الناس

“العمل اليدوي يخلق الحياة ويهزم الموت”… سيدة ألمانية تحيي “التطريز” السوري من دمشق/ زينة شهلا

بدأت القصة عندما رأيتها في معرض للملابس التراثية في إحدى صالات دمشق، بشعرها القصير المكسوّ بالشيب، وسترتها المميزة بالتطريز الملوّن على حوافها ولكنتها الدمشقية “المكسّرة”، أي التي يبدو واضحاً بأن ناطقها ليس سورياً.

سمعتها تتحدث عن الإله بعل، والشمس وقوتها الخارقة، والمنسوجات اليدوية التي تطرد الأرواح الشريرة وقطب التطريز المتصالبة التي تشتهر بها ملابس بلاد الشام، وتعني بأن الحياة تقطع الموت وتنهي مفعوله. كان لا بد أن أتعرف إلى هذه السيدة عن قرب.

الاسم: هايكة فيبر.

العمر: 70 عاماً.

الجنسية: ألمانية.

مكان الإقامة منذ أربعين عاماً: دمشق.

هايكة فيبر داخل منزلها بدمشق القديمة

أعتقد بأن معظم سكان دمشق القديمة، وتحديداً من يقطنون قرب القوس الأثري المجاور لكنيسة المريمية بمنطقة باب شرقي، باتوا يعرفون هذه السيدة التي يستحيل أن تغادر منزلها إلا بمظهر فريد، كأن ترتدي في رقبتها عقداً كبيراً محبوكاً من خيوط ملونة ثخينة، أو شالاً مطرّزاً برسوم شرقية يمتد بشكل بديع على كتفيها، أو سترة قصيرة لا تصعب ملاحظة التطريزات الشامية على جوانبها.

غالباً ستمر مسرعة في الأزقة الضيقة القديمة التي تحفظها عن ظهر قلب، وهي تحمل أكياساً كبيرة مليئة بالقطع القماشية والخيوط والإبر وبقية لوازم الخياطة، والتي تنقلها من مكان لآخر بشكل شبه يومي، لإنهاء العمل بها أو تسويقها وبيعها.

في منزلها الدمشقي الكبير، المميّز بنوافذه وأبوابه الزرقاء وأسقفه الملونة، والمزين بلوحات موقعة بأسماء فنانين سوريين مشهورين، دعتني هايكة لاحتساء القهوة داخل غرفة واسعة مليئة بالملابس المشغولة يدوياً وأدوات الحياكة والتطريز، والتعرف عن كثب إلى حكايتها التي لا تشبه أي شيء سمعته قبلاً.

مع تعرفها لمخرج فلسطيني كان يدرس في ألمانيا منتصف السبعينيات، ووقوعها بحبه وزواجها منه، انتقلت الشابة من بلدها للإقامة معه في لبنان عام 1982، ثم ما لبث الزوجان بعد بضعة أشهر أن اضطرا، بسبب الحرب اللبنانية، للمغادرة إلى سوريا.

“هناك، كنت بحاجة لمدخل كي أتعلّم اللغة العربية بشكل أفضل، وأتعرف للناس عن كثب، وعرفت بأن دراستي السابقة للموسيقا والأدب المقارن لن تفيدني، فقرّرت إطلاق العنان لشغفي بالحياكة والتطريز وتصميم الملابس، مستذكرة ما تعلّمته من جدتي”.

بذلك، بدأت هايكة دورات لتعليم النساء والعمل معهنّ، في مخيم اليرموك جنوب دمشق، حيث كانت تقيم مع زوجها. بدأ الأمر بمئتي دولار هي حصيلة مدخراتها، ومع عشرات السيدات، وانتهى بإنتاج قطع يدوية أخذتها السيدة لتبيعها في ألمانيا، وعادت مع مبلغ أكبر سمح لها ببدء مشروعها الخاص.

فكّرت هايكة بأن إنتاج أعمال يدوية “عادية” لن يكون مفيداً لتتمكن السيدات من الحصول على مصدر رزق ثابت، فالمنتجات الصينية تغرق كافة الأسواق بما هو أكثر جودة وأقل سعراً، فقالت لهنّ: “لا بد من التركيز على تراثكن”. هذا التراث الشرقي كان بحراً غرقت السيدة الألمانية في تفاصيله بكل سعادة وحب.

آلهة الحياة

على مدار السنوات اللاحقة، جابت هايكة معظم أرجاء سوريا، من شمالها لجنوبها ومن شرقها لغربها، باحثة عما هو “أكثر أصالة” من تراث منسوجاتها اليدوية. تعرّفت إلى تصاميم الفساتين التي ترتديها السوريات في حمص وحماه وطرطوس ودرعا ودير الزور والحسكة وحلب، والألوان المستخدمة فيها. قضت أياماً وليالٍ وهي تفكّ أسرار أنسجة قديمة وقطب وتطريزات لا يعرفها سوى كبار السن، وباتت قادرة من نظرة واحدة على التمييز بين قطعة حاكتها يد سيدة في قرية السخنة بريف حمص، أو أخرى خرجت من قرية في جبل الحص جنوب حلب.

قادتها هذه المعرفة الدقيقة لتأسيس علامتها التجارية الخاصة أواخر الثمانينيات، التي اعتمدت فيها على تصميم ملابس “على الموضة”، بروح سورية خالصة. وعاماً بعد آخر، أنتجت فساتين وقمصان وحقائب وإكسسوارات بتفاصيل مستوحاة من البيئات السورية على اختلافها، وبالتعاون مع عاملات محليات من مناطق سورية مدينية وريفية متنوعة، عملت هايكة على تعليمهن ثم تشغيلهن بالإنتاج.

وخلال تلك الفترة، توسع العمل لمشغل في حي التضامن المجاور لمخيم اليرموك، مع سيدات فلسطينيات وسوريات من دمشق والسويداء وإدلب بشكل خاص، ثم محل صغير قرب الجامع الأموي بدمشق القديمة، ثم آخر أكبر مساحة في نهاية الطريق المستقيم قبل باب المدينة الشرقي، وذلك عام 2006. جميعها حملت اسم “عناة” الذي اختارته هايكة ليكون معبراً عن علامتها التي استقطبت آلاف الزبائن، بمن فيهم أشخاص على مستوى قياديين وحكام من بلدان عربية وأوروبية، وشاركت فيها بعشرات المعارض داخل سوريا وفي بلدان عربية وغربية عدة.

“عناة هي الآلهة التي تمنح الحياة في الأساطير القديمة، واخترت الاسم لأقول بأن الموت ليس النهاية، وبعد كل موت هناك بداية جديدة، وهذا بالضبط هو جوهر العمل اليدوي، إذ إننا نخلق من خلاله الحياة، نهزم الموت ونبعد الطاقة السلبية”، تقول وتضيف بأن ذلك هو سبب إصرارها الدائم على ارتداء ملابس تحتوي تطريزاً يدوياً، “فهي تشعرني بأني ملكة، وبأنها تحميني من كل ما هو سيئ، فأمشي وأنا فخورة بنفسي وبها، وبالأيدي التي حاكتها”.

لم يقتصر الأمر على ذلك، فالسيدة الشغوفة بالتراث، عملت على دراسة المعاني الكامنة وراء أشكال التطريز المختلفة في منطقة بلاد الشام، بمساعدة عشرات المراجع، وأيضاً بالرجوع لوالدة زوجها الفلسطينية التي تمتلك خبرة كبيرة بالمشغولات اليدوية.

تشرح عن دلالة الياقة ذات الشكل المثلث والتي نرى عليها تطريزاً ملوناً يشبه السلالم، فهي النزول نحو الموت ثم الصعود مجدداً نحو الحياة، والقطبة المتصالبة التي تحتوي خطاً أفقياً هو الموت يقطعه خط عمودي يعني الحياة، والملابس التي تتضمن قطعاً قماشية متنوعة محاكة إلى جانب بعضها البعض، والهدف أن تضيع فيها الروح الشريرة فلا تقرب من ترتديها، والأشكال الثلاثية التي ترمز للولادة والحياة والموت، كما هي فصول السنة حسب التقويم الزراعي، ووجود الشكل الذي يشير للقمر ضمن المطرزات، ويجب أن يكون دوماً في المنتصف فهو المنظم الأساسي للوقت.

“لكل تصميم ورسم ولون معنى، والأمر لم يكن يوماً عشوائياً، وهذه التصاميم هي ما يعبر عن روح المنطقة وتراثها”، حسب تعبيرها، وتضيف بأنها جمعت كل هذه المعلومات ضمن كتاب ألّفته بالإنكليزية، وتعمل الآن على طباعته وأيضاً تسعى لترجمته إلى العربية.

من ألف إلى تسعة!

للأسف، جاء العام 2011، وما تبعه من أحداث عنيفة ودموية في سوريا، بمثابة ضربة قاصمة لعمل هايكة الذي هدفت من خلاله، بطريقتها الخاصة، للحفاظ على التراث السوري الذي شعرت بأنها جزء منه وبأن لها مهمة الإبقاء عليه وتطويره.

“كانت لدي أكثر من ألف عاملة في كل أرجاء سوريا عام 2010، وكنا نخطط لمشاريع نتوسع بها لعدد من القرى، خاصة تلك المهملة والتي تحتاج لتنمية حقيقية، من خلال تشغيل اليد العاملة وتشجيع تعليم القراءة والكتابة، وفي الوقت ذاته الحفاظ على روح تلك القرى وحكاياتها والأساطير الخاصة بها”، تقول هايكة، وتعرض عليّ صوراً ومقاطع فيديو قديمة تظهر فيها إلى جانب أولئك السيدات ضمن منازلهن وقراهن البعيدة: “علاقتي بهنّ لم تقتصر على العمل بل لامست الكثير من تفاصيل حياتهن، كما كنتُ حريصة على أن أوطد علاقة الزبائن بهن، وكثيراً ما كانوا يذهبون لزيارتهن والتعرف عن كثب على بيئة عيشهن وعملهن. القصة ليست مجرد بيع وشراء”.

تتابع السيدة النحيلة وهي تهز رأسها بأسى بأنها خسرت معظم العاملات بعد العام 2011، فمنهن من هاجرت أو تشردت، ومنهن من فقدت التواصل معها تماماً رغم محاولاتها الحثيثة للبحث، والكثير من المناطق التي كن يتواجدن فيها تحولت لساحات معارك، مصير بعضها لم يحسم بعد.

لم يدفع الأمر بالسيدة لليأس المطلق، ورغم صعوبة الوضع الأمني في دمشق حيث تقطن، مع سنوات من الحرب وتساقط القذائف العشوائية، وتردي حال الخدمات والبنية التحتية، تقول بأنها لم تفكر يوماً بالمغادرة أو حتى اللحاق بأولادها الثلاثة الذين فضلوا الاستقرار في أوروبا وكندا، بعد أن قضوا سنوات طفولتهم وشبابهم في سوريا.

تخبرني قبل أن أودعها بأنها ما زالت تملك الكثير من الحماس والطاقة، وتشعر بأن عليها الاستمرار بمهمتها ورسالتها في حفظ وتوثيق التراث المنسوج الذي تحب. “عدتُ للملمة أجزاء من عملي، واليوم لدي تسع عاملات في دمشق وريفها، وقد يزيد العدد قليلاً في المستقبل. أركز الآن أكثر على التعليم، ولا زلت أسعى لاكتشاف قطب وتصاميم جديدة ونقلها للأجيال الشابة كي تبقى في الذاكرة”، لكنها تضيف بأنها تخشى بأن إعادة بناء مشروعها كما كان قبل أن توقفه الحرب، هو عمل صعب للغاية اليوم. “بكل الأحوال أنا مستمرّة حتى تنفذ طاقتي. أحب سوريا بكل ما فيها، وأحب بأنني ممن ساهموا في توثيق تراثها وهويتها بطريقتي الخاصة”.

رصيف 22

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى