محمد جابر: “أمير الحرب” ورجل بشّار الأسد وضيف طوني خليفة!/ نوار جبّور

18.04.2025
كانت لمحمد جابر هوّية تقمّصية طوال سنوات، لكنها بقيت غائرة، كان يمارس دور السلطة من دون أن يشبع منها؛ المواكب الأمنية والتسلّط، ظلّت مكتومة. الرمز الأسدي الأكبر كانوا يخشونه، لكنهم أدّوا أدوارهم باتّفاق ضمني: الإجرام ما دون الدولة أسهل، وأكثر انسيابية.
لم يكن ظهور محمد جابر مفاجئاً لنا فقط، بل كان مدهشاً، أن نشاهد “أميراً”من أمراء الحرب في سوريا في موسكو، يحاول أن يشرح لمنصّة “المشهد ” دوره في حركة التمرّد الأخيرة التي جرت في الساحل السوري. الإدهاش لم يكن في الاستماع إليه، بل في أننا بتنا نشاهد أحد قادة ميليشيات النظام السوري المخلوع يكشف عن هوّيته بوضوح، أمام رامي عبد الرحمن، الذي اتّهمه بالمسؤولية عن العمليّة التي استهدفت قوى الأمن العامّ.
المقابلة هي من المرّات النادرة التي نستمع فيها إلى أحد رجالات النظام الذي طالما أخفى أدواته، وحاول إظهار وجهه الأداتي الرسمي، بدلاً من ميليشياته الطائفية، التي لطالما حاول السوريون تحديد هوّية قادتها وأدوارهم وارتباطاتهم، ومحاولة توثيق الجرائم التي ارتكبوها، والتي في حالة جابر، يكفي كتابة اسمه حتى تظهر صورته حاملاً رأساً مقطوعاً، صورة مناقضة لصورته الأشهر جالساً، ممتلئاً، على كنبة بزيّه العسكري، محاكياً الصورة النمطية لرجال العصابات الروس.
أمير حرب بلا بيعة!
نحن أمام رجل من آل جابر، الذين تربطهم علاقة عائلية ببيت الأسد. أيمن وجابر، الأخوان، كانا سبّاقين في السيطرة على الساحل، حلم قديم عاشوه بتدرّج وانتظار، حتى تسلّما زمام تشكيلات ما دون الدولة في سوريا. ومنذ العام 2011، أسّسا مجموعات أمنية كبيرة، كانت تبرز كشكل أوّلي لما يمكن تسميته بميليشيات ما دون الدولة.
هذه الميليشيات استولت على الحواجز، واحتلّت مواقع داخل اللاذقية، وأشرفت على شبكات التهريب؛ في منافسة صريحة مع عائلة الأسد. وكانت بنيتها العسكرية قائمة على شُبان وعلى وبعض المتقاعدين من الضبّاط والعمداء، هؤلاء جرّوا المجتمع العلوي في أتون معركة لم تتوقف، ما إن تجاوزنا منتصف العام 2012.
ما زال اسم محمد جابر في الساحل وفي كثير من المناطق السورية يُثير الذعر. “صقور الصحراء”، وميليشيا “الأخ الأقدم” و”مغاوير الساحل”، وأسماء أخرى وُلدت في اللحظة التي بدأ فيها النظام بتفكيك عنفه المركزي، وراح يمارس عنفاً متشظّياً يعطّل المجال العامّ، ويفكّك الدولة ليُعاد تشكيلها عبر وكلاء يمارسون السلطة باسمه، لا من خلاله.
بدأت كلّ ميليشيا تنسّق مع دولة خارجية مؤثّرة في سوريا، فكان محمد وأيمن أقرب إلى روسيا، من قربهم من إيران، وعملوا خلال تأسيس الميليشيا على أبعاد أمنية مُرخصّة، ثم انتقلوا إلى حماية المنشآت النفطية والقيام بعمليّات عسكرية.
تحدّث محمد جابر بثقة عن نفسه، وبطريقة تجسّدت فيها السلطة عبر الأداء والسطوة المزعومة، فالسلطة لا تُمارَس فقط من خلال القانون أو المؤسّسة، بل من خلال نبرة الحديث، الثقة، طريقة الجلوس، ولغة الجسد. بدا حازماً، يوزّع الاستحقاقات بلغة مشبعة بالقوة، فكافأ طوني خليفة، وامتدح المرصد السوري لحقوق الإنسان، الذي يملك آلاف التقارير ضدّ ميليشياته نفسها.
قدّم محمد جابر نفسه كمتحدّث باسم الطائفة والنظام البائد، كمن يملك الحقّ في الدفاع عن العلويين وتفسير عنفهم. تحدّث عن آلامهم محاولاً الاستحواذ على الخطاب، إذ نسب إلى نفسه سلطة الحديث باسم جماعة لم تُفوّضه، وكان هدفه غسل يده من دم السوريين، وغسلها من دم العلويين أيضاً، وكأنّه فعل ما فعل من أجلهم! وبهذا أصبح خطابه، أسلوباً أدائياً وأيديولوجيا لغوية، تهدف إلى صناعة الهيمنة وإعادة إنتاج المعنى والفعل السياسي خارج شروط المحاسبة، داخل لغة مملوكة مسبقاً، موجّهة ضدّ الذاكرة نفسها،أو على الأقلّ، إعادة تقديم الانتهاكات والجرائم المتّهم بها.
كانت لمحمد جابر هوّية تقمّصية طوال سنوات، لكنها بقيت غائرة، كان يمارس دور السلطة من دون أن يشبع منها؛ المواكب الأمنية والتسلّط، ظلّت مكتومة. الرمز الأسدي الأكبر كانوا يخشونه، لكنهم أدّوا أدوارهم باتّفاق ضمني: الإجرام ما دون الدولة أسهل، وأكثر انسيابية.
وتجلّت هذه الهوّية التقمّصية بصيغة هجينة، فقد كان يقلّد سلطة الأسد، ويتمثّل رمزيته القمعية، لكنه في الوقت ذاته يمارس سلطة مستقلّة، ويجني أرباحاً تُبعد عن النظام وتُخزَّن لحسابه الخاصّ. هذه الهوّية جعلته يبدو داخل السلطة وخارجها في آن واحد، مخلصاً للولاء الأسدي بالظاهر، لكنه متفلّت منه في العمق، يلعب على حدود الطاعة والتمرّد، في هامش سمح له بأن يكون ظلاً للسلطة، لا شريكاً فيها.
كان بشّار الأسد يشترط عليهم أن يظلّوا مختفين، يُديرهم بقلق، موزعاً الميليشيات ومغذّياً بينها الشكّ، كي لا تملك أي واحدة منها السيادة على الأخرى، أو على الوطن بأسره. كانت أدواته، مثل المطرقة، لا تُرى إلا حين تنكسر.
لكن متى تحدّث محمد جابر؟ تحدّث حين سقط النظام سياسياً، وخرج ليدافع عن شيء واحد فقط: العلويين. لم يتحدّث عن سوريا، ولا عن أي تجلٍّ ممكن لوطنية. ما أثار غضبه كان أن السلطة الجديدة استولت على أمواله. ففي سوريا “الملكية الخاصّة”، كحقّ أبدي، غير خاضعة للمساءلة. لم يمتلك طوني خليفة الجرأة ليسأله: من أين لك هذا المال؟ أو: بأي حقّ قاتلت وادّعيت التمثيل؟
تحدّث كمن يملك “كلّ شيء”، ادّعى أدواراً خرافية، مثل تحرير حلب من أيدي “النصرة”، لكنه كان يتحدّث من موسكو، بينما العلويون يحاولون بناء سردية وطنية تسمح لهم بالانتماء إلى ما يتجاوز الطائفة، وهو يدّعي “التمثيل” والحماية من دون أن يطلب منه أحد!
الميليشيا ليست الطائفة
هذا الإصرار على أن تاريخ العلويين هو تاريخ شخصيات فاسدة ودموية، يُعيد إنتاج الوصمة. رجل مثل محمد جابر، يقود ميليشيا ارتكبت انتهاكات لا تُحصى بحقّ السوريين، يُصادر حقّ التمثيل، ويعمل (واعياً أو غير واعٍ) على إعادة تعريف الطائفة من خلال رجل ميليشياوي، لتأكيد السردية الشائعة لدى السوريين: أننا في حرب أهلية، وسنبقى فيها، وأن لا مخرج من هذا القيد الطائفي إلا بإعادة التمثيل القسري.
هكذا وُضِع العلويون داخل “ذاكرة مجبورة”، يُرغمون على تذكّر أنفسهم من خلاله: من خلال قصوره، وقلّة وطنيته، وشجاعته المنحرفة، وإجرامه. فُرضت عليهم هوّية تراجيدية، لا تنتهي إلا به، ودونه، ومن دون قدرة على التمرّد الكامل أو الانفكاك عن صورته. إنه يسرق ماضيهم، ويمنع مستقبلهم، يتكلّم باسمهم، وهم يُجبرون على الصمت أو المرافقة الخجولة لما يُقال عنهم، لا منهم.
الجانب الأكثر وضوحاً في ظهوره، هو أنه أكّد عملياً ما كان يقوله المثقّفون السوريون طيلة سنوات: انفصال المبدأ المؤسّس للنظام عن كلّ المفاهيم التي ادّعى تمثيلها. لم تكن الدولة تعيش لحظة ما قبل حداثة فقط، بل كانت سلطة شخصية متقطّعة، موزّعة على أفراد يرفعهم النظام ويُسقطهم حسب الحاجة. حتى الدعم الروسي لم يكن استراتيجياً، بل وظيفي مؤقت. لم تستغرق عملية إذابة سلطة محمد وأيمن جابر أكثر من أشهر، حتى نُزعت أملاكهم، وتفكّكت سطوتهم، وأُغلق دكّانهم الميليشياوي الذي فتحوه على حساب المجتمع.
لكن المأساة لا تنتهي، فالنظام اليوم يظهر أكثر من أي وقت مضى من خلال عقلية الميليشيا الطائفية، لا بوصفه دولة. محمد جابر لم يتحدّث عن دولة ولا عن سيادة، بل بلغة ميليشيوية خالصة، قال: “لو لم أخرج من سوريا، لما حصل هذا”، أي أن وجوده الشخصي هو ما كان يحول دون الانهيار، لم يعد النظام يواجه الميليشيات، بل يتكلّم باسمها، وبواسطتها.
محمد جابر لم يكن يملك تصوّراً عن السلطة، إلا بوصفها أداءً لوظيفة القتال والدفاع عن العلويين. لا وطن، لا سيادة، لا قانون، مجرّد صراع ميليشيات ضدّ ميليشيات، لا أكثر.
درح