سقوط بشار الأسد، الرئيس الفار والمخلوعنقد ومقالات

النشر في سورية: عودة إلى الوراء أم إجراءات إدارية؟/ محمد صارم

04 مايو 2025

مع سقوط نظام الأسد وانهيار مؤسساته الرقابية، وعدم وجود وزارة إعلام في حكومة تصريف الأعمال الأولى، تابعت دور النشر السورية عملها في تلك الآونة، لكن بسقوف مفتوحة من الحريات لم تعهدها من قبل. وجد بعضها فرصة سانحة لطباعة كتب ومخطوطات نامت طويلاً في أدراج الانتظار، فأخرجت إلى النور كتباً وعناوين حُكم عليها بالنسيان الطويل مع فقدان الأمل بولادتها ورقياً، عدا عن الارتياح العام المتعلق بالتخلص من إجراءات الروتين المعتادة سابقاً، سواء المادية أو الزمنية.

صحوة من حلم

وكمن يصحو من حلم جميل فجأة، وجد الناشرون السوريون أنفسهم أمام تعميم صادر عن اتحادهم يعيدهم إلى الزمن الماضي من الرقابة وسقوف الحريات المنخفضة، ويطالبهم باستدراك ما فاتهم من إجراءات الرقابة والموافقات المطلوبة لنشر كتبهم وتداولها بحسب القوانين النافذة في البلاد. جاء في التعميم الصادر عن اتحاد الناشرين السوريين في الثاني والعشرين من الشهر الفائت ضرورة حصولهم على موافقة وزارة الإعلام كشرط مسبق لتداول الكتب والمطبوعات في سورية وخارجها. استند التعميم المذكور إلى تعليمات واردة بهذا الخصوص من وزارة الإعلام الجديدة التي تشكلت في 30 مارس/ آذار 2025، مبيناً أن أثر التعليمات الجديدة لا يتوقف عند الكتب والمطبوعات الصادرة بعد تشكيل الوزارة، وإنما يسري مفعوله بأثر رجعي إلى الشهور الفائتة الممتدة من سقوط النظام في 8 ديسمبر/ كانون الأول 2024 إلى لحظة تشكيل الوزارة. أطلق التعميم على تلك الحقبة فترة “الرقابة الذاتية”.

أثار التعميم المذكور موجة من الاستنكار والاستياء العام في الوسط الثقافي، معتبرين أن التعليمات الوزارية الجديدة بمثابة نكوص وعودة إلى زمن النظام البائد، بما يمثل تراجعاً عن الحريات العامة وعن مواد الإعلان الدستوري. سارعت وزارة الإعلام السورية لاحتواء مناخ الاستنكار الرافض لتعليماتها المذكورة، وأصدرت بياناً توضيحياً هدأت فيه من مخاوف الشارع الثقافي والناشطين في مجال الحريات التعبيرية، مؤكدة أن القرار لا يتعدى إطاره التنظيمي والإداري ولا علاقة له بالرقابة الفكرية بأي شكل من الأشكال. أعلنت عن سعيها لتفكيك شبكات الرقابة المشددة التي خلفها النظام السابق، وكشفت في الوقت ذاته عن إعادة تفعيل الوزارة اتفاقية “فلورنسا” التي تعفي الكتب من الرسوم الجمركية دعماً لتداول المعرفة وجعل الكتاب في متناول الجميع.

كما أصدر اتحاد الكتاب العرب منشوراً شبه رسمي على لسان رئيسه الجديد، محمد طه العثمان، أكد فيه توجه الاتحاد إلى إلغاء الرقابة الفكرية على المطبوعات واستبدالها بميثاق شرف “مستلهم من تجارب عدد من البلدان المجاورة، يُوقَّع عليه طوعاً من قبل دور النشر والصحف، وينطلق من احترام حرية الكلمة، مع مراعاة خصوصية الواقع السوري، وعدم السماح بمرور منشورات تسيء إلى مكون ديني أو عرقي، أو تهدد السلم الأهلي وأمن البلد”. وفي حال تجاوز الميثاق في المطبوعات فإن الكلمة الفصل فيها للقضاء السوري.

كانت تعليمات الوزارة، قبل توضيحها، قد أعادت لأذهان السوريين صورة عصا الرقيب الغليظة ومقصاته الحادة التي حكمت مشهد الثقافة السورية طيلة العقود الماضية، وما أدت إليه تلك القبضة الشديدة من تآكل بنيوي في عموم مفاصل الثقافة العليا، ومن عطب أصاب آلياتها، وخلق انزياحاً في وظائفها الرئيسية وصولاً إلى تعثر خطواتها وعجزها عن لعب دورها التفاعلي مع المجتمع وقضاياه الملحة والساخنة. ساهم هذا التآكل في انحدار وظائف الثقافة السورية وتموضعها في نسق انفعالي أجبرها على التأطر ضمن أدوار هامشية، الأمر الذي حشرها بين ضفة الرؤية الرسمية للثقافة وبين الضفاف النخبوية المعزولة عن الشارع قسرياً لأسباب لا تتصل العزلة فيها بجوهر المعطى الثقافي ذاته، وإنما بأبعاد سياسية واقتصادية واجتماعية متنوعة.

وليست عصا الرقيب الغليظة ومقصاته الحادة مجرد مجاز لغوي فحسب، وإنما واقع فعلي. فالسوريون يتذكرون تماماً كيف كانت تصلهم جرائد ومجلات خارجية منقوصة الصفحات أحياناً، فيما يُمنع العدد بكامله من الدخول إلى سورية في أحيان أخرى. كما يتذكر المثقفون والكتّاب كيف أفضت كتب أو حتى كلمات بأصحابها إلى سجون أو مصائر قاسية تشمل فصل أصحابها من وظائفهم، في مسار طويل من التهميش والإقصاء العقابي.  

ماذا عن الاتحاد؟

وإذا تجاوزنا الخطأ القاتل والأبرز في تاريخ اتحاد الكتاب العرب في سورية، والمتمثل بقبوله ممارسة دور الرقيب الفكري على المطبوعات ودفاعه المستمر عن تلك الرقابة حتى ما قبل سقوط النظام تحت مبررات ودواعٍ تقنية، منها “تطوير العمل المقدم للطباعة وجعله بحلة أبهى”، الأمر الذي أظهر الاتحاد كما لو أنه حارس خلفي من حراس النظام السابق في مواجهة منتقديه والشرطي الساهر على أمن الكلمات والأفكار، فإن الاتحاد الذي طبع 2950 عنواناً منذ عام 1970 حتى الآن، أسهم بلا شك في رفد المكتبة السورية والعربية بالعديد من أمهات الكتب العالمية، وقدم للقارئ المحلي والعربي نخبة من الكتّاب السوريين الذين بدأوا مسيرتهم الثقافية من خلاله قبل أن يتجاوزوا منبريته الخاصة إلى سواها أو يبتعدوا عنها في مساراتهم لأسباب شتى.

كما شكلت الدوريات الثقافية التي يصدرها الاتحاد واحداً من أبرز المنابر المتاحة في سورية. وكان الاتحاد الذي تقاسم تلك المنابر الثقافية مع وزارة الثقافة قد تراوحت منشوراته بين الدوريات الأسبوعية، مثل “الأسبوع الأدبي” التي كانت أقرب إلى الجريدة الورقية وتوجهت عموماً خلال تاريخها الطويل إلى الشباب وإبداعاتهم، في حين كانت الدوريات الشهرية أكثر رصانة، مثل “الموقف الأدبي”، فيما اقتربت المجلات الفصلية مثل “التراث” و”الآداب العالمية” من المنحى البحثي. وكانت مجلة التراث قد صُنّفت كواحدة من المجلات المحكّمة قبل أن تفقد هذا التصنيف خلال السنوات الماضية، فيما خضعت مجلة الفكر السياسي الفصلية لمحددات الرؤية البعثية السائدة سابقاً.

لا شيء ورقياً في دمشق

سيكون من المستحيل على الوافدين إلى مدينة دمشق، ممن اعتادوا تصفّح الجرائد اليومية أو المجلّات الدورية وهم يتناولون قهوتهم الصباحية، أن يتابعوا هذه العادة الأليفة، بسبب الغياب التام لجميع المنشورات الورقية فيها، سواء تلك المنشورة في سورية أو القادمة من الخارج. لا أثر للجرائد والمجلات الورقية في مكاتبها أو أكشاكها، ولا أثر للمانشيتات العريضة التي كانت تستوقف المارة وتجذبهم فيتصفحون الجزء الظاهر منها، ليقرروا شراءها أو متابعة طريقهم.

لا شيء ورقياً فيها، توقفت الجرائد والصحف عن الطباعة الورقية منذ سنوات عديدة، ولم تتوقف دفعة واحدة، بل حدث ذلك بالتدريج. كان الأمر مزيجاً من ظاهرة عالمية، عبّر عنها انحسار الورق لصالح الشبكة العنكبوتية، ولكن ليس إلى حد الغياب التام كما حدث في سورية. كذلك كان الأمر من الزاوية الرسمية تخفيفاً من أزمات مالية محليّة حتّمت إيقاف المطبوعات الخاسرة في بلد لم يعد قادراً على دعم الخبز والمحروقات لمواطنيه المنهكين من الحرب والجوع، فلم تعد الثقافة فيها من الأولويات.

لم تكن المطبوعات السورية الرسمية رابحةً في أي يومٍ من الأيام، ومن ضمنها المنشورات الثقافية. كانت أرقام التوزيع والمبيعات هزيلة جداً وصادمة إلى حد الدهشة، ولم يستطع اتحاد الكتاب الاستمرار في تحمّل أعباء النشر الورقي، وحتى وزارة الثقافة توقّفت عملياً عن إصدار منشوراتها ورقياً، فغابت مجلة “المعرفة” عن الأسواق وغابت المجلات الأخرى التابعة للوزارة. يُقال إن طباعة ورقية محدودة لدورياتها الثقافية تصدر، لكنها ليست للعامّة ولا للتداول، إنّها لبعض الجهات الرسمية وللأرشيف فقط.

وفي دلالة أوضح على موت الورق نهائياً في المنشورات السورية، أقرّ مجلس الشعب السوري في الثالث عشر من مارس/ آذار 2023 حلّ الشركة السورية لتوزيع المطبوعات المحدثة بالمرسوم التشريعي رقم 63 لعام 2009، وأصبح قانوناً. لكن موت الورق لم يذهب لصالح الشبكة العنكبوتية كما حدث في العديد من المواقع العالمية، وإنما ذهب لصالح اتساع الفراغ الثقافي. فحال المواقع الثقافية السورية في الشبكة العنكبوتية ليست بأحسن مما كانت عليه في الورق، فلا انتظام لصدورها، ولا هوية موحّدة لها، عدا عن التراجع الكبير في القيمة والمحتوى، في بلد هو أحوج ما يكون إلى توحيد ثقافاته المحلية وترميم ما تشظّى منها في أتون حرب أصابت فضاءه الثقافي بعطبٍ كبير، كما أصابت جميع فضاءاته الأخرى.

* كاتب من سورية

العربي الجديد

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى