سقوط بشار الأسد، الرئيس الفار والمخلوعمراجعات الكتب

رواية “تكلم معه وكأنه صديق”.. عن سجن تدمر وتشريح القهر/ بديع صنيج

28 أبريل 2025

خصوصية عالية تمتلكها رواية “تكلم معه وكأنه صديق” لنادر عبد الله، ليس فقط بسبب انتمائها إلى أدب السجون، وإنما لقدرتها على تشريح القهر وتوثيق آثاره على النفس الإنسانية، مع السعي قدر الإمكان لإيضاح العلاقة بين الألم والكرامة، ورسم ملامح الصراع التراجيدي بين الظلم والصمود، حيث يتحول سجن تدمر سيئ الصيت إلى فضاء سردي غني، وينتقل قاطنوه بمخاوفهم ومظالمهم وعجزهم إلى كائنات وجودية بالمعنى المثالي للكلمة، لاسيما في نضالهم الجسدي والروحي لتخطي مأساتهم، والتي قد تنتهي بالنجاة والحرية، أو في كثير من الأحيان تختتم بالموت.

الرواية، الصادرة عن “دار نينوى للدراسات والنشر”، ترصد في طبقاتها السردية رحلة العذاب التي كابدها رياض الفلسطيني – السوري منذ التقرير الذي كتبه في حقه أحد المُخبرين في مخيم حمص، وجاء فيه أن رياض وصف النظام السوري بأنه عسكري دكتاتوري، وبأنه قصف مخيم تل الزعتر بالمدفعية والدبابات، وبأن رفعت الأسد على علاقة مع سميرة توفيق، لتبدأ بعده التنقلات من سجن البولوني في حمص، والذي كان إسطبلًا للإنكشارية العثمانية و”لم يُسفح فيه أي حنان إنساني منذ نشأته”.

ومع ذلك يعتبر استراحة خمس نجوم في تقاطع الطرق بين السجون العسكرية في المحافظات السورية، إلى سجن قيادة حطين ومنه إلى فرع فلسطين في دمشق حيث “تتوهج أصوات التعذيب التي كانت تصل إلينا من غرف المحققين بين وقت وآخر، فنخشع جميعًا، يرينُ على وجوهنا صمت رهيب يكاد يخرج من مسامات وجوهنا ذُبالات حين يصير العجز مواتًا مُجسدًا”.

وبعدها إلى سجن تدمر العسكري، وهناك تتكرر عذابات الخضوع لـ “الدولاب”، وفيها يكون الجلاد “كمن يخوض معركة مصيرية انتقامية لأهله، وكأنني قد قتلتهم ذات يوم، ما يجعلني أمتلئ بشعور أنني وصلت إلى ذروة من الهلاك لا رجعة منها، وحين يتوقف الضرب أخرج من الدولاب وأركض في مشية بطة متثاقلة هلكة، وبعناء أتجرجر نحو تجمع الناجين الذين لم يموتوا في الدواليب. وجوهنا إلى الجدار، وسوط أحد العناصر يلذع ظهر أحدنا هنا أو هناك لنتراص حتى أصبحنا شيئًا واحدًا. ارتجاف بعض الأجساد يسري في الكتلة كلها. اهتزاز جماعي خافت عميق ومتواصل”.

يوميات الهلاك

ومن داخل هذا السجن يتفتق الألم بأطيافه المختلفة، ومعه يتفتق نوع خاص من وعي الراوي لذاته، وللحياة ومعنى النجاة، وآليات المجابهة، وضرورات النأي عن يوميات الهلاك بتحصين النفس ومد جسور من المعرفة تجاه الآخرين، بحيث يلقى الإنسان المثقف نفسه مضطرًا لإحياء وعي مُركب في السجن كنوع من المقاومة ودرء الاستسلام الناجم عن تحطيم الكرامة والإذلال المستمر، وتاليًا إلغاء الأفكار التي تراوده دائمًا في إنهاء حياته بنفسه، خاصةً عندما يتحول سجين في المهجع ذاته إلى جلاده، بحكم آليات تجعل من الغالبية وحوشًا يفترسون إخوتهم، إذ إن السلطة في السجن تستغل ضعاف النفوس وقليلي الأخلاق والثقافة، لتجعل منهم أدوات في خدمتها، وتعزيز سطوتها، فيصبح العبد المقموع سيفًا بتارًا بيد سيده، وحين يقوم أحد المثقفين بالمواجهة والاعتراض على مظالمه، أو محاولة كسر هيبة تلك السلطة بأية طريقة، فإن مزيدًا من أساليب التعذيب ستنتظره، ومنها ما حصل مع رياض حين وقوفه مُدافعًا عن بعض كرامته في وجه من يسفحها ورفضه لأن يتلقى أي لكمة أو صفعة من عملاء السجان في مهجعه، حينها تعرض لحفلة تعذيب شديدة، نُقل بعدها إلى المنفردة التي تُدعى “السالول”، حيث كل الظروف مهيئة لأن يُصاب قاطنها بالسل.

ماهيات الدولة

إنهاك جسد رياض سيرافقه دائمًا يقظة فكرية تجعله يهجس بمسائل وماهيات الدولة، ومنها تفكيره بأن الناس في مجتمعاتنا يتعاملون مع كل شيء عام على أنه مجال للنهب ابتداءً بالأفران ومحطات ركوب الباصات وانتهاءً بالدولة نفسها، ويفسر الراوي ذلك بأنهم “يخلعون عن أنفسهم كل اعتداد وأخلاق شخصية كانت تحكم علاقاتهم بين بعضهم، فضلًا عن أن الأحكام تجاه بعضهم تنتفي تمامًا في هذه المعمعانات، بل ينظرون إلى المنتصر الذي يستطيع تحصيل أشيائه بوصفه قيمة على الرغم من تذمرهم المضمر من أذيات بهيميته.

هنا الروح النهبية المتجردة من الاعتداد الشخصي هي السائدة، لذلك عندما جاءت الدولة الحديثة في حياتنا لم يتم التعامل معها على أنها مصلحة جمعية، سواء من المسيطرين أم المحكومين، وظلت مجالًا لنهب الطرفين، فاشتد قمع الناهبين المسيطرين للناهبين المحكومين، وازدادت غوغائية المحكومين وبهيميتهم في هذا الجانب”.

ويضيف رياض رؤيته عن التناقض والفارق الكبير الفاحش بين بساطة الجبال والقرى التي انحدر منها رأس النظام السوري نحو السلطة وطبيعة السلطة التي أنشأها ويحكم بها، مبينًا أن السلطة لها تاريخ آخر مختلف عن الجذور الاجتماعية لأصحابها، وأبشع ما في النظام أنه لا يترك الناس ليظلوا كما كانوا، لأنه باتكائه على الطائفة أصابها كلها بروحه، ما يجعل أي معارض داخل الأحزاب أو المجتمع عرضة لبطش من لم يكونوا في حسبانه أو من كان يعتقد أنه ملتزم بالدفاع عن حقوقهم وقضاياهم، لاسيما أن فكرة الحق، وفكرة الدولة الحديثة والمواطنة لن يعود لها أي قوة جذب في  الواقع، وسيجد الذين يحملونها أن السيوف كلها من كل الجهات مُشرعة لذبحهم، وخاصةً عندما تكون القومية فكرة عنصرية لا تخدم مشروع الحياة الإنسانية بحسب الكاتب لويس عوض، وعندما تصبح كما يراها رياض “الوجه الأنسب لكل حكم طائفي أو فردي ليمنح معظم فئات المجتمع شعورًا معنويًا ما أو على الأقل يظل يعمل على إخراسها وتضليلها وقطيعيتها”.

الذاكرة السردية

وكمحاولة لمقاومة السجن، يتعزز لدى رياض نوع خاص من الذاكرة السردية، وكأنها بُقع ضوء في الظلامات المديدة، ومن ذلك الحديث عن وصفات الطعام التي يحكي عنها أحد السجناء، عن السيجارة التي تتحول إلى لُقيا هائلة مع كأس الشاي البارد الأشبه بطعم البراز بحسب توصيف جيفارا للكوكا كولا، وأيضًا الجدالات الشعرية المتعلقة برامبو وبديوان نزيه أبو عفش “كم من البلاد أيتها الحرية”، وقصائد النقيب التي تتفوق على قصائد بدوي الجبل لولا أنها تمجد الديكتاتور، وفي المحاضرات المناهضة لجماعات الإخوان المسلمين التي يقدمها حيدر المنتمي للحزب الشيوعي، الذي أصبح صديق رياض وبات يزوده بكتب مهمة من مكتبة السجن، وكذلك خلال زيارة أم رياض لابنها والتي لطالما همست في أذنه منذ طفولته ألا يضعها واطية لابن امرأة في هذه الحياة، لكنها حين رأت هزاله وعمق عذاباته مسحت دموعها على الفور، راحت تؤازره بعزيمتها القديمة نفسها، ولكن بطريقة جديدة أوصته فيها وهي تشخص بعينيها إلى الأعلى “احك معه واشرح له قصتك.. احك معه كما تتحدث مع صديق”.

ديانات غير تقليدية

ديانات السجناء غير تقليدية البتة، فمنها من يتجه للسماء، وأخرى نحو جسد الآخر بمثلية شبقية، وثالثة نحو الخيال الإيروتيكي مع قراءة النسخة غير المشذبة من ألف ليلة وليلة، ورابعة تتعلق بفكرة العبودية، والالتزام بالوشايات الكاذبة، وما يتبعها من خلخلة صفو المهاجع والذهاب نحو اليومية حيث الدواليب والضرب المذل والمبرح، وهناك ديانة الحفاظ على صفاء الوعي التي تفصل الجسد بعذاباته الممضة عن هناءة الروح في السرحان نحو فضاءات جمالية مثالية عبر فكرة أو قصيدة أو تحليل سياسي أو حتى سؤال من مثل ما طرحه رياض: “كيف تستطيع سلطة بهذا العمر القليل جدًا أن تنجز كل ذلك، أن تسلخ الضمير الفردي تمامًا عن رجالها وتحيلهم في خدمتها إلى مجرد براغٍ في آلياتها الصماء هذه؟”، “والناس إجمالًا الذين يعيشون هذا الشرط الانحطاطي يلحظون بؤسه وفساده، ويمكن أن يقودهم ذلك إلى حراك وثورة ضده عندما يصل تراكم الفشل إلى حد كبير، لكنهم يظلون لا يعرفون الكيفية الصحيحة التي يجب أن تتأسس عليها الدولة لتخرجهم من هذه الدوامة، وغالبًا يكونون مستلبين من أجل تغيير ذلك نحو الأفضل، إلى منظومات وعي إنشائية تقليدية دينية تُستغل باستمرار لإخضاعهم”.

ورغم أن رياض نال حريته من سجن تدمر، إلا أنه عند مراجعته أركان الجيش في المزة ليعلمهم بخروجه، ألحقوه مباشرةً بقوات الدبابات في عاليه، إذ إن إسرائيل بدأت في اجتياح لبنان، وهناك سيعيش تشظيًا من نوع آخر، بين كراهيته للاحتلال من جهة، والفساد المستشري في كل من الجيشين السوري واللبناني وجنودهما الذين يقارعون إسرائيل ببعض طلقات الدوشكا وعُلب البيرة ودخان الحشيش.

سيُصاب الراوي بشظية في فخذه وبخيبة أمل كبيرة من المستقبل الذي عاد ليختبر معالمه في دمشق مع صديقه حيدر الذي بات لديه دار للنشر بعد خروجه من السجن، وسيتعرفان فيه على نماذج من المسؤولين الذي لا ينفكون عن مدح السلطة وتثبيت مؤخراتهم على كراسيهم، ضاربين بعرض الحائط أي تفكير جدي بتحسين البلد وشروط العيش فيه، وإبقائه بلا أدنى اهتمام بمواطنيه، وتكريس نوع من الموالاة العمياء للسلطة، بلا أدنى كفاءة في إدارة البلاد وشؤونها، وبسبب ذلك تحولت سوريا، بحسب الراوي، إلى سجن تدمر من أقصاها إلى أقصاها.

الترا سوريا

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى