“الدولة الغائبة تُنتج الطائفية”.. برهان غليون يُعرّي المسألة الطائفية في سوريا

2025.05.04
تشهد سوريا منذ سقوط نظام بشار الأسد سلسلة من الاستحقاقات المعقدة، من أبرزها المسألة الطائفية التي تراكمت بفعل سياسات النظام لأكثر من نصف قرن. هذه المسألة ألقت بظلالها على الواقع السوري الذي كان معقدًا أصلًا، فالأحداث المتسارعة من الساحل السوري إلى السويداء، وأحياء جرمانا وصحنايا وأشرفيتها، أعادت النقاش حول الطائفية، التي تجاوزت بعدها الديني والمذهبي لتصبح قضية مصيرية في مسار بناء الدولة السورية.
المفكر السوري الدكتور برهان غليون يرى أن الطائفية في سوريا ليست سببًا للأزمة، بل نتيجة لصراع سياسي واضح. هو يرفض تمامًا اعتبار ما يجري صراعًا دينيًا أو مذهبيًا، مؤكدًا أن الحروب الدينية انتهت منذ القرون الوسطى، ولم يعد هناك طرف يسعى لفرض عقيدته على الآخر. اليوم، لا أحد يريد تغيير ديانة أحد، ولا أحد قادر على ذلك في عصر التنوع الهائل الذي نعيشه.
بحسب غليون، لا تنشأ الفتن الطائفية إلا عندما تُستخدم كأداة في الصراع السياسي. ما يحدث في سوريا من توتر طائفي هو تعبير عن صراع سياسي عميق، انفجر بعد انهيار النظام، وفتح الباب أمام تنافس داخلي وخارجي حول شكل الدولة السورية، ومكانتها، ودورها الإقليمي والدولي.
يرى غليون أن سقوط النظام فتح ساحة صراعات بين قوى داخلية وأطراف خارجية حول طبيعة الدولة المقبلة: هل ستكون دينية؟ مدنية؟ علمانية؟ من سيشارك في الحكم؟ من يحدد دور كل طرف في بناء الدولة؟ النخب السياسية والاجتماعية اليوم تتصارع على الإرث الذي خلفه النظام، وتحاول اقتسام النفوذ والمكانة. هناك قوى محلية ظهرت في السنوات الماضية، خصوصًا في الشرق والجنوب والساحل، بنت شبه دول، ولا ترغب بالتخلي عن سلطاتها. بعضها يسعى لإقامة كيانات شبه مستقلة، وبعضها الآخر يريد حصة في الحكم المركزي.
الدكتور برهان غليون يتحدث عن الطائفية ودورها في تقويض حلم الدولة السورية | منتدى دمشق
بموازاة هذه الصراعات الداخلية، تنخرط القوى الإقليمية والدولية في إعادة تشكيل موقع سوريا في الخارطة السياسية. إسرائيل، على سبيل المثال، تحاول إبقاء سوريا دولة ضعيفة، فاشلة، غير قادرة على تشكيل تهديد. في هذا السياق، تتحول الطائفية إلى وسيلة ضغط وتخريب. كل طرف يستخدمها لزعزعة الطرف الآخر، وتحقيق مكاسب سياسية عبر تفجير نزاعات أهلية.
يرى غليون أن المرحلة التي تلت سقوط النظام مباشرة اتسمت بهدوء نسبي، فقد ساد الترقب والانتظار من مختلف الأطراف. القوى التي دعمت النظام تفاجأت بسقوطه، ولم تعرف كيف تتصرف. القوى المعارضة ظنت أن الأمور تسير في اتجاه انتصارها، لكنها فوجئت بظهور قوة جديدة تحاول فرض نفسها وتضم الآخرين إليها بالقوة أو التهديد.
هذه القوة الجديدة، وفق غليون، اعتمدت منهجًا إقصائيًا غامضًا في إدارة المرحلة الانتقالية. لم تضع خريطة طريق واضحة، ولم تبادر إلى إشراك القوى الاجتماعية والسياسية في عملية الانتقال. هذا المنهج خلق أزمة ثقة كبيرة، خصوصًا لدى من أسهموا في الثورة أو كانوا جزءًا من المعارضة، إذ شعروا بأنهم مقصون من كل قرار، وأن سلطة ما تحاول الاستئثار بكل شيء.
يؤكد غليون أن الطائفية لم تكن لتنفجر بهذا الشكل لولا غياب مؤسسات الدولة والفراغ السياسي الناتج عن انهيار النظام السابق. سوريا خرجت من نظام عطّل الحياة السياسية لمدة ستين عامًا. لا أحزاب، لا نقابات، لا جمعيات، لا مؤسسات مدنية. في ظل هذا الفراغ، ومع غياب البدائل السياسية، لجأت بعض القوى إلى التعبير الطائفي لتعويض غياب أدوات الفعل السياسي.
في سياق تحليل الأزمة، يشير غليون إلى أن الحل يكمن في إعادة بناء المؤسسات السياسية والاجتماعية، وإشراك الناس في عملية التحول. يرى أن على السلطة الجديدة أن تطرح مشروعًا واضحًا للدولة المدنية، يحدد مسار الانتقال وخطواته الزمنية. يجب أن يعرف المواطنون إلى أين تتجه البلاد، ما هو الهدف، وما هي الوسائل التي ستُستخدم للوصول إليه. لا يمكن الحديث عن انتقال ديمقراطي من دون خارطة طريق معلنة وواضحة، تشارك فيها كل القوى الاجتماعية.
يقترح غليون أن تبدأ الدولة بإطلاق انتخابات بلدية ومحلية، ثم مجالس مهنية ونقابية، تمهيدًا لإجراء انتخابات تشريعية. يعتقد أن المجلس التشريعي المرتقب يجب أن يُنتخب بطريقة تضمن حدًا أدنى من الشرعية الشعبية، لا أن يُعيَّن عبر لجان مرتبطة بالرئاسة. يدعو إلى إجراء انتخابات محلية في المحافظات، تنتخب بدورها أعضاء المجلس التشريعي، مع إمكانية أن تحتفظ السلطة بحق تعيين عدد محدود من الأعضاء لضمان تمثيل الأقليات.
يشدد غليون على أن الناس بحاجة إلى إشارات تطمين. يشعر المواطنون اليوم أنهم خارج المعادلة، غير مشاركين، وغير معنيين بما يحدث. يجب أن يشعر كل فرد أن لديه دورًا ومسؤولية، وأنه شريك في بناء الدولة الجديدة. هذا الشعور لا يتحقق إلا عندما تكون هناك قنوات تواصل مفتوحة بين السلطة والمجتمع، تشمل الإعلاميين، المثقفين، النقابات، رجال الدين، رجال الأعمال، وكل الشرائح الاجتماعية.
ويؤكد أن الطائفية لن تُهزم إلا ببناء دولة قانونية مدنية، تضمن المساواة وتكافؤ الفرص بين المواطنين، وتحول دون الانزلاق نحو العصبيات. الوطنية لا تتشكل من شعارات، بل من إحساس المواطن بأنه في دولة تحميه، تضمن حقوقه، وتكفل له دورًا في القرار.
وفي معرض حديثه عن خطاب الكراهية والتحريض الطائفي، طالب غليون بسن قوانين واضحة تجرّم التحريض، وتفعيل رقابة حقيقية على وسائل التواصل الاجتماعي، ومحاسبة المحرضين، وإطلاق خطاب ديني معتدل من رجال الدين المسيحيين والمسلمين. كما دعا المثقفين إلى لعب دور إيجابي، بدلًا من صب الزيت على النار.
يرى أن أحد أبرز أسباب انفجار النزاعات الطائفية هو غياب الحوار الحقيقي، وعدم تفعيل العدالة الانتقالية، وغياب الشفافية في إدارة المرحلة. الإعلان الدستوري جرى تقديمه وكأنه دستور دائم، رغم أنه كان من الممكن الاكتفاء بصفحة واحدة تحدد المبادئ العامة، إلى أن تُنجز انتخابات تأسيسية تصوغ دستورًا دائمًا للبلاد.
يختم غليون بالقول إن المطلوب اليوم ليس فقط حكومة تدير البلاد، بل قيادة تملك مشروعًا واضحًا وتعمل على إشراك الناس فيه. الدولة يجب أن تُبنى بمشاركة الجميع، وإلا سنبقى ندور في حلقة مفرغة من الأزمات الطائفية والسياسية. ويؤكد أن الفرصة لا تزال قائمة لإنقاذ البلاد من الفوضى والانقسام، إذا ما تم اتخاذ خطوات جدية لتأسيس مجلس تشريعي، وفتح حوار وطني حقيقي، وطرح رؤية مدنية جامعة تكون محل توافق شعبي
تلفزيون سوريا