الدراما السورية: الوقوف على ضفّة النهر الأحمر/ محمد أمين

06 مايو 2025
ربما ستحتاج الدراما السورية وصنّاعها زمناً كي تستوعب صدمة الانتقال من ضفةٍ إلى أخرى، من زمن إلى آخر، فالتغيير عميق جداً. لو هُيئ لبشّار الأسد الانتصار وكسر إرادة السوريين، لكانت الدراما مضطرّة لتخليد (وتوثيق) سردية ذاك النظام المخلوع القائمة على الكذب والبهتان. وهي كانت بدأت بالفعل في السنوات العشر الأخيرة في هذه المهمّة السوداء من خلال مسلسلات وأفلام رديئة ومرتجلة، حاولت من دون جدوى نسف الحقيقة، لتبرئة هذا النظام من جرائمه. أمّا وقد انتصر السوريون بعد ملحمة ثورية، فإن الدروب مفتوحة لكل الكتّاب والمخرجين لتناول الملحمة التي كان وقودها الناس الطيبون والشجعان. حقيق بهؤلاء أن تكون سير حيواتهم منهلاً لا ينضب للدراما (تلفزيون وسينما) لتخليد مرحلة كاملة، عنوانها الأبرز الإصرار على التغيير واقتلاع بذرة الشر.
دراما التلفزيون فن متأصل في مسيرة الثقافة السورية، بدأ مبكّراً مع انطلاق بثّ التلفزيون السوري عام 1960. قدّمت الدراما السورية في الستينيات والسبعينيات من القرن الفائت أعمالا لا تزال خالدة في ذاكرة السوريين. إلى أن جاء عقد الثمانينيات فتحوّلت الدراما التلفزيونية إلى صناعة حقيقية جذبت رؤوس الأموال الخليجية التي اعتمدت على مبدعين سوريين في إنتاج أعمال عديدة، وخصوصاً التي تتعاطى مع التاريخ. في التسعينيات، ومع ثورة الفضائيات، تصدّرت الدراما السورية المشهد الإعلامي العربي، لا سيما أن الدراما المصرية كانت تعاني مشكلاتٍ عديدة، فضلا عن ترحيب المشاهد العربي بدراما جديدة تحمل بذور نضج وتميّز، ينهض بها ممثلون موهوبون تعلّموا الأداء في المعهد العالي للفنون المسرحية.
مطلع الألفية الجديدة يعد الانطلاقة الحقيقية للدراما السورية التي كانت قد نضجت إلى حد بعيد، سواء من حيث النص والإخراج، أو من جهة الظرف الإنتاجي. في أواخر عام 2001، قدّمت الدراما السورية عملاً تاريخياً، ربما يعد الأعلى شعبية وتأثيرا في المشرق العربي، وهو مسلسل “الزير سالم”، الذي كتبه ممدوح عدوان، الذي قرأ هذه السيرة الشعبية بطريقة استفزت الوجدان والمخيال العربي، وأخرجه حاتم علي. وكان هذا العمل بمثابة إعلان صريح عن موهبة سورية سوف تلعب دورا غاية في الأهمية في الدراما التاريخية. نشأت شراكة متميزة بين كاتب مبدع، هو وليد سيف، ومخرج صاحب مشروع ثقافي هو حاتم علي، فقدّما أهم الأعمال التاريخية في تاريخ الدراما العربية على الجملة: صلاح الدين الأيوبي، وثلاثية الأندلس (صقر قريش، ربيع قرطبة، ملوك الطوائف)، والتغريبة الفلسطينية، التي تابعها السوريون بشغف وتأثر في عام 2004 غير مدركين أنهم سيمرّون بكل تفاصيلها الموجعة والمؤلمة بعد عقد. أدرك النظام الأسدي البائد أهمية الدراما التلفزيونية في حياة السوريين، فاتخذها مطيّة سهلة القياد من أجل الوصول السريع إلى وجدان السوريين لحرفه، فدعم، كل الدعم، ما باتت تُعرف بـ”الدراما الشامية”، وعنوانها الأبرز مسلسل “باب الحارة” الذي شوّه وجه دمشق وثقافتها. وباتت الدراما تجارة تتحكّم بها شركات إنتاج مرتبطة بقنوات تلفزيونية عربية بلا مشروع سوى التسلية والترفيه السطحي.
قبيل اندلاع الثورة السورية بعد أشهر، لم يتردّد النظام البائد في استخدام الدراما التلفزيونية خنجراً لطعن عقيدة غالبية السوريين، وبعثرة هويتهم، فظهر مسلسل (وقفت خلفه أجهزة النظام الأمنية)، كان سببا لاستياءٍ عمّ البلاد، “ما ملكت أيمانُكم” للكاتبة هالة دياب وللمخرج الأكثر قربا وانتفاعا من نظام الأسد نجدت أنزور. لقد تجرّأ على المؤسّسة الدينية السورية، رغم قربها منه وتسويقها المتكرر له على المنابر. اعتُبر العمل حربا على الإسلام الشامي الوسطي، ما دفع أشهر علماء الشام، محمد رمضان البوطي، والمصنّف ضمن المدافعين عن النظام البائد (قتل في عام 2013)، إلى التحذير من الخطر الداهم على البلاد، نتيجة هذا العبث غير المسبوق من خلال ذاك العمل الذي يعدّ الأسوأ في تاريخ الدراما السورية، وقال إنه رأى “غضبة إلهية عارمة، تسدّ بسوادها الأفق، هابطة من السماء وليست من تصرّفات الخلائق”.
تجمّعت في ربيع عام 2011 غيوم الثورة في السماء السورية قادمة من سماوات عربية قريبة. كانت حدثاً متوقّعاً ومنتظراً، فالبلاد في ذلك الحين كانت تغرق في الفساد بكل وجوهه. داهمت الثورة الدراما السورية التي كانت قد انجرفت في ذلك العام إلى القاع. بدأ الفرز داخل الوسط الفني السوري بين مؤيد أو معارض أو صامت باحث عن مصالح شخصية ضيقة، مدفوعاً من الخوف وبطش الأجهزة. طوال سنوات الثورة الطويلة، ظهرت عشرات الأعمال التي بقيت على ضفة النهر الأحمر لا تتجرّأ على الخوض فيه. مرّت هذه الأعمال من دون ضجيج إعلامي، لسطحيتها ومحاولة بعضها تبرير إجرام النظام بحقّ السوريين. أما وقد انتصروا فلم تعد للدراما وصنّاعها الذين انحازوا للقاتل المكانة التي فرضها النظام عليهم. ولعلّ مشهد تجاهل السوريين قبل أيام دريد لحّام (90 عاماً)، الذي كان أكثر الفنانين قرباً من النظام البائد، العقاب الأقسى الذي تلقّاه في حياته. تجاهله يعني تجاهل مرحلة كاملة. حاول بعض صنّاع الدراما القديمة ركوب الموجة الجديدة، عبر التعاطي المرتجل والتجاري مع واحد من أكثر الملفات وجعاً، وهو ملف المعتقلين في سجون الأسد، إلا أن السوريين كانوا لهم بالمرصاد وأوقفوهم عند حدّهم. قالوا: إن الوجع لن يكون تجارة لدى فناني الأسد المخلوع.
العربي الجديد