في سوريا… إصفع القاضي ثم اعتذر!/ مرام أحمد

03.06.2025
يَذكر حسكل في شهادته أن الاعتداء الجسدي عليه تواصل بشكل مبرّح داخل أروقة القسم وعلى الأدراج، حيث تعرّض للضرب بالأيدي والعصي البلاستيكية، ما أسفر عن إصابات في الرأس وكدمات متفرقة في أنحاء جسده. وقد احتُجز لاحقاً في غرفة انفرادية.
“أنت قليل أدب”.
بهذه العبارة توجه عبيدة الطحان، رئيس قسم الأمن العام في حي الصالحين، الى قاضي التحقيق أحمد حسكل على الملأ قبل أن يصفعه. حادثة امتدت تردداتها لأيام عدة، إذ لم ينته الأمر بالصفعة، التي ردّها حسكل للطحان.
هاج الجمع وماج، وضُرب حسكل وأهين واقتيد إلى سيارة الدوريّة بينما يهتف الجمع “شبيح…شبيح”. في بيان نشر ضمن مجموعة “نادي قضاة سوريا”، وتداوله لاحقاً عدد من القانونيين والصحافيين والناشطين، أوضح القاضي أحمد حسكل أن سجالاً حاداً دار بينه وبين المقدم الطحّان، الذي رفض تنفيذ توجيه قضائي يقضي بنقل جثة في إحدى القضايا التي يحقق فيها إلى الطبابة الشرعيّة وفتح الضبط هناك، ليتحوّل السجال إلى اعتداء جسدي وشتائم. وقد تعرّض حسكل للاعتداء على رغم إبراز هويته وصفته الرسمية، في حين يُفترض أن يُعامل فيه القاضي كممثل للسلطة العليا في الدولة.
صُفع القاضي حسكل لأنه “قليل أدب” بحسب ضابط الأمن العام.
هكذا تدار الأمور ربما في سوريا اليوم. إذ شهدنا تسجيلات موثّقة لعناصر من الأمن العام يصفعون ويهينون معتقلين، ويحلقون شعر “ملطشي البنات”وشواربهم، في مشاهد تُجسّد صعود نمط سلطوي هجين تذوب فيه الحدود بين الدولة والميليشيات المسلّحة.
ما حصل لم يكن مجرد تجاوز فردي، بل كان استعراضاً فجّاً للسلطة الأمنية، تُرافقه سطوة “المجاهد” ـ كما وصفه مُحبّو عبيدة الطحان ـ في مشهد يضع هذه المرجعيات فوق سلطة القضاء والإجراءات القانونية، ويكشف عن توازن مختلّ تُقاد فيه الدولة بمنطق العقيدة والرصيد الثوري.
الضرب والتهديد في سبيل الصمت
يَذكر حسكل في شهادته أن الاعتداء الجسدي عليه تواصل بشكل مبرّح داخل أروقة القسم وعلى الأدراج، حيث تعرّض للضرب بالأيدي والعصي البلاستيكية، ما أسفر عن إصابات في الرأس وكدمات متفرقة في أنحاء جسده. وقد احتُجز لاحقاً في غرفة انفرادية.
وفي صباح اليوم التالي، اعتُدي عليه مجدداً من رئيس القسم نفسه، الذي لم يكتفِ بالضرب بل هدّده صراحةً بالقتل في حال عاد لممارسة مهامه، أو في حال تقدم بأي شكوى، أو حتى إذا تطرّق رفاقه القضاة الى الموضوع عبر وسائل التواصل الاجتماعي، كونه ينفذ خطة “لتصفية قضاة النظام السابق” على حد تعبيره.
وأشار حسكل إلى أن المحامي العام في حلب وقاضي التحقيق الأول حضرا لاحقاً إلى القسم، إلا أنه تعرّض لتعنيف جديد أثناء إخراجه لمقابلتهما، في محاولة لمنعه من الإدلاء بأي تفصيل عما حصل. وأضاف أنه توجّه بعد 24 ساعة من الاحتجاز، إلى القصر العدلي، حيث تفاجأ رئيس العدلية بوضعه، وأبلغ وزير العدل بالواقعة.
وصف الحادثة على لسان حسكل لا يكشف فقط عن سلطة مسلح ذي منصب رسميّ قرر صفع قاض من دون أن يحاسب، بل أيضاً عن تفكيك علني لرمزية القضاء السوري ذاته. قسم بكامله متواطئ وشاهد على ما تعرض له حسكل، الذي تحول من “قليل تهذيب” إلى هدف للتصفية كونه من “قضاة النظام السابق”.
القضية تحولت من اعتداء من رئيس قسم شرطة على قاض، إلى رئيس قسم شرطة يمارس “العدالة الانتقالية” بكفّه.
اعتصام واعتصام مضاد
تحوّلت الحادثة إلى قضية رأي عام داخل المؤسسة القضائيّة، فصباح الاثنين 26 أيار/ مايو، أُعلن تعليق العمل في قصر العدل بحلب، وشارك القضاة والمحامون في اعتصام رمزي داخل المبنى، احتجاجاً على “إهانة القضاء” وللمطالبة بمحاسبة الجاني واحترام سيادة القانون.
طالب قانونيّون باستقلالية القضاء وتطبيق القانون على “كل معتدٍ مهما كانت رتبته”، غير أن قوات الأمن العام تدخلت وأمرت بفض الاعتصام، وأبلغت المشاركين من قضاة ومحامين بضرورة إنهاء الاعتصام والعودة إلى أعمالهم، كما مُنع معظم الصحافيين من تغطية الاعتصام.
في اليوم ذاته، أصدرت وزارة العدل السورية بياناً أكدت فيه توقيف المقدم عبيدة الطحان وفتح تحقيق قضائي في حادثة الاعتداء، مشددة على أن “هيبة القضاء فوق الجميع”. كما نفى البيان صلة القاضي أحمد حسكل بمحاكم الإرهاب الملغاة، في رد مباشر على ما تم تداوله عبر وسائل التواصل. غير أن لغة البيان بدت أقرب إلى محاولة امتصاص الغضب المتصاعد ضمن الأوساط القضائية والرأي العام، بخاصة في ظل تداول أنباء عن تدخل وساطات أمنية ومحاولات لإغلاق الملف ضمن تسوية داخلية تُعيد إنتاج ثقافة الإفلات من المحاسبة.
في المقابل، أصدرت عشيرة الطحّان بياناً أعربت فيه عن استنكارها لتوقيف عبيدة الطحان، واصفة إياه بـ”الثائر الحر”، ومعتبرة أن ما حصل هو نتيجة استهداف من قاضٍ مرتبط بـ”النظام البائد”. وطالبت بالإفراج الفوري عنه وردّ اعتباره، في موقف يضيف بُعداً عشائرياً إلى القضية، بخاصة وأن العشيرة المذكورة من العشائر الكبيرة والفاعلة في مختلف المحافظات السوريّة، منها حلب .
بتبنّيهم خطاب “الثائر الحرّ”، لم يعد أنصار “أبو مجاهد” وعشيرته يدافعون عن شخصه فحسب، بل يعلنون عبر استعراض مقصود لتبدّل ميزان القوى، أن القانون يُعلّق حين يكون رصيد المعتدي النضالي كافياً.
الاعتراف ثم “القصاص أو التعويض”
لم تمضِ 48 ساعة حتى تناقلت الصفحات مقاطع مصوّرة من واقعة الإفراج عن المقدم الطحان وعودته إلى قسمه محمولاً على الأكتاف، عقب ما قيل إنه “صلح” تم التوصل إليه داخل دار التوقيف، من دون صدور أي توضيح رسمي من الجهات المعنية. خلّف الخبر حالة من الإحباط العميق في الشارع السوري، وأشعل موجة غضب جديدة على منصات التواصل الاجتماعي، بخاصة مع ظهور مقاطع فيديو للمقدم الطحان، أحدها يعترف فيه بضرب القاضي وأنه لا يذكر عدد الضربات الذي وجهها له، كما أنه لجأ الى “الشرع”، إذ سأل القاضي رئيس القسم عن “الحكم الشرعي” لمثل هذه الحالة، فأجابه رئيس القسم “القصاص” أو”التعويض”.
وفي مقطع فيديو آخر، صرّح بأن المؤسسة القضائية “ملك للشعب”، وأن من قدّم مليون شهيد لن يقبل أن يظلّ “الفاسدون” في مناصبهم. ولاحقاً، اختار القاضي التنازل عن حقه، ما يعكس انتقالاً مريباً من سلطة القانون إلى سلطة يطغى عليها منطق غلبة الأقوى و”تبويس الشوارب”، والتي تبدو في ظاهرها رسمية، لكنها خاضعة فعلياً لمنظومة موازية ذات طابع ديني–فصائلي .
وتزامن الإفراج عن الطحان مع خروج مجموعة من الداعمين له في وقفة أمام قسم شرطة الصالحين، متهمين القاضي بـ”التطاول على الضابط الأمني”، العبارة التي تثير القشعريرة حين تقال في سوريا. كما اعتبر بعض المشاركين أن توقيف الطحان بحد ذاته إهانة، لكونه “أخاً مجاهداً” و أنه كان “أحد الثوّار خلال سنين الثورة”، مشيرين إلى أن سلوكه تجاه القاضي جاء كرد فعل على “لهجة متعالية” تحدث بها حسكل مع العناصر.
تحركت بوجه القاضي/الضحية قوى عدة متحالفة في تقويض فكرة العدالة، سطوة “المجاهد” المفوّض بالتأديب، والمؤسسة الشرطية/الأمنية، والحشود الغاضبة التي تصب غضبها في قالب “التشبيح” الجاهز، وذراع العشيرة التي أصدرت بياناً تعرب فيه عن “قلقها”، وهنا السؤال: من يمكن أن يقف بوجه قوى السلاح والعقيدة والعشيرة والثورة ليطالب بـ”حقه”؟
تداعيات الحادثة
وسط هذا الانقسام، أصدر مجلس فرع نقابة المحامين المؤقت قراراً بتجميد عضوية 64 محامياً وإحالتهم إلى التحقيق بتهم تتعلق بمخالفات مهنية و”الولاء للنظام السابق”، وهو ما أثار تساؤلات واسعة حول توقيت القرار وشرعيته، بخاصة أنه جاء بعد ساعات من اعتصام القضاة والمحامين احتجاجاً على الاعتداء على القاضي أحمد حسكل، ما اعتُبر محاولة لصرف الأنظار عن الانتهاك الرئيسي المتعلق بحرية القضاء واستقلاله.
كما شكّل فرع نقابة المحامين بدمشق لجنة مؤلفة من سبعة محامين للتحقيق في شكاوى تتعلق بمخالفات ارتُكبت خلال فترة الثورة، تشمل الاعتقال والتعذيب والانتهاك بحق المحامين والمواطنين. وذلك درءاً لأي تجاوزات وحمايةً لهيبة المهنة ومقتضيات العدالة الانتقالية. لاحقاً، اعتذر أحد أعضاء اللجنة خشية أن تتحوّل مشاركته – بحكم تجربته الشخصيّة في الاعتقال والتعذيب في عهد النظام البائد- من عدالة انتقاليّة إلى عدالة “انتقاميّة”.
بينما صدر قرار عن فرع نقابة المحامين بريف دمشق، نص على إحالة جميع المحامين الذين أدوا خدمتهم العسكريّة أو الأمنية ضمن أجهزة النظام السابق إلى لجنة تحقيق، وذلك بهدف مراجعة قانونيّة استمرار عضويتهم في النقابة، مع فرض استيفاء مبلغ وقدره 10 في المئة من قيمة بدل الخدمة الإلزامية لكل محامي سبق أن دفع البدل، مع منحهم مهلة مدتها شهران لتسوية أوضاعهم.
فرض “جزية” على من اختاروا النجاة، ومعاملتهم كممولين مباشرين للنظام مع تجاهل السياقات المعقّدة التي دفعتهم لذلك، يُفرغ العدالة من مضمونها الحقيقي، ويستبدلها بمنطق الجباية والترضية، في محاولات متخبطة لامتصاص الغضب الشعبي وإجراءات شكليّة لا تداوي الانقسام، بل تعمّقه.
تعيد هذه الحادثة التساؤلات حول مدى استقلال السلطة القضائية في سوريا المضمون بالإعلان الدستوري، في ظل نفوذ أمني يتجاوز القانون ويقوّض مبدأ الفصل بين السلطات. فعلى رغم بيانات الإدانة الرسمية، فإن إطلاق سراح المعتدي، وتحوّل القضية إلى شبه اتهام للقاضي نفسه، يكشفان هشاشة المؤسسات أمام النفوذ الأمني.
حتى لحظة إعداد هذا التقرير، لم يظهر القاضي أحمد حسكل علناً. في المقابل، تشير مصادر محلية إلى أن المقدم عبيدة الطحّان عاد إلى مكتبه واستأنف عمله بشكل طبيعي. وفي خطوة تبدو أقرب إلى الاعتراف بعجز الدولة عن حماية أهم رموز سلطتها، طالب رئيس النيابة العامة بدمشق، محمد خربوطلي، بضمان الحماية الكاملة للقضاة أثناء أداء مهامهم، كخطوة أولى لاستعادة “الثقة” بالمنظومة العدلية.
درج