العقوبات الأميركية على سورياسقوط بشار الأسد، الرئيس الفار والمخلوعسياسة

الموقف الأميركي اتجاه سوريا، مسالة رفع العقوبات، الشروط التي تفرضها الولايات المتحدة الاميركية على الحكومة السورية تحديث 01 أيار 2025

لمتابعة هذا الملف التبع الرابط التالي

العقوبات الأميركية على سوريا الجديدة وسبل إلغائها

——————————-

رسائل واشنطن – دمشق.. مرايا القلق وأبواب الانفتاح الموارب/ عبد الله مكسور

2025.04.30

منذ الثامن من كانون الأول/ديسمبر 2024، بدأ الزمن السوري يقطف لحظة جديدة، لحظة تبدو كما لو أنها خرجت من مجازٍ سياسي طويل النفس، تخلّى عن العناوين القصوى، وارتدى لغة الباب الموارب. في لحظة رمادية بين الحروب المعلّقة، والتسويات الممكنة وغير المكتملة، انفتحت فجوة صغيرة بين دمشق وواشنطن، تمرّ منها الرسائل، لا الصواريخ. بين الكلمات والوعود والاختبارات، تتشكل خريطة نادرة من التماس الدبلوماسي، تلتقطها العيون المتربصة، وتحللها مراكز القرار بميزان المصالح، لا المبادئ على قاعدة الثوابت. مزيج من الترقب الحذر، والانفتاح المحسوب على إيقاع النوايا، من الرسائل المتبادلة التي تحمل في طيّاتها لغة المصالح المتشابكة، وتاريخًا من العُقد والاشتباك، ووعودًا لا تزال حبلى بالاحتمالات.

خطاب سيادي بلغة دبلوماسية

يمرر الرئيس أحمد الشرع للبيت الأبيض عبر الإعلام الأميركي رسائله، محاولاً الظهور كمن ينفض – عن كرسي الرئاسة وعن تاريخه الشخصي-  غبار الصراع القديم، دون أن يتخلى عن لهجة سيادية تبدو – في ترجماتها العربية- حادة. تحدث باللغة التي تتطابق مع الأصوات في مرحلة ما بعد الحروب الكبرى، لا منتصر واضح، ولا هزيمة تامة، بل رغبة في ترسيم مرحلة جديدة، دون انبطاح ولا عناد.

أراد الشرع أن يقول شيئًا بسيطًا ومعقدًا في آن: سوريا لا تطرق أبواب أحد، لكنها لا تغلقها أيضاً. السيادة ليست بندًا تفاوضيًا. الوجود الأجنبي على الأرض السورية لا يمكن تقنينه إلا تحت مظلة الدولة. وفوضى السلاح، إذا تُركت دون ضوابط، ستحرق أكثر من حدود الإقليم. في رسالته، كان خطاب الشرع ينطوي على تحذير ناعم، فُسّر في واشنطن والعواصم الإقليمية على مقياس المخاطر بأنه نداءٌ لإعادة التقييم، لا لإعادة التطبيع. اللافت هنا أن صفقة سورية وُضِعت على الطاولة، صفقة غير معلنة بشكل واضح لكنها تحمل معنى “إن فُعِل كذا سنفعل كذا”، وهذا انتقال باللهجة السورية الرسمية السابقة إلى لغة المفاتيح الممكنة.

جملة مصالح متبادلة تقوم على مراجعة أميركية للعقوبات مقابل انفتاح سوري “مشروط” على الحوار والتعاون. ليست الصفقة جديدة، لكن الجديد هو أن من يعرضها الآن هو دمشق نفسها، لا حلفاؤها. الرسالة كان مفادها أن سوريا، التي قاومت التفكك والانهيار، تريد أن تعيد إنتاج نفسها بوصفها لاعباً لا عبئاً. وهي مستعدة لتبديل مفردات العلاقة، دون أن تبدّل جوهر موقعها في المعادلة.

وفي تفاصيل هذه العناوين، ما يستحق التوقف عنده: تحدث الشرع عن إمكانية منح الجنسية لبعض المقاتلين الأجانب المقيمين منذ سنوات في سوريا. قد يُقرأ ذلك كجزء من إعادة هندسة الخريطة الاجتماعية السورية ما بعد الحرب، أو محاولة ناعمة لاستيعاب مخاطرهم. لكنه في العمق رسالة من النوع الثقيل: السلطة الجديدة تريد إعادة إنتاج مواطنيها، بل وتخترعهم أحيانًا، وفق مقتضيات المرحلة.

حامل الرسائل المحفوفة بالمخاطر

لم تكن صور السيناتور الأميركي كوري ميلز في الشام القديمة وحدها اللافتة في زيارته الأولى من نوعها لعضو كونغرس إلى دمشق منذ أكثر من عقد، فقد حملت من الإشارات بقدر ما حملت من الأسئلة. لم يكن ميلز رسول مصالحة بالمعنى الكلاسيكي والتقليدي، لكنه كان “عصفور استكشاف” أميركيًا في حقل ألغام سوري تتربَّص الدخول إليه وفيه الإدارة الأميركية، جاء حاملاً ما يكفي من التصريحات المتزنة، ليُبقي النافذة مفتوحة على الإشارات بين البيت الأبيض وقصر الشعب.

في تصريحاته بعد لقائه بالشرع، بدا ميلز كمن يسوّق لنموذج من “البراغماتية الواقعية”: لا تنازل أميركياً عن الملفات الكبرى، لكن لا مانع من الحوار بشأنها. وشدد على أن واشنطن ترى في دمشق لاعباً محتملاً في الاستقرار الإقليمي، لا مصدر اضطراب دائم. وفي هذا دعوة لحضور سوريا على كرسي في أي طاولة تناقش مستقبل الشرق الأوسط.  تحدث عن ملفات أمنية مثل تهريب السلاح، والتوازن في العلاقة مع إيران، وحتى الحوار أو تحسين العلاقات مع إسرائيل، وهي عناوين محرّمة لعقود في القاموس السوري، لكنها الآن مطروحة، ولو بحدود اللغة الممكنة. وهذه الإشارات كلها تقع في محاولة جسر الهوة التاريخية بين واشنطن ودمشق.

بين المطالب والشروط

رغم أن واشنطن لم تتخلّ عن خطابها بشأن الانتقال السياسي، إلا أن لهجتها باتت أكثر واقعية. لم تعد تتحدث عن “عدم التعامل مع النظام”، بل عن “إصلاح الشراكة”، وعن ضمانات حقيقية لعدم استخدام سوريا كمنصة تهديد إقليمي. وبينما كان ملف الانتقال السياسي أحد أعمدة التصعيد في العقد الماضي، أصبح اليوم بندًا للنقاش، لا للابتزاز. وفي هذا الطرح إقرار ضمني أميركي بأن إقصاء دمشق لم يؤد إلى نتائج، وأن تطبيعاً “مشروطاً” قد يكون البوابة الممكنة لكسر الجمود بعد التغيير.

وفي هذا السياق، تبدو تصريحات الشرع للإعلام الأميركي وكأنه يلمّح إلى قبول مبدأ التدرّج، لا الانقلاب، في أي عملية سياسية داخلية. وهو بذلك يتقاطع مع لغة واشنطن الجديدة، التي ترى أن أي تطبيع مشروط يجب أن تقابله خطوات إصلاحية من دمشق، لكنها لا تشترطها دفعة واحدة.

زيارة ميلز شكّلت ذروة هذا التحول في العلاقة التي مرَّت بمنعرجات أمنية غير معلنة، آخرها كان الكشف عن مساعدة الولايات المتحدة لسوريا بإحباط محاولة الهجوم على مقام السيدة زينب في العاصمة خلال الأشهر القليلة الماضية، لكن هذه الحالة لم تكن البداية وفق التسريبات، ففي الكواليس، جرت نقاشات حول المشهد الأمني ككل، لم تكن وحدها الولايات المتحدة بل شاركت فيها كراسي أخرى جلست عليها تركيا وإسرائيل وغيرهم.

مراجعة سياسية.. ماذا تغيّر؟

على إيقاع الجولة الخارجية الأخيرة للرئيس السوري أحمد الشرع، والتي بدأت في أنطاليا ثم أبو ظبي فالدوحة، وقبلها السعودية والأردن ومصر، لوَّحت الولايات المتحدة بأنها بدأت بمراجعة عقوباتها على دمشق، تزامناً مع تقارير استخبارية تشير إلى تحول جزئي في بنية السلطة السورية، وظهور توجهات أكثر انفتاحًا في السياسة الخارجية. ترافق ذلك كله مع تحسن محدود في العلاقة بين دمشق وبعض العواصم العربية. وفي ظل هذه الأرضية تطرح الرئاسة السورية نقاطها الأساسية في المعادلة والتي تقوم على:

    ضمانات بعدم استخدام سوريا كقاعدة أو منطلق لأي هجمات أو أذى يصيب دول المنطقة بما في ذلك إسرائيل.

    لا تنازل عن السيادة وأي وجود عسكري على الأراضي السورية يجب أن يتم بالاتفاق والتنسيق مع الدولة، بما في ذلك الوجود الروسي والتركي.

    لا تفريط بحلفاء الحرب، فالحكومة تنظر بمنح الجنسية للمقاتلين الأجانب نظراً لمشاركتهم في الثورة وزواجهم من مواطنات سوريات، وإقامتهم الطويلة في البلاد. وفي هذا حديث ورسائل مكشوفة عن تحويل التهديد وفق التعريف الأميركي إلى اندماج.

    أي فوضى على الأرض السورية لن تبقى حبيسة الحدود، بل ستمتد كحريق إلى ما وراء الجغرافيا، لتمس الاستقرار العالمي.

بقراءة متأنية للنقاط السابقة نجد أن دمشق تحاول أن تتكلم بلغة السيادة مع فتحها لباب المراجعة، فالحديث هنا ليس صدامياً، بل كمن يعيد ترتيب أوراق اللعبة مع وضع كل شيء على الطاولة. وفي هذا ما يمكن وصفه بالنضج السياسي الذي يؤشر إلى إمكانات تطور ملموسة في العلاقة مع العالم إذا ما وُجِدت الإرادة السياسية المشتركة.

بين الشك والفرصة: أي مستقبل للعلاقة؟

تاريخ العلاقة بين دمشق وواشنطن يُشبه شبكة معقدة من الحبال المشدودة، كلما فُكَّت عقدة ظهرت أخرى. منذ العام 2003، حين أصبحت سوريا هدفًا محتملًا في “الحرب على الإرهاب”، مروراً بالسنوات العجاف التي أكلت البلاد، كان التواصل بين الطرفين محكومًا بمنطق الضغط لا الحوار. بالقلق لا البحث عن المخارج الأمنية. وما يجري اليوم ليس إعادة تطبيع بقدر ما هو اختبار نوايا. كل طرف يُلوّح بإغراءات، ويحتفظ بالشكوك.

واشنطن تخشى أن يكون حديث الرئاسة السورية مراوغة ذكية لا أكثر. ودمشق تخشى أن يكون انفتاح البيت الأبيض فخًا جديدًا. ومع ذلك، فإن ما يميّز اللحظة الحالية هو الاعتراف المتبادل، ولو ضمنيًا، بأن استمرار القطيعة يُنتج فراغات تملؤها قوى أخرى، من طهران إلى موسكو، مرورًا بالتنظيمات غير المنضبطة الخارجة عن السيطرة. ربما يكون هذا المشهد بوادر فصل جديد، ولكن الرسائل المتبادلة بين دمشق وواشنطن لا تزال في طور التجريب. الذي لم يرتق بعد إلى مستوى خريطة طريق سياسية واضحة، قد تبدو مختلفة هذه المرة، أقل صخبًا، وأكثر نضجًا. فالخطاب السيادي الذي قدّمه الشرع، مع الاستعداد لمناقشة قضايا حساسة، يقابله خطاب أميركي بدأ يعترف بحدود القوة وحدود العزل، فهل تُكتب هذه الرسائل كفصل جديد في كتاب العلاقات السورية الأميركية؟ أم تُطوى كما طُويت مئات الرسائل من قبل؟ الجواب مؤجل، لكنه مرهون بقدرة الطرفين على ترويض التوحش السياسي، واستبداله ببراغماتية تمنع ما تبقى من الحروب التي لا تنتهي.

