المخاض السوري وبناء دولة حديثة/ علي العبدالله

30 ابريل 2025
طرح إسقاط جهات سلفية النظام البائد في سورية، والبدء بتأسيس دولة من الصفر، مخاوف من طبيعة الدولة القادمة، هل ستكون دولة حديثة أم ظاهرها حديث وجوهرها دولة الرئيس. وقد عمّقت قرارات السلطة الجديدة وطرق إخراجها قراراتها والدور المهيمن الذي يلعبه الرئيس الانتقالي أحمد الشرع في إدارة البلاد هذه المخاوف، فالمخاوف حقيقية وداهمة، بعد أن وضع الإعلان الدستوري أسسا دستورية تمنح الرئيس الانتقالي مداخل عملية لصياغة الدولة وفق تفضيلاته وخياراته السياسية. وهذا مسار عواقبه غير محمودة وفي غاية الخطورة، فالرئيس الذي هو في الدولة الحديثة موظفٌ لدى الدولة يقوم بصياغتها، بحيث يصبح مالكها وسيّدها من دون منازع. ليست المسألة شكلية أو خلافاً فقهياً، حيث سبق وصاغ حافظ الأسد الدولة السورية على مقاسه، وحوّلها إلى دولة الرئيس عبر دستور يمنحه صلاحيات ملكٍ في نظام ملكي غير دستوري.
حدّد فقهاء القانون الدستوري العناصر التي يجب أن تتوفّر في كيانٍ ما حتى يعتبر دولة، واتفقوا على ثلاثة عناصر: شعب وأرض وسيادة شاملة على الشعب والأرضً. وقد ترتب على هذه العناصر تحديد سلطات الدولة بالسيادة القانونية، حيث للدولة وحدها حق إصدار القوانين وتطبيقها، والسيادة السياسية، حيث للدولة وحدها حق احتكار وسائل العنف والإكراه لضمان سيادة القانون وصيانة الاستقلال إزاء الخارج، والسيادة الدولية، حيث للدولة وحدها حقّ إقامة العلاقات مع الدول الأخرى والهيئات الإقليمية والدولية. فالدولة، التي كانت تعني في القرون الوسطى السلطة أو الحُكم أو الحاكمين، غدت شخصاً اعتبارياً، شخصاً معنوياً، تتجسّد في دستور وقوانين وسلطات تشريعية وتنفيذية وقضائية، سلطة تصدر تشريعات وسلطة تنفذ، وسلطة تفتي بدستورية التشريعات وتنفيذها من عدمه. لم تسند السيادة إلى شخص طبيعي، بل إلى شخوص معنوية مجردة: الأمة، الشعب، الدولة، المؤسسات، بينما أسندت السلطة إلى شخوص طبيعية لممارستها نيابة عن الدولة، وقد قُيّدت السلطة بالدستور والقوانين، بعد أن كانت تقيّد بالقانون الطبيعي والقيم الأخلاقية العامة، فالدولة توكل سلطتها إلى من ينوب عنها في ممارستها، فالرئيس والحكومة والبرلمان والقضاء لا يملكون سيادة أصلية، إنهم وكلاء الدولة في ممارسة السيادة؛ إنهم مفوضون من الدولة، وليسوا أصحاب سيادة ذاتية، مُنحوا حقّ إصدار القوانين، واحتكار حيازة وسائل الإكراه، وحقّ استخدامها في سبيل تطبيق القوانين بهدف تأمين النظام والسلم الاجتماعي، وتمكين التقدّم في الداخل وحماية البلاد من الخارج. وهذا كله، أي حقّ استخدام السيادة بمستوياتها، مرتبط وجوداً وعدماً بشرعية السلطات التي تنالها عبر أطر وإجراءات حيث لا بد لتأسيس الدولة من البدء بتشكيل جمعية تأسيسية مؤقتة، منتخبة أو مختارة بحسب الظروف، على أن تضم نخباً ثقافية وسياسية واجتماعية ذات خبراتٍ تكلّف بوضع إعلان دستوري لضبط مسيرة البناء يعيّن بموجبه رئيساً مؤقتاً من الجمعية التأسيسية، لخبرته أو لكبر سنه، يشرف على الخطوات التالية لبناء الدولة: وضع نص دستور مؤقت وإجازته باستفتاء شعبي أو بإقراره من الجمعية التأسيسية وفق الظروف بعدها تشكيل سلطة قضائية مؤقتة من قضاة البلد من ذوي الخبرات والنزاهة تجري انتخابات برلمانية ورئاسية بإشراف السلطة القضائية، فتُصبح في البلاد سلطات جاهزة لتسلّم السيادة نيابة عن الدولة، والبدء وبوضع التشريعات والقوانين الناظمة للحياة الوطنية.
لم تعتمد السلطة الجديدة في سورية السبل المتعارف عليها دوليا لنيل الشرعية والسيادة، حيث ولى مؤتمر النصر رئيس إدارة العمليات العسكرية أحمد الشرع رئاسة البلاد خلال المرحلة الانتقالية وفوّضه بالقيام بخطواتٍ تنفيذيةٍ من حلّ الجيش وأجهزة المخابرات والأحزاب السياسية إلى تفويضه بتشكيل مجلس تشريعي، كلّف بدوره لجنة لوضع إعلان دستوري، فجاء الإعلان حاسما في تحديد طبيعة النظام السياسي: نظام رئاسي، مانحاً الرئيس الانتقالي سلطات تشريعية وتنفيذية وقضائية واسعة في الفترة الانتقالية. أقرّه من دون عرضه على الرأي العام أو على القوى السياسية والاجتماعية، وشكل لجنة لاختيار ثلثي أعضاء مجلس تشريعي مؤقت، ومنح نفسه حقّ اختيار الثلث الباقي. وهذا على الضدّ مما ورد أعلاه حول المتعارف عليه دولياً لاكتساب الشرعية في الدولة الحديثة، والحصول، بالتالي، على تفويض الدولة لاستخدام حقوق الدولة من حق السيادة في إصدار القوانين إلى حقّ احتكار القوة واستخدامها، وحقّ تمثيل الدولة في المجال الدولي. ما جرى حتى اللحظة صورة مشوهة عن نيل الشرعية هو أقرب إلى وضع يد على سلطات الدولة عبر شرعية غير حقيقية أو شرعية ناقصة على أقل تقدير. وهذا يثير المخاوف من بقية خطوات التأسيس، حيث المقدّمات لا تشير إلى مسار يقود إلى بناء دولة حديثة، دولة الشعب/ الأمة، فالمقدّمات تشير إلى إعادة إنتاج دولة الرئيس التي شكلها حافظ الأسد بغلاف خارجي جديد سنّي وسلفي، وهي وصفة لاستمرار الخلافات والتوترات الداخلية.
تستدعي المصلحة الوطنية من القوى السياسية والاجتماعية والمدنية التصرّف بحصافة وجدّية لتعديل المسار خلال المرحلة الانتقالية بالضغط لمنح المجلس التشريعي الانتقالي القادم حق تعديل مواد في الإعلان الدستوري لصالح إعادة النظرة في بعضها، مثل المتعلقة بطبيعة النظام وتقليص بعض صلاحيات الرئيس وتقييد بعضها ومنح المجلس حقّ مراقبة عملية بناء مؤسسات الدولة العامة بحيث يكون معيار اختيار المسؤولين محكوماً بالمواطنة المتساوية والكفاءة. وهناك نوعان من المواطنة، واحدة مبنية على الهوية الإثنية وأخرى مبنية على القيم المشتركة وهي المقصودة هنا، وتدريب الجيش وأجهزة المخابرات والشرطة على احترم المواطن وحقوقه الدستورية والقانونية ومنح المجلس التشريعي حق رعاية وضع مشروع الدستور والتركيز على محتوى المواطنة والحريات وفصل السلطات وضبط سلطات الإدارات بدستورية القوانين، والتداولية، والتشاركية، وأخذ التعددية القومية والدينية والمذهبية بعين الاعتبار.
سيعترض مؤيدو السلطة الجديدة على فحوى هذه السطور ويبرّرون ما حصل بما يسمى الشرعية الثورية. تبرير فاسد، الشرعية الثورية اصطنعها قادة الانقلابات العسكرية والحركات الثورية القريبة من الاتحاد السوفييتي إبّان الحرب الباردة لتبرير السيطرة على الحكم من خارج الوضعين، الدستوري والقانوني، أي من خارج صندوق الانتخابات، تبرّر فيه عدم الشرعية بالثورية، وهي لعبة عقيمة لا طائل تحتها. والتذرّع بها تبرير لا يخفي المعنى الحقيقي لما كان يحصل: نزع السلطة بالقوة وبالغلبة، وهو ما حصل في سورية أخيراً، وهو أمرٌ مبرّر للتخلص من نظام قاتل وفاسد، لكنه لا يصلح غطاء لكل ما يأتي بعده من قرارات وممارسات، ما يستدعي التدقيق في طبيعة القرارات والممارسات التي تصدُر بعد إسقاط النظام البائد ومدى تعبيرها عن مصالح المجتمع السوري وتطلعاته وطموحاته السياسية والاجتماعية والاقتصادية، فنوعية القرارات ومحتوياتها الوطنية والاجتماعية والاقتصادية ستسمح فقط بالحكم على عملية إسقاط النظام البائد، أهي لصالح الشعب عامة فتكون قراراتها مقبولة وتنال الشرعية الشعبية، أم هي لصالح مكوّن قومي معين أو جماعة سياسية محددة فتكون العملية ليست أكثر من الاستيلاء على السلطة ووضعها في خدمة المكوّن القومي أو الجماعة السياسية. تفيد المؤشّرات الحالية بأن عملية ردع العدوان ونتائجها جرت بأيدي قوى سلفية، كان الأمر منطقياً في سياقه، لكن هذه القوى بدأت توظّف سلطتها لخدمة توجهاتها الفكرية وطموحات قادتها السياسية وتناور لتمرير توجهاتها بسلاسة، مثل خطتها لتشكيل جيش مهني من المحترفين التي تخفي توجّهها لتشكيل جيش عقائدي سلفي، حيث يتم تأهيل العساكر ثقافيا عبر دورات تعبئة عقائدية بدراسة الفكر السلفي، تشكيل مجلس الإفتاء السوري هو الآخر انطوى على مناورة مكشوفة بإشراك ثلاثة سلفيين من السلطة فيه مهمتهم على ما يبدو مراقبة المجلس من داخله ودفعه إلى الإفتاء بما يخدم السلطة الجديدة أولاً، والسيطرة على المؤسّسة تاليا بإضعاف دور التيارات الإسلامية الأخرى فيه، الأشعرية والصوفية والمشيخية، إذ لو كان الأمر غير ذلك لتم إشراك سلفيين من خارج السلطة، تأسيس مؤسّسات وإدارات وتكليف مديرين باعتماد معيار الولاء لا الكفاءة. ما يعني أن مخاوف وهواجس قطاعات واسعة من الشعب السوري مبرّرة.
ثمّة عاملان يصبان الماء في طاحونة الرئيس أحمد الشرع، ما يستدعي المراقبة والتدقيق الشديدين: الأول، صورة الحاكم في المخيال الشعبي السوري هي صورة الخليفة، بالهالة الدينية التي تظلّله وتجعل قراراته لا ترد. وهذا يمنح الشرع فرصة العزف على وتر المخيال الشعبي بالإكثار من الظهور في المناسبات الدينية والتجوّل في الليالي لتفقد أحوال الرعية وتوظيف إمكانات البلاد في تحسين معيشة المواطنين وتخليصهم من العوز والفقر والجوع، ما يذكّرهم بممارسات الخلفاء، فيوسّع دائرة القوى الاجتماعية الملتفة حوله، ويحافظ على تعاطف المواطنين وحبّهم الذي منحوه له مكافأة على إسقاط النظام البائد، فيحصّن نفسه ضد دعوات السياسيين والخبراء وقادة الرأي. العامل الثاني عدم احتلال الخيار الديمقراطي في سورية أولوية غربية؛ فأولوية الغرب في سورية الاستقرار لتحاشي موجات هجرة وإعادة اللاجئين لديه، ما يجعله ينظر إلى قرارات الشرع من هذه الزاوية تحديداً، والنظر إليها بإيجابية إذا حققّت تطلّعه في قضية اللاجئين.
صحيحٌ أن الدولة ليست ظاهرة طبيعية، بل اصطناعية، أوجدها الذكاء البشري لتأمين حياة الجماعة، وهذا يؤدّي إلى أن تكون طبيعة الدولة متأثرة بطبيعة المجتمع الذي يقيمها ومدى تطوره السياسي والاجتماعي والثقافي، لكن هذه الحقيقة يجب ألا تكون رصيداً مفتوحاً لتبرير تلاعب الحكام والتذرّع بعدم أهلية المواطنين للحداثة والدولة الحديثة والإبقاء على طبيعة الدولة ونظامها السياسي أقرب إلى سلطة العصور الوسطى، فهذه وصفة للفشل والبقاء في الحلقة المفرغة.
العربي الجديد