دبلوماسية التذاكي الاصطناعي/ إلهام برجس

بخلاف النقاشات الدائرة في المؤتمرات الدولية، تبرز أدوار الذكاء الاصطناعي في لبنان، كما برزت في غزة، في ميدان الحرب. ما هي أبرز عناوين النقاش في مجال أخلاقيات الذكاء الاصطناعي، على المستويين الدولي واللبناني؟
فجر الأول من نيسان/أبريل 2025، أغار الطيران الاسرائيلي على الضاحية الجنوبية لبيروت. أفادت تصريحات إسرائيلية بأن الغارة تلك غايتها “إزالة تهديد حقيقي”، وزعمت أنها تستهدف “عنصرًا في حزب الله قام بتوجيه عناصر من حماس لـ… تنفيذ عملية إرهابية خطيرة”.
نفّذ الجيش الإسرائيلي غارته في ساعات الفجر الأولى، في لحظة كان فيها سكّان المبنى السكني المستهدف نيامًا آمنين. وأعاد تذكيرنا بتكتيكاته العسكرية في غزّة منذ سنة وخمسة أشهر، الهادفة إلى إرهاب السكان عبر قتل من تسمّيهم “أهدافًا” خلال تواجدهم مع عائلاتهم وبين أطفالهم خلال ساعات الليل، علمًا أن إسرائيل تُوظّف، في خدمة هذا التكتيك الإرهابي، تقنيات الذكاء الاصطناعي في حربها على غزة ولبنان.
أين والدك؟
تعيدنا غارة الفجر هذه إلى نظام الذكاء الاصطناعي المسمّى “Where is Dady”، أو “أين والدك”، الذي يتتبّع الأفراد المستهدفين ويُبلغ الإسرائيليين بأمرهم فور عودتهم إلى منازلهم. يشبه الأمر وصول ضيف إلى باب المنزل والتوجه إلى الابنـ/ة بالسؤال لحظة فتح الباب: “أين والدك؟”. لكنّ الضيف، في هذه الحالة، ما هو إلا قذيفة أو صاروخ، يزهق أرواح الأبناء والجيران، وربما يقضي على المربع السكني بأكملة.
يتّبع هذا النظام مواقع الهواتف المحمولة، ثم يُخطر المشغّلين في الجيش الاسرائيلي بها. وقد نشرت مجلة +972 الإسرائيلية تحقيقًا استقصائيًا مفصّلًا يشرح مجالات استخدام هذه التقنية، فيما أكّدت منظمة “هيومن رايتس ووتش” أن التقنية تُستخدم لتتبع “الهدف” في منزله العائلي، من دون أن تقدم شرحًا لكيفية عملها.
ولا يشكّل القصف الإسرائيلي للضاحية الجنوبية استمرارًا لخرق قواعد القانون الدولي الإنساني الخاص بالحروب والنزاعات المسلحة فحسب، بل يُضاف إلى مئات الخروق المتعلقة باتفاق وقف إطلاق النار بين الجانبين اللبناني والإسرائيلي، الموقّع في 27 تشرين الثاني/نوفمبر 2024. كما يقوّض الجهود الدبلوماسية التي تعلّق الحكومة اللبنانية عليها آمالها لتأمين تطبيق الاتفاق، واستعادة الأسرى اللبنانيين، وتحقيق انسحاب إسرائيلي من النقاط الخمس التي يتمركز فيها الجيش الإسرائيلي عند الحدود اللبنانية ــــ الفلسطينية.
لكن فيما تعوّل الحكومة اللبنانية على أدوات الدبلوماسية “التقليدية” لوقف العدوان الإسرائيلي المستمر على لبنان، يعوّل العالم على “دبلوماسية الذكاء الاصطناعي” للحد من مخاطر هذه التقنية عالميًا، في سياق يبدو في ظاهره استباقيًا، لكنّه في الواقع آنيٌ نظرًا لتأثيره الراهن على أرواح الناس.
وتتمحور دبلوماسية الذكاء الاصطناعي حول فكرة التعاون بين الدول لصياغة معايير وقواعد تضمن تطوير تقنيات الذكاء الاصطناعي تبعًا لقواعد أخلاقية، بما يضمن الشفافية والإنصاف والمساءلة. وفي هذا الإطار، مثلًا، تُعقد مطلع الشهر (3 و4 أبريل/نيسان) القمة العالمية الأولى للذكاء الاصطناعي في العاصمة الرواندية كيغالي، للبحث في إمكانات هذه التكنولوجيا وفي أفضل السبل لتعظيم هذه الإمكانات وتخفيف مخاطرها.
وقد سبق هذه القمة عقدُ ثلاث قمم دولية، في السياق نفسه، بين عامي 2023 و2025 في بليتشلي بارك (بريطانيا)، وسيول (كوريا الجنوبية)، وباريس (فرنسا)، علمًا أن الأخيرة التي عُقدت في شباط/فبراير الفائت، وُصمت بالفشل الدبلوماسي بعد امتناع بريطانيا والولايات المتحدة عن توقيع بيانها الختامي. وقد عُدّ إصدار القمة بيانًا ختاميًا بدلًا من إصدارها إعلانًا ينطوي على مقررات تتبناها الدول المشاركة، تحديدًا الغربية الكبرى، تراجعًا عما اعتبرته هذه الدول انجازًا خلال القمّتين الأخيرتين في بليتشلي بارك وسيول.
وتشترك القمم المذكورة الثلاث في تركيزها المفرط على الجانب الاقتصادي للذكاء الاصطناعي، وتجاهلها جوانب أخرى متصلة بحقوق الانسان، خصوصًا في مجالات حسّاسة كالهجرة واللجوء والسلامة العامة، بالإضافة إلى الرقابة الجماعية، والتصنيف العرقي، والتقنيات التنبؤية التي كثيرًا ما تُستخدم ضد الفئات المهمّشة. كذلك ركّزت القمم على مجالات الابتكار وخلق الوظائف، وتجاهلت السؤال الملحّ حول دور شركات الذكاء الاصطناعي في النزاعات المسلحة، وكيفية تطبيق القانون الدولي الإنساني على هذه التكنولوجيا.
ولا يقتصر هذا التجاهل على القمم السنوية، بل ينسحب الى اتفاقية مجلس أوروبا الإطارية بشأن الذكاء الاصطناعي وحقوق الإنسان والديمقراطية وسيادة القانون، وهي أول معاهدة دولية ملزمة قانونًا في هذا المجال. إذ استثنت المعاهدة صراحةً “كلّ ما يتعلق بالدفاع الوطني”، وهو ما أظهر انتقائيةً خطيرة في النقاش العالمي الجاري اليوم، علمًا أن هذه الاتفاقية تضمّ الولايات المتحدة وبريطانيا وإسرائيل فضلًا عن الاتحاد الأوروربي.
ويُنظر إلى موقف واشنطن من اتفاقيات كهذه بوصفه انعكاسًا لرفضها القيود المتعددة الأطراف. إذ تفضّل الحفاظ على حرية الحركة في ميدان التكنولوجيا، والتهرّب مما يمكن أن يضع سقوفًا فوق تفوقّها في سباق الذكاء الاصطناعي، خصوصًا مع دخول الصين ميدان المنافسة.
وقد حاولت فرنسا من خلال القمة، مع دول أخرى، الدفع في اتجاه إقرار مبدأ “السيادة في مجال الذكاء الاصطناعي” (AI sovereignty)، أي قدرة الدولة على التحكم في تقنيات الذكاء الاصطناعي والبيانات المتعلقة بها، وتطويرها داخل حدودها، والمواءمة بين القوانين المحلية والاتفاقيات الدولية في هذا المجال. وجاء موقف كل من واشنطن ولندن الذي أفشل أهداف قمة باريس، ليُبرز التناقضات في مجال “الدبلوماسية الرقمية” والصراع الحادّ الهادف إلى السيطرة على المعرفة والتقنية.
لبنان: محاولات جنينيّة
بخلاف النقاشات الدائرة في المؤتمرات الدولية، تبرز أدوار الذكاء الاصطناعي في لبنان بشكل خاص، كما برزت في غزة، في ميدان الحرب. تبدو المناطق الحدودية مشاعًا أعزل أمام تقنيات الذكاء الاصطناعي التي تمتلكها اسرائيل، ويعكس هذا الأمر فقدان السيادة بمعناها العام، لا السيادة الرقمية فحسب.
لكن في سياق محاولة جهات لبنانية اللحاق بالتطورات الهائلة في هذا المجال، برز في الآونة الأخيرة إصدار كلية الحقوق في الجامعة اللبنانية “إرشادات حول حوكمة وأخلاقيات الذكاء الاصطناعي في لبنان”. تتشابه الإرشادات هذه مع ما تقترحه فرنسا لجهة التعامل مع العديد من المسائل، لا سيما مسألة السيادة الرقمية، وتأخذ مما خلصت إليه قمة بليتشلي بارك لجهة التركيز على أمن البيانات، وذلك في سياق وطني تُطرح فيه علامات استفهام كثيرة حول هذا العنوان.
غير أن أبرز تلاقٍ بين إرشادات الجامعة اللبنانية، والتوجه العالمي عمومًا، تمثّل في تحييد النقاش في توظيفات الذكاء الاصطناعي في القضايا العسكرية. وبذلك بدت القضايا المتعلقة بأخلاقيات الذكاء الاصطناعي، سواء في بلادنا التي تعاني حربًا أو خارجها، مفصولة عن الجرائم المرتكبة عبر أدوات هذا الذكاء، والمستمرة بحقنا حتى اللحظة.
أوان