تلفزيون سوريا

—————————

انقسامات أميركية تعوق رسم سياسة واضحة تجاه سوريا

بين تخفيف تدريجي للعقوبات ورفض «آيديولوجي» قاطع

واشنطن: رنا أبتر

30 أبريل 2025 م

في ديسمبر (كانون الأول) من عام 2019، وقَّع الرئيس الأميركي دونالد ترمب، بعد طول انتظار، على مشروع عقوبات قيصر لتضييق الخناق على نظام الرئيس السوري حينها، بشار الأسد. عقوبات كان من شأنها أن تصبح منتهية الصلاحية في ديسمبر 2024، لكن «الكونغرس» عاد لتجديدها في نص جرى التوافق عليه قبل ساعات قليلة من سقوط نظام الأسد وتسلم قائد «هيئة تحرير الشام» أبي محمد الجولاني، والذي أصبح الرئيس أحمد الشرع، سُدة الحكم، في تطورات متسارعة فاجأت الداخل والخارج السوريين، وصدمت إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن، في أسابيعه الأخيرة من الرئاسة.

وبينما تغنّى بايدن بسقوط الأسد، إلا أن إدارته لم تتخذ أي قرارات بارزة وحاسمة تجاه حكومة الشرع، عدا إصدار بعض الإعفاءات من العقوبات، مُرجئة هذه القرارات للرئيس المقبل دونالد ترمب، الذي تسلَّم سُدة الرئاسة في العشرين من يناير (كانون الثاني) الماضي.

انقسامات داخلية

ومنذ ذلك التاريخ وحتى اليوم، تتخبط الإدارة الأميركية في دوامة تجاذبات داخلية حالت دون رسم استراتيجية أميركية واضحة تجاه سوريا توفر أُطراً توجيهية حيال التعامل مع الشرع وحكومته، وذلك وفق مصادر عدة في الإدارة الحالية تحدثت، لـ«الشرق الأوسط»، دون الكشف عن اسمها نظراً لحساسية الملف، في وقت أعلنت الخارجية الأميركية أمس أن «بعض مسؤولي السلطة الانتقالية بسوريا موجودون في نيويورك ولكن أميركا لا تطبع العلاقات مع دمشق في هذه المرحلة» في إشارة إلى زيارة وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني لمقرّ الأمم المتحدة.

ويترأس الملف السوري في إدارة ترمب علنياً ورسمياً المبعوث الخاص السابق إلى اليمن تيم ليندركينغ، الذي يلعب هذا الدور بانتظار مصادقة مجلس الشيوخ على جول رابيرن، مرشح ترمب لتسلُّم منصب مساعد وزير الخارجية لشؤون الشرق الأدنى.

لكن من يقود الملف فعلياً، وفق مصادر مطلعة، هو سيباستيان غوركا، نائب مساعد ترمب ومدير مكافحة الإرهاب في البيت الأبيض، المتحفظ، بشكل كبير، حيال التعامل مع حكومة الشرع، لأسباب آيديولوجية.

ويتحدث المبعوث الخاص السابق لسوريا والمبعوث الأميركي السابق لدى التحالف الدولي ضد «داعش» جايمس جيفري عن هذه الانقسامات في فريق ترمب، فيقول، في مقابلة مع «الشرق الأوسط»: «يبدو أن هناك خلافات حول الشرع داخل الحكومة الأميركية، وقد أدت هذه الخلافات إلى تجميد التفكير الاستراتيجي في كيفية التعامل مع الملف». وأضاف: «تجميد من هذا النوع، خاصة فيما يتعلق بتخفيف العقوبات، يمكن أن يُطيح بالمشروع السوري بأكمله».

ويوافق ديفيد شينكر، نائب وزير الخارجية السابق، مع تقييم جيفريز حيال هذه الخلافات، فيقول، لـ«الشرق الأوسط»: «هناك المشككون في الشرع وماضيه الجهادي، داخل الحكومة الأميركية، وهؤلاء مترددون في رفع العقوبات، بينما يرغب آخرون في اختبار الشرع لمحاولة التحقق من كيفية حكمه، ورفع العقوبات تدريجياً بناءً على أدائه».

ويَعدّ شينكر أنه لهذا السبب طرحت واشنطن قائمة تضم 8 شروط لرفع العقوبات، تتراوح بين وضع أسلحة سوريا الكيميائية تحت المراقبة الدولية، إلى تحييد المقاتلين الأجانب من المناصب الرئيسية في الجيش، مشيراً إلى امتثال الشرع لبعض هذه المطالب، وتردده في تطبيق شروط أخرى. ويحذر شينكر من أنه، وفي غياب التنمية الاقتصادية، سيفشل الشرع في جهوده لتوحيد سوريا، وقد تتدهور الدولة إلى سيناريو مماثل لما حدث في ليبيا، مضيفاً: «لا يبدو أن الحكومة الأميركية تتعامل مع الملف من منطلق الوضع الطارئ للحيلولة دون حصول هذا الاحتمال القاتم. فهناك القليل من التفاعل من قِبل الإدارة مع الحكومة السورية الجديدة». ويشير شينكر إلى أن مجلس الأمن القومي هو الذي يتولى حالياً قيادة الشأن السوري؛ لأنه لم تجرِ المصادقة على المعيَّنين في وزارة الخارجية بعد.

معركة آيديولوجية

تبدو هذه الانقسامات واضحة لمن يراقب التصريحات الصادرة من وجوه مختلفة من الإدارة حيال الملف السوري؛ فيقول ليندركينغ إن الولايات المتحدة «تبحث عن فرص لبناء الثقة»، مشيراً إلى أنه لن يجري التوصل إلى حلحلة في هذه الأمور بين ليلةٍ وضحاها، وإن هناك انفتاحاً من قِبل الإدارة للتواصل مع حكومة الشرع لتقييمها.

ولا ينفكّ غوركا يذكر بأن الشرع كان عضواً مؤسساً في «جبهة النصرة». وفي مقابلة مع موقع «برايبارت» المحافظ قال: «(جبهة النصرة) كانت جزءاً من (تنظيم القاعدة). إذن لديك شخص فاز بمعركة لإخراج الزعيم العلوي العلماني (الأسد)، واستبدال الديكتاتورية بماذا؟ لا نعرف. كل ما نعرفه هو أن ما يسمى الرئيس المؤقت قال إن الشريعة الإسلامية ستكون قانون سوريا. إذن ما زلنا غير واثقين بشأن الجولاني وما يريد فعله في سوريا». وقال غوركا، الذي يصرّ على الاستمرار باستعمال لقب الجولاني، وليس الشرع، في تصريحاته: «إذا قال أي شخص أنه يعرف مستقبل سوريا، فهو كاذب. كل شيء مرن، وكل شيء متغير».

وتَعدّ كبيرة الباحثين بمعهد الدراسات الاستراتيجية والدولية ناتاشا هال، من ناحيتها، أن الاستراتيجية الأميركية المتعلقة بسوريا غائبة؛ لأنه «لطالما تعاملت الولايات المتحدة مع سوريا من خلال منظور مواجهة إيران وحماية إسرائيل، ونادراً ما كانت تركز على السوريين وسوريا بحد ذاتها». وتشير، في مقابلة مع «الشرق الأوسط»، إلى أن غياب هذه الاستراتيجية أصبح إشكالياً منذ سقوط نظام الأسد؛ لأنه لا توجد استراتيجية تنظر للمستقبل، حيث يمكن للإدارة وحتى أعضاء «الكونغرس» استغلال هذه اللحظة التاريخية بوصفها فرصة. وتَعدّ هال أن وجوهاً مثل وزير الخارجية ماركو روبيو، وجول رابيرن، تنظر إلى سوريا من خلال منظور إيران وإسرائيل، وليس بناءً على ظروف سوريا نفسها، ما يعكس تردداً في التعامل مع الإدارة السورية الحالية من قبلهم. في المقابل، هناك أشخاص مثل مبعوث ترمب إلى الشرق الأوسط ستيف ويتكوف الذي لديه منظور مختلف، وقد يكون أكثر توافقاً مع معتقدات الرئيس ترمب الباحث عن فرص دون خلفية آيديولوجية كبيرة، ما قد يكون مفيداً لدفع الأمور قُدماً، على حد قولها. لكنها تُعقّب قائلة: «بالطبع، هناك غوركا وتولسي غابارد (مديرة الاستخبارات الوطنية)، اللذان يريدان تجنب التعامل مع حكومة الشرع قائلين: من كان جهادياً، فسيظل جهادياً».

رفع العقوبات

في ظل هذه الانقسامات، يترنح مصير العقوبات الأميركية على سوريا. وبينما يطالب البعض برفع العقوبات بشكل كامل، يُحذر البعض الآخر من التسرع، كرئيس لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ، السيناتور الجمهوري جيم ريش، الذي قال، في تصريحات خاصة، لـ«الشرق الأوسط»: «يجب ألا نخطئ، فهناك مخاطر حقيقية، سواء في رفع العقوبات بشكل سريع للغاية على سوريا، أم في إضاعة الفرصة التي أمامنا. وفيما يجب على أميركا ألا تتسرع في سوريا، يمكننا أن نخلق مساحة لحلفائنا الإقليميين وغيرهم للقيام بذلك». وعن الانقسامات داخل إدارة ترمب، يتابع ريش قائلاً: «لديَّ ثقة تامة بأن إدارة ترمب ستتعامل مع الوضع بالدقة التي يستحقها».

ويتردد تعبير «الفرصة» على لسان كثيرين في واشنطن، على اختلاف مواقفهم تجاه حكومة الشرع، فتراجعُ النفوذ الإيراني في المنطقة هو بالنسبة للأميركيين فرصة لن تتكرر. وفي هذا الإطار يدعو جيفري الإدارة الأميركية إلى إعطاء الأولوية لضمان عدم عودة إيران ووكلائها من جهة، وعدم عودة «داعش» من جهة أخرى. ويضيف: «لتحقيق هذه الأهداف، يجب على الولايات المتحدة أن تعمل على ضمان أن تكون سوريا موحَّدة ومستقرة، وليست ضعيفة ومنقسمة، لذا يجب أن تنضم إلى المجتمع الدولي لتخفيف العقوبات تدريجياً والتعامل مع دمشق، بالإضافة إلى التوسط في التوترات الإسرائيلية التركية».

وعَدّ جيفري أنه، ورغم منطقية بعض المطالب التي وضعتها الإدارة الأميركية لرفع العقوبات، فإن هناك ضرورة لوجود تواصل مستمر لتوضيح هذه المطالب استعداداً للتوصل إلى اتفاق مع السوريين الذين يُبدون تعاونهم.

وهنا يَعدّ شينكر أنه من الجيد أن تكون هناك معايير عالية مع الحكومة السورية الجديدة، «خاصةً بالنظر إلى علاقاتها الجهادية السابقة»، لكنه يُحذر قائلاً: «من الممكن أن تؤدي التأخيرات غير المبرَّرة في تخفيف العقوبات، حتى وإن كانت بسيطة ومؤقتة إلى فشل الحكومة، مع تأثيرات مترتبة على الدول المجاورة». ويتابع: «يجب على واشنطن الانخراط بشكل مكثف مع دمشق لدفع الحكومة الجديدة لاتخاذ خطوات نحو تلبية المطالب الأميركية التي من شأنها السماح برفع الإجراءات الاقتصادية القائمة ضد سوريا. إذا لم تُلبِّ حكومة الشارع هذه المطالب، فيمكن دائماً إعادة فرض هذه العقوبات وغيرها». لكن هال تَعدّ أن الوقت قد حان لرفع العقوبات التي كانت مفروضة على نظام الأسد بأسرع وقت ممكن، محذرة من أنها (أي العقوبات) «تدفع الأنظمة إلى الانخراط في الأسواق السوداء والأنشطة غير القانونية، وتضعها في أحضان دول أخرى مثل إيران والصين وروسيا».

وفد الكونغرس

وقد شهدت الأيام الأخيرة تحركات أميركية داخلية وخارجية حول الملف السوري؛ منها المتواضع، كزيارة مشرِّعين جمهوريين لسوريا، في زيارة غير رسمية وُصفت بأنها غير فعالة نظراً لكون المشرّعين من النواب غير النافذين في «الكونغرس»، وصولاً إلى رسائل من مشرّعين بارزين كالسيناتور جيم ريش، وكبيرة الديمقراطيين في لجنة العلاقات الخارجية جين شاهين لإدارة ترمب تحثّه فيها على «إزالة الحواجز أمام توسيع الانخراط مع الحكومة السورية المؤقتة، على أن تهدف المقاربة الأميركية إلى تحقيق التوازن المناسب بين الفرصة والمخاطرة».

ولعلَّ رسائل من هذا النوع هي التي قد تلقى آذاناً صاغية من قِبل ترمب أكثر من زيارة النائبين، وهذا ما ألمح إليه فريدريك هوف، المبعوث السابق إلى سوريا، الذي دعا إدارة ترمب إلى تعيين «دبلوماسي رفيع المستوى في دمشق قادر على تشكيل علاقات لائقة مبنية على الثقة والاطمئنان مع القادة الجدد في سوريا». وقال هوف، في فعالية طاولة مستديرة مع think للأبحاث والاستشارات، التابعة للمجموعة السعودية للأبحاث والإعلام، حضرتها «الشرق الأوسط»، إن «المطلوب هو شخص يستطيع إقناع الرئيس ترمب بأن ما يحدث في سوريا لا يبقى في سوريا. لطالما كان الأمر كذلك، والمصالح الأميركية مرتبطة بذلك، شئنا أم أبينا». وتابع هوف بلهجة لاذعة: «لا أعتقد أن النائبين غير النافذين اللذين زارا سوريا مؤخراً، يمكنهما إيصال هذه الفكرة للرئيس».

انسحاب أميركي مرتقب

وهنا يُذكر الدبلوماسي السوري بسام بربندي بنقطة مهمة جداً؛ وهي الانسحاب الأميركي من سوريا في شهر سبتمبر (أيلول)، مشيراً، في حديث مع «الشرق الأوسط»، إلى أن «ترمب يريد أن يقول إن الانسحاب كان ناجحاً، على خلاف انسحاب بايدن من أفغانستان». ويضيف: «يتطلب الانسحاب الأميركي أن تكون هناك توافقات إقليمية على استقرار سوريا، واستقرار وضع الأكراد والتطرق للتحفظات التركية ومحاكمة الدواعش في السجون وتنظيم هذه السجون، وجزء من هذا التنظيم هو أن تلتزم الحكومة السورية بعدم بسط (طالبان) أو التيار الجهادي سُلطته بعد خروج أميركا من سوريا».

ويَعدّ بربندي أن الإدارة الأميركية تتعامل مع الملف السوري من منظور توقيت الانسحاب من سوريا، وليس من منطلق ما تحتاج إليه سوريا. ويفسر ذلك بالقول: «الشروط المطروحة مرتبطة بإسرائيل، وهي متعلقة بكيفية رؤية الإدارة لكل المنطقة. يجب الإسراع بتنفيذ الشروط الأميركية وعدم إضاعة الفرصة». ويرى بربندي أن التحدي الأكبر هنا يكمن في اشتراط البيت الأبيض تنفيذ كل الشروط الثمانية، مضيفاً «أنه إذا جرى تنفيذها قبل الرابع من موعد انتهاء تجميد بعض العقوبات في يوليو (تموز)، فيمكن رفع المزيد من العقوبات. وإن لم يجرِ الالتزام فهذا يعني أن التعاون مع الحكومة السورية فكرة غير جيدة».

الشرق الأوسط

—————————-

============================

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى