سقوط بشار الأسد، الرئيس الفار والمخلوعنقد ومقالات

حرية التعبير ومثلّث برمودا/ رباب هلال

06 مايو 2025

ارتعدت أصوات المثقّفين وأقلامهم، من كتّاب وفنّانين وبحّاثة، في شتّى المجالات، لعقود انقضت. وقد افترضوا الفرج مع بزوغ فجر الخلاص، إلّا أنّ “المحرّرين” آنَ تسيّدهم السلطةَ في المرحلة الانتقاليّة، لم يخفّفوا عن الحبال الصوتيّة أثقالها المزمنة من الرقيب الرهيب. وتبعاً للمثل الشعبي “من يجرّب المجرّب عقله مخرّب” أكتب، وسجلّات الممنوعات السابقة تنتصب أمام عينيّ، ممنوع من: “التداول، العرض، النشر”.

منعت كتب من النشر، وسُحبت بعضها من الأسواق. وما نشر في الخارج، هُرّبت نسخ منها، وقُرئت في الخفاء. ينطبق ذلك على المعارض التشكيليّة، والعروض السينمائيّة، والمحاضرات والندوات والمنتديات الثقافيّة. وكان مألوفاً حضور المخبرين، حتّى في المراكز الرسميّة، والندوات الموافق عليها أمنيّاً. ويُطلب من القيّمين عليها إطلاع الرقباء على ما سيجري إلقاؤه أو عرضه، وفي المؤسّسات الثقافيّة الرسميّة، كان الكاتب يُستدعى لإعادة النظر في مخطوطته المقدّمة للنشر ليحذف سطوراً أو صفحات، رغم أهمّيّتها.

لم يكن الوريث قويّاً كأبيه الداهية، لا يشغله سوى بقائه على كرسيّ الحكم. أذكر أنّه عُهد إليّ، العام 2021، من الهيئة العامّة السوريّة للكتاب، بقراءة مخطوطة للأطفال مترجمة عن الفرنسيّة، لتحكيمها وإقرار نشرها أو رفضها. كان عنوانها “الخواريف الثلاثة”، أمّا الأصل فكان “الخنازير الثلاثة”! خنزير بينها يُدعى جورج، حوّلته الترجمة إلى يوسف، وعداه من الأسماء الأخرى كلّها، وما يوجع أكثر ما سجّله المترجم، لتبرئة نفسه ربّما، في أوّل مخطوطته العربيّة أنّه أخذ بملاحظات الهيئة بحذافيرها، وأجرى التعديلات المطلوبة في الترجمة. وهذا غيضٌ من فيض كوارثنا الثقافيّة.

تصبح الكتابة في ظلّ الاستبداد مرهقة حدّ الإنهاك. معها يحدث أن يَخنق الكاتبُ أنفاسَ حبره بيديه، كانت الكتابة تحدُث في الخوف، وهي تسطّر الخوف، فأيّة كتابة يعرقلها الخوف؟ وأيّة لغة نحتها الرعب وقزّمها إزاء نصب التابوهات الثلاثة؛ مثلّث برمودا بقيادة رقباء أمنيّين لانتهاك اللغة ودعس القواميس، كان التابو الأعظم هو المسّ بهيبة المستبدّ، يليه بدرجة صغيرة، تابو الدين ثمّ الجنس. وذلك، بإشراف وزارة الإعلام وموافقتها على نشر المطبوعات، من دون المسّ بكُتّاب الرداءة والضحالة، ومستبيحي الفنّ والفكر.

قبل أسبوعين أتانا موشر مقلق عبر بيان لاتحاد الناشرين وجهه لأعضائه دور النشر السورية، يؤكد على الحصول على موافقة مسبقة من وزارة الإعلام قبل طباعة كتبهم، او تصديرها، ثم وبعد يومين، استجابت وزارة الإعلام، ووجه الوزير بتمرير كل الكتب المتوقفة، والتي يجب شحنها للمعارض العربية، وأثار البيان الثاني ارتياحاً، دون ان يقول صراحةً أنه قرار دائم، ودون ان يحدد آلية جديدة للرقابة على الكتب، أي أن الوزارة حلّت مشكلة راهنة، دون أن تضع آلية دائمة. مما يُبقي المشهد ضبابيّاً، في كل مجالات العمل الثقافي للعهد الجديد، والذي يضاف إلى غياب تامّ للإعلام الشفّاف النزيه.

ليس بعيداً عن الثقافة ومهمتها ودورها ما يجري في الشارع، فقد شاهدت، قبل أيام، في باب توما، بائعة خبز طفلة تمرح مع رفيقاتها البائعات، كنّ طفلات وصبايا، غُصّ قلبي وابتسم لفرحها الصاخب وهي تساهم لتأمين لقمة أسرتها. وما إن سمعها أحد رجال الشرطة الجدد، حتّى صرخ بها موبّخاً:” اخرسي وْلِيْ، النسوان ما بتعلّي صوتها بالشارع”.

قامت ثورتنا لتحطيم الظلم والقمع، وفتح الآفاق المسدودة في وجه الكلمة الحرّة، وإطلاق سراح حريّة التعبير، وإنقاذ اللغة المحتضرة في مثلّث برمودا، لا لخلاصنا من سلطة شذّاذ الآفاق وحسب. فهل سننجو لتنجو البلاد حقّاً؟

العربي الجديد

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى