السوريون ووزارة الثقافة… الماضي أم المستقبل؟/ أحمد جاسم الحسين

06 مايو 2025
لو كنت مكان وزير الثقافة السوري، لكان أول عمل أقوم به هو قراءة تاريخ الوزارة: من عمل بها، وما هو تاريخها، ما المضيء فيه وما المظلم؟ كون الوزير عاش الكثير من حياته خارج البلد، قراءة التاريخ في هذا السياق هدفها أن أتعرف لأطور، وكي تترسخ في ذهني مكانة الوزارة، وأعرف قضها وقضيضها، تبرها وقمحها وزوانها.
معرفة ما قام به الأسلاف في الميدان الذي أقوم به ضرورة، كي لا أكرر أعمالهم، أو أخطئ في تقدير جهودهم. المعرفة مدخلي ليس للأشخاص بل كذلك للمؤسسات والهيئات التابعة له. ثم أجري جلسات عصف مع ذاتي لأقدم عصارة تفكيري لتطوير ما هو موجود، ولأن الفكرة تقدحها الفكرة الأخرى والعصف لا ينمو إلا بالخبراء فسأدعوهم، خاصة أولئك الذين يختلفون مع طريقة تفكيري، سأستمع إلى المدراء الحاليين والسابقين عن الصعوبات التي منعتهم عن العمل الفاعل والمؤثر، دون أن تفوتني فكرة التعرف إلى طريقة عمل الوزارات العربية والأجنبية، سأقرأ الكثير عن جهود الثقافة في رأب الصدع في مراحل ما بعد النزاع وأطلع على جهود دول مرت بما يشبه الوجع السوري.
يبدو أن مشاغل وزارة الثقافة في سورية اليوم أنها مشاغل نخبوية، قد يكون ذلك صحيحاً، كون السوريين مشغولين حالياً بما قبل الحاجة إلى الثقافة. مشغولون بالحاجات اليومية: لقمة الخبز، والأمان، والخدمات الأساسية اليومية، والصحة، والتعليم. فلن يطرق باب وزارة الثقافة جائع أو محتاج إلى عمل أو من لديه عملية جراحية.
أن تكون وزير ثقافة يعني أنك شخص محظوظ، فقد تمَّ تكليفك بوزارة ذات مهمات باردة، تتيح لمن يكون صاحب القرار فيها أن يأخذ كامل وقته؛ كي يخطط ويضع استراتيجيات لجعل الثقافة في سوريا في محور اهتمام المواطن.
المهم في كل ذلك أن يكون لديه رؤية واستراتيجية. و استراتيجية وزارات الدولة حصيلة: السياسات العامة للدولة، والحوار مع المختصين والخبراء (في سياق مقالنا هذا المثقفين والمنشّطين) والرؤية الشخصية لصاحب القرار. ثم تتولى أجهزة الوزارة تنفيذ الخطط، ويتابع الوزير التنفيذ والإشراف وتعديل ما يحدث إبّان التنفيذ.
ماذا ينتظر مثقفو بلد كحالة سورية من وزارة الثقافة؟ بلدٌ خرج من نزاع استمر عقداً ونصف العقد، وتخلص من نظام استبدادي؛ جثم على قلوب السوريين أكثر من نصف قرن!
اقتصارُ وزارة الثقافة على تلبية حاجة المثقفين فيه ابتسار لدورها، وتقوقع على النخبة، ربما جاء هذا الدور المبتسر من تعريفات قديمة للثقافة، يوم كان المثقف فاعلاً كرائد ومفكر وصانع سياسات، أما اليوم فتغير دور الثقافة بعد أن مشت البشرية مراحل.
أهم ما ينتظره السوريون من وزارة الثقافة ألا تبقى وزارة ذات طبيعة نخبوية، فمن غير المعقول أن تكون الوزارة الراعية للفنون والآداب والمسرح والسينما والموسيقا والكتاب والتراث وزارة غير جماهيرية، أو مرتبطة بالنخبة فحسب، أو بمجموعة ممن يضعون “المشط في جيب قمصانهم” ويدخنون الغليون ويلبسون نظارات بعدسات ثخينة وفقاً لصورة المثقّف المكرسة في السينما العربية.
كيف تتخلص الوزارة من نخبويتها لتغدو وزارة جماهيرية يعني متابعة ما يحدُث في العالم وما حدث على صعيد التوصيل وتغير مسارات الأنشطة، لم يعد هناك من لديه وقت ليحضر محاضرة لطرف واحد، بل هناك لدينا “البودكاست” الواقعي، أي الحوارات التي يديرها مختصون، فالإلقاء ولّى زمانه، وتشتت وسائل التواصل الاجتماعي ترك بصماته!
وزارة الثقافة معنية كذلك بأن تعيد النظر في دورها والانتقال إلى دور الرعاية بدل الاستحواذ والتعددية بدل اللون الواحد بما يعكس التنوع السوري، فهل لديها مثل هذه النية؟
اليوم، ينتظر منها أن تكون منشطّة للحراك الثقافي وضامنة لتنوعه وليس احتكاره، فالتعددية في العمل الثقافي فيها إبراز لغنى البلد وقدرته على إنتاج أنواع مختلفة من الإبداع.
سوريا خارجة من نزاع طويل، هذا يعني أن تراثها المادي واللامادي قد تعرض لتخريب وتشويه وسرقة وتدمير، من سيقوم بملء فراغات ما حدث؟
نتيجة الثقافة ذات الطابع التعبوي التي مست سوريا فترة طويلة؛ فقد كان الكثير من الإنتاج الثقافي الكتابي والمرئي والسموع والفني أقرب ما يكون للدروس، هناك أحد ما سيقول: حتى طريقة إعطاء الدروس قد تغيرت، لم يعد التجييش حلاً أمثل.
البوصلة ذات الطابع القومي كانت حجة لتغييب التنوع الداخلي السوري، وحدها وزارة الثقافة القادرة على تدوين الذاكرة السورية من سرد وفنون شعبية وسواها، إذ إنه لم يتح لسوريا أن تركز يوماً على ذاكرتها الوطنية، بل غيبت تلك الذاكرة نتيجة المبالغة بالاهتمام بالطابع العربي، التوازن بين البوصلتين أمر تحتاجه الثقافة، ولنا أن نتعلم من تجارب الآخرين.
لم تكن وزارة الثقافة فيما مضى في جوانب كثيرة من عملها ممثلة للسلطة تماماً، بل بقيت تشتغل في منطقة رمادية، معتمدة على اشتغال مثقفين كثيرين كانوا يعملون فيها، وكذلك على وجود شخصيات قريبة من السلطة، وتركت جوانب كبيرة من عملها في المنطقة الرمادية وقد ارتبطت بشخصية الشخص الذي يديرها، قد يكون موالياً فتغدو المخرجات موالية وقد يكون معارضاً فتغدو المخرجات ذات طبيعة فنية كما حالة المثقف المعروف أنطون مقدسي.
قيل عن وزارة الثقافة يوماً إنها وزارة المعارضين، وفي مؤتمرات عدة لحزب البعث طالب البعثيون أن تكون جزءاً من أجندة القيادة القطرية، ويوم انتهى عهد نجاح العطار وبداية عهد الوزيرة مها قنوت حدثت صدامات كثيرة بين رؤيتين في الوزارة راح ضحيتها كثيرون!
عايشتُ وزارة الثقافة خمسة وثلاثين عاماً، وارتبطتُ بحوارات مع معظم الفاعلين فيها، وقرأت منشوراتها نحو نصف قرن، يمكنني القول اليوم: إنها الوجه الأضعف تعبيراً عن النظام البائد، والأقرب إلى المثقفين السوريين!
في خضم التحولات التي تشهدها سورية بعد رحيل النظام البائد، تبرز الثقافة كمجال حيوي يتطلع إليه المواطنون، و ليس فقط كمصدر إلهام، بل بصفتها أداة فاعلة في بناء المستقبل.
الثقافة اليوم ليست ترفاً أو حكراً على النخب، بل هي حقٌّ لكل فرد، ومجالٌ يتيح للجميع التعبير عن آرائهم وتطلعاتهم والبحث عن “سورياهم”.
أدرك السوريون أن الأزمة التي عصفت ببلادهم لم تكن سياسية أو اقتصادية فحسب، بل كانت ثقافية في وجه من وجوهها. ومن هذا المنطلق، يرون في الثقافة مفتاحاً للحل، وجسراً نحو التفاهم والتعايش. فبناء الدول لا يتم إلا بسواعد أبنائها، وتاريخهم، وثقافتهم التي تشكل هويتهم الجامعة التي تضمن لهم التعبير عن ذاتهم.
وزارة الثقافة ليست مؤسسة خدمية تقليدية، بل هي كيان استراتيجي يُعنى ببناء الإنسان، وصقل هويته، وتعزيز انتمائه الوطني. لذلك تتجدد الآمال بأن تشهد الوزارة نقلة نوعية تعبر عن قيم الحرية التي ثار السوريون لأجلها.
تاريخ وزارة الثقافة أظهر أن المثقفين السوريين قادرون على تقديم الكثير، إذا ما أُتيحت لهم الفرصة. فقد أثبتت إصدارات وزارة الثقافة، من ترجمات ومجلات، حضورها في الساحة العربية، ونالت تقدير العديد من المثقفين العرب، وكانت الرائدة في مجالات عدة.
لحظة التغيير والمنعطفات التاريخية لحظة مكثفة، تعلو فيها الآمال ويكبر حجم التوقع بعد انتصار الثورات، كون الثورة، في أحد أبسط تعريفاتها، احتجاج على واقع تراكمت أخطاؤه، ورغبة بتحقيق أهداف في مستقبل منشود، وهذا ما ينتظره المثقفون والسوريون من وزارة الثقافة في سورية الجديدة! فهل سيتحقق هدفهم وينظرون إلى مستقبل مختلف أم ستؤلمهم رقابهم من طول النظر إلى الماضي؟
العربي الجديد