سقوط بشار الأسد، الرئيس الفار والمخلوعمقالات سينمائية

“وما أدراك ما صيدنايا”: عذابات وشهادات صادمة/ سمر شمة

30 أبريل 2025

يُعتبر سجن صيدنايا العسكري الواقع في ريف دمشق أكثر السجون تحصينًا في عهد الأسد الأب ووريثه الابن، سموه سجن هندسة التعذيب، وباستيل سورية الصامت، والمسلخ البشري، وهولوكوست المحرقة. تاريخ طويل من الأهوال وجرائم الحرب والقتل والتعذيب والإعدامات، نكبة من نكبات السوريين ومآسيهم الكبرى الموجعة، الجحيم الذي كُسرت أغلاله مع الدقائق الأولى لسقوط الطغاة في نهاية العام الماضي، ومعها تمّ تحطيم المجازر والإبادة والعنف المفرط والقتل الممنهج للصغار والكبار وللرجال والنساء. صدمة كبيرة رغم معرفة العالم أجمع باستبداد النظام البائد وانتهاكاته الجسيمة الجسدية والنفسية وإهانته وإذلاله للسجناء السياسيين وللشعب السوري عمومًا.

كان إعلان سقوط السجون وهذا السجن تحديدًا في الثامن من كانون الأول/ ديسمبر 2024 إعلانًا صريحًا لسقوط النظام الذي حولّه لمقابر يومية للموت البطيء والسريع بحق عشرات آلاف المعتقلين الذين لم يخرج منهم أحياء أو شبه أحياء إلا أربعة آلاف فقط؛ تحدث عدد قليل منهم عن النظام الأكثر وحشية وقمعًا في العصر الحديث في الفيلم الوثائقي الذي عرض قبل أيام بدار الأوبرا بدمشق: “وما أدراك ما صيدنايا”، وحضره أهالي وأبناء المعتقلين والمعتقلات والمختفين قسريًا والمفقودين، والباحثين عن الحقيقة الموثقة والحالمين بإغلاق السجون المرعبة إلى الأبد.

كان العرض مؤثرًا جدًا ومتعبًا إلى حد البكاء والفجيعة، وسلط الضوء على واحدة من أكثر الصفحات ظلمًا وسوادًا في سورية منذ أكثر من خمسة عقود، وعلى ملفٍ نازف أعاد طرح مأساة المفقودين والمعتقلين في سجون مظلمة.

وأنت تتابع هذه العذابات والجرائم تشمّ رائحة الجثث المعشعشة في جدرانه السميكة القاسية، ورائحة الدماء النازفة وعفن الزنازين والأقبية والسجانين ومعلميهم، وتسمع أنين المرضى بلا دواء والجائعين بلا غذاء والعطشى بلا ماء وتشعر أن جدران وأبواب المسلخ المحكمة تكاد تُطبق عليك وتمنع عنك الهواء والسماء والحلم.

فيلم “وما أدراك ما صيدنايا” تحقيقي وثائقي أُقيم بالتعاون ما بين الدفاع المدني السوري ووزارة الثقافة، إخراج: عبدو مدخنة، وإنتاج قناة الجزيرة.

قبل العرض تحدث مدير الدفاع المدني السوري “الخوذ البيضاء” منير مصطفى عن معاناتهم الكبيرة وهم يبحثون في كل زاوية من هذا السجن عن ناجٍ جديد وسجناء أحياء ودلائل ووثائق عن المذابح والمجازر التي اقترفها نظام الأسد فيه وهي أشد رعبًا من مجازر الكيماوي وغيرها كما قال مؤكدًا أن مدينة صيدنايا تستحق أن تشتهر بآثارها وتاريخها العريق الذي يعود إلى عصور قديمة لا أن تشتهر بهذا الرمز للظلم والاستباحة والطغيان.

أما مخرجه عبدو مدخنة فقد أكد أن موضوع سجون النظام المخلوع بحاجة إلى محاكم دولية، وأن الشعب السوري كله كان معتقلًا أو ناجيًا من الاعتقال، وأنه شعر بالعجز الشديد عندما وصلوا إلى ذلك السجن وكان وفريقه يسألون أسئلة كبيرة ومؤلمة أثناء التصوير.

وزير الطوارئ والكوارث في الحكومة السورية الانتقالية الحالية ومدير منظمة “الخوذ البيضاء” سابقًا رائد الصالح قال في شهادته في الفيلم: “أفظع لحظتين بحياتي هما وقف العمل بعد الزلزال الذي حدث في سورية مؤخرًا، ووقف العمل بالسجن والبحث عن ناجين بعد أن تأكدنا من عدم وجودهم، لا يمكن أن أنسى هذه اللحظات”.

الفيلم توثيق لما جرى في سجن صيدنايا منذ تأسيسه في 1987 حتى تحريره وتحرير سورية في 2024 وذلك عبر شهادات لمعتقلين في مراحل تاريخية مختلفة ومفصلية في سورية، وصور ووثائق التسلسل الزمني لهذا المسلخ من مرحلة الإنشاء إلى فترات العصيان والإبادة والمجازر ولا سيما بعد انطلاق الثورة السورية عندما تحوّل السجن إلى مقبرة مظلمة للقتل والتعذيب الممنهج والترويع، أكثر مما كان سابقًا بكثير.

وقد سلط الضوء على البنية التحتية للسجن وكشف جرائم حرب لا يمكن تخيلها واستباحة لآدمية الإنسان لم يعرفها هذا العصر.

“وما أدراك ما صيدنايا” لم يرصد الانتهاكات وتحويل السجين إلى رقم مهمل داخل الزنازين والأقبية فقط بل ساهم في بناء ذاكرة وطنية وقضية تمسّ كل بيت في سورية، ورفع صوت الضحايا الأبرياء للعالم الصامت والمتفرج والمتواطئ أحيانًا.

تحدث الشهود من معتقلين سابقين ناجين عن أساليب التعذيب اليومية الوحشية والمتواصلة وعن غرف الإعدام التي اكتظت بأحذية وملابس الأطفال والنساء والرجال، وغرفة المقصلة، والسجن الأحمر المخيف والسجن الأبيض والإعدامات التي كانت تتم يوميًا حيث يأخذون من المهاجع والغرف الانفرادية عشرات السجناء لإعدامهم، عن البرد القارس والتجويع ومنع الماء عن القابعين في زوايا رطبة سوداء يتخاطفون نقطة الماء المتسربة من مكان ما، والزنازين تحت الأرض بطوابق عديدة والأمراض الجلدية والتنفسية والمزمنة الخطيرة وغياب العلاج. عن الذل والإهانة حيث يُمنع السجين من رفع رأسه بالمطلق مهما بقي في السجن وخلال تفاصيل الحياة اليومية كافة، وعن تباهي السجانين بأعداد من قتلوهم تحت التعذيب وقدرتهم على ابتكار أكثر أساليب التعذيب همجية ووحشية، وعن انعدام النظافة وسحق آدمية المعتقل وكرامته وإنسانيته.

تحدثوا في الفيلم أيضًا عن غرف العزل والتعذيب الشديد وغرف الملح التي يتم تكديس الجثث فيها وزج السجناء الأحياء داخلها كعقاب وكنوع من الترويع والضغط النفسي، وعن المكبس الذي يطحن جسد المعتقل بعد قتله وشاهده العالم أجمع بعد التحرير.

لقد تخاطفت المعتقلين لسنوات وعقود جنازير الإعدام والأمراض والأوبئة كشكل من أشكال التعذيب الممنهج والمتواصل، وخاضوا في سراديبه معركة البقاء في ثلاجة في الشتاء وفرن حارق في الصيف يعيشون بين جثث أصدقائهم وزملائهم كما قالوا. كانت غرف الإعدام عبارة عن منصات إسمنتية تتسع لسبعة أشخاص يعلقون الحبال على عوارض حديدية فيها ويتركون الجثث لأيام عديدة قبل نقلها إلى المشفى الذي أكد مديره في شهادته أنها وصلت إليه عبارة عن هياكل عظمية تشبه المومياءات، وقد تعرض بعض أصحابها لاقتلاع العيون وتكسير الأسنان وانتهاكات خيالية لا يمكن تحملها.

كل يوم كانوا يُحضرون إلى “مشفى المجتهد” بدمشق عشرات الجثث، كما ذكر مشرف برادات الموتى فيه، ويمنعون العاملين من النظر إليها ومن الأسئلة وحتى من التعاطف والبكاء. تحول السجن بعد الثورة السورية إلى مقبرة للثوار والمعارضين، كما قال الشهود إذ يُقدر عدد من أعدم هناك بين 2011 و 2014 بنحو ثلاثين ألف معتقل.

وكما ذكر حفار القبور في شهادته فإن المقابر الجماعية كانت تُحفر بطريقة ممنهجة، كل خندق طوله 200 متر، يُدفن فيه من 4-5 أشخاص، “كنا نرتدي كمامات بسبب الروائح القوية للجثث المتعفنة، وقد دُفن آلاف الضحايا الشهداء في مقابر القطيفة بريف دمشق وحدها بينهم أطفال ونساء”. وأكدت وزارة الخارجية الأميركية في 15 أيار/ مايو 2017 أن النظام السوري المخلوع يقوم باستخدام محرقة لإخفاء جرائم القتل الجماعي في سجن صيدنايا، وذلك لإخفاء الأدلة التي يمكن مقاضاته بموجبها بجرائم الحرب، وذلك استنادًا إلى صور الأقمار الصناعية التي رُفعت عنها السرية. أما صحيفة “نيويورك تايمز” الأميركية فقد كشفت عن وجود محرقة الجثث في مراكز أمنية أخرى للنظام مثل مطار المزة العسكري الذي تم فيه قتل أعداد كبيرة من المعتقلين تحت التعذيب كما ذكرت مصادر حقوقية عديدة.

الشهود في الفيلم ركّزوا في شهاداتهم على مجزرة واستعصاء صيدنايا 2008 عندما قامت الشرطة العسكرية وقوات الأمن بارتكابها في الخامس من تموز/ يوليو إثر احتجاج قام به السجناء وراح ضحيته عشرات الشهداء والجرحى، والمعروف أن هذا المسلخ البشري خرج عن سيطرة النظام آنذاك لمدة طويلة، وشوهدت أعمدة الدخان تتصاعد منه في التاريخ آنف الذكر وكانت أيامًا عصيبة ومعركة حقيقية عاشها السجناء وتعرضوا خلالها للحصار الشديد ومُنعت كل متطلبات الحياة اليومية عنهم. وذكرت مصادر حقوقية حينها أن من أبرز المتورطين بارتكاب المجزرة هو ماهر الأسد، شقيق رئيس النظام المخلوع المسؤول عن الفرقة الرابعة سيئة الصيت في سورية والمشهورة بارتكاب الانتهاكات والفساد والنهب.

بعد سقوط النظام وتحرير سورية وسجن صيدنايا بدا واضحًا أن المسؤولين عنه أحرقوا الكثير من الأدلة والوثائق قبل هروبهم بعد أن أغلقوا الزنازين والمهاجع إغلاقًا محكمًا، ولكن تمّ تحرير المعتقلين ومن بينهم نساء وأطفال ولدوا وعاشوا في هذا الكابوس المقبرة، وحضر أهالي المفقودين والمختفين قسريًا والمعتقلين بحثًا عن أبنائهم وأحبائهم ومنهم سيدات يبحثن عن دليل هنا أو ذكرى هناك تدل على من كانوا يعيشون في هذا الجحيم ولم يخرجوا مع من خرج من هذا النفق المظلم، وقد تحدثت إحداهن في الفيلم عن زوجها المختفي ولا تعرف عنه شيئًا. بينما  أكدت بعض الوثائق المتبقية أن التعذيب والإعدامات كانت تتم بأوامر من النظام مباشرة وقياداته الأمنية والعسكرية ورغم ذلك ما زالوا طلقاء.

يقع سجن صيدنايا على رأس جبل صخري شمال العاصمة السورية، وعلى بعد ثلاثين كيلومترًا من بلدة صيدنايا التي تُعتبر من أعرق الحواضر المسيحية في المشرق العربي. كل ما فيه يوحي بالقسوة والعنف، يحتوي على أجنحة عديدة، ويتألف من مبنيين، ويضمّ عشرات آلاف المعتقلين السياسيين مدنيين وعسكريين من انتماءات مختلفة، وقد تحدث عنه في الفيلم أحد الإداريين الذي بقي فيه حتى عام 2013 مؤكدًا أن أصوات التعذيب كانت تسيطر على المكان دائمًا، وأن الكاميرات تنتشر في كل ركن داخله وخارجه، ويوجد فيه مرآب وبوابات، والألغام تحيط به بالكامل، إضافة إلى أدوات التعذيب الوحشية والبنية المعمارية المُحكمة والتي جعلته متاهة يصعب الهروب منها، يتكون من طوابق فوق الأرض وأخرى تحتها، تربطها ممرات متداخلة، زنازينه ضيقة ومظلمة لا تتجاوز مساحتها مترين مربعين يُحشر فيها عدد كبير من السجناء المحرومين من أبسط حقوقهم الحياتية والإنسانية.

قدرت منظمة العفو الدولية أن ما بين 5000 – 13000 معتقل أعدموا خارج نطاق القضاء بين أيلول/ سبتمبر 2011 وكانون الأول/ ديسمبر 2015. وفي 2012 وثقت منظمة هيومن رايتس ووتش وجود أكثر من 27 مركزًا للاحتجاز في سورية شبيهة بسجن صيدنايا، وقد كُشفت الانتهاكات الجسيمة وأعداد الشهداء والشهيدات من خلال صور قيصر وتقريره الذي وثّق بالصورة الجرائم خلال السنوات الأولى للثورة فقط، في حين ذكر أحد الشهود الناجين في فيلم “وما أدراك ما صيدنايا” أن النظام كان يعدم يوميًا ما بين 100–150 سجينًا وأن الجثث كانت تُنقل إلى مقابر جماعية في نجها والقطيفة وغيرها من دون أي إجراءات قانونية. الجدير بالذكر أن الشبكة السورية لحقوق الإنسان أكدت في تقرير لها أن ما لا يقل عن 112414 شخصًا في عداد المختفين قسريًا على يد النظام السوري حتى نهاية 2024، بينما وثقت مصادر حقوقية حوالي 2623 حالة اعتقال تعسفي جديدة خلال العام آنف الذكر فقط، منها 349 في كانون الأول/ ديسمبر وحده، في حين ذكرت منظمات دولية أن عدد المعتقلين والمفقودين أكبر بكثير من كل ما أُعلن عنه، وأن الكثير منهم لم يُعرف مصيرهم بعد أشهر من سقوط النظام.

في الفيلم الوثائقي “وما أدراك ما صيدنايا” تشعر أن كل كلمة خُطت على الجدران خلسة قد أكلت من عمر السجين وصحته وإنسانيته، وأن كل صوت يصدر عن جنازير زنازينه وأبوابه يعني بدء التعذيب من جديد. وتسأل وأنت تستمع إلى شهادات الشهود كيف استطاع الجلادون أن يرتكبوا هذه المذابح بدم بارد وبإصرار على القتل؟ وكيف استباحوا أرواح المعتقلين وأجسادهم وتاريخهم وأحلامهم؟ وكيف كنا نعيش وإياهم في بلد واحد، وربما نسير معًا أحيانًا في شارع واحد؟

لكن ورغم سقوط النظام المجرم لم يُعاقب الجلاد حتى الآن، في حين يطالب المكلومون بمحاكمات عادلة ومعرفة مصير المفقودين، ومحاسبة كل من عذّب وسفك نقطة دم واحدة من دماء السوريين، وبأن يبقى باستيل سورية شاهدًا حيًا على نظام دام لعقود قتل من قتل وأذّل من أذّل ونهب ما نهب، فالعدالة لن تتم بدون اعتراف، والسلم الأهلي لن يتم من دون محاسبة.

وأنت وبعد مشاهدتك لهذا الفيلم ستشعر أنك لست كما كنت قبله، لأننا “حررنا السجن، لكننا لم نحرّر الحقيقة بعد”.

ضفة ثالثة

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى