أبحاث

الليمبو الدنماركي/ ياسين السويحة و قاسم البصري

     أصدرتْ إحدى المحاكم الدنماركية حكماً بترحيلي إلى سوريا في يوم الرابع من نيسان الفائت كحدّ أقصى. صدر هذا الحكم بعد ثلاث جلسات، الأولى صدر فيها حكم برفض تجديد إقامتي، والثانية بترحيلي من الدنمارك نحو سوريا، والثالثة رُفض فيها تظلّمي أمام المحكمة. جميع أحكام القاضية استندت إلى كوني امرأة من مدينة صحنايا، لجأت إلى الدنمارك بسبب انعدام الأمن في سوريا، ولكن بلدتي غدت اليوم آمنة بنظر المحكمة، وبإمكاني العودة إليها والعيش والعمل دون أي تهديد على حياتي.

    بعد صدور الحكم الثالث، حاولتُ الحصول على إقامة عمل بموجب العقد الذي أعمل بموجبه، لكن صدر قرار برفض طلبي بدعوى عدم كفاية عدد الساعات المدرجة في العقد مع القوانين الناظمة لمنح إقامات العمل في الدنمارك. وبذلك كنت قد استنفدت، بحلول شهر تشرين الثاني من العام المنصرم، جميع السبل القانونية المتاحة أمامي لتجنب كابوس العودة إلى البلد التي هربتُ منها بعد أن قُتل زوجي. كان أمامي خمسة شهور تقريباً للتفكير في ما سأفعله: إما التعاون مع البوليس الدنماركي لنقلي إلى مخيم الترحيل، ريثما تسمح العلاقات الدبلوماسية بين سوريا والدنمارك بإعادتي إلى بلادي، أو التوقيع على أوراق عودة طوعية إلى سوريا عبر لبنان، أو الفرار نحو دولة أوروبية أخرى قد تستقبلني وتراعي وضعي. الخيارات جميعها صعبة، ولكني في اليوم الأخير لبقائي على نحوٍ شرعي في منزلي قررت، بناءً على نصائح من معارف وأصدقاء، ركوب حافلة متجهة نحو هولندا، مصطحبةً جميع الأوراق التي تشرح كيف أن الدنمارك تريد إرسالي إلى حتفٍ محتمل. كان الطريق أطول وأصعب من حقيقته، ومشهدٌ واحدٌ ظل يتقلّب في رأسي: أن تصعد الشرطة الدنماركية إلى الحافلة وتصحبني معها نحو مخيم الترحيل.    

    حين وصلتُ إلى الأراضي الهولندية نهاية مساء الرابع من نيسان الماضي، لم أكن أعرف إلى أي وجهة سأقصد أو أين سأنام ليلتي تلك. وقفت أبكي في الشارع، وأردد بصوت يخالطه النشيج: «يا رب». في الأثناء، كانت سيدةٌ هولندية تراقبني من نافذة بيتها، فنزلتْ للحديث معي، وقصصتُ عليها حكايتي، فاستضافتني قليلاً من الوقت في منزلها ريثما جهزت نفسها لاصطحابي إلى أحد مخيمات اللجوء القريبة. نمتُ ليلتي الأولى في المخيم، وفي الصباح أجرَوا معي مقابلة أولى، وأخبرني القائمون على المكان بأنهم سيوكلون لي محاميةً، ثم منحوني وثيقة إقامة مؤقتة لمدة عام. أخبروني بأني لو وصلتُ إليهم قبل أن أستنفد إمكانيات البقاء في الدنمارك جميعها، فما كان من الممكن استقبالي. حياتي اليوم معلقةٌ بمدة صلاحية وثيقة الإقامة المؤقتة، ولا أدري ما الذي سيحدث لي حين تنتهي».

        أميرة، سوريّة تعيش مؤقتاً في هولندا بعد أن قررت الدنمارك ترحيلها إلى سوريا «الآمنة»

* * * * *

في طقس يكاد يكون موسمياً، شغلت الدنمارك انتباه منظمات حقوق الإنسان والمهتمين بشؤون الهجرة واللجوء حول العالم خلال أشهر هذا الربيع. ففي أوائل حزيران، أقرّ تصويت برلماني تشريعاً يفتح الباب أمام عقد اتفاقيات مع دول خارج الاتحاد الأوروبي لترحيل طالبي حقّ اللجوء في الدنمارك إليها خلال فترة دراسة حالاتهم، مع إمكانية بقائهم هناك حتى لو تمت الموافقة على منحهم حقّ اللجوء. وقد تلا تمرير هذا التشريع عاصفة من الانتقادات من قبل جهات سياسية وحقوقية، في الدنمارك وضمن الإطار الأوروبي وعلى المستوى الدولي أيضاً، وسط ورود أنباء عن خطوات تجاه عقد اتفاق أول في هذا الإطار مع رواندا.

قبل قرار تلزيم طالبي اللجوء لمتعهدين مقابل مساعدات مادية بأكثر من شهر، وفي سياق محاصرة طالبي اللجوء نفسه، كانت السلطات الدنماركية قد أصدرت قراراً عدوانياً يخص اللاجئين السوريين، إذ صارت أول دولة أوربية تعتبر أن دمشق وريفها باتت مناطق آمنة، لاغيةً بذلك إقامات اللجوء الإنساني لأكثر من مئتي سوريّة وسوري كدفعة أولى، ومصْدرةً قرارات ترحيل بحقهم. وبما أن العلاقات الدبلوماسية المباشرة بين الدنمارك ونظام الأسد مقطوعة حتى الآن، فإن قرارات الترحيل هذه غير قابلة للتطبيق بعد، إلا أنها تعني تعليق حياة اللاجئين السوريين مسحوبي الإقامة، وحرمانهم من أي حقوق في العمل والدراسة أو أي ترتيبات حياتية، ووضعهم في «ليمبو» مراكز الاحتجاز قيد الترحيل – التي تشير تقارير حقوقية إلى أن «أوضاعها أسوأ من السجون»، وسبق لمجلس أوروبا أن عبّر عن «صدمته» لسوء أحوالها – ريثما يتدبرون أنفسهم ويجدون وجهة ثالثة، أو يدفعهم مزيج من اليأس بتغيّر الحال الدنماركي والاعتقاد بأنهم قد لا يكونون مطلوبين أمنياً في سوريا لإلغاء طلب لجوئهم بأنفسهم وطلب العودة الطوعية إلى بلدهم، وهو السبيل الوحيد القانوني، حالياً، الذي يسمح للدنمارك بتسفيرهم إلى سوريا.

أثار هذا القرار، بدوره، الكثير من الانتقادات السياسية والحقوقية. ولم يتوقف النقد فقط عند سوء مقاصد هذا القرار وانعدام اعتباراته الأخلاقية سياسياً وإنسانياً، بل أيضاً بسبب الطريقة التي أُقرّ بها. إذ استند القرار بشكل أساسي إلى تقرير «أوضاع بلد أصل» أصدرته خدمة الهجرة الدنماركية، التابعة لوزارة الهجرة والاندماج، عن الأوضاع في دمشق والعودة إلى سوريا بُعيد إعادة احتلال النظام للغوطة الشرقية واستكمال السيطرة على مناطق دمشق وريفها التي كانت قد خرجت عن سيطرته. وقد استند هذا التقرير إلى مجموعة من المقابلات مع محامٍ سوري مقيم في دمشق، وباحثين وناشطين حقوقيين ومنظمات إنسانية وإغاثية تعمل داخل سوريا أو تتابع أوضاعها عن كثب، بالإضافة إلى مقابلة مع «جنرال في وزارة الداخلية السورية». وفي بيان مشترك نُشر عقب تمرير قرار إلغاء إقامات مئات السوريين اللاجئين أواسط نيسان المنصرم، عبّرت الغالبية العظمى من الجهات التي تمت مقابلتها خلال إعداد هذا التقرير عن استيائها الشديد من الطريقة الملتوية التي استُخدمت فيها أجوبتهم عن الوضع الأمني وتوقُّف العمليات العسكرية بعد استكمال سيطرة النظام على المنطقة لتدعيم زعم استقرار تلك المنطقة وإمكانية إعادة اللاجئين إليها.

سارة الكيّالي، الباحثة المختصة بسوريا في قسم الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في منظمة هيومن رايتس ووتش كانت إحدى الذين استُطلعت آراؤهم خلال إعداد التقرير، وشاركت في التوقيع على البيان المشترك الذي أصدره زملاؤها وزميلاتها الذين أفادت خبراتهم في إعداد التقرير. في حوار مع الجمهورية.نت، قالت سارة: «وُضعت المقابلة معي ومع بقية الأشخاص الذين أُخذت آراؤهم خارج موقعها. وخلاصات التقرير مغايرة تماماً لخلاصاتنا. كما أن الأسئلة التي وجدناها في التقرير مختلفة عن الأسئلة التي وُجّهت لنا. لقد كانت هذه أجوبتنا، ولكن على أسئلة مختلفة عن أسئلة التقرير المنشور». وأضافت الكيّالي: «سُئلنا أسئلة تفصيلية كثيرة لها علاقة بالوضع الأمني، وعدد الحواجز، وعدد حالات العودة التي نعرفها، أو المبالغ التي يجب أن يدفعها العائدون حسب علمنا، وأضيفت إلى التقرير ضمن خانة صعوبات ومخاطر محتملة في وجه العودة. لم يُدرَج كلامنا التفصيلي عن الاعتقالات التعسفية والتعذيب، وعن كل المخاوف التي قدّمناها في متن التقرير، بل ورد في الملاحق فحسب. لكن الملفت أن سؤال تقديرنا لمدى أمان العودة إلى دمشق وريفها – أي الخلاصة الأساسية التي استُخدم التقرير في تكريسها دنماركياً – لم يُطرَح على الإطلاق». وعن انطباعها عن مدى جدّية مساعي هذا التقرير لمعرفة حقيقة الأوضاع في دمشق وريفها، تضيف: «رؤيتي مما جرى أن خدمة الهجرة، ومن خلفها الحكومة الدنماركية، كانت لديها خلاصات جاهزة، وعملت على إنتاج تقرير يدعمها، وفي هذا السياق استُخدمت المقابلات معنا بهذه الطريقة، واستُخدمت أسماؤنا كأفراد وجهات لدعم مصداقية تقرير مغلوط. الغالبية العظمى من الذين تمت مقابلتهم صرّحت برفض التقرير. فكيف يمكن أن يُستخدم تقرير مغلوط كهذا في صياغة سياسات؟».

«الجنرال في الداخلية السورية» الواردة تقييماته في التقرير ليس إلا اللواء ناجي النمير، مدير إدارة الهجرة والجوازات في وزارة الداخلية السوريّة، والذي اشتُهر بين السوريين قبل أشهر بمحاولته، خلال لقاء إذاعي مع نينار أف أم، تبرير فرض تصريف مئة دولار على القادمين السوريين عبر الحدود بسعر صرف المصرف المركزي، وبرسالته للّذين علقوا على الحدود اللبنانية بسبب منع دخولهم إلى بلدهم لعدم استيفائهم هذا الشرط المالي، ورفض الجهات اللبنانية بدورها إرجاعهم، ونصائحه لهم التي دفعت حتى جهة منحازة للنظام، مثل تلفزيون روسيا اليوم، للاستهزاء به.

حتى لحظة نشر هذه المادة، لم يُبدِ اللواء ناجي النمير أي اعتراض علني على التقرير الدنماركي.

* * * * *

    خرجتُ من سوريا في عمر التاسعة إلى مصر، مع عائلتي المكونة من والديّ وأختي وأخي، وبعد إقامة استمرت لثلاثة أعوام، قرر أبي ركوب البحر إلى الدنمارك رفقة أخي الذي كان لا يزال قاصراً حينها، على أمل أن يلتم شمل الأسرة جميعها حين تكتمل أوراقهما اللازمة لذلك في البلد الجديد. نجحوا في الوصول إلى الدنمارك عام 2014 بعد رحلة مضنية، ولكن بعد ذلك فشلت جميع محاولاتهم مع السلطات الدنماركية لاستقدامنا، فكان الخيار الوحيد الممكن أن نسلكه نحن هو ما سلكه أبي وأخي. وصلنا بالفعل، ولكن بعد رحلة لا تقل صعوبة وخطورة عما واجه نصف الأسرة الأول في الطريق من مصر إلى الدنمارك. تجمع شتاتنا في العام 2015، وحصلنا على بطاقات حماية مؤقتة لمدة سنتين بدءاً من عام 2016.

    حتى العام 2019 كانت أمورنا القانونية على ما يرام، ولكني كنت أعيش في جحيم يومي من العنصرية التي عاملني بها زملاء وزميلات في المدرسة. مردّ العنصرية التي قوبلت بها هو كوني عربية ومحجبة. كثيراً ما خرجت للعب فأعود لأجد حذائي مرمياً في مرحاض المدرسة، وكثيراً ما كانوا يرشقونني بالمياه. في إحدى المرات أخفوا جوالي داخل المدرسة مدة أسبوع. حاولت التشكي مراراً دون أن يتغير الحال، وحاولت مواجهتهم بنفس تصرفاتهم فلم أفلح. كرهت ساعات اليوم الثقيلة في المدرسة، وانتقلت بين مدارس عديدة أملاً في مناخ أفضل، وتغيبت شهوراً عن الدوام نتيجة الضغوط النفسية التي عشتها طوال تلك الفترة. حين وصلت إلى الصف التاسع، ومنذ شهر أيلول من العام الفائت، قررتْ بلدية المنطقة التي أعيش فيها أنه لم يعد بوسعي الذهاب مجدداً إلى المدرسة، لأن السلطات الدنماركية، ومن دون ذكر الأسباب، لم تجدد إقامتي، علماً أني من دون إقامة منذ أكثر من عامين.

        هبة، شابة سورية مهددة بالترحيل من الدنمارك

* * * * *

طوال العقود الأخيرة، شغلت الدنمارك موقعاً متقدماً في توجّهات وضع مسائل الهجرة و«الاندماج» في قلب النقاش السياسي الداخلي في العالم الغربي. والمهاجِر المُناقَش هو ابن الدول والقارات الأفقر، أو الأسمر أو الأسود، أو المسلم، ولا يتوقف النقاش عند الجانب العنصري المتعلق بالعِرق والدين والثقافة ومدى إمكانية «اندماجهم» في المجتمع الدنماركي، بل يمتد أيضاً إلى أن غالبية هؤلاء فقراء، وسيعملون في مهنٍ دنيا، وسيبقون وعائلاتهم متلقّين صافين للمعونات والامتيازات الاجتماعية حتى لو عملوا ودفعوا الضرائب. ديته إنغمان هانسن، مستشارة سياسات مناهضة اللامساواة والتمييز في الفرع الدنماركي من مؤسسة آكشن إيد الدولية، شرحت في حوارها مع الجمهورية.نت مناهضة المهاجرين الفقراء واللاجئين بناءً على هذا النوع من وطنية دولة الرفاه الحمائية: «دولة الرفاه الاجتماعي هي جزء من هوية الدنمارك، وهي منبع فخر وطني. اقتصاد متين وآليات تكافل اجتماعي تضمن توزيعاً للمزايا الاجتماعية يجول السياسيون الدنماركيون حول العالم لشرحها. وخطاب مناهضة هجرة الفقراء بوصفها خطراً على نظام الرفاه الاجتماعي ليس جديداً، وقد بدأ قبل سنوات في أوساط اليمين، قبل أن تتبناه الاشتراكية الديمقراطية الأوروبية في سباقها السياسي مع اليمين والليبراليين إثر إثبات نجاعة هذا المنطق انتخابياً». في هذا السياق، يمكن وضع أنباء من العقد الأخير، مثل تشريع قاسٍ وتمييزي لضمان عدم تجاوز عدد السكان «غير الغربيين» في أحياء المساكن الاجتماعية أكثر من 30 بالمئة عام 2012؛ أو مشروع لعزل مهاجرين اقترفوا جرائم ولا يمكن إعادتهم إلى بلدهم الأصل في جزيرة نائية؛ أو مدى ارتياح المسؤولين الدنماركيين في التعبير عن سياساتهم ومواقفهم المعادية للمهاجرين، مثل الضجة التي أثارتها إنغر ستويبرغ، وزيرة الهجرة والاندماج السابقة، عندما نشرت على فيسبوك صورةً لها وهي تعرض قالب كاتو عليه رقم 50 – احتفالاً بالتعديل التشديدي رقم 50 على قوانين الهجرة خلال عهدها كوزيرة هجرة. بقيت ستويبرغ في منصب وزارة الهجرة والاندماج لأربع سنوات، لكن صورة قالب الكاتو الاحتفالية هذه أتت بعد أقل من سنتين من توليها المنصب.

وفيما يخص موقع اللاجئين في هذا الخطاب، تشرح إنغمان هانسن: «وسط هذا الخطاب المناهض للمهاجرين الفقراء، بوصفهم عوامل خسارة في ميزان ما يساهمون به مقابل ما يتلقونه من نظام الرفاه الاجتماعي، يُقدَّم اللاجئون كخسارة صرفة، إذ يُقال أن على الدولة أن تُنفق عليهم الكثير من المال خلال وقت طويل، وأن جزءاً كبيراً منهم لن يكون قادراً على دخول سوق العمل باقتدار».

«اللجوء يُقرأ في أوساط كبيرة من السياسة الدنماركية كثغرة قانونية تسمح بدخول مهاجرين جدد إلى الدنمارك»، يشير مصدر خبير بشؤون السياسة الخارجية الدنماركية، فضّل عدم نشر هويته. ويضيف الخبير: «بالنسبة لهذا المنطق الدارج، تكمن مسؤولية الدنمارك الإنسانية في أن تكون سخيّة في دعمها المادي لدول جوار البلدان التي تعاني من حروب وكوارث، أو في دعم استقرار هذه البلدان بعدئذ، وليس أن يأتي اللاجئون إلى هنا ويستقروا. هذا يُعتبر استغلالاً لنظام فيه ثغرات. لندعم هؤلاء الناس في بلدهم أو في دول جوار بلدهم، ولكن يجب ألا يكون مجيئهم إلى هنا جذاباً، فهذا خطير للدنمارك، ويدعم شبكات التهريب والمتاجرة بالبشر. نريد مساعدتهم، ولكن ليس على حساب بلدنا. هذا ما يُقال للناخبين».

وقد تصاعد هذا السجال بقوّة خلال عام 2015، وكمثال صالح على عمقه، تُستذكر التصريحات القاسية لرئيس الحكومة الدنماركية آنذاك، لارس روكه راسموسن، نهاية ذلك العام عن ضرورة إعادة النظر باتفاقية جنيف لحقوق اللاجئين، رغم أن بلده الدنمارك أول دولة وقّعت على هذه الاتفاقية عام 1951. عن عام 2015، تقول إنغمان هانسن: «سنة 2015، مع موجة اللجوء الأكبر وصور الناس يمشون على الطرقات وسكك الحديد في أوروبا، شكّلت نقطة انعطاف واستقطاب في هذا السجال السياسي، بين من تمسّك بالمسؤولية الإنسانية وضرورة مساعدة اللاجئين، وبين من استثمر في مشاهد هذه الأعداد الكبيرة ليقول أن هذا كثير، وهذه الأعداد لا يمكن استيعابها وإدماجها، ويجب حماية الدنمارك ووضع حد لسياسات الاستقبال».

من أجواء تصاعد موجة مناهضة اللاجئين بعد 2015، نستذكر عناوين مثل مشاريع قوانين لمصادرة أموال ومجوهرات اللاجئين التي تزيد عن حدّ أدنى معين واستخدامها لتمويل إيوائهم (2016)؛ أو التصريحات الصريحة لرئيسة الوزراء الحالية، الاشتراكية-الديمقراطية ميتيه فردريكسن، عن أن هدف حكومتها هو جعل عدّاد طلبات اللجوء «صفر» مطلع هذا العام؛ أو إجراءات الشهرين الأخيرين. لكن «التحول الباراديغماتي» – كما تقول ورقة تفصيلية مشتركة لنيكولاس فيث تان، الباحث الرئيسي في المعهد الدنماركي لحقوق الإنسان؛ وينس فيدستد هانسن، الأستاذ المتخصص في حقوق الإنسان والهجرة في جامعة آرهاوس – كان في تعديلات قانون اللجوء الدنماركي خلال عام 2015 وإدخال البند الثالث على المادة السابعة منه (الـ7.3 المعروفة في أوساط اللاجئين في الدنمارك). تتفق ديته إنغمان هانسن مع إشارة الباحثين حول هذا التحوّل العميق، وتشرح: «التعديل المُدخَل عام 2015 عنى تحويلاً لباراديغم اللجوء من الاستقرار والاندماج نحو نوع الحماية المؤقتة، مركّزاً على مؤقتيتها بشكل كبير، ويتم تجديدها كل عام، وبدت مفصّلة خصيصاً لموجات اللجوء السوري. عدا ذلك، أدخل هذا التعديل تثقيلاً لتقدير خدمة الهجرة لظروف البلد الأصل على حساب خصوصيات الحالة الشخصية لطالب اللجوء. ومن المهم أن نرى كيف أدخل هذا التعديل تحوّلات في لغة التشريع أدّت إلى أن نهاية حالة الحماية الإنسانية لم تعد مرتبطة بتحقق الاستقرار والأمن في بلد الأصل. بل أدخلت إمكانية أن تنتهي حالة الحماية بناءً على أي تغيير نوعي في أوضاع البلد، بغض النظر عن الاستقرار والأمن العامّين كما كان في السابق». وتضيف: «مع الوقت، اقتنعتُ أنهم شرّعوا بهذا الشكل لأنهم كانوا يترقبون حينها سقوط بشار الأسد، أو اضطراره للتنحي أو الدخول في عملية سياسية جدّية كي يستخدموها كـ’تغيّر نوعي في الأوضاع‘ ولإعادة اللاجئين السوريين بسرعة».

القرار الأخير، برأي إنغمان هانسن، هو النتيجة النموذجية للتعديلات القانونية التي أُجريت عام 2015: توقّف العمليات العسكرية في دمشق وريفها بعد إعادة احتلالها هو «تغيّر نوعي» في الأوضاع، بغض النظر عن أمان هذه الأوضاع واستقرارها، وهو ما يُنتَج عنه تقرير – كما رأينا قبلاً – وتُبنى سياسات حوله. «تُسوَّغ هذه الإجراءات أحياناً باستغلال مخالفة بعض اللاجئين السوريين شروط لجوئهم وزيارة بلدهم خلسة. وكأن مخالفة البعض تُبرر عقاباً جماعياً للكل. لكن الحجّة الأساسية هي في أن البعض يقبل العودة الطوعية بعد دفعه إلى ليمبو مخيمات الترحيل، طالما أن الإعادة القسرية إلى سوريا غير ممكنة بعد. الهدف هنا مزدوج: التخلص من الموجودين عبر خنقهم إلى أن يقبلوا بالعودة الطوعية، وإرسال رسالة واضحة وساطعة: لا تفكروا بالمجيء إلى الدنمارك».

* * * * *

    بقينا دون وثائق إقامة سارية المفعول لأكثر من عامين، ولم نحصل على إجابات من السلطات الدنماركية بخصوص أسباب التأخير على الرغم من سؤالنا المتكرر. انتظرت السلطات الدنماركية إلى أن تصل ابنتي هبة إلى سن الثامنة عشرة حتى تستدعينا لمقابلة جديدة. كانت الهدف من المماطلة في تجديد أوراقنا هو ألا يكون في ملفي أنا وزوجي طفلة قاصرة. في شهر آذار 2021 استلمنا بريداً يُعلمنا بعدم إمكانية تجديد إقامتنا في الدنمارك، ثم قررت قاضية بوجوب ترحيلنا إلى سوريا. لم يشمل القرار جميع أفراد العائلة، فقد اعتبروا أن ولدي الذكر مهدد بالتجنيد في حال عودته، وأن ابنتي الكبرى تعيش مع طفل صغير بعد أن انفصلت عن زوجها، ومن غير الممكن ترحيلها. أما أنا وزوجي المريض وهبة، فلا بأس في ترحيلنا.

    بنت القاضية قرار الترحيل على ما اعتبرته تضارباً بين أقوالي وأقوال زوجي. قلت في أول مقابلة أجريناها في الدنمارك إن ثلاثةً من أبناء أشقاء زوجي قد قتلهم نظام الأسد، في حين أن رابعاً ما يزال مغيباً منذ العام 2013 دون أن نعلم شيئاً عن مصيره. أما زوجي، فقد قال إن الأربعة قد قُتلوا. تناقشت معه كثيراً بعد ذلك حول هذا التفصيل وعن السبب الذي دفعه للقول إن ابن أخيه المُغيَّب قد مات. يقول زوجي إنه لو كان حياً لعرفنا شيئاً عنه خلال السنوات الماضية. ربما لا تدري القاضية شيئاً عن ملف عشرات ألوف المغيبين قسراً في سوريا! قالت القاضية أيضاً إننا كنا نعيش في مخيم اليرموك بدمشق، وهو اليوم آمن، وإن العودة إلى سوريا لأشخاص في مثل عمرنا لا تشتمل على أي تهديد! أما بخصوص هبة، فلا شيء واضحاً بخصوص سبب ترحيلها سوى أنها ابنتنا. نحن اليوم بانتظار موعد التظلم أمام المحكمة، وأتمنى ألا نصل إلى السيناريو المخيف الذي وصل إليه سوريون آخرون حكمت المحكمة بترحيلهم إلى سوريا بشكل نهائي.

     ولكن في قلب ذلك كله، يسكننا الخوف من القرارات المتتالية في هذا البلد، والتي يُلحّ واضعوها على منعنا من العيش باستقرار، ومن تحسس قلوبنا خوفاً مع إشراقة كل شمس. أطلب منك عدم ذكر اسمي الصريح، لأني أخشى عواقب ذلك في دولة قصدتها هرباً من دولة الصمت والخوف السورية. نحن هنا لسنا بخير، عاشت هبة أقسى أيام حياتها نتيجة العنصرية التي خبرتها في هذه البلاد، ونعيش اليوم أوقاتاً عصيبة إلى أن يتقرر مصيرنا بشكل نهائي. نعرف جيداً أننا نعيش وسط محيط لا يريدنا بجواره، لا اليوم ولا في أي يوم. حتى لو بقينا هنا، فلن نشعر يوماً بالأمان أو الاستقرار. هذا ما عرفناه جيداً من تجربة السنوات الماضية في هذه البلاد.

        والدة هبة

* * * * *

«المنحى الحالي بالغ السوء على مستوى بناء السياسات. أولاً لأنه مبني على وقائع مغلوطة تُقدّم على شكل تقارير خادعة؛ والثاني لأنه سيء على المستوى الإنساني والأخلاقي؛ وثالثاً لأنه يضع الدنمارك في موقع سيء للغاية على مستوى السياسة الخارجية، ويُظهرها بشكل رديء أمام حلفائها وشركائها السياسيين والاقتصاديين»، يقول المصدر الخبير بالسياسة الخارجية الدنماركية، ويضيف: «لكن الأسوأ، وهنا أتحدث عن سوريا خصوصاً، أن الدنمارك تساهم بشكل شنيع في جعل ترحيل سوريين إلى سوريا أو فتح علاقات مع بشار الأسد، حتى لو لم يفعلوها بعد، مسائل قابلة للوضع على طاولة النقاش، وبشكل مبتذل».

هل يمكن توقّع انفتاح دبلوماسي دنماركي منفرد مع نظام الأسد لتمكين الإعادة القسرية للاجئين؟

يجيب المصدر: «لا أعتقد أن الدنمارك بوارد القيام بهكذا فعل منفرد، فهذا يضعها في مواجهة مباشرة مع حلفائها الأوثق، وهي الآن أصلاً في حالة سجال معهم بخصوص سياساتها السورية. لن تبادر وحدها، لكن لا شك أنها تراقب الوضع وتجهز نفسها لتكون التالية بعد دفعة أولى من الدول المُطبِّعة، ليس فقط ضمن الأسرة الأوروبية مثل هنغاريا والتشيك أو غيرها، فمن المعروف أن تحركات الإمارات العام الماضي أثارت اهتماماً لرصد ردّة فعل الأميركيين، وجاء رد الفعل الأميركي بالتذكير بتبعات فتح علاقات اقتصادية مع النظام حينها وفُهم بشكل واضح». تتفق ديته إنغمان هانسن أن سياسات الدنمارك السورية داخلية المنبع، تخص هواجس اللجوء؛ وأن كابح استفحالها خارجي بشكل أساسي، وتضيف: «عَمَلُنا لمناهضة هذه السياسات لا يحاول فقط الاستثمار في مواقف الدول الحليفة، خصوصاً الولايات المتحدة، بل نحاول التنسيق معها واستجلاب مزيد من الضغط على الدنمارك».

وهل من سبيل داخلي دنماركي سياسي غير المناصرة الحقوقية البحتة واستجلاب الضغط الدولي؟ لا تخفي إنغمان هانسن يأسها من إمكانية تغيير قناعات قيادة الحزب الاشتراكي الديمقراطي الحاكم، «فهم مقتنعون للغاية بأن هذه السياسة ناجعة، وقادرة على سدّ هواجس شطر كبير من الرأي العام الدنماركي، ومربحة انتخابياً»، لكنها تؤكد أن ثمة خيارات سياسية متاحة على المستوى المحلي، خصوصاً في سياق النشاط السياسي في البلديات، وحتى داخل الحزب الحاكم نفسه. وتقول:«الانتخابات البلدية المقبلة ستكون فرصة كبيرة لتعميق السجال حول هذه المسألة، واستثمار قلق قطاعات كثيرة من منحى الدنمارك في سياسات اللجوء وآثاره. نعمل على تنسيق الجهود من أجل الوصول بحملات وجهود تنسيق وتشبيك متينة بين أوساط حقوقية وسياسية لا تريد للدنمارك أن تكون هكذا».

موقع الجمهورية

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى