سقوط بشار الأسد، الرئيس الفار والمخلوعصفحات الثقافة

أسئلة كانط في السياق السوري… ماذا يمكن أن نعرف؟/ حسام الدين درويش

02 مايو 2025

تُعرَف وتُعرَّف الفلسفة بأنّها طرحٌ للأسئلة أكثر من كونها تقديم إجاباتٍ عن تلك الأسئلة. وقد حاججت، في نصوصٍ سابقةٍ، بنسبية معقولية هذه الفكرة، وابتعادها عن تلك المعقولية بقدر ما يمكن أن تتضمّنه من نفيٍ أو تقليلٍ من قيمة أو أهميّة الإجابات التي قدّمها ويقدّمها الفلاسفة في تناولهم لتلك الأسئلة. فتلك الإجابات هي التي أعطت وتعطي للفلسفة حضورًا وتاريخًا وأفقًا معرفيًّا ومستقبليًّا. وقد تنوّعت مضامين الأسئلة الفلسفية، وثمّة تأريخ بداية الفلسفة (اليونانية) بنوعية الأسئلة المطروحة: “ما الحقيقة؟”، “ما العدالة؟”، “ما الجمال؟” …إلخ. فقد عُدَّت تلك الأسئلة، والإجابات المقدّمة عنها، بدايةً للفلسفة (اليونانية)، مقارنة مع التناول الأسطوري والديني والأخلاقوي والنفساني الذي كان سائدًا في سياقات ثقافية ومعرفيةٍ سابقةٍ مختلفةٍ.

ولعلّ الأسئلة (الثلاثة) التي صاغها وطرحها الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط هي من أبرز الأسئلة في تاريخ الفلسفة عمومًا: “ماذا يمكنني أن أعرف؟”، “ماذا علي أن أفعل؟”، ما الذي يحقّ لي أن آمله؟”. وتغطي هذه الأسئلة الإشكاليات الرئيسة للعقل، ببعديه النظري والعملي، في مجالات المعرفة والأخلاق والدين. وقد كان طرح تلك الأسئلة، وإجابات كانط عنها، منعطفًا حاسمًا في تاريخ الفلسفة، وما زالت تلك الأسئلة، وإجابات كانط وغيره عنها، حاضرةً، بقوّةٍ، في النقاشات الفلسفية حتى يومنا هذا.

يمكن طرح مثل هذه الأسئلة في كلّ السياقات عمومًا. فهذه الأسئلة، مثلها مثل كلّ الكلاسيكيات، الفلسفية وغير الفلسفية، عابرةٌ للتاريخ؛ لكن كونها عابرةً للتاريخ، لا ينفي تاريخية الإجابات المقدّمة عنها، وفقًا لتاريخية السياق الذي تُطرح فيه. وأرى فائدةً خاصةً، بل ضرورةً ملحةً، في طرح مثل هذه الأسئلة في السياق السوري الراهن. لأنّ الإشكاليات الثلاث التي تتناولها تلك الأسئلة (إشكالية المعرفة، الإشكالية الخلقية والإشكالية الدينية) حاضرة بقوة، وتعكس واقعًا مشكّلًا ومأزومًا جدًّا. وثمّة فائدة وضرورة من الطرح الجماعي والفردي لمثل هذه الأسئلة، في السياق السوري، بقدر ما تسود الانفعالات الهائجة، والعواطف الجيّاشة، والرغبات الهائمة، والتطلّعات الغائمة، في مثل السياق المذكور. ويرى كثيرون، وأنا منهم أنّ هذه الهيمنة حاضرة بقوّة في المجالين العام والخاص في سورية، في الفترة الراهنة.

ما الذي يمكننا أن نعرفه في وعن السياق السوري المعاصر؟

إنّ تحديد ماهية المعرفة الموضوعية المُمكن الحصول عليها بما يسمح بتمييزها من الظنون الرغبوية والتخمينات التنبؤية، والإشاعات المغرضة، أمرٌ غايةٌ في الأهمية، في السياق السوري (الراهن)، لأنّ كثيرات وكثيرين يبنون مواقفهم وأفعالهم، ويخاطرون بحيواتهم وحيوات آخرين، بناءً على ما يزعمون معرفته، رغم أنهم لا يملكون سندًا كافيًا لذلك الزعم. ويلجأ كثيرون إلى المبالغة والمزايدة في هذا الخصوص، بالاستناد صراحةً أو ضمنًا، وبوعيٍّ أو بدونه، إلى مبدأ “الغاية تبرر الوسيلة”. وهم لا يدركون أنهم بمبالغاتهم التي يمكن تسميتها بالأكاذيب، وبممارساتهم المُضادة للحق، بوصفه حقيقة وخيرًا، يسيئون إلى من وما يدافعون عنه من أشخاصٍ وقيمٍ وقضايا أكثر (بكثير) من خدمتهم لهؤلاء الأشخاص وتلك القيم والقضايا. وليس هناك حقٌّ، من دون تقديم ما يناسبه ويدعمه ويؤسّس له من بناءٍ نظريٍّ وممارسةٍ عمليةٍ. فالحقّ يبنى قبل أن يُبنى عليه، ولا يُعطى أو يوجد قبل ذلك، عمومًا. وعلى الرغم من هيمنة الشائعات غير موثوقة المضمون والمعارف المشوّهة والزائفة، ثمّة الكثير من المعارف المُثبتة والوقائع الموثّقة التي يمكن للأحكام المعرفية وغير المعرفية أن تتأسّس عليها، ولا حاجة إلى فبركة المزيد منها. وإذا كانت المعرفة المتعلّقة بالمستقبل احتمالية بالضرورة، عندما يتعلّق الأمر بالبشر ومجتمعاتهم ودولهم وأحوالهم عمومًا، فإنّ ذلك ينطبق، انطباقًا خاصًا على المستقبل السوري، بسبب السيولة الشديدة والمتغيّرات الكثيرة المحدّدة لماهية هذا الوضع. فعلى العكس من الوضع في سورية الأسد، حيث كان الأفق مسدودًا، لا سيما في الأعوام الأخيرة التي سبقت سقوط الأسد، ثمّة الكثير من العوامل والذوات والأطراف الفاعلة التي يمكن أن تسهم في تحديد ذلك المستقبل، وليست ثمّة بنية قوّية لها حقّ تقرير مصير سورية، أو لديها القدرة على تقرير ذلك المصير، بمعزل عن السوريات والسوريين وبقية الأطراف الفاعلة في السياق السوري. وعلى هذا الأساس حاججت، مع كثيرين، بضرورة أن تتسق رؤانا المعرفية مع ذلك الواقع السيَّال والمعقّد، بعناصره المختلفة، بحيث تنضبط التوقّعات، ولا تكون مجرّد تنبؤات مُتنكرة، وناكرة لكونها تنبؤات رغبوية، تعبّر عما ترغب فيه أو عنه، أكثر مما تعبّر عما يمكن للمعطيات المتوفرة أن تسمح به.

لا يسمح السياق الحالي بالدخول في مضامين مسألة ما يمكن معرفته، في السياق السوري الحالي، لذا سأكتفي بإشارةٍ سريعةٍ إلى مسألةٍ أو مسألتين، لأبيّن أهمية طرح السؤال المذكور، بما يساعد على ضبط المعارف المتعلّقة بالإجابات المُمكنة عنه.

من ناحيةٍ أولى، هناك مسألة الدولة. سورية الآن ليست دولةً إلا من الناحية الشكلية الاسمية القانونية الخارجية فقط، أما من حيث الواقع، وانطلاقًا من أيّ تعريفٍ معقولٍ لماهية الدولة، فليست هناك دولة، في سورية، وليست هناك سلطة تمثّل (شرعية) تلك الدولة. ووجود ممارسات وتنظيرات تتبنى، بوعيٍّ أو من ودون وعيٍّ، وصراحةً أو ضمنًا، شعار “نحن الدولة ولاك”، يعبّر عن غياب سورية، بوصفها دولةً، على الرغم من سعي أصحاب تلك الممارسات والتنظيرات إلى إنكار تلك الحقيقة، وإكراه الآخرين على الخضوع ﻟ “دولتهم”. وسورية ليست دولةً، لأنّ أراضيها مقسّمة بين أكثر من سلطةٍ محليةٍ، ومستباحة من أكثر قوّةٍ خارجيةٍ، ولأن مؤسّساتها الوطنية الأساسية، كالمؤسّسات العسكرية والأمنية والخدمية والتربوية والإعلامية … إلخ، غائبة أو مغيّبة تمامًا تقريبًا، في كثيرٍ من السياقات. وبعد الإقرار بحالة اللادولة في سورية، يمكن الحديث عن إمكانية وكيفية قيام الدولة السورية، بعدما أصبحت عظامها رميمًا، نتيجةً لعمليات طحنٍ وتدميرٍ ممنهجةٍ لها مستمرةٍ منذ ولادتها حديثة العهد، حتى الوقت الراهن. وانطلاقًا من الإجابة عن مثل هذا السؤال، يمكننا وصف ما تقوم به سلطات الأمر الواقع، ومختلف الأطراف السورية الفاعلة، وتقييم مدى إسهامه في قيام سورية/ الدولة المنشودة، أو طمس معالم تلك الدولة والاستمرار في تهديم ما بقي من مُمكناتٍ لقيامها.

من ناحيةٍ ثانيةٍ، هناك مسألة النظام السياسي، القائم والمنشود، الاستبدادي والديمقراطي، المرحلي والدائم. ففي ظلّ الغياب المذكور للدولة، هل هناك إمكانية لقيام نظامٍ ديمقراطيٍّ في سورية؟ وإذا كانت الإجابة هي النفي، فكيف يمكن للعمل على قيام الدولة السورية أن يتطلّب تأجيل مسألة ديمقراطية النظام السياسي، وتمهيد المجال، في الوقت نفسه، لقيام مثل تلك الديمقراطية، وذلك النظام، في أقرب وقت ممكنٍ؟ ما العوائق، الذاتية والموضوعية، التي تحول دون وجود الدولة السورية ونظامها السياسي المنشود؟ وكيف يمكن التعامل معها: هل يمكن وينبغي لنا الدخول في صراع وجودٍ مع أيّ طرفٍ سياسيٍّ قائمٍ، أم إنّ الصراعات ينبغي أن تبقى صراعات حدودٍ تقبل بوجود كلّ الأطراف السورية المتصارعة بقدر قبول تلك الأطراف الإسهام الإيجابي في قيام الدولة السورية ونظامها السياسي المنشود؟ وما البدائل المتوفّرة أمام السوريات والسوريين، وما المعايير المناسبة للمفاضلة في ما بينها؟

ومن ناحيةٍ ثالثةٍ مرتبطةٍ بالناحيتين السابقتين، ومتداخلةٍ معهما، هناك سؤال المسؤولية والفاعلية. فما هي السلطات التي (ينبغي أن) تتحمّل المسؤولية السياسية و/ أو القانونية و/ أو الأخلاقية عما يحصل في سورية عمومًا، ولا سيما في المناطق المُفترض أنها خاضعة لسيطرتها؟ وبأيّ معنى وإلى أيّ درجةٍ يمكن تحميل تلك الأطراف المسؤولية المذكورة؟ وإذا كانت تلك الأطراف غير قادرة على تحمّل تلك المسؤوليات، لأسباب تتعلّق بالتركة أو البنية التي تركها النظام الساقط، و/ أو بطبيعة تلك الأطراف وضعفها وانقساماتها الداخلية وتوجّهاتها الأيديولوجية، و(سوء) كفاءاتها القيادية، وصعوبة الأوضاع وكثرة المتغيّرات والعوامل الداخلية والخارجية (السلبية) … إلخ، فما الذي يمكن (ولا يمكن) لهذه الأطراف القيام به، والذي يجب أخذه في الحسبان عند الحديث عنها وتقييمها؟ وهل المستطاع المطلوب منها والواجب عليها كافٍ من ناحيةٍ، ومطاعٌ، من ناحيةٍ أخرى؟

من الواضح أنّ المجال المعرفي يتضمّن مشروعيةً لإجاباتٍ أو أطروحاتٍ مختلفةٍ إلى حدّ التناقض، حتى في حال كان هناك التزام بضوابط المعرفة وما يمكن لنا معرفته. ومن الواضح أيضًا أنّ سؤال المعرفة، أو العقل النظري، متداخلٌ مع سؤال الأخلاق والسياسة، أو العقل العملي. وسأناقش في مدوّنةٍ قادمةٍ، أو أكثر، (تداخل سؤال المعرفة مع) السؤالين الآخرين، المتعلّقين بميداني الأخلاق (والسياسة) والدين: “ما الذي ينبغي لنا فعله في وتجاه السياق السوري المعاصر؟”، كما سأبيّن ترابط الأسئلة الثلاثة المذكورة، مع سؤالين طرحهما كانط نفسه، وهما: “ما الإنسان؟”، و”ما التنوير؟”.

العربي الجديد

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى