولا حلّ سياسيًا بلا إعادة إعمار حسب سوتشي الروسي، ولم تزل قوى وفعاليات المعارضة السورية في سكونها العام وخلافاتها الأيديولوجية دون هذا الاستعصاء العام! فمن يختم الإجابة؟ وهل يمكن اختيار إجابة وحيدة وحسب؟

إلى اليوم، لم يتشكل فريق عمل مهني قادر على إدارة نموذجين من الحوار: الأول بين قوى المعارضة السورية قاطبة وفق النقاط السابقة؛ والثاني ينظر بعين السياسة لا بعين الأيديولوجيا وسحرية الحلول المفترضة، بغية دراسة المحددات الدولية في مسار المسألة السورية.

في الماضي، بعد ربيع دمشق ولجان إعادة إحياء المجتمع المدني السوري عام 2001، توافقت قوى المعارضة السورية كافة على التغيير الديمقراطي التدريجي السلمي، تحت عنوان إعلان دمشق عام 2005، متحدية نظام الاستبداد في الداخل السوري ذاته، فهل يمكن اليوم تحقيق إعلان الهوية السورية، بدءًا من الانتقال السياسي الممكن والتدريجي مع الزمن؟ ومن يمكن أن يقوم بهذا العمل المختلف عن سياق المرحلة الحالية؟

يبدو أنه السؤال الأصعب، وتبدو خياراته محدودة، ولكن ما زال أمام السوريين بوابات متعددة يمكن طرقها والمشاركة بفاعلية بعمل ممكن كهذا: بوابة أولى تتمثل بقوى المجتمع المدني السوري، البعيدة عن الاستقطاب السياسي، وهي -بالرغم من كلّ ما شابها من نقد طوال السنوات الماضية، ما زالت تمتلك مقومات العمل الداخلية في الواقع المحلي، إضافة إلى اعتراف المجتمع الدولي بها، ومشاركتها في الحل السياسي ولجان تفاوضه؛ والبوابة الثانية تتمثل بجملة من المثقفين السوريين القادرين على احتواء المسألة السورية بكل أبعادها، والذين يمتلكون الاتساع المعرفي والحياد السياسي الأيديولوجي.

فكيف إذا تشاركت هذه الفعاليات مع كثير من البرجوازية الوطنية السورية المنتشرة بكلّ شتات العالم؟!

إن إمكانية تشكيل لوحة إدارة الحوار السوري هذه، بعيدًا عن دوائر الاستقطاب الدولي السياسي والتنافي الأيديولوجي السياسي، قد تفضي إلى تشكيل كتلة وطنية سورية قادرة على خوض غمار التفاوض القاسي والجريء مع الروس، بغية تحقيق الانتقال والتغيير السياسي، آخذة بعين الاعتبار دور المجتمع الدولي والأبعاد الإقليمية وحاجة السوريين الملحة إلى الأمن والاستقرار بداية، واسترداد قرارهم الداخلي من بعد، وما ينتج عنه من إعادة مهجّرين ونازحين ومن إعادة إعمار… فهل هذا ممكن؟ أم سنبقى نكرر قول الأعرابي ذاته: “الصيفَ ضيّعتِ اللّبن”!

مركز حرمون

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى