سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 06 أيار 2025

حرية إلى الأبد: كل المقالات والتحليلات والحوارات التي تناولت انتصار الثورة السورية اعتبارا من 08 كانون الأول 2024، ملاحقة يومية دون توقف تجدها في الرابط التالي:
سقوط بشار الأسد، الرئيس الفار والمخلوع
——————————-
هل يمكن الاستغناء عن الديمقراطية؟/ حسان الأسود
2025.05.05
لم يعش البشر طوال تاريخهم ضمن أجواء حكم ديمقراطية، فالأخيرةُ منتجٌ حديثٌ جدًا في عمر الإنسان، وحتى لو كانت جذورها تمتد إلى أيام اليونان القديمة، فهي لم تكن ديمقراطية كاملة كما يُنظّر لها الآن. اقتصرت تلك الديمقراطية على المالكين الأغنياء من الرجال الأحرار فحسب، واستبعد منها الفقراء والعبيد والنساء. وحتى اللحظة التي نعيشها الآن في زمننا الراهن لا تعني الديمقراطيةُ العدالة ولا المساواة ولا الحريّة، فكل مفردة من هذه لها مجالاتها ومساحاتها المختلفة. يشاركُ اليوم إيلون ماسك وهو أغنى رجل في العالم مع أفقر أمريكيٍ أبيض أو ملوّنٍ، رجل أو امرأة الصندوق نفسه في الانتخابات، ويُحتسب صوته، نظريًا وقانونيًا، مثل أي صوت آخر، لكنّ الواقع يقول إنّ الفرق الهائل في التأثير واضحٌ بين ماسك وهذا الفقير في صناعة الرأي العام من جهة، وفي صناعة القرار السياسي من جهة ثانية. الديمقراطية لا تعطي البشر الحق ذاته في التأثير بمصائرهم، بل تعطيهم فرصًا متساوية للاعتقاد بذلك. الحقيقة أنّ الثروة هي التي تصنع السلطة، والأخيرة هي التي تنمّي الأولى، في حين تأخذ القواعد الديمقراطية دور إشارة المرور التي تعمل وفق مُستشعِرات الازدحام، حيث تفتح المجال واسعًا أمام الكثافة والاكتظاظ مقابل القلّة في عدد السيارات أو المارّة.
يلجأ المهزومون والضعفاء إلى الحكمة لمداراة حالهم الهزيل، ويحاجُّ المثاليون بقوّة الشعر والبيان لأنّهم يطوفون في فضاء الصورة، يخلق الفنانون عالمهم الموازي ليهربوا من ضجيج الصراحة والوقاحة والوحشية التي يصنعها البشر، يمثلون على المسرح ويكتبون الروايات وينظمون الأشعار ويرسمون اللوحات احتجاجًا أو امتعاضًا أو تأييدًا، يحاولون صناعة الواقع من وهم خيالاتهم، يأتي التأثير سائلًا ومائعًا ومديدًا من دون أن يلحظه أصحابه غالبًا. مقابل ذلك كلّه، يصنع المنتصرون الواقع على هواهم وبقوّة عزيمتهم، لأنها الأمضى في عالم المحسوسات والموجودات. الحقيقة هي الضحيّة الكبيرة في كلّ تاريخ الصراع البشري الناشب منذ الأزل، لا نعرف منها إلا شذراتٍ تقتنصها عيون البحّاثة من بين سطور المؤرخين، والناس تقف مع القوي المنتصر حتى ولو كانت عواطفها مع الضعيف المهزوم، يصلّون وراء عليّ ويجلسون على مائدة معاوية، يسبّحون بحمد قيصر ويشدّون على يد بروتوس. ويبقى الصراع مستعرًا بين الفضيلة والرذيلة، بين الخيال والواقع، بين الأخلاق والسياسة، لكن من قال إنّ الحياة تستقيم بواحدة من هذه الأضدّاد من دون الثانية؟ وهل كان لنا أن نعرف حجم تفاهة الشرّ لولا عظمة موقف حنّا أرندت الأخلاقي، وهل كان بإمكاننا أن نستمتع بدفء شمس الصيف لولا مقارنتها بكآبة برودة أيّام الشتاء؟
الديمقراطية منتجٌ حديثٌ هدفُه تسكينُ الرغبةِ البشرية العارمة بالمشاركة في صنع القرار، هي أحدُ أوجه قياس قبول المحكومين بحكّامهم، وهي لأنها حديثة لم تأخذ طابعًا شاملًا بعد، فليست كل الشعوب محكومةٌ من أنظمة ديمقراطية، بل هناك شعوبٌ لا تسعى لهذه الديمقراطية، أو لنكون أكثر دقّة، هناك فئات كبيرة من بعض الشعوب لا تفكّر بآليات التشاركية في اتخاذ القرار، وبالتالي ليست الديمقراطية مطروحة على برامج تفكيرها أو جداول أعمالها. هناك شعوب لا تجادل بشرعيّة حكّامها، أو غالبيتها على الأقل مقتنعة بشرعية هؤلاء الحكّام، وهي تجادل وتناقش بتفاصيل بسيطة تهمّها من حيث يُسرُ العيشِ وتأمين الأساسيات وأولها الكرامة البشرية ثمّ زيادة الرفاهية التي يتطلّع لها كل البشر. المثال على ذلك في منطقتنا العربية شعوب الخليج العربي، فهي لا تناقش في شرعية الأسر الحاكمة، سواءٌ في عُمان أم الإمارات أم قطر أم البحرين أم الكويت والسعودية، ومثلها في شمال أفريقيا الشعب المغربي. هذه الشعوب لديها قبولٌ واضحٌ لحكّامها، والأسرُ المالكة هنا لم تكتسب شرعية الحكم من الانتخابات، أي من الديمقراطية، بل من تاريخها ومن سياق التأسيس والبقاء والاستمرار. لاشكّ بأنّ الوفرة التي تقدّمها الدولة للمواطنين في الخليج تلعب دورًا كبيرًا في تثبيت القبول هذا، فالدولة هنا بما يتوفر لديها من ريعٍ ناتج عن استثمار النفط والغاز والاستفادة من مداخيل الحج في السعودية، ولاحقًا من الاستثمارات التي أنشأتها، تفعل فعلها في تثبيت الأسر الحاكمة كما يفعل التاريخ فعله بالنسبة للأسرة الملكية المغربية.
هل يعني هذا أنّ الديمقراطية ليست قدرًا يجب أن تمرّ به كل الشعوب والدول، أو أنّها ليست حلقة إجبارية في سلسلة التطور البشري لا بدّ أن تصل إليها المجتمعات؟ وإذا كانت كذلك، فهل ثمّة ما يمكن أن يأتي بعدها في المستقبل كأشكال محتملة للإدارة؟ وهل يمكن الانتقال من الأشكال الأخرى غير الديمقراطية كالاستبدادية، أو القبول الذي تحدثنا عنه وضربنا عليه مثالًا حال بعض الدول العربية، لتصل إلى مرحلة ما بعد الديمقراطية؟ نحن نعتقد أنّ التاريخ البشري أثبت فعلًا أنّ كل شيء ممكن، وأنّ التحولات والتغييرات مستمرة بما يتلاءم مع واقع المجتمعات الإنسانية في مراحل تطورها. هذا يعني أنّه من المحتمل جدًا ألا تمرّ بعض المجتمعات بالطريق الديمقراطي، ومن المحتمل أن يجد بعضها أشكالًا جديدة أفضل من الديمقراطية ما دامت تقدّم لها التعايش والتوافق والقبول. لا شيء يحدّ أفق الإنسان ولا شيء يسقفُ سماءَ مغامرته وتجربته، لا توجد قوالب نمطية جاهزة يمكن وضع المستقبل فيها. التطوّر البشري مفتوحٌ على كل الاحتمالات، ويمكن أن نرى في المستقبل أشكالًا أكثر إبداعًا مع تطوّر العلوم والتكنولوجيا ومع ثورة الذكاء الصناعي. من الصعوبة بمكانٍ أن نتخيّل اليوم تنازل الشركات الكبرى وأصحاب رؤوس الأموال عن امتيازاتهم، لكن قد تخلق التطورات المحتملة في أنماط التفكير والعيش البشري ميلًا جديدًا للتحكّم والسيطرة غير الموجودة الآن، وقد يعني هذا أنّ المال والسلطة قد لا يعودان هما الهدف الأعلى للطامحين والمغامرين، لا أحد يعرف بالضبط أن يمكن أن تأخذنا الآفاق المفتوحة للتطوّر البشري الكبير.
في الختام، ثمّة شعوب عديدة لا تفكّر بالديمقراطية، بل ولا تهمها، لكن ثمّة شعوبٌ أخرى دفعت أثمانًا باهظة لتصل إليها. نحن السوريين على سبيل المثال، نصرُّ على مطالبنا في تحقيق الديمقراطية والحرية والعدالة والمساواة، بل ونتصارع مع ذواتنا حولها لأننا نفتقدها، ولأننا نقارن تجربتنا مع الدكتاتورية والاستبداد بتجارب الشعوب القريبة والبعيدة التي نراها عاشت بسلام وأمان، بل وتقدّمت علينا أشواطًا كثيرة في كل المجالات. من هذا المنطلق لا يمكن أن نتنازل عن طريق الديمقراطية، لأننا لم نعترف لأي سلطة بالشرعية، ولهذا ثرنا على الأسد ونظامه، واعترافنا بالسلطة الراهنة مشروطٌ بما تقدّمه لنا أوراق اعتماد خلال المرحلة الانتقالية وبعدها. هذا الشعب الذي دفع كثيراً على مذبح الحرية لن يقبل أن يعود لقيود العبودية مجددًا. صحيح أنّ الديمقراطية ليست قدرًا بشريًا، لكنها هدفٌ سوري لن نحيد عنه حتى نصله، ولا يمكن الاستغناء عنها، بالنسبة لنا الأقل.
تلفزيون سوريا
——————————————–
سوريا كـ«دولة على حافة الدولة»/ مالك الحافظ
المرحلة الانتقالية بوصفها نظاماً، والهشاشة بوصفها أداة للحُكم
05-05-2025
هل تموت الدولة كما يموت الإنسان؟ وهل بالإمكان أن تستمر دولة ما، ليس لأنها قوية، بل لأنها هشّة بما يكفي لتفادي الانفجار؟ أن تصير الهشاشة ذاتها آلية حُكم، والخوف استراتيجية بقاء، والتشظّي نموذجاً إداريّاً؟
هذه الأسئلة لا تُطرَح عبثاً في الحالة السورية، التي تبدو اليوم وكأنها تستقر على «حافة الدولة»؛ هل ما نراه هو نهاية لبنية سلطوية قديمة، أم مجرّد تغيير في الأقنعة؟ ثم، هل تملك السلطة الحالية مشروعاً فعلياً لبناء دولة؟ أم أننا أمام شكل جديد من اللااكتمال المُقنَّن؟
في لحظات كثيرة، لا تكون الدولة سوى انعكاس مضطرب لذاتها؛ تتأرجح بين البقاء والانهيار، وتعيش على العتبة؛ فلا هي تُنتج عقداً اجتماعياً حاسماً، ولا تسمح بانهيارٍ يفتح باب التأسيس من جديد.
هل يمكن فهم سوريا اليوم، في تركيبها السياسي–الاجتماعي الراهن، بوصفها نموذجاً لدولة من طراز آخر؟
وقد وُصِفَت نماذج مثل العراق ما بعد الغزو الأميركي، ولبنان في فترات الشلل السياسي، وبدرجة ما البوسنة بعد اتفاق دايتون، على أنها أمثلة معاصرة لـ«دول على الحافة»؛ دول لم تنهَر تماماً، لكنها لم تكتمل أيضاً، وعاشت على التوازنات الهشّة والفراغات المؤسساتية.
ويجمع بين هذه الحالات كلها أنها لم تُبنَ على عقد اجتماعي راسخ، بل أُديرت عبر مزيج من التسويات المؤقتة، والتحالفات الهشّة، والمنظومات الفوق دولتية، ما يجعلها أقرب إلى «حافة الدولة» منها إلى شكل الدولة المكتملة.
سوريا كدولة على الحافة: المفهوم والنموذج
إن التساؤل عن موقع سوريا في خريطة المفاهيم السياسية المعاصرة لا يهدف إلى نحت تعريف جديد، بل إلى تفكيك الرواية السائدة؛ فإلى أي مدى يمكننا فهم الدولة السورية؟ لا بوصفها دولة فاشلة وفق المؤشرات التقنية الصارمة، ولا بوصفها دولة مستقرة، بل ككيان يستمدّ بقاءه من إعادة إنتاج هشاشته المزمنة.
في الأدبيات السياسية الكلاسيكية، كانت الدولة تُعرَّف بوصفها كياناً سيادياً يحتكر العنف المشروع، ويمارس الحكم ضمن حدود جغرافية مُعترَف بها، عبر منظومة مؤسسات تُنتج القوانين وتنفّذها، وتؤسِّس لما يُسمّى «السلطة المشروعة». غير أن القرن الحادي والعشرين، وما سبقه من إرهاصات تَفكُّك في نهايات القرن العشرين، أفرز أشكالاً جديدة من الكيانات السياسية، لم تنهَر كما في حالات الدولة الفاشلة، ولم تُنجِز شروط التماسك البنيوي كما في الدولة المستقرة. هذه الكيانات بات يُشار إليها، على نحو مجازي تحليلي، بما يمكن تسميته بـ«الدول على الحافة».
لكن، في هذا السياق، لا تكون الدولة الحافة هي تلك التي تقترب من الهاوية بمعناها الحتمي، بل هي التي صنعت من اقترابها هذا استراتيجية دائمة لإطالة عمرها السياسي، عبر تشييد سلطتها على أساس من «التأجيل» وليس من «الحسم»، وعلى قاعدة «الطوارئ» لا «العقد السياسي».
ينتمي هذا النموذج، من حيث البنية الوظيفية، إلى ما سمّاه المفكر البولندي زيغمونت باومان بـ«الحداثة السائلة»، حيث لا ثبات في المقولات الكبرى، ولا حسم في القيم، ولا يقين في المشروع السياسي.
من هنا، تقترب الدولة الحافة من النموذج الذي قدّمه جيمس سكوت في أطروحته عن «اللاعنف المنظَّم» للدولة في الهوامش، ولكن ضمن بيئة أكثر تطوراً في تقنيات الإخضاع الرمزي، فالدولة هنا تستثمر في السرديات الكبرى كالخوف، والهوية، والانقسام.
في هذا الإطار، يمكن فهم سوريا اليوم كدولة تنتمي إلى هذا الطراز من الكيانات، حيث تتقاطع مفاهيم مثل «الدولة الزبائنية»، و«الدولة الهشة المدارة»، و«الدولة التفاوضية»، لتُنتج شكلاً مائعاً من الحوكمة. ذلك أن السلطة الانتقالية، بوصفها الوريث السياسي لما بعد سقوط نظام الأسد، لا تُقدّم نموذجاً مؤسساتياً مقنعاً، بل تُعيد إنتاج أنماط الحكم السابقة، ولكن بأدوات لغوية ودينية مغايرة، تسكنها الروح الجهادية المُعقّمة، وتُظلِّلها مرجعيات الولاء الشرعي بدلاً من الإجماع الوطني.
انهيار البنية السلطوية أم تغيير للأقنعة؟
ضمن هذا السياق بالتحديد، يصبح من المفيد أيضاً استدعاء مفهوم «الدولة الزبائنية»، بالتحديد كما قدمه فؤاد الخوري، وطبّقه لاحقاً باحثون على الأنظمة السياسية العربية، حيث تُوزَّع المنافع لا على أساس الحقوق أو الكفاءة، بل على قاعدة الولاءات والانتماءات الفئوية، أو الدينية، أو المناطقية. وهذا ما يجعل من شبكات الدولة بدائلَ وظيفية عن الدولة المركزية، لكنها لا تستطيع أن تحلّ محلها في إنتاج السيادة أو بناء الوطنية الجامعة.
هذا أيضاً ما يجعل من سوريا دولةً على «حافة الدولة»، لا من حيث مؤشرات الفشل التقليدية، بل من حيث موقعها المعلّق بين مشاريع متضاربة، فهي لا تُستوعَبُ تماماً في النظام الإقليمي العربي، ولا تندمج في الجيوبولتيك التركي، ولا تُنتِجُ ذاتها بوصفها كياناً مستقلاً سيادياً. إنها دولة على حافة جميع المشاريع، تدير علاقاتها الخارجية كما تدير الشأن الداخلي، عبر منطق «المساومة على الهشاشة» لا «التفاوض من موقع السيادة».
وفي سياق مقارن، يمكن النظر إلى النموذج اللبناني كأحد أكثر النماذج قرباً، وإن كان بخصائص مختلفة، من حيث وجود «دولة اللاقرار»، و«حكومة التسويات المؤقتة»، ولكن دون ارتكاز إلى أي تصوّر متكامل عن العقد الاجتماعي أو النظام الوطني. غير أن الفارق في الحالة السورية الانتقالية يكمن في مرجعية هذه السلطة الجديدة، التي تنطلق من فكر سلفي جهادي لا يعترف نظرياً بالمواطنة بوصفها أساس الحُكم، ولا بالدولة بوصفها سلطة تشاركية، بل يتعامل مع السياسة كأداة تمكين دعوي، ومع الشرعية كمنظومة اصطفاء لا انتخاب.
وهنا، تغدو بنية الحكم القائمة في سوريا ما بعد الأسد، ليست فقط سلطة غير مكتملة وظيفياً كما في توصيف جويل ميغدال للدول الضعيفة، إنها سلطة تُحوّل نقصها المؤسسي إلى تكتيك دائم، لذلك، فهي تُحافظ على وجودها من خلال التوازن على الحافة؛ بين المحلي والخارجي، بين الدعوي والمدني، بين التشاركي والسلطوي، وبين الدولة كمفهوم والدولة كأداة.
وفي هذا السياق، قد يُطرَح تساؤل جوهري يتمحور حول أن يكون اللّااكتمال نابعاً من وعي سلطوي، أم من بنية غير قابلة أصلاً للاكتمال؟
قد يُفهَم هذا الإصرار على اللّااكتمال، لا بوصفه قراراً واعياً من السلطة، بل كنتاج لعجز بنيوي عميق عن ممارسة وظائف الدولة، حيث تتقاطع البنية العقائدية المغلقة مع غياب المشروع المؤسسي، لتُنتِجَ نمطاً من الحُكم لا يستطيع أن يكتمل، حتى لو أراد ذلك.
ولعل المقاربة الغربية لهذه السلطة، كما تنعكس في تصريحات الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، تندرج ضمن هذا الفهم. فالغربُ لا يُمانع واقعياً وجود سلطة انتقالية متزنة وكاملة الاعتراف في سوريا، لكنه يشترط أن تكون هذه السلطة قابلة للاندماج في نموذج الدولة المتخيلة ضمن معايير «الحوكمة الرشيدة» و«حقوق الإنسان». وبما أن السلطة الجديدة ما تزال تحمل آثار مَنشئها الجهادي، وتُبقي على رموز ومفاهيم لا تُطمئن الشركاء الدوليين، فإنها لا تُعَدّ بنظرهم دولة في طور التشكّل. ومن هنا، فإن «الحافة» ليست فقط مكاناً بين الحياة والموت السياسي، بل هي موضع الجغرافيا الإقليمية والدولية لسوريا، إنها دولة على حافة الخرائط تُدار بتقنيات الحد الأدنى، وتُستثمَر كمساحة صراع وتفاوض بين قوى لم تحسم خياراتها، لكنها متفقة على شيء واحد: أن لا قيام فعلياً لدولة سورية ناجزة حتى إشعار آخر.
الدولة كتوازن هشّ بين البقاء والانهيار
لم يكن سقوط نظام الأسد تتويجاً لمسار تَحوّلي نحو دولة جديدة، بل بدا وكأنه انزياح لبنية الاستبداد من شكل إلى آخر، حيث لم تنهَر السلطة بصفتها النمطية الأمنية فقط، بل أعادت تشكّلها داخل فراغٍ سياسي–مؤسسي، لم تُملأ معالمه بعقد اجتماعي جديد بل بإدارة مؤقتة اتخذت طابعاً شرعياً–دعوياً في التعبير، ووظيفياً–شبكياً في الأداء.
فالانتقال لم يأتِ عبر تفكيك المنظومة القديمة، ولا عبر بناء منظومة جديدة تُؤسَّس على الشرعية التمثيلية، بل عبر سلطة مؤقتة تمدّدت ثم تثبّتت، ثم بدأت تُعيد إنتاج نفسها لا كأداة عبور، بل كنموذج بديل لإدارة الهامش.
ما ظهر للعيان بوصفه انتقالاً، لم يكن سوى استمرار لنمط الحافة، ولكن بأدوات جديدة: خطاب تعبوي يُخفي غياب الرؤية، وبنى إدارية تُعيد إنتاج الانقسام الرمزي بدل تخفيفه. ولعل الأهم أن هذه السلطة الانتقالية لم تشتق مشروعها من توافق وطني، بل من هندسة الولاءات حول مركز ديني–عقائدي، لا يحكم باسم السيادة بل باسم الحُكم الصالح كما تتصوره سرديات السلف الجهادي.
بهذا المعنى، يمكن القول إن سوريا لم تنتقل إلى «دولة ما بعد الأسد»، بل انتقلت إلى صيغة جديدة من «سلطة ما دون الدولة»؛ سلطة تشتغل داخل فراغ الدسترة، وتملأ فجوة العقد الاجتماعي بأجهزة بديلة تُحاكي مؤسسات الدولة من حيث الشكل، دون أن تحمل مضمونها التمثيلي.
لم يكن اللااستقرار عَرَضاً سياسياً، بل أصبح أداة حكم، فالمؤسسات تتشكّل على أساس الثقة الشرعية لا الكفاءة المهنية بالضرورة، وهنا السلطة تُوزّع، ولكن عبر شبكة من الولاءات العقدية والمناطقية التي تُشبِه، إلى حدٍ بعيد، ما وصفه عالم الاجتماع مانويل كاستلز، بـ«الدولة الشبكية»؛ أي تلك التي تستعيض عن المركزية الصلبة بنظام متعدد العُقَد، يتوزع فيه النفوذ على جزرٍ مترابطة لكنها مستقلة، مما يُنتج سلطة بلا رأس ومركزاً بلا مركز.
من السلطة المؤقتة إلى الدولة المؤجّلة
الأهم من ذلك أن السلطة الجديدة، بدلاً من أن تنزع عن نفسها طابعها العقدي–الحصري، بدأت في مأسسة التديّن لا بوصفه حرية شخصية بل كهوية سياسية جماعية. فهي مثلاً لم تُعلن «الخلافة» لكنها جعلت من السمت الديني معياراً للجدارة، ومن «الصفوة الإيمانية» لغةً غير مكتوبة للتمايز.
ضمن هذا المعنى، لم تَعُد السلطة الانتقالية مشروعاً سياسياً مفتوحاً، بل تحوّلت إلى «رؤية مغلقة تُدار عبر أدوات الدولة المفتوحة»، في مفارقة تُشبه ما سماه فوكو بـ«استبطان السلطة في الجسد الاجتماع».
وحين تصبح مجالس الشورى المحلية أقرب إلى مراكز تفويض شبه سيادية، تعمل خارج كل أُطر الحوكمة التمثيلية، ويتحوّل مجلس الإفتاء الأعلى إلى ما يُشبه القيادة النظرية المُضمَرة للنظام السياسي، لا بوصفه مرجعاً روحياً بل كمؤسسة تشريعية ظلّية، تتدخل في ضبط التوجّهات وتوجيه بوصلة القرارات الوزارية؛ فإننا نكون أمام بنية حكم لا تُمارَس من المركز بل تُفرَز في الهامش، وتُراقب المركز من خلاله.
في هذا النموذج لا تعود الإدارات بيروقراطيات مستقلة، بل يُزرَع في جسدها ما يمكن تسميته بـ«الرقابة الإيمانية الداخلية» عبر شخصيات تُفرَز أمنياً–شرعياً، دون أن تحمل مسمّى رسمياً، لكنها تصوغ التعليمات وتدفع بالتعميمات، وتُوجِّه بوصلة التسيير الداخلي باسم الشريعة لا باسم القانون.
هنا، لا تُمارَس السلطة من خلال «جهاز قمع مركزي» واضح، بل عبر تَمفصُلات داخلية لا يمكن الفصل فيها بين الإلزام العقائدي والإدارة اليومية. هذا تماماً، ما يُقارب توصيفات ميشيل فوكو لـ«السلطة الميكروفيزيائية» أو «السلطة الدقيقة»، حيث تكون الدولة حاضرة من خلال إعادة تشكيل التراتبية المجتمعية على أساس أخلاقي–عقدي، لا سياسي–مدني.
وفي هذا السياق، لا يكون المواطن خاضعاً لسلطة واضحة المعالم، بل لحقل قيمي محاط بالتحريمات، تُقاس فيه الأهلية بالمظهر، والولاء بالتقوى، والانتماء بالصفاء العقائدي. إنها دولة تُمارس الحكم من الأسفل إلى الأعلى، لا من خلال سياسات، بل عبر ترويض رمزي طويل النَفَس، يحوّل الطاعة إلى استبطان والانضباط إلى جزء من السلوك اليومي المعاش.
وعليه، لا تبدو سوريا اليوم في لحظة عبور، بل في لحظة تعليق. والسلطة، بدلاً من أن تقود المجتمع إلى مرافئ الانتقال، تحوّله إلى مجتمعٍ ينتظر ببطء… ولكن لا يَعبُر. مجتمع يتأقلم مع غياب الدولة عبر آليات رمزية جديدة، يتم فيها ترويض الفوضى دون تفكيكها، وضبط العجز دون حله.
التمكين كمنهج لا كهدف
في ظل غياب التمثيل الوطني الواسع، والاستمرار في استبعاد الطيف المدني المتعدد، بدأ التوازن القلق يُصبح شكل الحكم ذاته؛ لا أحد خارج اللعبة تماماً، ولا أحد داخلها بالكامل. وهكذا تُعاد صياغة المشهد السياسي وفق منطق «الاحتواء دون الاعتراف»، وتُصبح الحافة، مرة أخرى، ليست عتبة عبور، بل صيغة دائمة من صيغ الحكم، حيث اللااكتمال هو القاعدة، والضبابية هي جوهر العقد السلطوي الجديد.
ما الذي يتغير فعلاً حين تسقط الأنظمة؟ هل تنهار البنى السلطوية أم أنها فقط تبدّل أقنعتها؟
في سوريا، لا يبدو أن السلطة بوصفها نمطاً للسيطرة قد تراجعت، بل على العكس؛ إنها تعلّمت من انهيار نظام الأسد كيف تخلع عنه عباءته، وتحافظ في الوقت نفسه على تقنياته الأعمق، وكأننا إزاء سلطة تتقن فنّ «الاستنساخ التفاضلي» بحيث تُعيد إنتاج أدواتها ولكن بأسماء جديدة، وتُمارس الإقصاء لكن من داخل اللغة الفقهية.
السلطة الانتقالية التي ورثت إرث الدولة الأمنية لم تحاول تفكيكه، بل أعادت تسويقه في هيئة «مجالس شرعية» و«هيئات رقابة»، لا تستمد شرعيتها من الدستور، بل من «الحق الإلهي المُؤجَّل» أو من فقه الأولويات. كل ذلك ضمن نظام يُعيد تعريف الدولة كفضاء للحُكم لا كإطار جامع للمواطنة.
في هذا السياق، يصعب الحديث عن مؤسسات بالمعنى التقليدي، بل نحن أمام حوكمة شبكية جهادية، تعتمد على توزيع القوة بين أطراف متعددة، بعضها دعوي وبعضها عسكري وبعضها إداري، لكنها جميعاً تتغذى من مرجعية واحدة؛ المرجعية السلفية الجهادية المُرمَّزة، لا المُعلَنة. وهنا تظهر مفارقة الدولة الحافة في نسختها السورية، فالسلطة تتوزع بين «عُقد سلطة» متناثرة، تُدير الشأن المحلي، وتُشرِّع وتُحاسب، دون منظومة سيادة واضحة أو فصل سلطات، وفي هذه الحالة لا تكون الدولة حاكمة بل تصبح شبكة من الممارسات المتعددة التي تشبه الدولة وتُشبه السلطة، لكنها ليست واحدة منهما.
بهذا المعنى، تتقاطع هذه البنية الشبكية الجهادية مع مفهوم «الدولة الحافة» في نسخته القصوى؛ فهي لا تنتج أدواتها لإدارة التعدد أو تمثيل الجماعة الوطنية، بل لإدارة التأجيل وتأجيل الدولة نفسها، عبر قوننة اللحظة المؤقتة بوصفها الشكل الوحيد المُمكن للسلطة.
هذه الهياكل الجديدة، التي يُطلق عليها أحياناً اسم «التمكين المدني»، تحمل في جوهرها استبطاناً لسردية تمهيدية نحو دولة العقيدة لا دولة العَقْد، أي أن التعايش الذي يُروَّج له بين الإدارة المدنية والحكم الشرعي ليس غاية، بل مرحلة انتقال، أشبه بما وصفه سيد قطب ذات مرة بـ«مرحلة المستضعفين قبل التمكين».
ويمكن، بشيء من الحذر، مقارنة هذه السيرورة بسيناريوهات سابقة لحركات دينية صعدت إلى الحكم دون مشروع مؤسسي واضح، كما في حالة طالبان بين 1996 و2001، حيث مُورِسَت السلطة بوصفها «حراسة للتمكين» لا إدارةً لعقد وطني جامع، وكذلك في بعض مراحل التأسيس المبكر للجمهورية الإسلامية في إيران، حين تداخلت المرجعية الفقهية مع أجهزة الدولة من دون حسم بنيوي للثنائية بين الدَعَوي والسيادي. غير أن النموذج السوري، في مرحلته الانتقالية الراهنة، يتمايز بأنه لا يملك حتى الآن مشروعية جماهيرية واضحة، ولا بنيات دولة راسخة، بل يعمل ضمن حقل مُعلّق، يؤجل الدولة ويَستبقي السلطة.
وفيما تُظهر السلطة الانتقالية في سوريا خطاباً براغماتياً، فإن بُنيتها الرمزية لا تزال مُتخَمة بتلك التصورات؛ مفردات «الصفوة»، و«الولاء الشرعي»، و«أهل التمكين»، و«الرِّدة الناعمة»، تتسلل إلى اللاوعي الإداري، وتُعيد تشكيل علاقة الدولة بالمجتمع على أساس عَقَدي لا مدني، أفقي في التوزيع، عمودي في الولاء.
النتيجة أن المجتمع تُعاد هندسته ببطء، عبر تقنيات الضبط الرمزي، ابتداء بـ مظهر خارجي، لغة خطاب، هوية منضبطة، وقبول ضمني بـ«سقف المسموح». هنا لا يعود الأمن مسألة مادية فقط، بل يتحوّل إلى أمن هوياتي–رمزي، يُراقب النبرة، والإيماءة، والتفصيل الصغير، بوصفه تهديداً محتملاً لـ«التمكين المُتدرِّج».
لكن هذا «الضبط الرمزي» لا يتوقف عند حدود المجال العام، بل يمتدّ إلى الداخل الشخصي للأفراد، حيث تُعاد صياغة الذات الفردية وفق إيقاع «الرقابة المؤجلة، فالفرد في سياق السلطة المؤقتة–الدائمة، لا يعيش تحت سلطة تُحاسبه فوراً بل تحت سلطة تجعله يترقّب الحساب دائماً، وتُعلِّق معاييره الأخلاقية والاجتماعية ضمن أفق لا يُحدَّد زمنياً، ولا يُفصَح عنه قانونياً.
من العنف الرمزي إلى القلق المُؤجّل
إنها سلطة تستبدل الردع بالعَتَبة، تجعل من الخوف نمطاً للانضباط، ومن الالتباس منهجاً في الطاعة. وبهذا، تُزرَع في وعي الفرد فكرة أن «الخروج عن الإطار» ليس خطأ يُعاقَب عليه، بل احتمالية مفتوحة للعقاب تتوقف على تفسير لاحق، وقرار غير مُعلن. وهنا بالضبط، تتشكّل حالة الانكماش الوجودي، حيث تُدمَغ الذات بالحذر الوجودي، ويتحوّل الانتماء من علاقة واعية مع الدولة إلى علاقة التزام قَلِق مع منطقها الغامض.
تُحوِّلُ هذه المنهجية الإنسان إلى كائن يُربّي نفسه وفق ما قد يُطلَب منه لاحقاً، حيث يُعيد تشكيل لغته الداخلية لتلائم مزاج السلطة، ويُطوّر رقابة ذاتية لا تستند إلى القانون بل إلى الحَدْس الجمعي، والشعور بما يُفترض أنه «المرغوب». وهي الحالة التي وصفها بيير بورديو بـ«العنف الرمزي»، حين يمارس الإنسان على نفسه، ومن تلقاء ذاته، ما لم يُفرَض عليه مباشرة.
وهكذا، لا يعود تأجيل الدولة مسألة سياسية فقط، بل يصير نموذجاً لإرجاء الذات، حيث لا تعود «أنا المواطن» مشروعاً فاعلاً بل حالة انتظار مٍتجذِّرة، لا تعبّر عن نفسها بل تحرس صمتها، وتُعيد إنتاج هشاشتها كوسيلة للبقاء.
ولعلّ هذا التكيُّف القَلِق مع غياب الدولة، أو مع حضورها المتردّد، يُحاكي ما وصفه ألبرت كامو في «أسطورة سيزيف» بـ«العبء الوجودي تحت عبثية النظام»، حيث يجد الفرد نفسه مُرغَماً على الاستمرار في الطاعة، ليس لأنّ السلطة مُقنِعة بل لأن غيابها يهدّده بالفوضى، فالاستمرار يصبح فعلاً تراجيدياً ليس لأن الفرد حرّ، بل لأنه لا يملك بديلاً مُقنِعاً.
في الوقت نفسه، تُعيد هذه الحالة تشكيل ما يُعرَف في علم النفس السياسي بـ«القلق المُؤجّل»، وهو نمط نفسي–سلوكي يعيش فيه الإنسان تحت سقف توتر دائم، مصدره ليس الحدث الصادم بل توقّع الحدث، ما يولّد سلوكاً دفاعياً متواصلاً يُجهِدُ الوعي ويُرهِقُ القرار ويُفكِّك المبادرة.
وهنا، لا تعود المسألة مجرد أثر نفسي فردي، بل تتسرّب إلى المجال العام، حيث تتولّد أخلاقيات الطاعة الحذرة، وثقافة النجاة بدل المشاركة، وهوية مدنيّة مشروطة لا تُمارَس إلا بتصاريح معنوية من المركز السلطوي الغامض.
إن السلطة المُؤجّلة لا تُعيد فقط إنتاج نفسها في البنية السياسية، بل تُعيد هندسة علاقة الذات بذاتها، وتُحوِّل الانتماء إلى حالة انكماشٍ رمزي لا تعاقدٍ مدني، وتجعل من الخوف قيمة اجتماعية مشتركة، يُعاد تدويرها كل يوم بوصفها الطريقة الوحيدة الممكنة للتكيّف.
هكذا تنتقل سوريا من نموذج الدولة الأمنية الكلاسيكية، إلى نموذج الدولة الرمزية الجهادية، حيث لا تَظهر السلفية الجهادية بوصفها نظاماً واضحاً للحكم، بل مناخاً عاماً ينظّم سلوك السلطة، ويُطوِّعُ المجتمع بالتراكم الرمزي لا بالإعلان المباشر.
فهل يمكن لهذا الشكل من السلطة أن ينتج مشروع دولة، أم أننا فقط أمام نَسَق سلطوي مُؤجّل، يتهيأ للحظة الحسم العقائدي تحت غطاء الدولة المؤقتة؟
سؤالٌ لا يحمل جواباً نهائياً بعد، لكنه يُلقي بظلاله على مستقبل سوريا؛ فهل تتجه البلاد نحو هندسة سياسية جديدة قوامها شرعية الأمر الواقع؟ بين الدولة الموعودة والدولة المُؤجّلة ثمة شعبٌ يُعاد تشكيله، لا على يد مشروع وطني، بل وفق مخطط عقدي لا يعترف بالوطن إلا بوصفه «أرض تمكين».
هل يمكن للسلطة الحالية أن تنتج مشروع دولة؟
إن ما نواجهه في الحالة السورية لا يتطابق مع نماذج «الدولة الفاشلة» أو حتى «الدولة الموازية»، بل يقترب من ما يمكن تسميته بـ«الدولة المؤجّلة»؛ كيان لا يُبنى وفق تخطيط سيادي مؤسساتي، بل يتكئ على ذريعة الوقت لتمديد حالة الطوارئ الرمزية، حيث تُمأسس السلطوية باسم الضرورة. هنا، يصبح التعليق المستمر لمفردات الدولة (الدستور، القانون، الانتخابات، الحقوق المدنية) ليس فشلاً في الإنجاز، بل استراتيجية مقصودة لضمان انسيابية السيطرة، وإبقاء المجتمع في حالة «انتظار مُنظّم».
وفي هذا الإطار، تتجلى الميتودولوجيا السلفية الجهادية في الحكم لا بوصفها نموذجاً صدامياً مباشراً، بل كمنظومة إدارة تقوم على تحويل النصوص العقدية إلى دليل إجرائي للحوكمة. فـ«فقه التمكين» لا يُطرَح كمآل نظري، بل يُمارَس كمصفوفة تنظيمية للسلطة، بحيث يُعاد تشكيل الحقل السياسي وفق ثلاثية «الشرعية/التعبئة/التحكم»، ويَتحوّل السلوك العام إلى فضاء مُراقَب ضمنياً، يخضع لبراديغم السمع والطاعة، ولو بصيغة مخففة من الانضباط الرمزي.
في النظريات السياسية الكلاسيكية، يُفترَض أن «المرحلة الانتقالية» هي فسحة استثنائية خارج الزمن الدستوري، تهدف إلى نقل السلطة من وضع مختلّ إلى نظام شرعي جديد. هي زمن مؤقّت وإن طال، يستمد مشروعيته من كونه وسيلة نحو غاية، لا غاية بحد ذاته. لكن، ماذا يحدث عندما تتحول هذه الوسيلة إلى غاية؟ عندما يُعاد إنتاج المرحلة الانتقالية نفسها كـ«نظام»، لا كمحطة عابرة.
هذا ما يطرحه بعمق مفهوم «الدولة المؤجَّلة»، الذي يتقاطع مع ما وصفه الفيلسوف الإيطالي جورجيو أغامبن بـ«الحالة الاستثنائية المُعمَّمة»، حيث يتحوّل الاستثناء إلى بنية دائمة تُعيد تعريف القانون، والسلطة، والشرعية من خارج منظومتها الأصلية.
في سوريا، ومنذ سقوط نظام الأسد، لم تُبنَ مرحلة انتقالية بالمفهوم المؤسسي، بل أُديرت «الانتقالية» كقيمة بحد ذاتها، كمظلة تُجيز الاستمرار في الحكم دون تقديم تصور نهائي للدولة المنشودة. هكذا، أصبح التأجيل هو الفعل السيادي الأساسي، والتردد هو الاستراتيجية الكبرى. دستورٌ مُؤجَّل إلى سنين لاحقة وإعلانُ دستوري على المقاس، بدون قانون شامل للعدالة الانتقالية، ولا ميثاق اجتماعي جامع، بل سلسلة من «التفاهمات الضرورية» التي تُدَار عبر التأويل لا عبر الإلزام.
إنها دولة تُمارس السلطة لكنها لا تُفصح عن شكلها المستقبلي، تُنظّم المجتمع لكنها تؤجّل تعريفه، وتقرر في الحاضر لكنها ترفض أن تُسأَل عن الغد.
تُعيد هذه الحالة إلى الأذهان مفهوم «السيادة المؤجلة»، كما طرحه بعض منظّري ما بعد الاستعمار، حيث لا تكون الدولة مالكة للقرار بل مستأجرة له من قوى خارجية، أو عقائد كبرى، أو شبكات مصالح داخلية، فالسلطة الانتقالية الحالية برغم استقلالها الشكلي، لا تدير ذاتها كفاعل حرّ، بل بوصفها طرفاً في شبكة من التوازنات الدينية–العسكرية–التمويلية، تجعل من كل قرار سياسي فعلي خاضعاً للفيتو الرمزي.
تَزداد المعضلة حين يُصبح عدم الحسم هو الضمانة الوحيدة لعدم الانفجار، بمعنى أن التأجيل لا يُستخدَم هنا كتكتيك مرحلي، بل يُستبطَن بوصفه ركيزة للاستقرار الزائف. لا انتخابات، لأن الظرف غير مناسب. لا تمثيل وطني، لأن المرحلة تتطلب «كفاءة لا محاصصة»، وهكذا تُعاد صياغة المفردات الكبرى للحكم، من أدوات للتحوّل إلى آليات للتأجيل.
لكنّ هذا النموذج، كما يشير بعض الباحثين في فلسفة الدولة، لا يظلّ معلّقاً في فضاء العطالة، بل يُنتِجُ مع الوقت أخلاقيات تأجيلية داخل المجتمع نفسه.
يتسرّب التأجيل إلى النسيج الاجتماعي، ويُعيد تشكيلَ العلاقة بين الفرد والدولة بوصفها علاقة احتمال لا يقين، فحين تُؤَسَّس الدولة ككيان مُؤجَّل فإن الانتماء إليها يصبح مُؤجَّلاً بدوره، فتتفتّت الهوية الوطنية إلى «توقّعات موقّتة»، وتغدو الروح العامة للشعب أشبه بمُخيّلة سياسية مُعلَّقة، تتناوب بين الحذر والانتظار، دون أن تَصِل إلى قناعة ناضجة بالولاء أو الرفض.
الاستثناء المُعمَّم وإرجاء المعنى السياسي
في هذا السياق، لا تعود الدولة رمزاً جامعاً، بل تتحوّل إلى طيفٍ إداري–شرعي، حاضر في تفاصيل الحياة اليومية، وغائب عن المخيال الوطني. تتآكل مفردات الانتماء الكبرى (الوطن، الدستور، القانون) وتُستبدل بتعابير أكثر ظرفية ونجاةً؛ «نأمل»، «نصبر»، «ننتظر»، «إن شاء الله القادم أفضل». هكذا يُستبدَل الشعور بالمواطنة بشعور الترقُّب، وتذوب الهوية في خريطة الاحتمالات، لا في تعاقد الوعي.
ذلك أن الاستثناء حين يُعمّم، لا يُنتج فقط ضعفاً في الحوكمة، بل يُعيد تشكيل مفهوم الممكن السياسي ذاته، فبدلاً من السؤال عن «كيف نبني الدولة؟»، يُطرح السؤال الأكثر فتكاً «هل يمكن أن تُبنى أصلاً؟». هنا تظهر أخطر نتائج «الدولة المؤجّلة» والمتمثل بـ تدجين الخيال السياسي الجمعي، وترويض التطلعات الجماعية حتى تصير مجرّد «طلب للاستقرار»، لا للمشاركة، ولا للمساءلة، ولا حتى للمعنى.
هكذا تتبدى خطورة المرحلة الانتقالية السورية، لا بوصفها انتقالاً لم يكتمل، بل بوصفها نظاماً انتقل إلى نفسه، واستقر كمنظومة تأجيل شرعيّة، تُحيل كل تغيير إلى لاحق غير مُسمّى، وتُبقي المجتمع في حالة ترقّب هي نفسها شكل من أشكال الضبط، والخضوع، والتأطير. هكذا يتحوّل الفرد من كائن سياسي فاعل إلى كائن مؤجَّل، لا يَحكُم، ولا يُحكَم، بل ينتظر.
ليست المأساة السورية اليوم في هشاشة الدولة فحسب، بل في انتظام تلك الهشاشة، في كونها أصبحت شكلاً من أشكال التنظيم السياسي لا الاستثناء عنه. فـ«الدولة على الحافة» ليست دولة تترنح بحثاً عن خلاص، بل كيان يُتقن البقاء في موقع السقوط المؤجل، الانهيار المدروس، واللّااستقرار الذي يتحول إلى سياسة.
وما يُخيف حالياً في التجربة السورية ليس غياب المشروع، بل وجود ما يبدو في ظاهره مشروع دولة، هو في جوهره بنية تحكم تُعيد إنتاج الفجوة بين الشكل المؤسسي والمضمون السيادي، حيث لا تُبنى المؤسسات لتمثيل المجتمع بل لترويضه، بمعنى إدارة الناس دون وعد، وتنظيم السلطة دون أفق، والتعايش مع الفوضى دون نية لتجاوزها.
إن السلطة الانتقالية في سوريا اليوم لا تُشبه سلطة تقود إلى بناء دولة، بقدر ما تُشبه سلطة تدير انتقالها كإقامة دائمة في لحظة التعليق، تُعيد فيها إنتاج بنيتها كشبكة سلطة تشتغل على الفراغ لا على المشروع. تُشبه، إذا ما استعنا بمجازات الفيلسوف بول ريكور، راوياً يرفض أن يُنهي قصته، أو أن يُعرِّف شخصياته، ويُبقي كل شيء في حالة من التعليق السردي… لا نهاية، ولا عقدة، ولا حل.
هذه «السلطة المؤقتة إلى الأبد» تُعيدنا إلى سؤال الفيلسوف ميشيل فوكو عن من يملك الحق في تعريف الاستثناء؟
ففي الحالة السورية، لا يعود الاستثناء ظرفاً تُحدِّده الدولة، بل يُصبح هو الدولة نفسها، فالسلطة مهما بدت جديدة لا تخرج من عباءة هذا المنطق، بل تستبطنه وتُعيد إنتاجه.
وفي غياب تَصوُّر واضح للدولة لا بوصفها هيكلاً إدارياً فقط، بل كرؤية للعيش المشترك، والتعدد، وتوزيع السيادة؛ تظلّ سوريا عالقة بين شبحين: شبح الماضي السلطوي الذي أُطيح دون محاسبة، وشبح الحاضر العقائدي الذي يُشرعِنُ بقائه عبر رمزية الضرورة.
لا يبدو أن سوريا على وشك التحوّل إلى دولة، ولا إلى فوضى شاملة. إنها ببساطة، باقية في حافة الحافة، بين الدولة واللادولة، بين السلطة والانهيار، بين اللغة والخوف، بين الحاكم والمؤجّل… في لحظة استثنائية لا تنتهي.
وهنا بالضبط، يكمن منطق البقاء باللّااستقرار.
موقع الجمهورية
—————————–
توثيق القمع لبناء الوعي ومنع التكرار.. من متحف “شتازي” إلى فروع الأمن السورية/ مختار الإبراهيم
2025.05.04
فجّرت السلطات الجديدة مبنى فرع المخابرات الجوية في حلب يوم 30 نيسان، وأزالت معه بقايا أحد أبرز معالم القمع التي عايشها السوريون لعقود. ورغم أنه كان متهالكا فإن تحويله لأنقاض، يتجاهل أهمية الحفاظ على هذا المبنى كشاهد على الجرائم التي ارتكبها الأسد، وكفرصة لبناء وعي تاريخي يمكّن السوريين من مواجهة ماضيهم، كما فعل الألمان بعد سقوط جدار برلين. حيث تحول “شتازي” من مقر لجهاز أمن الدولة في ألمانيا الشرقية إلى متحف مركز للتعليم والتوثيق، ويؤكد ضرورة وجود مشروع مشابه في سوريا لتوثيق حقبة الأسد، وتحويل مواقع التعذيب إلى متاحف تحفظ الذاكرة وتمنع تكرار الكارثة.
شتازي والسجون السورية شاهد على حقبة مظلمة
في مبنى رمادي بحي ليشتنبيرغ شرقي برلين، كانت تُدار واحدة من أعقد شبكات التعقّب والقمع في القرن العشرين، يقف متحف شتازي شاهدا على مرحلة مظلمة، بات منذ وحدة البلاد مركزا لتعليم الأجيال الجديدة ينبّه لمخاطر تلك الحقبة وكيفية العمل لمنع تكرارها.
وبعد أيام قليلة من سقوط النظام المخلوع في سوريا، أثارت مبادرة فريق تطوعي بطلاء بعض جدران فرع الأمن السياسي باللاذقية غضب السوريين بعد انتشار فيديو يوثق تغيير معالم المعتقل، وهو ما اعتبره كثيرون طمسا للأدلة يعيق تحقيق العدالة للضحايا، واستمرارا لما رأوه عبثا بمسارح الجريمة وغيابا لتوثيق جرائم نظام بشار الأسد.
في متحف شتازي يعمل كلاوس شتورتسه كدليل ومرشد تربوي يرافق المجموعات الزائرة لا سيما الطلبة منهم لشرح معالم وصور المتحف ويجيب عن أسئلتهم التي لا تنتهي عن المكان وعنه شخصيا لأنه مر بتجربة اعتقال لدى “شتازي” وهي وزارة أمن الدولة في ألمانيا (الشرقية 1949 – 1990) المعروف اختصارا بشتازي وهي اختصار للكلمة الألمانية Staatssicherheit وتعني حرفيا أمن الدولة، ليحدثنا عن فلسفة المتحف، وأهمية مواجهة الماضي في بناء المستقبل.
تاريخ الألم سلاح للمستقبل
عملت الحكومة الألمانية إبان الوحدة عام 1990 على حفظ تاريخ ألمانيا الشرقية بشكل متوازن، وأنشأت لهذا الهدف متاحف ومراكز توثيق لتسليط الضوء على الحياة اليومية والنظام السياسي في جمهورية ألمانيا الديمقراطية، كما فتحت ملفات جهاز الأمن “شتازي” لتعزيز الشفافية والمصالحة. ورغم تجديد أو إزالة بعض الرموز المعمارية للنظام الاشتراكي، تم الحفاظ على معالم أخرى كجزء من الذاكرة الوطنية ولا يزال النقاش المجتمعي بشأن إرث ألمانيا الشرقية حاضرًا اليوم، خاصة مع ظاهرة “النوستالجيا الشرقية” أو ما يُعرف بـ”أوستالجي”.
وفي هذا السياق يقول شتورتسه لموقع تلفزيون سوريا: “لم نرغب في طمس هذه الحقبة أو التستر عليها، كان القرار واضحا منذ البداية بأن هذه الأماكن يجب أن تظل قائمة، لا كرمز للقمع، بل كتحذير للأجيال القادمة، في متحف شتازي، نحن لا نعرض فقط مكاتب الضباط وأجهزة التنصت، نحن نعرض قصص البشر، ويمكن للزائر أن يشاهد وثائق تظهر كيف كان الجار يراقب جاره، وكيف فقد آلاف الأشخاص حريتهم بسبب كلمة أو موقف سياسي”.
أوضح شتورتسه أن المتحف يعتمد على برنامج تربوي دقيق يضمن أن تكون الزيارة تجربة تعليمية عميقة وليست مجرد جولة سياحية، فقبل قيام الطلاب بزيارة المتحف، يدرسون في مناهجهم حقبة النازية وحقبة ألمانيا الشرقية، ويدرسون شهادات حقيقية لضحايا الأنظمة القمعية وهنا يجب العمل على تضمين حقبة الجرائم في سوريا في المناهج التعليمية حتى يدرك الطلاب هول ما شهدته المعتقلات في سوريا فمثلا سجن صيدنايا الذي استخدمه نظام الأسد لتقطيع جثث معارضيه وإذابتها في الأحماض، وتم العثور على إحدى الوثائق التي ضمّت نحو 30 ألف عملية إعدام، يمكن أن يتم تحويله لمتحف أشبه بمتحف شتازي.
“وشدد شتورتسه على أهمية تضمين جرائم الأسد في المناهج التعليمية “نحن نؤمن أن زيارة الموقع من دون فهم خلفيته التاريخية قد تترك أثرا عابرا، أما حين يأتي الطالب وهو يدرك القصة الإنسانية خلف كل مكتب وجدار، فإن التجربة تصبح جزءا من وعيه الشخصي ويدرك مخاطر تكرار التجربة على البلاد لأنها ستدمر ما تم بناؤه خلال زمن طويل”.
كيف تبدأ الديكتاتوريات؟
ينظم متحف شتازي سلسلة من الورش التفاعلية التي تهدف إلى إحياء تجربة الحياة تحت المراقبة القمعية في ألمانيا الشرقية، وتشمل هذه الورش محاكاة لأساليب الاستجواب التي كان يعتمدها جهاز الأمن، وتحليل نماذج حقيقية من ملفات المراقبة السرية، كما تقدم ورش عمل حول قضايا الأمن الرقمي والخصوصية، مستلهمةً من ممارسات الرقابة الجماعية آنذاك، ويتيح برنامج الورش للزوار المشاركة في إعادة تمثيل مشاهد من الحياة اليومية في ظل سيطرة شتازي، بالإضافة إلى لقاءات مباشرة مع سجناء سياسيين سابقين وشهود عيان، مما يوفر تجربة تعليمية حية تعزز الوعي بتاريخ القمع وأساليبه.
وتهدف الورشات وفقا لشتورتسه إلى تحفيز التفكير النقدي لدى الزوار “نسألهم كيف تبدأ الديكتاتوريات؟ ما الذي يجعل مجتمعات بكاملها تتخلى عن حريتها؟ وماذا يمكن للفرد أن يفعل اليوم لحماية الديمقراطية على سبيل المثال لا الحصر، ومن ضمن الأنشطة، يقرأ الطلاب رسائل سرية كتبها معتقلون، أو يحللون ملفات مراقبة حقيقية، ويشاركون في مناقشات مفتوحة حول الحرية والخصوصية في العصر الرقمي، فالمتحف ليس فقط مكانا للذكرى بل مساحة للنقاش الحي حول قضايا الحرية والحقوق المدنية لتحصين مجتمعنا ضد الوقوع في الأخطاء نفسها مجددا.”
تلفزيون سوريا
—————————–
إزالة رموز “البعث”…هل تمنع عودة التسلط في سوريا؟/ علي سفر
الإثنين 2025/05/05
حدث في أوروبا الشرقية في نهاية ثمانينيات القرن الماضي، حين انهارت الأنظمة الشيوعية، أن قامت الجماهير الغاضبة بحملة إزالة للتماثيل، جرى فيها تحطيم كل ما يمتّ بصلة إلى الشخصيات الحزبية التي قادت البلاد بدعم سوفياتي لأكثر من أربعة عقود، وكذلك تحطيم تماثيل عملاقة لمؤسّسي الفكر الشيوعي: ماركس، وإنغلز، ولينين.
منذ ذلك الوقت، سرت بين الحالمين بالثورات فكرة راسخة، تقول إن أول ما يجب إزالته من أمام عيون الجماهير هو تماثيل الطغاة وكل ما يمتّ لهم بصلة.
في سوريا، وطيلة الأسبوع الأول من سقوط النظام الأسدي، كنت، كما غيري، أترقّب سقوط التماثيل واحداً إثر آخر. وأظن أن البعض قد احتفظ بمجموعة صور عنها، ليعود إليها، فيستعيد رمزيتها، ويتذكّر فضل التحرر من الأسديين على صحة العقل والروح.
غير أن التفكير بالرموز وتحطيم الديكتاتوريات من خلالها، لا يمرّ فقط عبر تدمير الحجر المكرّس لتأبيد القتلة والسفاحين، وكذلك تحطيم صورهم المنتشرة في كل مكان، بل إن هذه الخطوة تبدو سهلة وسريعة أمام صعوبة تفكيك التغلغل السرطاني للفكر القمعي وأدواته الأيديولوجية. وقد يظنّ البعض أن تغييراً يلحق بعَلَم الدولة أو نشيدها يمكن أن ينهي حضور المرحلة السابقة. لكن الحقيقة الصادمة تتجلّى في أن نتاجاً هائلاً من الأدبيات والكتب والنشرات والمجلات والصحف قد أُنتِج طيلة أكثر من ستين سنة من حكم “البعث” لسوريا، وأن التصرف مع هذا النتاج يحتاج إلى إدارة وطريقة. وقد يرى البعض أن هذا ليس أمراً عاجلاً، تشغل الدولة أفرادها فيه، وأن المؤسسات ذاتها ستجد أسلوباً يمكّنها من التعاطي معه.
هذا ما بدأت ملامحه تظهر، حيث أصدر وزير الثقافة محمد صالح تعميماً داخلياً يوجب على مديري المؤسسات التابعة للوزارة إزالة كافة الرموز والشعارات المرتبطة بالنظام السابق. ويقول البعض إن تعليمات صدرت من أجل جمع كافة المطبوعات التي سبق أن أصدرتها الهيئة العامة السورية للكتاب، وتحدّثت عن مآثر الأسديين، ونقلها إلى المستودعات، ولم يُعرف حتى الآن إن كان ثمة قرار صريح بإتلافها.
بعض المتابعين للشأن الثقافي، وبعد صدور قرار بتكليف لجنة تسيير أعمال لاتحاد الكتّاب العرب، تمنّوا عليها أن يكون أول قراراتها هو التخلص من المطبوعات التي صدرت سابقاً وتتضمّن ترويجاً لسردية النظام حيال الثورة السورية. ويبدو أن هؤلاء يتذكرون جيداً زيارات بعض الوفود العربية والأجنبية إلى سوريا بدعوة من مجلس الاتحاد السابق، وكذلك قيامهم بطباعة بعض الكتب التي روّجت لفكرة أن ما حدث في سوريا مؤامرة “إمبريالية” ضد محور المقاومة والممانعة، الذي تشكّل سوريا إحدى أهم واجهاته.
الخطوات المتّخذة ضد حزب البعث العربي الاشتراكي، تمضي على قدم وساق. فهو بذاته صار رمزاً من الرموز المكروهة. ومن دون أن يدقّق المرء في حجم توغّله في المجتمع والدولة، يكفي إلقاء نظرة على حجم أملاكه واستثماراته، ليعرف الجميع أن فصله عنهما، وعدم السماح لغيره بإعادة إنتاج السلوك ذاته، سيضمن للسوريين التحرر من أيديولوجية اتّسم أصحابها بالنفاق، إذ يختصر الناس قصة الحزب بأنه رفع شعار الوحدة فمزّق الأمة، ورفع راية الحرية فبنى عشرات السجون، وقال بالاشتراكية فأفقر الشعب واستولى على ممتلكاته.
ولعل الصورة المتداولة لشاحنة تمتلئ بمئات الكتب والمنشورات المكوّمة فوق بعضها، والتي أصدرها الحزب، تكفي للدلالة على ما يرغب السوريون في أن يتم فعله ضد كل الثقافة التي صنعها وكرّسها.
المقارنة بين ما يجري في سوريا الآن، مع ما جرى في دول الكتلة الشرقية وغيرها في هذا الموضوع، تأخذنا نحو عتبة مختلفة، تبتعد قليلاً عن السلوك الذي يرضي نزوع الغاضبين نحو تحطيم كل ما يتصل بالطاغية القاتل، والتطهّر من الآلام التي سبّبها قمعه، من ندوب راسخة في أرواحهم.
فبعد الموجة الأولى المتّصلة بنجاح الثورات، والتي تضمنت إسقاط التماثيل، وتحطيم الصور، وإعادة تسمية الشوارع والساحات بأسماء جديدة، وحرق المتاحف الأيديولوجية، ذهبت أنظمة “الحرية” نحو تأكيد مسار العدالة الانتقالية، والتحكّم في أرشيف الأجهزة الأمنية عبر قوننة الاطّلاع عليه، بما لا يسمح بحدوث حالات انتقام فردي. وبالتوازي، جرى إصدار بعض القوانين التي تمنع الإشادة بالماضي ورموزه، وتضبط مشاعر الحنين إلى الديكتاتورية، وهي حالة تصيب مؤيديها، وتلحق ببعض المخذولين من الواقع الجديد.
غير أن كل ما جرى نسجه في سبيل التخلّص من الماضي، لم يكن كافياً لمنع طرح الأسئلة عن آليات حدوثه، وتحليل أثره في من عايشوه، ومناقشة نتاج من مدحوه. وهذا ما جرى فتحه في النقاشات اللاحقة على التغيير السياسي الكبير الذي عاشته هذه الدول.
وبمقاربة هذا الأمر مع الحالة السورية، فإن الوقائع تظهر أن ثمة تلهّفاً واستعجالاً، ليس لحرق الكتب والمنشورات البعثية فحسب، بل لحرق المراحل، بالنظر إلى رغبة المنتصرين في الانتقال إلى واقع أفضل بأسرع ما يمكن.
لكن بعض المراقبين يسألون عن الضوابط التي يمكن أن تمنع من تكرار المأساة، ويركزون على أمرٍ غاية في الأهمية، ألا وهو قيام مراكز الأبحاث التابعة للدولة، أو تلك المستقلة، بدراسة المدونة العامة للمرحلة السابقة. وهذا يعني أن عملية الانتقال من الماضي القاتم إلى المستقبل المشرق، تحتاج إلى ميكانيزمات أعمق بكثير من مجرد التخلّص من الرموز الفاقعة.
فهل ثمة خطوات واضحة لدى الحكومة السورية الانتقالية في هذا السياق؟
يريد سوريون كثيرون، ممن يبحثون ربما عن طريقة للتصالح مع الماضي، أن يطّلعوا على ملفاتهم لدى الأجهزة الأمنية، ويتوجّهون بذلك نحو وزارتي الداخلية والدفاع اللتين لم تضعا أمام أصحاب الحاجة طريقة واضحة لحصولهم على ما يريدون.
وكذلك، فإن الوصول إلى الأرشيف الثقافي والإعلامي والديني للمرحلة الأسدية، يحتاج إلى طرحٍ واضحٍ وصريح من قبل الوزارات المعنية، أي: الثقافة، والإعلام، والأوقاف. فمن دون موافقتها على طريقة محددة للتعاطي مع هذا الإرث، لن تصبح ممكنة قراءة ما جرى.
تفكيك إرث الاستبداد لا يُنجَز بمطرقة تُسقط تمثالاً، بل بعقلٍ يفتح الأرشيف، ويحلّل السرديات، ويعيد بناء الوعي. وحدها المجتمعات التي تملك شجاعة المواجهة الفكرية مع ماضيها، هي التي تستطيع أن تصنع حاضراً متوازناً، ومستقبلاً أقل هشاشة. ولهذا، فإن واجب المرحلة لا يقتصر على إزالة الرموز، بل على مساءلتها، وفهم شروط إنتاجها، كي لا يُعاد تصنيع الاستبداد بثياب جديدة.
المدن
————————————-
منصات التواصل في سوريا.. استقطاب حاد وتفكك رقمي للمجتمع/ نينار خليفة
5 مايو 2025
عبر صفحتها الشخصية على فيسبوك، أعلنت الصحفية السورية، ولاء عواد، اعتزالها الفضاء الأزرق، بعد أن ضاقت ذرعًا بالخطاب الطائفي والتحريضي الذي بلغ أوجه مؤخرًا، وشعورها بالاغتراب عن أجوائه التي باتت مشحونة بتبادل الاتهامات والتخوين والتهجّم والشماتة حتى بين الأصدقاء والإخوة.
تقول ولاء لـ”الترا سوريا”: “قررتُ حماية نفسي من الاستقطابات الحادة جدًا الحاصلة بالأوساط السورية، حتى لا أنجرّ ككائن بشري يمكنه أن يخطئ لأشياء يمكن أن أندم عليها لاحقًا، أو أن أخسر شيئًا من مبادئي بسبب الغوغاء والفزعة الحاصلة على مواقع التواصل الاجتماعي”.
تشهد وسائل التواصل الاجتماعي، منذ سقوط حكم بشار الأسد في الثامن من كانون الأول/ديسمبر الماضي، تصاعدًا غير مسبوق في حدة الاستقطاب بين السوريين. جولةٌ سريعةٌ في أروقتها كفيلةٌ بإظهار كمّ الخطاب الشعبي الموغل في التحريض، والمعبّأ بالعبارات الطائفية والمناطقية، والدعوات العلنية للإقصاء والثأر والتنكيل بالآخر المختلف، وصلت إلى حدّ الشماتة بالموت، وتبرير إراقة الدماء، وفيما تبدو في كثير من الأحيان أنها حملات ممنهجة، يتجاهل القائمون عليها أننا سنواجه مصيرًا مشتركًا، وهلاكًا جماعيًا، “فإما أن نتعلم العيش معًا كإخوة، أو نموت معًا كحمقى”.
وتحت وطأة التعليقات المسيئة المشحونة بالكراهية، قرر كثير من أصحاب الرأي والمؤثرين السوريين إغلاق حساباتهم، أو التردد في التعبير عن آرائهم، لتعلو أصوات المتطرفين والمتشنجين من كل الأطراف، في مشهد يوحي بأننا نعيش في عوالم متباعدة لا تلتقي، ولا سبيل فيها لأي حوار جدي يفضي إلى بناء مستقبل مشترك وآمن يجمع السوريين بغض النظر عن دينهم، ومذهبهم، وعرقهم، ومنطقتهم، وثقافتهم، وجنسهم.
تنوع جميل يتحول إلى خلاف
تفتخر ولاء بأصولها التي تجمع مزيجًا من الفسيفساء السورية، هذا التنوع الذي تحوّل مؤخرًا إلى سبب للانقسام والصراع والتعصب بدل أن يكون مصدرًا للقوة والتفرّد والتميّز يتوحّد ضمنه السوريون في إطار يكون الانتماء الأول فيه للوطن، تقول ولاء: “أنا كسورية جدتي لأمي كردية، وجدتي لأبي شركسية، ووالدي عربي من الجولان، ووالدتي دمشقية، وأنا لا أستطيع إلا أن أكون كل ذلك، للأسف لا يوجد حاليًا لدى أيّ من هذه المجموعات خطاب وطني جامع”.
تضيف: “شعرتُ أنه ليس لدي أي دور أو وجود، وأن هذا المجتمع الافتراضي لا يشبهني، وأنا شخصيًا لا أستطيع أن أكون شبيحة لأي طرف أو أن أطبّل لأحد، وأفكاري ثابتة لن تتغير”.
تتابع: “بالنسبة لي لا أريد أن يتشابه الجميع معي في الأفكار لكن عندما أرى أصدقاء يتحدثون بكلام طائفي، مناطقي، عنصري، قومي، أشعر بالانزعاج، وقد دفعني ذلك إلى الدخول بحالة انهيار نفسي، قررتُ بعدها الابتعاد عن الفيسبوك تحديدًا، وعن آراء السوريين بكل ما يحصل”.
الخبير التقني والمعلوماتي والمدرس الزائر في جامعة ديڤري الأميركية، دلشاد عثمان، يرى من جانبه أن حالة الاستقطاب بين السوريين ليست بالجديدة، فقد اضطر سابقًا إلى إيقاف حسابه على موقع فيسبوك عام 2014 لمدة عامين، بعد منشور أبدى فيه تعاطفًا مع مجتمع الميم.
لكنه يشير إلى أن حدة هذه الخلافات زادت بعد الثامن من ديسمبر، لأن النقاشات كانت تدور سابقًا حول أزمات محلية أو صغيرة لكنها تحولت إلى قضايا مركزية.
يقول دلشاد لـ”الترا سوريا”: “التخوين والتكفير والعنصرية وغيرها حالات موجودة، لكن اليوم تأخذ هذه الأصوات صدى أعلى كونها تدخل بنقاشات تخصّ مستقبل البلاد، وشكل الحكم، وتعريف المنتصر”.
تتفق ولاء مع دلشاد في أن مواقع التواصل الاجتماعي السورية لطالما كانت مكانًا غير آمن لإبداء الآراء، واليوم لا يتم استخدامها في عملية التغيير كما يجب: “التغيير السياسي الذي حصل ليس كافيًا، نحن بحاجة للعمل على تطوير مجتمعنا وثقافتنا وانتماءاتنا وعلى أخلاقيات أساسية في المجتمع حتى نتمكن من المشاركة في حراك سياسي يغير وجه البلد ويحوله إلى سوريا التي نحلم بها، لذلك نحن نرى هذا الضغط الذي يفرغه الناس بطريقة سيئة جدًا على مواقع التواصل الاجتماعي”.
أسباب أدت لتفاقم الانقسام
المدير التنفيذي لمنظمة “العدالة من أجل الحياة”، جلال الحمد، يعتبر أن سببين رئيسيين رافقا سقوط نظام الأسد، كانا وراء تفاقم حدة الخلافات بين السوريين: “الأول تصعيد خطاب النصر وتفسيره من قبل السلطة على أن من حققه هم مجموعة من لون فكري واحد، انعكس بشكل مباشر على المجتمع السوري حتى بين من ناهضوا نظام الأسد وفرحوا لسقوطه، فانقسم السوريون بين القائمين على هذا الخطاب وبرنامجهم السياسي من جهة، ومن لم يتبنوا هذا التوجه وهذه الرؤية من جهة أخرى”.
أما الحدث الثاني فهو “اختزال الإدارة الجديدة الإجراءات الانتقالية، فبدل أن تقوم بفتح حوارات وطنية واسعة وجدية وعميقة تستوعب كل أنواع المشكلات والمعاناة السورية، قامت باختزال الحوار الوطني، وبدل أن تكون النقاشات منظمة وداخل أروقة هذا الحوار، انتقلت إلى الشارع وأصبح التعبير عن الاختلافات العميقة بين السوريين عبارة عن انفجارات بدت جليًا على وسائل التواصل الاجتماعي، ثم جاء الإعلان الدستوري الذي أعاد تسليم السلطات كافة لشخص واحد ليزيد من المخاوف”.
ونتيجة لذلك “تبنى البعض الدفاع عن المنتصر والحفاظ عليه، بينما عبّر آخرون عن مخاوفهم والشكل الذي يريدونه لحماية أنفسهم، وهنا صرنا نركز أكثر على الاختلافات أو الفوارق بيننا، ما ولّد الانفجار والتبادل الخطير للاتهامات بين الأطراف السورية المختلفة”، وفق جلال.
ويرى جلال، في حديثه لـ”الترا سوريا”، أن الحكومة الانتقالية بخطابها وإجراءاتها العجولة مسؤولة أولًا وأخيرًا عما حصل، إذ كانت ستفتح الباب لحل هذه القضايا من خلال إشراك أوسع للسوريين، وكان من الممكن أن تخف نسبة وحدية هذه الخلافات على وسائل التواصل الاجتماعي، والتي هي عبارة عن انعكاس واضح لتخوّف الناس وللانقسامات الموجودة على الأرض في المجتمع السوري.
ويحذّر من أننا بتنا نفقد الفرصة شيئًا فشيئًا للسير نحو تصميم رؤية مشتركة لمستقبل البلد، وهو ما ينعكس بشكل مباشر على التماسك المجتمعي ليس فقط ما بين الطوائف والإثنيات السورية، بل أيضًا ما بين السوريين من نفس الطائفة والعرق، لأن هناك انقسامات أيديولوجية وسياسية عميقة لم تستوعبها حفلة الحوار الوطني التي نظمتها السلطة الحالية.
مسؤولية حكومية
يؤكد المدير التنفيذي لمنظمة “العدالة من أجل الحياة” على أن عملية الدخول في مسار تماسك مجتمعي تحتاج إلى مشاركة السلطة بإرادة سياسية واضحة، وبتواصل خطابها المباشر ومشاوراتها الشفافة مع الناس.
وتلفت الصحفية ولاء عواد إلى ضرورة خلق مسار عدالة انتقالية واضح يشمل الجميع، وأن تتولى الحكومة الانتقالية مسؤولية حماية الأمن وتمثيل مختلف مكونات المجتمع السوري: “يجب أن يعلم كل شخص أنه سيأخذ حقه بطريقة واضحة، وأن لا يلجأ للثأر والتحريض ولآفات يمكن أن تأخذ البلد لأسوأ من ذلك، كما من الضروري سنّ قوانين واضحة، وفتح المجال أمام رفع دعوى لمقاضاة كل شخص يرتكب جريمة التحريض على أساس طائفي أو عرقي أو ديني”.
وتؤكد على أهمية أن يكون هناك دستور وطني جامع، وحكومة شاملة تمثّل طموحات كل السوريين، وأن تسير الدولة في خطوات ثابتة تجاه بلد تعددي يحترم كل مواطنيه، وتكون واعية ومدركة لتعقيدات تركيبته الإثنية والقومية، وأن يُفسح المجال لاختيار كل شخص ممثليه في المحافظة والبلدية الذين يفترض أن تكون لديهم رؤية تناسب خصوصية كل منطقة، هذه الخطوات كفيلة بإبعاد خطر التقسيم والتدخلات الخارجية، وفق تعبيرها.
أدوار مجتمعية لمكافحة التحريض
تلعب المنظمات الحقوقية دورًا هامًا في الحد من خطاب الكراهية والتوعية حول أهمية الحفاظ على التماسك المجتمعي، ويشير المدير التنفيذي لمنظمة “العدالة من أجل الحياة”، جلال الحمد، إلى أن منظمات المجتمع المدني السورية تستطيع أن تُنشئ حوارًا موازيًا تنتج عنه أدوات، كعقد جلسات وساطة بين السلطة والمجتمع المحلي وأفراده، كما يمكنها تقديم النصائح ودفع السلطة لتبني المعرفة في قوانينها لتنعكس على شكل تشريعات تجرّم خطاب الكراهية.
لكن الطريق أمام المنظمات المدنية وعر، وفق ما يرى جلال، نظرًا لما تواجهه من تحديات عديدة تضاف إلى أخطاء السلطة الحالية، كالمشكلات الأمنية، وانتشار السلاح لدى موالي النظام السابق وغيرها.
كما لوسائل الإعلام والمؤثرين على وسائل التواصل الاجتماعي دور كبير في تضخيم الخلافات وتعميق الانقسامات أو تقريب وجهات النظر، وتعتبر الصحفية ولاء عواد أنه في ظل غياب إعلام سوري رسمي، يعمد بعض الأشخاص ممن لديهم منابر خاصة إلى دس السم من خلال مواقف معينة: “بعض الإعلاميين والإعلاميات ينتظرون اللحظة التي يقطفون بها (الترند) على حساب أخلاقيات الحياة والمهنة والوطنية ومبادئ الثورة السورية، هؤلاء إذا كان لا يوجد مجال لمحاسبتهم اليوم يمكننا مقاطعتهم، لا يجب الاستمرار في إعطائهم قيمة إضافية”.
من جانبه ينوّه الخبير التقني والمعلوماتي، دلشاد عثمان، إلى أهمية أن لا ينجرف الإعلام الجديد وراء “الترند” الذي يمكن أن يحمل في طياته خطاب كراهية، ويقول في هذا الصدد: “أتفهم حاجة المنصات الإعلامية للوصول إلى أعداد زيارات عالية، لكن من الضروري أن نكون على قدر من المسؤولية وألا نحرق البلد من أجل ذلك”.
ويشير دلشاد إلى توجه جديد لدى القائمين على وسائل التواصل الاجتماعي بالتخفيف من مراقبة المحتوى المنشور: “دور المسؤولين على شبكات التواصل يقل بشكل كبير، يُسمح حاليًا بحريات أكبر، وقد خفّ تدخل البشر لمراجعة التعليقات المسيئة، أتوقع مستوى أعلى من خطاب الكراهية في الفترة المقبلة، ومسؤوليتنا كأفراد أن نحده بالأدوات الممنوحة لنا من هذه المنصات”.
ويُبين أنه في حال تلقي تعليقات مؤذية على وسائل التواصل الاجتماعي، يكون الحل الأفضل هو الحد من السماح لها عبر حظرها، وضبط خصوصية الحساب الشخصي، أما في حال وصول تهديدات، يُنصح بتقديم شكوى للجهات الأمنية في منطقة السكن”.
مخاطر جمّة تهدّد السوريين
تحذّر أخصائية الدعم النفسي الاجتماعي، سماح سالمة، مما تسببه التعليقات المسيئة على وسائل التواصل الاجتماعي من تفكك للنسيج المجتمعي السوري في الوقت الذي نحن فيه بأمس الحاجة لبناء مجتمع متماسك، إذ إنها تؤثر على الخطاب السلمي والحوار البنّاء وتؤجج العنف والكراهية.
تقول سماح سالمة لـ”الترا سوريا”: “عندما أراقب التعليقات المسيئة ألاحظ تصاعدًا في خطاب الكراهية، فهو يبدأ بمستوى بسيط ثم ينتقل إلى أعلى فأعلى، ما يشكل خطرًا غير هيّن يؤدي إلى تقويض أي جهود تتم حول استقرار الأمور والتعايش وبناء السلام”.
من جانب آخر للتعليقات المسيئة وقعٌ نفسيٌّ سيئ على الأشخاص الذين فقدوا أحباءهم خلال سنوات الثورة، وتشويه لصورة الشيء الحقيقي الذي ثار من أجله السوريون، تُبيّن سالمة: “بالنسبة لي أخي مختفٍ قسريًا منذ عام 2012، عندما أرى التعليقات المسيئة المشحونة بخطاب الكراهية والحرب الشعواء من أجل الاقتتال ومحاربة الآخر دون أي جدوى، أشعر بقدر كبير من الحزن والأسف لدرجة أنني قللت جدًا من استخدام الفيسبوك، لأنني كلما واجهتُ مثل هذه المواقف أسأل نفسي هل يُعقل أن تذهب دماء هؤلاء الشباب وحياتهم وأحلامهم، وحياتنا نحن الأشخاص الذين انتظرناهم، دون الوصول إلى المستقبل والهدف الذي خرجنا من أجله؟!”.
وتشير أخصائية الدعم النفسي إلى جانب نفسي له علاقة بالأمل ببناء سوريا الجديدة ما بعد التحرير: “هناك من يشعر بالأسى بسبب ما خسرناه من أرواح ويمكن أن يؤدي هذا الأذى النفسي لفقدان الأمل والدافعية للعمل من أجل سوريا، وبالتالي تُهدر الطاقات البشرية التي يمكن أن تُسهم في دفع عجلة البلد إلى الأمام، بسبب الشعور بالعجز والإحباط مما يحدث”.
عوامل نفسية واجتماعية تقف وراء الإقصاء والشماتة
في البحث عن سيكولوجية الأشخاص الإقصائيين الذين يجدون صعوبة بتقبل الآخر، توضح أخصائية الدعم النفسي الاجتماعي وجود عوامل متعددة وراء ذلك، لها جذور نفسية واجتماعية متداخلة، إذ تلعب التنشئة، والخبرات الشخصية، والعوامل الثقافية دورًا كبيرًا في تشكيل طريقة تفكير الأفراد تجاه من يختلف عنهم.
توضح: “نبدأ من التنشئة الاجتماعية، فالأشخاص الذين ولدوا وعاشوا في بيئات لا يُسمع فيها رأيهم، ويوجد سلطة وفرض عليهم من قبل والديهم أو أوصيائهم تتولد لديهم عندما يكبرون صعوبات بأن يتقبلوا الآراء المختلفة ويعتقدون أن أي شخص مختلف هو عدو، إلى جانب غياب هذه الثقافة عن المجتمع، وتغييب العمل عليها في مؤسسات الإعلام والخطاب السياسي، هذه العوامل تجعل لدى البعض مشكلة بتقبل الآخر المختلف، وشعورًا بعدم إمكانية العيش معًا، فهم يرون في الاختلاف حالة صراع واقتتال بدل أن تكون حالة تكاملية وبنّاءة يتجسد فيها اعتقاد أن ما ينقصني سأجده عند الآخر”.
أما ما قد يدفع البعض إلى الشماتة بالآخر المختلف عند وقوع قتل أو مجازر بدل إبداء التعاطف، فتشير سماح سالمة إلى أنه إلى جانب التنشئة الاجتماعية، تؤدي الصدمات المتكررة والتجارب القاسية المرافقة للحروب إلى نوع من التبلّد العاطفي والانفصال عن المشاعر كآلية دفاعية.
فضلًا عن الأدلجة التي بثها نظام الأسد طوال سنوات حكمه لأتباعه، ومفادها أنه في حال ترك الحكم سيتعرضون للإبادة، والتي جعلت العقل الباطن لدى البعض يتبرمج على أنه “يحق لي قتل الآخر المختلف لأدافع عن وجودي وحقي في الحياة، ولأنني إذا لم أقتله سيقتلني”.
كما أن طول أمد الحرب السورية وشدتها، ولّد لدى البعض رغبة بالانتقام، إذ تتردد عبارات مثل: “نحنا أيضًا تشرّدنا وعانينا ليعانوا مثلنا”، وهو ما له علاقة بالشعور العميق والطويل بالظلم والرغبة بالانتقام والشماتة بالآخر وعدم القدرة على التعاطف معه.
وتشير إلى أهمية إعلاء الأصوات المعتدلة ذات النفَس الإنساني بوجه خطاب الكراهية، وأن يوحدوا جهودهم ويواصلوا الكفاح لمحاربته، ولا يفقدوا الأمل بالتغيير.
كما تؤكد على ضرورة التركيز على القواسم المشتركة التي تجمع السوريين بدل التركيز على نقاط الخلاف فقط، وأن يبدأ كل شخص من نفسه وموقعه، ويعرف أنه مسؤول عن كل تعليق وكلمة تخرج من فمه، وعدم نشر أي معلومة دون التحقق من موثوقية مصدرها.
ومن الأهمية بمكان وجود قانون عادل يسود الجميع، وسلطة قادرة على السيطرة وضبط السلاح، ومحاسبة مرتكبي الجرائم بما فيها الإلكترونية، وسنّ قوانين لمعاقبة العنصرية وحملات الكراهية وإثارة النعرات الطائفية.
الترا سوريا
————————–
صورتنا على فيس بوك/ حسام جزماتي
2025.05.05
أكثر من أي وقت مضى يشبه السوريون حساباتهم على وسائل التواصل الاجتماعي ولا سيما فيس بوك، أشدها شعبية وأقدمها انتشاراً. وقد ارتفعت أهمية هذا الموقع بعد سقوط النظام بسبب جو الحريات الذي ساد بعد ذلك، والحماس العارم للتعبير والمساهمة في النقاش العام حول ما يجري في البلد. وتجلى ذلك بشكل صاخب مؤخراً بالتزامن مع صدامين كبيرين في الواقع صحبتهما معركتان حاميتان على مواقع التواصل الاجتماعي؛ هما «موقعة العلويين» في الساحل في مطلع آذار الفائت، و«موقعة الدروز» في أرياف دمشق وأطراف السويداء قبل أيام.
ومن الواضح أننا فشلنا في المحافظة على صورتنا الافتراضية نقية بالتوازي مع إخفاقنا في منع تحول التوتر في المنطقتين إلى دماء ازداد تأثيرها حين سالت في مرحلة تأسيسية من عمر السلطة الجديدة ووعودها بالعدالة والمساواة بين السكان بغض النظر عن انتماءاتهم الطائفية.
وعلى خلاف جملة نمطية عن الفارق بين الواقع «على الأرض» ومراقبته «من وراء الشاشات» يبدو أن وسائل الإعلام الشعبي والشعبوي شفافة جداً في هذه المرة. فالجميع موجودون هنا؛ القتلة والضحايا، الشهود والمزورون ودعاة حقوق الإنسان. في هذا الفضاء تجد الأدلة، الفيديوهات والصور، منشورة بصلف مستهتر، وتلاقي من يوثقونها فيحفظون الوجوه ويدققون في شعارات الفصائل على الأكتاف. وإلى جانب هؤلاء وأولئك تصادف أعداداً ضخمة من المشجعين والمتفاعلين الذين تقف وراء حساباتهم شخصيات حقيقية بأسمائها الصريحة أو المستعارة، مما يبعد عنهم صفة الذباب الإلكتروني.
على رأس هؤلاء تجد عدداً من صانعي المحتوى، المعروفين أو محدثي الشهرة. ورغم ما يُفترض أن يتسموا به من حد أدنى من المصداقية والالتزام المهني والأخلاقي والمسؤولية تجد أن «محتواهم» شديد الصفار، بل يميل إلى خطاب الكراهية الأسود، وصولاً إلى الدم الأحمر.
تراكمت هذه الظاهرة خلال سنوات طويلة من الحقد والضغينة صاحبت الحرب الوحشية التي شنّها بشار الأسد على المحتجين عليه وحاضنتهم منذ اندلاع الثورة. فقد أتاح، في أرض الإفلات من العقاب التي كان يحكمها، لأشنع الأصوات أن تصرّح على وسائل الإعلام ناهيك عن مواقع التواصل الحرة. فدعوا إلى مسح مدن عن الخارطة، وتجويع بلدات محاصرة وسخروا من آلام أهاليها ومعاناة أطفالهم. وبالمقابل انساق الضحايا إلى سباق التوحش فدعوا إلى قصف المدنيين بشكل عشوائي لأنهم ينتمون، جغرافياً أو طائفياً أو بصدفة السكن، إلى أرض الخصوم. وأيضاً لم تكن هناك رقابة رسمية على هؤلاء «سوى رقابة الضمير» وفق تعبير شائع لحافظ الأسد، مؤسس الكارثة. وفي حالات عديدة صار هذا الضمير مطاطاً إلى الحد الذي تريده أهواء صاحبه من دون انضباط بمعايير قانونية أو شرعية أو قيمية.
وإذا كان من المستحيل ملاحقة مئات آلاف الحسابات الناشرة للكره فإنه من الممكن، لو صدقت النوايا، السعي في تنبيه بعض الإعلاميين والمؤثرين المعروفين. فلو التزم هؤلاء بسقف سياسي للخلاف ربما أمكن، بصعوبة وبطء، إرساء تقاليد معقولة لحدود الآراء الفردية. ولجميع كبار المحرضين هؤلاء أصدقاء من العقلاء، حقيقة أو ادعاء، لكن يبدو أن دورهم يقتصر على الابتسامة للمحافظة على العلاقة، أو عتاب خجول خفيض لا يغني ولا يُسمن من تحريض.
تؤشر فضيحتنا الافتراضية إلى مصيبتنا الواقعية فتتغذى إحداهما من الأخرى. ومن المستبعد ألا يعرف ناثرو الدم على فيس بوك والتليغرام وسواهما أن عباراتهم ستدفع الغضب في رأس بعض متابعيهم إلى القتل، طالما أنه سهل في جو «الفصائل غير المنضبطة» وغموض الحدود بين القوات الرسمية وتلك الرديفة، وصعوبة التحقق من التزام الأولى أصلاً!
بعد سنين طويلة من الفضاءات الافتراضية المتفاصلة عاد السوريون إلى الاحتكاك ببعضهم في حلبة واحدة؛ ثواراً و«مكوعين»، سنّة وعلويين ودروزاً، عرباً وأكراداً، مجرمين وجثثاً. ولعل هذا يمهّد لرجوعهم الفعلي الذي سيجعل العائدين تحت سقف قانوني واحد بعد طول شتات. وهنا يمكن تنبيه المؤثرين إلى الحدود التي يجدر ألا يتجاوزها في سعيهم الأخرق نحو زيادة المشاهدات على حساب كل شيء. ومن المرجح أن قاطرة ذلك يجب أن تكون في مكاتب الإعلام الرسمي الذي يجدر به أن يشق الخطوط العريضة لآداب الاختلاف في السياسة. ومن دون ذلك سيبقى سيل الحقد جارفاً بتضافر إهمال الرسميين وجشع المؤثرين وضغائن عامة المستخدمين. وبما أنه لا تأثير لنا على الأخيرين فما يمكننا فعله يجب أن ينصب على القطاعين الأساسيين الكبيرين؛ بضبط الإعلام الرسمي أو شبه الرسمي، والتأثير في المؤثرين.
من الضروري أن نعي أن ذلك لا يقتصر على المشاهد الدموية، فصور الإذلال كفيلة بصنع وعي جمعي غاضب وراغب في الانتقام أكثر، في بعض الأحيان، من المعارك نفسها التي قد تنتهي حين تنتهي بتشييع الذين قضوا ومحاولة نسيانهم بحثاً عن توفير السلامة للأحياء. أما الفيديوهات المهينة التي تسخر من مقدسات أو محترمات الآخرين فمن العسير غفرانها وتطويق تأثيرها المستفز والمستمر.
أخيراً فإنه من بديهيات الأمور ألا تكون المعايير المعتمدة استنسابية ومنحازة. فلا يصح أن تكون ممن دعوا إلى زراعة دوما بالبطاطا ثم تنتقل فجأة إلى تلبّس أدق متطلبات حقوق الإنسان، وتصير داعية لإيقاف القتل في بانياس وصحنايا من دون أن تعتذر عما فعلت أو تتبرأ مما أيدت!!
تلفزيون سوريا
——————————
هل شرعنا في بناء ديكتاتوريّة جديدة في سوريا؟
ماريا شهيل
05.05.2025
لم نعد نعرف كيف نحبّ. لكننا نعرف من نحب، فعند الضرورة نهتف لقادتنا، عسى أن نردّ عن أنفسنا بعض الأذى، ثم نعود إلى مهامنا العصيبة في تأمين قوت أولادنا. نخرج لنبحث عن لقمة.
يكتب الباحث السوري جورج طرابيشي: ” لا تبدأ الحروب الأهلية حين يكتشف الناس أنهم مختلفون، بل حين ينسون أنّهم قادرون على العيش معاً رغم اختلافهم”.
فهل نحن قادرون على العيش معاً؟
هذا الوشاح الذي يحيط برقبتي، وأعود إلى البيت مسرعة إذا نسيته، يختصر الخوف مما يحدث في الخارج منذ سيطرة هيئة تحرير الشام و”مجاهديها” على دفة الحكم.
كيف أزيل من رأسي الصورة النمطية التاريخية للإسلاميين وأمضي في حياتي اليومية؟ ليس من السهل التأقلم مع الفكرة. أذكر تلك الإعلامية التي أجرت مقابلة مع الرئيس أحمد الشرع مرسلة وشاحاً على كتفيها على أتم استعداد لتغطي رأسها إذا طُلب منها، لكنها لم تفعل ولم تنجُ من التنمّر، أفهم شعورها.
أتأمّل في وجوه الناس في الشارع باحثة عن الفرح الذي أقرأ عنه في منصات التواصل الاجتماعي، فأتوه في تفسير الملامح. هناك حركة غير عادية في المدينة. وتطمينات حكومية عليا وازدحام مروري وفوضى وحرية.
فهم الناس الحرية كلّ على قدر استيعابه ومصالحه. في النهار يفترش الرجال الأرصفة في أكثر الأحياء اكتظاظاً ليبيعوا بضاعة لا يحتاج إليها أحد. وتتحول الساحات إلى ميادين احتجاجات غير معلنة بأصوات باعة غير محترفين. وتصبح الطرقات بازاراً عاماً يشبه القيامة. هذه المدينة صارت لوحة سوريالية قبيحة.
هل تعلمون كيف تُهزم المدن؟
كيف ينخرها العفن سنة وراء سنة حتى تبلغ حد الانهيار ولا تنهار، تبتلع رتابة البؤس، تتقبّل التفاهة موقنة أنه في يوم قادم لا محالة سينتصر المظلومون، سينتفضون من سبات الذلّ والمهانة. المدن تؤمن بقدوم الربيع، تعرف أنه قد يتأخّر ولكنّه لا يخلف موعداً.
انتصرت الثورة وانهزمت المدينة.
نحن أبناء المدينة المهزومة .
هل تهدي وردة حمراء لجائع؟
الحب والجوع ليسا على وفاق غالباً.
لم نعد نعرف كيف نحبّ. لكننا نعرف من نحب، فعند الضرورة نهتف لقادتنا، عسى أن نردّ عن أنفسنا بعض الأذى، ثم نعود إلى مهامنا العصيبة في تأمين قوت أولادنا. نخرج لنبحث عن لقمة.
نعيش في الزمن المعلّق بين حقبتين تتباين معالمهما جيداً، لكن بالنسبة إلينا ما زال الجوع يوحد سنين عمرنا.
لقد خلّف الأسد الهارب شعباً نصفه جوعى ونصفه الآخر تشرّد أو نُكّل به في محاولاته للمطالبة بحريته، أو قتل في رحلات التيه القاسية بحثاً عن ملجأ غير شرعي. خلّف لنا قبوراً نائية وُضعت فيها الجثث معاً في رحلتها الى الأبدية، أو أصبح الهاربون جزءاً من الدورة الغذائية لوحوش البحر. ومع ذلك يبدو أننا لن نحصل على حريتنا يوماً ما. ملعونة هذه الحرية التي لا سبيل إليها.
ملعونة هذه الأرض التي استقبلت ولادتنا الأولى.
ها نحن أولاء محكومون بالطاعة لأسيادنا الجدد. إننا نتمنى قيام دولة وطنية قوية على أنقاض نظام دكتاتوري حكمنا بالسوط أكثر من ستين عاماً.
لكن الأسياد الجدد استلموا الحكم بطريقة يلفّها الغموض حتى هذه الساعة، مسقطين رئيساً دمّر ما أمكنه تدميره ثم هرب في ليلة مشهودة. الأسياد الجدد جماعة مصنّفة تحت بند “الإرهاب العالمي”، ومع ذلك استقبلتهم الدول الأوروبية بأريحية وضمنتهم الدول العربية بحذر وباركتهم الولايات المتحدة وروسيا.
فما هي الصفقة التي لا نعلم بها؟ وكيف انقلبت المعايير في ليلة واحدة ؟ وما هي الخطة القادمة؟ هل هو التقسيم ؟ في ظل تصعيد المجزرة العلوية في الساحل وتوغلّ إسرائيل في الجنوب وسياحتها اليومية في سمائنا، حتى إننا لا نتمكّن من رفع رؤوسنا فوق كما تشجّعنا الأغنية الشهيرة خوفاً من استفزاز المسيّرات التي تراقبنا ليل نهار؟
ملعونة هذه الأرض التي استقبلت ولادتنا الأولى.
أصبحنا نتلقّى بشائر الإنجازات الحكومية كل يوم عن طريق المؤثرين والإعلاميين المقرّبين للسلطة. فلا إعلام يمثلنا. ونتلقّى أيضاً أنباء خطف وسرقات وقتل عن طريق وسائل التواصل الاجتماعي أو تواتر الأخبار من لسان الى لسان كما يحدث في المجتمعات الصغيرة. بيوتٌ في دمشق أصحابها مسافرون في عمل أو سياحة تتمّ مصادرتها والاستيلاء عليها ليعود أصحابها ويجدوها مسكونة، فيتابعون الأمن لاسترجاعها بالقانون ويطلب منهم إثبات ملكيتهم لبيتهم الخاص .
أجزم بأن حكومتنا المنغلقة على نفسها لا تثق بنا، نحن الذين أمضينا أربعة عشر عامّاً تحت حكم رئيسنا الفارّ، متهمّون ضمنياً بالانحياز إليه. لا ندري لعلّنا قصرّنا بتأييد الفئة المؤمنة، ودخلنا متأخرين في دين الله، وذلك بعد فتح مكّة لأننا في حقبة تفسير الأحداث بمنطق التاريخ الإسلامي تفسيراً شرعياً، فما يحدث حولنا يعيدنا إلى الأفلام التاريخية، الأسماء، التعيينات الحكومية، المحاصصات السياسية والفصل بين النساء والرجال في ساحة الجامع الأموي، وأخيراً منع المحاميات النساء من مرافقة موكليهم الرجال في دائرة النفوس.
تمارس حكومتنا عزلاً إرادياً محيطة نفسها بأشخاص تثق بهم وتخاف من كل شخص خارج نطاق دائرتها. هذا الخوف والحذر الشديد إنما ينعكسان على كامل مساحة الشعب في سوريا تخوّفاً وشكّاً وتساؤلات لا نهاية لها. شرّع الناس صدورهم لقبول أي حكم يخلصهم من كابوس حكم الأسد، واستقبلوا الفاتحين استقبال الأبطال، ونصّب كل منهم نفسه محامياً للدفاع عنهم مهما فعلوا. حتى إن الأصوات التي تعترض على ممارسة ما، باتت لها مجموعات تقمعها من دون وعي ولا مصلحة، ومن دون أن تسأل نفسها: هل نبني بيدنا دكتاتورية دينية جديدة؟
درج
——————————-
سوريا.. الجريمة والعقاب/ سلام الكواكبي
الإثنين 2025/05/05
حوادث فردية أو تصرفات غير مسؤولة أو تجاوزات، كلها وغيرها مفردات يستعملها بعض من الرسميين السوريين الجدد، ومن لفّ لفّهم ومن دافع عن سياساتهم -أو انعدام سياساتهم- ومن ينافق لهم نتيجة تخرّجه من مدرسة التمجّد العريقة في القدم في تاريخ هذا البلد الحزين، وذلك لوصف ما حدث ويحدث من اعتداءات موثقة وموصوفة، دموية كانت أم ترهيبية، تجاه بعض أفراد المجتمع السوري، الذي ما زال في طور البناء منذ نيل هذه البلاد استقلالها عن الحكم العثماني.
إذاً، فقتل المئات وحرق الزرع والضرع ما هو إلا مجرد تجاوزات ليس إلا. وأما الإعدامات الميدانية لأفراد بتهمة الانتماء للجيش السابق، وذلك على الرغم من حصولهم على تسويات صادرة عن السلطة الجديدة، فما هي إلا تصرفات فردية. والقضاء على أسر بأكملها ما هو إلا انتقام إنساني مبرر، مقابل ما عانته مجموعات أخرى تمثل الأكثرية العددية في المجتمع طوال عقود من التعذيب والتغييب، والقتل، والقمع، والاستبداد.
إذن، ما يجري وجرى في غابات الساحل السوري ما هو إلا تطبيق حرفي لشريعة الغاب. يجب علينا أن نبحث عن العذر المبرر قبل أن ننطق بكلمة، محاولين إدانة ما نعتبره كبشر ذوي حس إنساني مقتنعين -ويا للهول- بأنه جريمة موصوفة وأن العقاب تقره المحاكم وليس الأفراد ولا حتى الجماعات. وإن لم نفعل فسنكون حتماً من المارقين وعملاء النظام البائد وننتمي إلى الفلول. ولن يشفع لنا ماضينا وحاضرنا في مواجهة القمع والاستبداد بأشكاله المختلفة وبتجلياته المتجددة. لقد أصبح الرأي وحرية التعبير مشروع ضحايا، ليس فقط لسلطة متشددة أو مجتمع منغلق، إنما أيضاً لجماعات تعتبر نفسها بأنها خليفة الله على الأرض وأداة السلطان في البلاد، بمعزل عن أي قاعدة قانونية أو أخلاقية أو حتى دينية.
من خلال خطوة محمودة، تم تشكيل لجنة للتحقيق في أحداث الساحل وطلب منها أن تعطي نتائجها خلال شهر. وفي انتهاء المهلة المحددة، قررت السلطات المختصة أن يتم التمديد ثلاثة أشهر إضافية. المتفائلون، وكم أتمنى أن أكون منهم، ما زالوا ينتظرون نتائج تحقيقات هذه اللجنة لاتخاذ موقف صريح وحاسم مما حصل في شهر آذار/ مارس المنصرم. هذا ما يمنعهم عن إبداء الرأي فيما حصل. وبالمقابل يبدو أن شدة ثقة مرتكبي مذابح الساحل -ومن خلفهم- بنتائج ضحلة لأعمال هذه اللجنة، قد أوصلتهم إلى الاستمرار في “التجاوزات والتصرفات الفردية”، وإن على نطاق أضيق في المكان عينه. وكذلك، فقد سمح التهاون والاستخفاف بما حصل في الساحل بتوسع الأعمال الانتقامية العشوائية في مناطق عدة. وصارت عبارة العدالة الانتقالية جزءاً من الخيال الجمعي ليأخذ مكانها مفهوم العدالة الانتقامية، وما تعنيه هذه العدالة من ضياع للحقوق، واستغلال البعض للوضع القائم لتصفية حسابات عشائرية أو عائلية أو جرمية.
هناك فئة تنطحت للدفاع وللتبرير إثر كل حدث وانتهاك ترتكبه جهات محسوبة على النظام الجديد، كما حصل مؤخراً أثناء قيام مسلحين بالإغارة على مطعم دمشقي، وإخراج رواده بطريقة مهينة وتحت الضرب، حتى ولو اعترفت الجهات الرسمية بهذا الاعتداء منددة به وقيامها بفتح تحقيق حوله. سارع المنافقون لإيجاد المبررات وصاروا خبراء في علم النفس وفي علم الأخلاق. ولتبرير قيام هذه العصابة بالاعتداء، جرى وصم نشاط المطعم بالملهى الليلي، أو ما يعرف شعبياً بـ”الكرخانة”. وبالتالي، لأصحاب هذا التوصيف، كل ما جرى مبرر. على أساس أي قانون؟ قانون الغاب الذي حكم حيوات السوريين والسوريات طوال خمسة عقود اعتقدنا أن صفحتها قد طويت. أما الناشط الثوري الذي تعرض للضرب والإهانة من قبل عناصر أمنية لوجوده في سيارته إلى جانب خطيبته في مدينة حمص، فلا بد للمنافقين وللمبررين أن يصنفونه فوراً من بين المارقين الذين يهتكون أعراض العذارى.
المنافقون المبررون الحامدون والشاكرون، ليسوا فقط من العامة التي تتأثر بعواطف عابرة ومشاعر تلقائية مرتبطة أساساً بماض مليء بالخضوع للحاكم، باعتباره منزهاً عن ارتكاب أي خطأ أو شذوذ مسلكي، كما الدفاع عن أزلامه مهما ارتكبوا من فظائع.
أوضحت الأشهر الماضية ولوج بعض من النخبة، إن جاز التعبير، في مستنقع التبرير والنفاق لمن هو نفسه لا يبحث عمن يبرر له، معترفاً في أغلب الأحيان بأن تجاوزات ما تحصل، وعليه أن يتفادى تكرارها. وبالتأكيد، فإن مفهوم النخبة الذي نستخدمه لوصف فئة محددة من الناس تتميز عن العامة تعليمياً واقتصادياً ليس إلا. أما المتعارف عليه من توصيف تنزيهي عن المعاصم وتمييزي في الأخلاق، فهو خطأ مبين. النخبة تتصدر المشهد عنوة في مرحلة تاريخية محددة. وهي تبتعد عن الأوصاف الإيجابية إنسانياً وأخلاقياً، لكونها مستفيدة مرحلياً من وضع محدد ومن أشخاص محددين يملكون زمام الأمور.
من آمن بوقوع التغيير فعلاً وبحصول الشعب السوري على حقوقه -ولو بشكل محدود- التي كانت مغتصبة ومنتهكة، عليه أن يتابع الإيمان بهذا الأمل، من دون أن يقع في فخ السذاجة التحليلية والتفكير الرغبوي، الذي يجعله أقل من متمجد وأكثر من منافق.
منذ قرن ونيف، كتب عبد الرحمن الكواكبي أن “المتمجّدين أعداء للعدل أنصار للجور، لا دين، ولا وجدان، ولا شرف، ولا رحمة”.
المدن
——————————
كي لا يضيق الفضاء الثقافي للمساجد في سورية/ أسامة إسبر
05 مايو 2025
انغلق الفضاء الثقافي في سورية منذ استولى حزب البعث على السلطة، وبدأ تهميش المثقّفين المستقلّين المغايرين أيديولوجياً، وبناء المثقّف الموظّف بحسب الوزارات والخطط التي تضعها من أجل الثقافة. كانت المطبوعات والصحف تتميّز أحياناً ببعض الإضاءات والترجمات المهمّة، لكنّها كانت تخلو بشكلٍ عام من الفكر النقدي والقراءة التحليلية للواقع السوري ولبنية السلطة والتديّن السائد فيه. ينطبق هذا أيضاً على منشوراتٍ (ومطبوعات) الأحزاب اليسارية، التي لم تركّز بما يكفي في الجانب الفكري المتعمِّق، وفي قراءة واقع تدّعي تغييره. كانت تحدُث بين الفينة والأخرى طفراتٌ وقفزاتٌ في السياق تخرج فيها كتب متميّزة من المطابع، لكنّ الرقابة المفروضة على المطبوعات خنقت حرّية الفكر، وكانت الكتب المسموحة (بعامّة) تتناغم مع البنى السائدة في المجتمع أو المُتحكِّمة به. وعلى مدى عقود، لم تلعب المدارس والجامعات، ولا الاجتماعات الحزبية العقائدية (بأشكالها كافّة)، دوراً في تثقيف الشباب السوري وزرع رؤية بديلة غير ملقَّنة للحياة في أذهانهم.
فالمناهج المعتمدة لا تواكب تطوّر المعرفة في العالم على الصعيدين الفكري والعلمي. أمّا تلك المتعلّقة بالجانب النظري، فلا تتجاوز ملخصّاتٍ مدرسية مبسّطة تستهدف التدريس الببغائي، وبعيدة البعد كلّه عن ترسيخ الفكر النقدي. كانت مصادر المعرفة المتاحة في المدارس والجامعات (حتى الخاصّة منها) محدودةً وضيّقةً. لم نرَ كتباً وإصدارات وأبحاثاً مهمّة صدرت عن جامعاتنا فرضت حضوراً بين القرّاء العرب، وساهمت في الفتوح النظرية والعلمية، ولعبت دوراً في تقدّم المعرفة. كما أننا لم نسمع عن طلابٍ تخرّجوا ألّفوا كتباً نشرتها جامعاتنا السورية خارج الأطروحات التي غلب عليها الطابع الأكاديمي المدرسي، وتكرّر المذكور في المراجع، ولا ترقى إلى أن تكون كتباً تشكّل مصادر للمعرفة النقدية.
لا يعني هذا الافتقار إلى أشخاصٍ قادرين على الإبداع في المجالات كلّها، إلا أن القصد هنا أن المؤسّسات البعثية لم تكن آفاقاً لاحتضان الإبداع والفكر المختلف. وبما أن المدارس والجامعات السورية لم تشكّل مصادرَ للمعرفة وروحاً للنقد والتساؤل في حقبة “البعث”، بسبب الرقابة الأمنية المباشرة، والتحكم بمسار المناهج والمعارف في المجالات كلّها، وتسليم هذه المفاصل لعقلياتٍ أمنيةٍ في مملكة الفساد المستشرية، لم يبقَ في سورية سوى المساجد، التي واكبها في عهد الأسد (الأب) افتتاح وتمويل معاهد لتحفيظ القرآن الكريم تحت اسم “معاهد الأسد لتحفيظ القرآن الكريم”، وتسهيل طبعات فاخرة من دور نشر معيّنة، من أجل استعراض إيماني شكلي. كانت الخطب الدينية تُراقَب على مدار الأسبوع، وكانت تُملى في أفرع الأمن كي تكرّر مقولاتها المبتذلة على الجمهور.
لدور العبادة في أيّ بلد طابعها الخاصّ المستقلّ، وتُمارَس فيها الطقوس الدينية الخاصّة بشعب أو دين، إلا أن المساجد في سورية على امتداد التاريخ الحديث كان يشوب العبادة فيها شيء من السياسة. ففي العهد القمعي، كانت الرقابة على المساجد تفرض على المصلين خطباً لا يمكن أن تمرّ من دون عبارات التمجيد المنافقة لمن سمّته الدعاية المخابراتية “القائد الخالد”. لكن مشهديّة الصلاة في حدّ ذاتها، وتدفّق أعداد المصلّين من داخل الجوامع إلى الشوارع، والتركيز في البعد الشكلي للصلوات، كانت توصل رسالةً لها طابعٌ سياسيٌّ واضح. ورغم أن التديّن في النهاية مسألة روحية عميقة بين الذات وخالقها، ويجب ألا تكون له علاقة بالسياسة، إلا أنه نتيجةً للقمع الشديد الذي طاول التديّن في سورية، كانت ردّات الفعل تتجلّى في المشهدية الدينية الجماعية، التي كان فعل الصلاة فيها تأكيداً للهُويَّة في وجه سلطة غاشمة ومُكفَّرة.
قوّض نظام البعث الأطر المدنية لأيّ فكر جديد أو علماني في سورية، رغم ادّعائه العلمانية ونجاحه في مرحلة من المراحل في تجاوز الأطر الطائفية نحو أطر وطنية وقومية عابرة للطوائف، بحسب عالم السياسة والباحث الأميركي رايموند هينبوش. ولم يكن النظام السوري يقتصر على طائفةٍ معينةٍ تعتنق أيديولوجيا سياسية هُويّةً، كما روّج بعضهم في افتقار واضح إلى الدقّة والبرهان. هذا التقويض لاحتمال نشوء أيّ فكر مدني علماني معارض عبّد طريق الجوامع، ولكنّه كان طريقاً خاضعاً لرقابةٍ أمنيةٍ موسوسة. وبعد سقوط نظام “البعث” وفرار الوريث إلى موسكو في 8 ديسمبر/ كانون الأول 2024، تحرّرت سورية من الرقابة المخابراتية، وأفرغت سجونها من المساجين بصنوفهم كافّة (الجنائية والسياسية)، وكان هذا إيذاناً بعهد جديد احتفى به السوريون الذين تضرّروا من حكم “البعث” عقوداً على الصعد كافّة.
جاء النظام الجديد بوجهٍ ملتحٍ وخطبة جامع معدّلة، مقيماً الصلاة في المطارات والجامعات والساحات العامّة. وكان أداء صلاة عيد الفطر في القصر الجمهوري حدثاً لا سابق له في تاريخ سورية الحديث، بما ينطوي عليه من دلالاتٍ واضحة. وعكس النظام الجديد بتركيبته الأيديولوجية الدينية تأثيرات وهابية نجدية. وحاول بعض المرتبطين فكرياً بنجد أن يعدّلوا في الخطاب الديني في الحواضر السورية من طريق استهداف وسطيّته ودفعه إلى التطرّف. وبدأ خطباء العهد الجديد بإلقاء خطبهم النارية، كما فعل من يعرّف نفسه بأنّه مقاتل في صفوف الثورة السورية محسن غصن، الذي ألقى في جامع زين العابدين في دمشق، في 7 مارس/ آذار الماضي، خطبةً بعنوان “احذروا غضب أهل الشام”، أعلن فيها أن دمشق أرض المحشر، ويجب أن تُطهّر من “الأرجاس” (الطوائف الأخرى)، لأنّها المدينة التي يرسل إليها الله صفوة خلقه: “تخيلوا أن يكون خيرة خلقه في أرض الشام وبيننا أولئك الأرجاس”. ويضيف: “لا يمكن أن تعكر صفونا أيُّ طائفة كانت فالشام سنّية وستبقى سنّية”، ثم بنبرة لا تخلو من تهديد أضاف: “إننا نتوق للقتل”. وهذا يشير إلى طبيعة التديّن الذي يراد تعميمه. والخطير في الأمر أن عدداً كبيراً من الأطفال والمراهقين كانوا بين جمهور المستمعين للخطبة. وفي جامع السلطان إبراهيم في جبلة، ألقى أحد مشايخ الساحل السوري خطبةً ناريةً هدّد فيها وتوعّد بالسيف والرصاص قائلاً إن هذا هو الحوار الأنسب مع الآخر.
سمعنا أيضاً عن إطلاق نار واشتباك بالأيدي في المساجد في حماة وحلب لفرض وصفة وهابية عليها، تعالجها من الوسطية، وتضعها في إطار التوجّه المطلوب، إلا أن رجال الدين السوريين لم يتماشوا معه، وأعلوا أصوتهم ضدّه.
في غياب دور المدرسة والجامعة والصحافة الحرّة، لم يبقَ للسوريين على المستوى الشعبي إلا المساجد، وإذا ما سيطر خطباء متطرّفون على هذه المساجد، التي تحرّرت من المخابرات الجوّية والأرضية، وسُمح لهم بإلقاء ما يشاؤون من خطب تحريضية، ستُغسَل أدمغة الأجيال السورية الطالعة وتبقى أسيرةَ قالب تديّن أحادي إلغائي، قائم على ادّعاء امتلاك الحقيقة وتكفير الطرف الآخر. سيزيد من خطورة الأمر وجود مجاهدين أجانب متشدّدين دينياً يلعبون دوراً محورياً في بنية السلطة. إن خطاباً من هذا النوع، إذا ما مُنح الغطاء الرسمي، سيواصل شحن التديّن وتحويله عصبيةً طائفيةَ إلغائيةً لن تتمكّن من بناء دولة مواطنة يمكن العيش فيها، وربّما ستتحوّل سورية إلى ديكتاتورية دينية من لون واحد. وسيؤدّي هذا إلى تصعيد العنف القائم على الطائفية في ظلّ غياب عدالة انتقالية في إطار قانوني واستمرار الانتقامات العشوائية الفردية، التي أثارت نوعاً من الذعر العام، في وقت يحاول فيه أقطاب الحكم تسويق أنفسهم على الصعيد العالمي، وتجميل صورتهم من أجل إرساء السلطة والملك.
بقاء المساجد مصادرَ وحيدةً للثقافة، ومنابرَ للخطب العنصرية والإلغائية والطائفية، سيحرف التديّن عن طبيعته، وعن مفهوم الإيمان القائم على العلاقة التعبّدية بين الذات وخالقها. يجب ألا ننسى أن بعض المساجد العربية الكبرى لعبت دوراً تنويرياً في التاريخ العربي، ويذكر في هذا السياق من جوامعَ: القرويين والزيتونة والأموي والأزهر، في محطّاتٍ من تاريخها. والسؤال هنا: هل ستحدث نقلة في المساجد السورية بتحوّلها فضاءاتٍ للتنوير الديني، وللتعبّد الفردي والانفتاح الفكري الديني، ولنشر التسامح والإخاء واحترام الآخر، ولممارسة التديّن بعيداً من الانقسامات والتحريض والتمذهب والتفرقة الطائفية، أم سيحتلّ منابرها شيوخٌ لا تشرب عقولهم إلا من ينابيع نجد؟… يجب ألا تفوت الإشارة إلى أن هناك ميلاً واضحاً إلى الاستعراض الثقافي الديني المشهدي، الذي يذكّر بعروض طلائع البعث، يتجلّى في مسابقات ومناسبات دينية لتوجيه الأطفال والشبان كما حدث أخيراًً في الملعب البلدي في إدلب، حين كُرّم 1500 طالب وطالبة من حفاّظ القرآن الكريم. إن جهداً كهذا يجب احترامه، لكنّ التديّن العميق يقتضي علاقةً خاصّةً بين المؤمن وربّه بعيدة من السياسة، ومن الاستعراض المشهدي، وإذا كان على المتديّن أن يتباهى، فعليه أن يتباهى قبل أيّ شيء آخر بالأخلاق الحسنة، ونبذ العنف والطائفية وتكفير الآخرين والإفتاء بقتلهم. عليه أن يتباهى أيضاً بقبولهم واعتبارهم امتداداً للذات والانفتاح على علوم العصر وفصل الدين عن السياسة، وهذا ما يخدم بناء دولة عصرية تعلو على جراح الماضي من خلال العدالة الانتقالية.
لا تتوقّف حدود الإيمان عند مسألة حفظ آلي لآياتٍ من القرآن الكريم والاحتفاء بذلك منجزاً دينياً فقط، فهذا الحفظ كي يكون فعّالاً يجب أن يترافق مع فهم عميق للنصّ لا يكرّر رؤية السلف، بل يثبت اجتهاد الخلف، وقدرتهم على القيام بقراءة تواكب العصر واعتماد تأويل ينعكس على الوطن بتعدّد مشاربه وتوجّهاته السياسية والدينية، وهو أمر يجب أن يجري بعيداً عن التلقين والتطرّف والاستبداد، بامتلاك المعنى والإمساك بلجام فرس الحقيقة والسلطة، والركوب عليهما، والسير بهما حيث نريد.
ربّما هذا ما دفع الباحث السوري محمد حبش (يتبنّى آراءً متحضّرةً ومنفتحةً على الآخر تدعو إلى إخاء الأديان وصون كرامة الإنسان) إلى انتقاد فرض النقاب على حفّاظ القرآن الكريم من الفتيات، اللواتي حُشدن في الملعب البلدي في إدلب، بصفحته في “فيسبوك”، معلّقاً على منظّمي الحدث: “كنتُ أتمنّى أن يأخذوا بالجانب المتسامح في الفقه الإسلامي”، مضيفاً أن الدين “يُسرٌ وليس عُسراً”، في دعوة صريحة لوقف مسار التشدّد الذي يسلكه التديّن السوري.
إذا كانت شرارة الانتفاضة المدنية السورية قد انطلقت من المساجد، فإن من المناقض والمخالف للشعارات التي طُرحِت على امتداد الأعوام السابقة أن يعود المنتصرون، بعد انتصارهم، إلى تحويل هذه المساجد، التي خرجوا منها لإسقاط نظام الأسد، منابر للتحريض الطائفي والنزعات التكفيرية والعسكرة، بدلاً من أن تكون منابرَ للحرّية والكرامة والانفتاح، ضمن المناخ الذي بشّرت به الانتفاضة في بداياتها المدنية.
العربي الجديد
—————————-
سورية… رؤية من الخارج/ المهدي مبروك
05 مايو 2025
تمنح قراءة المشهد السياسي للبلدان من الخارج، في أحيانٍ كثيرة، فرصةً للمختصّين وصنّاع القرار لمعرفة الصورة التي تصل من البلد، ويتردّد صداها في جلّ دوائر النفوذ المحلّي والدولي. قد تكون غير دقيقة، ولكنّها مع ذلك تظلّ مهمّةً. إنها ترسم صورةً تتحلّل ملامحها وتفاصيلها لتبقى في هيئة عامّة هي الصورة الكلّية (الجشطالتية)، التي تبعث رسائل تصوغ إدراكاتنا حولها. إنها شكل من أشكال النمط المثالي الذي عناه ماكس فيبر، أي التضخيم المقصود لإبراز الملامح الكبرى للأشياء.
ما الذي يصل إلينا نحن الأباعد من سورية، وكيف تصل إلينا تلك الصورة؟ هذا هو الأكثر أهميةً في اعتقاد كاتب هذه السطور. لقد مررنا بالتجربة ذاتها في تونس، ولم نكن ندرك تماماً ونحن في الداخل أن صورة تونس في الخارج تختلف تماماً عمّا ندركه في الداخل. لا يهمّ من عدّلها، ولكن صورتنا، في كلّ الحالات لم تتطابق مطلقاً عن بلدنا مع الصورة كما يدركها الخارج. تماماً، هذا ما يحدث مع بلدان تمرّ بتغيّرات كبرى، يظلّ المحيط يلتقط من بعد شذرات من صورتها ليعيد تركيب “البوزل” كما يشاء. كنا في تونس نتكيّف ونحرص على تهوين ما يحدث وعدم تضخيم ما يجري، ولم يكن ذلك مجرّد شهوة أو عناد، بل كانت الأمور تجري ونعتقد أنها “تحت السيطرة”، وأنها مجرّد انفلات عابر، وأن شعبنا سيتحمّل إلى ما لا نهاية له عشقاً للحرّية وانتصاراً للثورة والثوار. غير أن الأمر كان على خلاف ذلك، كانت الأرض تميد تحت أقدامنا ونحن نتوهّم أننا رسّخنا انتقالنا إلى الأبد. حين نسافر، يبادرنا من نلتقيه بألف سؤال عن صورة مخيفة ومرعبة؛ إننا تورا بورا شمال أفريقيا. ربما كان عنادنا يخفّف علينا تلك التشوّهات التي أصابت الصورة وجعلتنا “قبلة الإرهابيين”، وحالةً قصوى من الفلتان والفوضى… إلخ. هي الصورة بقطع النظر عن صدقها وكيفية تشكّلها وترويجها وإقناع الناس والرأي العام الدولي بها.
تماماً ذاك ما يحدُث حالياً مع سورية، مع فوارقَ كُبرى، ولكن ليس لها معنىً على مستوى تشكّل الصورة وجملة الإدراكات التي تُرسَل بها إلى محيطيها القريب والبعيد. ربّما لا تملك تونس كلَّ التنوّع الإثني والثقافي الذي يسم سورية منذ تاريخ طويل، وربّما لم تتوسّط تونس أيضاً بلداناً حدودها هي خطّ النار المتوجّس دوماً؛ الكيان الصهيوني ولبنان والأردن والعراق… إلخ. ومع ذلك، تظلّ لعبة الجمر هي ذاتها تقريباً، خاصّة عند تذويب التفاصيل والفوارق؛ “إسلاميون يمسكون بالحكم”، وهي لافتة عريضة يتم توسيعها لتشمل طيفاً واسعاً من “طالبان” إلى “العدالة والتنمية”، وقد يدقّق بعضهم فيستعمل مصطلحاً فضفاضاً لا يقلّ غموضاً وتوظيفاً هو “الإسلام السياسي”. الصورة التي تصل عن سورية أن إسلاماً سياسياً، وأحياناً جهادياً، يحكم البلاد، لم تستطع ربطة العنق ولا البدلة الإفرنجية التي ارتداها أحمد الشرع، ولا غيرها من الرسائل المباشرة، سواء في المظهر أو في تعبيرات “الإعلان الدستوري”، تخفيف تلك الملامح التي صاغتها ريشة الرسّام، أي اليد الخفية التي تصوغ ملامح الحكّام والبلد معاً أثناء التغيّرات السياسية الكُبرى.
حين حكمت في تونس (بموجب نتائج انتخابات المجلس التأسيسي) ثلاثة أحزاب مختلفة في منطلقاتها الأيديولوجية، إسلامية محافظة واشتراكية منفتحة وعروبية ليبيرالية (الترويكا)، ظلّ العالم الخارجي لا يرى سوى حركة النهضة، أيِ الإسلامي السياسي حاكماً للبلد. طُمس عمداً التعدد حتى يتيسّر تحريك الفزّاعة: “الإسلاميون في الحكم”. يحدث هذا وبشكل مضاعف عشرات المرات في سورية الآن، خصوصاً في غياب التعددية الحزبية. أمّا حالة الانفلات الأمني فقد ظلّت تلاحق التجربة رغم التحسّن الكبير الذي تحقّق في تونس بعد ما يناهز شهرين فقط من سقوط النظام. استطاع الأمن التونسي أن يبسط يده ويضع حدّاً لكلّ الجرائم الاجتماعية (نهب محلّات تجارية وتصفية حسابات عشائرية وعائلية محدودة) خصوصاً في حالة الفراغ التي سُجّلت في الأسابيع الأولى من الثورة، إذ أحرقت مقارّ أمنية وانسحب آلاف الأمنيين من الشوارع فتحصّنوا في منازلهم خوفاً من ردّات فعل انتقام لم تحدث أصلاً، ولكن كانت الصورة مضخّمة ومتدهورة، إنها دولة تكاد تكون دولةً فاشلة. ما يحدث في سورية حالياً ينحو منحىً مختلفاً تماماً، إنها بلد يحكمه أمراء الحرب، مليشيات لا أحد قادر على السيطرة عليها، ورغم حلّها وبداية تشكيل قوى أمنية تحت سلطة الدولة ونواة جيش وطني، فإن الرسالة التي تصل إلينا مختلفة تماماً؛ فلتان أمني رهيب وقتل طائفي بشع خارج أجهزة الدولة. من ينكر أهمية الصورة التي تصل إلى الخارج، يكابر. إنها صورة غير دقيقة، وفي كثير من الأحيان فيها تضخيم وتجنٍّ، ولكن هي الإدراكات التي تصوغ التمثّل الذهني لوضع سورية الراهن.
كيف يمكن تعديل الصورة؟… هناك العديد من الوصفات المجدية، ولكن كلما بكّرنا في تعديل الصورة وجفّفنا منابع الغلط ولجمنا تلك الانحرافات، استطعنا أن نقدّم صورةً أقرب إلى الواقع.
العربي الجديد
—————————-
الإيكونوميست: خطة ترمب بشأن سوريا لم تنتهِ بعد/ ربى خدام الجامع
2025.05.03
بين أزقة المدينة القديمة في دمشق، وفي مشهد لم يكن أحد يتخيله قبل أشهر، ظهر عضوا الكونغرس الأميركي عن الحزب الجمهوري، كوري ميلز ومارلين ستوتزمان، وهما يتجولان بهدوء في أحد أكثر الأماكن حساسية على الخارطة السياسية الدولية. هذا الظهور المفاجئ، الذي كشفت تفاصيله صحيفة فاينانشال تايمز، لم يكن مجرد زيارة بروتوكولية، بل حمل مؤشرات سياسية لافتة قد تعكس تحولاً محتملاً في الموقف الأميركي تجاه سوريا، بعد سنوات من القطيعة والعقوبات.
كوري ميلز، المحارب السابق في العراق وأحد رموز تيار “لنجعل أميركا عظيمة مجدداً”، برفقة زميله ستوتزمان، المعروف بدفاعه عن السياسات الاقتصادية المتشددة لترمب، التقيا بالرئيس السوري أحمد الشرع. الشرع، الذي تولى السلطة عقب الإطاحة بنظام بشار الأسد، كان في يوم من الأيام أحد قيادات تنظيم القاعدة في العراق، ما يجعل اللقاء بحد ذاته موضع جدل داخلي في واشنطن. إلا أن النائبين خرجا من دمشق بـ”تفاؤل حذر”، وفق تعبير ميلز، مشيرين إلى أن الشرع عبّر عن رغبة مستقبلية، “ضمن ظروف مناسبة”، للانضمام إلى الاتفاقات الإبراهيمية التي تقود إلى تطبيع العلاقات مع إسرائيل، على غرار ما حدث عام 2020 مع دول عربية أخرى.
في الكواليس، وُصفت الزيارة بأنها “نجاح منقطع النظير”، في وقت تستمر فيه واشنطن بموقف حذر تجاه ما تصفه بـ”النظام الجديد” في سوريا. وعلى الرغم من أن بعض الدول الأوروبية بدأت بالفعل برفع العقوبات تدريجياً وإعادة فتح سفاراتها، فإن الولايات المتحدة لم تقدم سوى تخفيف محدود للعقوبات المفروضة، ما أدى إلى شلل اقتصادي واضح في العاصمة دمشق، حيث يعاني السكان من انقطاع شبه دائم للكهرباء، ويُجبر حتى من يرتدون البزات الرسمية على نبش القمامة بحثاً عن الطعام.
وبحسب الصحيفة، لا تزال العقوبات الأميركية تمنع أي جهد دولي فاعل في إعادة الإعمار أو إيصال المساعدات، كما تثير القلق في أوساط المانحين المحتملين، سواء من دول الخليج أو السوريين في الشتات. هذا في ظل غياب أي تمثيل دبلوماسي أميركي فعلي على الأراضي السورية حتى اليوم.
ورغم الإشارات الإيجابية التي خرج بها الوفد الجمهوري، فإن الأصوات الصقورية داخل الحزب والبيت الأبيض، مثل سيباستيان غوركا وتولسي غابارد، لا تزال متشككة في تحوّل الشرع، وترى أن سوريا ما تزال تمثل تحدياً أمنياً في مجال مكافحة الإرهاب. وأثارت الاشتباكات الأخيرة في جرمانا قرب دمشق، والتي أسفرت عن مقتل ما لا يقل عن ثلاثين شخصاً، مخاوف جدية لدى الأقليات الدينية، ما دفع أحد رجال الأعمال السوريين الأميركيين، وهو مسيحي الديانة، للقول بقلق: “إنهم لا يرون سوى الشرع الذي كان في العراق”.
يعرض موقع تلفزيون سوريا هذه المادة في إطار التغطية الإعلامية للملفات المتعلقة بالواقع السوري، مع الإشارة إلى أن ما ورد فيها يعكس رؤية المجلة ومصادرها، ويُقدّم كمادة تحليلية تساعد على فهم طريقة تناول الإعلام الدولي للملف السوري، من دون أن يُعد توثيقاً شاملاً لكامل المشهد أو تبنياً لاستنتاجاته.
وفيما يلي ترجمة موقع تلفزيون سوريا لهذه المادة:
لم يتوقع أحد زيارة عضوي الكونغرس الجمهوريين لسوريا كما لم يخطر على بال أحد أن يتمشى كل منهما في أزقة المدينة القديمة بدمشق، وذلك لأن كوري ميلز الذي ارتدى نظارة من ماركة راي بان، مع سترة أنيقة، كان أحد المحاربين القدماء في العراق ومن كبار المتحمسين لشعار: (لنجعل أميركا عظيمة مجدداً)، أما مارلين ستوتزمان فقد أثنى على الرسوم الجمركية التي فرضها ترمب، ولهذا قلة قليلة من الناس توقعت للرجلين أن يظهرا بمظهر المدافعين عن تدخل بلديهما ببلد يحكمه رجل كان أحد قياديي تنظيم القاعدة فيما مضى.
وعلى ما يبدو، فإن عضوي الكونغرس غادرا سوريا وهما مقتنعين بأنه لابد لأميركا أن تتعامل مع أحمد الشرع، يحدوهما “تفاؤل حذر” تجاه إمكانية إقامة بلدهما لعلاقات تجارية مع هذا الرجل، وذلك بحسب ما ذكره ميلز الذي قال أيضاً إن رئيس سوريا الجديد ألمح له بأنه في ظل الظروف المناسبة، يمكن لسوريا أن تنضم إلى الاتفاقات الإبراهيمية في يوم من الأيام، والتي أسست لتطبيع العلاقات بين إسرائيل وعدد من الدول العربية في عام 2020، أما من كانوا في الكواليس فقد ذكروا بأن هذه الزيارة حققت نجاحاً منقطع النظير.
تأخرت الحكومة الأميركية في الرد على تغيير النظام بسوريا، فقد بدأت الدول الأوروبية برفع عقوباتها وإعادة فتح سفاراتها، في حين لم تقدم الولايات المتحدة حتى الآن سوى تخفيفاً محدوداً للعقوبات، أي أن الحظر مايزال يعرقل الحياة في دمشق، ويجبر رجالاً يرتدون بزات رسمية على البحث في صناديق القمامة عن الطعام وإلى مغادرة العاصمة بسبب عدم توفر الكهرباء فيها سوى لساعات قليلة في اليوم. كما أن تلك العقوبات أقلقت الجهات المانحة المحتملة التي تشمل السوريين في الشتات ودول الخليج بشأن دفع الأموال من أجل إعادة الإعمار أو إرسال المساعدات، ناهيك عن أنه لا وجود حتى الآن لأي تمثيل دبلوماسي لأميركا في سوريا.
لم يقتنع صقور البيت الأبيض والحزب الجمهوري، وعلى رأسه سيباستيان غوركا وتولسي غابارد، بتحول الشرع، ويؤكد هؤلاء على أن سوريا ما تزال تمثل مشكلة في مجال مكافحة الإرهاب، وهذا ما أثار الخوف في نفس أحد رجال الأعمال السوريين-الأميركيين، وهو رجل مسيحي الديانة، فقال: “إنهم لا يرون إلا الشرع الذي كان في العراق”، كما أنه قُتل ما لا يقل عن ثلاثين شخصاً في الاشتباكات الأخيرة مع الطائفة الدرزية حول دمشق، ما أثار قلق الأقليات في سوريا.
“يجب لسوريا أن تنمو بسرعة”
فيما يبدي قسم آخر من الأميركيين حماسة أكبر، وعلى رأسهم المسيحيون الإنجيليون والسوريون اليهود في أميركا والذين يعتبرون سوريا بمنزلة ساحة معركة مهمة من أجل حقوق الأقليات في الشرق الأوسط، فلقد التقى منذ فترة قريبة جوني مور وهو قس إنجيلي مقرب من ترمب، والحاخام أبراهام كوبر من مركز سيمون فيزينذال وهي منظمة يهودية لحقوق الإنسان موجودة في لوس أنجلوس، بأسعد الشيباني، وزير الخارجية السوري، في نيويورك، وعن ذلك يقول مور: “كانت الأمور مقنعة أكثر مما توقعت، ولهذا يجب أن تنمو سوريا بسرعة، لأن الأمن الاقتصادي مرتبط بالأمن القومي وبالتالي بالسلام في المنطقة”.
ويخطط مور لترؤس وفد من المسيحيين الإنجيليين والحاخامات سيتوجه إلى دمشق خلال فترة قريبة، إذ يعتقد الإنجيليون بأن الزعماء الروحيين قد ينجحون فيما فشل فيه غيرهم وذلك من حيث إقناع ترمب بتخفيف العقوبات، والتعامل مع الحكومة السورية الجديدة، غير أن إسرائيل التي تدعمها الطائفة الإنجيلية في أميركا، قد لا تقتنع بذلك، كونها شددت على موقفها الحازم ضد الشرع.
يعلق على ذلك ديفيد ليش، وهو مؤرخ متخصص بشؤون الشرق الأوسط بجامعة الثالوث بتيكساس، كونه حث الحكومة السورية الجديدة على التعامل مع الزعماء الروحيين في أميركا، وقال: “بالنسبة لسوريا، فإن للإنجيليين تأثير كبير عليها”، وفي شهر نيسان الماضي، عين ترمب مارك ووكر، وهو عضو جمهوري في الكونغرس وقس إنجيلي، في منصب سفير الحرية الدينية، لذا، قد يكون لهذا الرجل تأثير على السياسة الأميركية.
تقدم على صعيد آخر
خلال مؤتمر المانحين الذي عقد في بروكسل في شهر آذار الماضي، قدمت أميركا قائمة تضم ثمانية طلبات لإدارة الشرع، من بينها العمل على البحث عن الأميركيين المفقودين في سوريا (وعلى رأسهم الصحفي المسجون أوستن تايس)، وحرمان المقاتلين الأجانب من الانضمام إلى الحكومة الحديدة، وتصنيف الحرس الثوري الإيراني كتنظيم إرهابي، وذلك بعد أن خاب أمل الأميركيين في كانون الأول الماضي عندما جرى تعيين عدد من المقاتلين الأجانب في وزارة الدفاع السورية، لكنهم اعترفوا بالسر بأن دمشق أحرزت تقدماً في أمور أخرى.
إن زيارة ميلز وستوتزمان لدمشق لابد وأن تدفع لقدوم مزيد من الوفود الأميركية غير الرسمية إلى سوريا، وفي حال تمكن الشرع من إقناع الجمهوريين المؤيدين لشعار: (لنجعل أميركا عظيمة من جديد)، إلى جانب إقناع الإنجيليين بحسن نواياه، وخاصة فيما يتعلق بحماية المسيحيين، فقد ينجح في كسب التأييد الأميركي، بما أن سياسة ترمب تجاه سوريا ماتزال قيد العمل والتطوير.
تلفزيون سوريا
————————————-
ماذا عن الإعلام الرسمي السوري؟/ سمر يزبك
06 مايو 2025
عندما تنهار الأنظمة، لا تسقط بنيتها السياسية أو الأمنية فقط، بل تنهار معها منظوماتٌ رمزيةٌ كاملة كانت تؤسّس لشرعية الخوف. والإعلام في تلك المنظومات لا يعمل مرآةً للواقع كما يُفترض، بل جهازاً دؤوباً لإنتاج المعنى وفق مقاييس مركزية صارمة: من يتكلم؟ من يُسكَت؟ ومن يُقصى بوصفه “شاهداً غير موثوق” لأنه خرج عن النصّ؟ في بدايات الثورة السورية، حين دوّى الهتاف “كاذب كاذب كاذب… الإعلام السوري كاذب”، لم يكن موجّهاً إلى شخص أو وسيلة إعلامية، بل إلى البنية ذاتها التي حوّلت الكذب ممارسةً مؤسّسية. إذ لم تكن وظيفة الإعلام حينها نقل الوقائع أو مساءلة السلطة، بل حماية مركزها الرمزي؛ تمحورت رسالتُه حول تبرئة الرئيس المجرم من كلّ ما يقع، وعزل شخصه عن السياق العام، باعتباره فوق المساءلة ومحصّناً من الخطأ. حتى حين كانت البلاد تغرق في الدم، ظلّ الخطاب يُدار كما لو أنه ضحيّة سوء فهم جماعي، أو سوء نيّة كونية، لا قائداً مسؤولاً عن قراراتٍ سياسيةٍ وأمنيةٍ مدمّرة.
لم يكن الإعلام سلطةً رابعةً زمن “البعث” والأسديْن (الأب والابن)، بل سلطةً فوقيةً تصنع الرواية الوحيدة الممكنة، وتُطوّع الأحداث في قالب يبرّر القمع ويُخفي المأساة. كان يُحوّل القتلى أرقاماً، والمآسي فقراتٍ عابرةً، والمظالم “شائعاتٍ مغرضةً”، ويُبقي صورة السلطة نقيّةً ومحصّنةً من كلّ مساس أو شبهة أو خطأ بشري. اليوم، وبعد سقوط النظام الذي أمسك بهذا الجهاز عقوداً، تعود قناة الإخبارية السورية بهُويَّة بصرية جديدة. لكن هذه العودة ليست مجرّد حدث شكلي، بل لحظة اختبار حقيقي. هل نحن أمام مشروع إعلام جديد فعلاً؟ هل نحن قادرون، أخيراً، على تحرير الخطاب من بنيته السلطوية؟ هل يمكن أن يصبح الإعلام في سورية منبراً يعكس ما يقال في البيوت والشوارع، لا ما يُملى من فوق؟.
لم ترث السلطة الجديدة جهازاً إعلامياً بالمعنى المؤسّساتي، بل ورثت فراغاً تتقاطع فيه الأصوات المرتجلة والتصريحات المتناقضة. لأشهر، سُجّل غيابٌ واضحٌ لصوت رسمي متماسك، خاصّة في لحظات مفصلية (من مجازر الساحل إلى أحداث جرمانا وأشرفية صحنايا)، إذ جاءت الخطابات مبهمةً، والبيانات متعثّرةً، وبعضها (كبيان وزارة الصحّة)، أعاد إنتاج خطاب طائفي بثوب ما بعد طائفي، في تناقض صارخ مع أبسط مقوّمات الدولة المدنية. من الواجب أن نتذكّر أن بعض الإعلاميين الشجعان الذين رافقوا مسيرة الثورة، ووقفوا في جانب الناس في أصعب اللحظات، عادوا الآن لا بشجاعتهم الأولى، بل بنزعة إلى التبرير، والتوسّط، وتدوير الزوايا باسم “المصلحة العليا”، العبارة التي كان يُفترض أننا دفنّاها مع خطابات النظام الساقط. لكن السؤال الأهم الآن، ليس ما إذا كان الإعلام الجديد سيكذب، بل ما إذا كان يمكنه قول الحقيقة من دون إذن.
هل هناك مكان لأسئلة لا تطلب الإجماع؟ لخطاباتٍ تُقلق ولا تُطمئن؟ وهل ثمّة نيّة حقيقية لبناء إعلام يحمي الصوت بدل أن يراقبه ويطوّقه؟ ما نحتاجه ليس إعلاماً بطولياً، بل فضاءً مرناً يتّسع للتعدّد والاختلاف، إعلاماً لا يُصنّف الآراء الخارجة عن الإجماع بأنها تخريب أو “قلّة وعي وطني”، بل يعترف بها أصواتاً ضروريةً لفهم ما يجري. لا نريد سجناً قديماً بديكور جديد، بل منبراً صادقاً، يحتمل حتى الأصوات الأكثر إزعاجاً. وربّما، على من يديرون الإعلام الرسمي اليوم أن يعلّقوا على جدران التحرير ذلك الهتاف: “كاذب كاذب كاذب… الإعلام السوري كاذب”، لا تهمةً، بل وصيةً. أن يكون الصدق هو ما يحرجهم، لا ما يراوغونه. وأن يتذكّروا أن الثورة لم تندلع بسبب مؤامرة، بل لأن أحدهم قال ما لا يُقال، ولم يجد منبراً إلا الشارع.
العربي الجديد
———————————-
حرب إلكترونية خطيرة على سوريا/د. فيصل القاسم
ليس هناك أدنى شك، كما ذكرت في مقالي السابق، أن مواقع التواصل الاجتماعي يمكن أن تكون بمثابة سلطة رابعة حقيقية لا بل برلمان مفتوح فعال في البلدان التي تفتقد للديمقراطية وآليات المراقبة والمحاسبة، لأنها تشكل ضغطاً كبيراً على السلطات لتصحيح مسارها، لكن الفضاء الإلكتروني يبقى في الآن ذاته سلاحاً ذا حدين، فهو قد يكون ترياقاً في مكان ما وسُماً في مكان آخر، ففي الوقت الذي نجح فيه السوريون مثلاً في استغلال مواقع التواصل كأداة لمراقبة الحكومة وسياساتها وتصويبها والتفاعل معها إيجابياً في القضايا الوطنية التي تهم الجميع، فإن البعض يسيء استخدام النشر الإلكتروني لأغراض قذرة وخطيرة جداً، خاصة في عصر الذكاء الاصطناعي الذي صار بدوره أيضاً سلاحاً ذا حدين، وما أسهل تقليد الأصوات والفبركات واختلاق الفتن ونشرها على نطاق واسع. والمشكلة أن بعض الجمهور العام مازال يتصرف بشكل غريزي وخاصة في القضايا العقدية دون تدقيق وتمحيص، فما أسهل أن تخترع فيديو لشخص معين وهو يقول كلاماً خطيراً حول هذه القضية أو تلك، ثم تنشره على مواقع التواصل فيخلق ضجة كبرى، خاصة إذا كان فيه إساءة للرموز الدينية، وقبل أن يتم التحقق من صدقية الفيديو تكون قد وقعت أحداث مأساوية بناء على أكاذب وفبركات. وهذا ما حدث قبل أيام عندما فبرك أحد المغرضين فيديو لأحد أبناء مدينة السويداء السورية وهو يسيء للرموز الدينية، فثارت ثائرة الكثيرين، وتوعدوه وتوعدوا طائفته بالويل والثبور وعظائم الأمور، لا بل قتلوا وجرحوا الكثيرين في مدينتي جرمانا وصحنايا قبل أن يكتشفوا لاحقاً أن الفيديو الذي انتشر على مواقع التواصل كانتشار النار في الهشيم كان مفبركاً بشهادة وزارة الداخلية السورية.
ولا يقتصر الأمر على الفبركات عبر الذكاء الاصطناعي اليوم، بل باتت مواقع التواصل تشكل ساحة سياسية وإعلامية خصبة لنشر الإشاعات والأكاذيب والأخبار المزيفة، وباتت الجيوش الإلكترونية تسيطر على حيز كبير في الفضاء الإلكتروني، فكل جهة تستطيع أن توظف مئات الأشخاص للكتابة والتعليق في مواقع التواصل لتوجيه الرأي العام في هذا الاتجاه أو ذاك حسبما يخدم مصالحها، حتى لو وصل الأمر بها إلى تشويه سمعة الأشخاص والحكومات والدول والطوائف والجماعات والتنظيمات وشيطنتها لأغراض قذرة وخطيرة. وفي سوريا اليوم مثلاً هناك حملات إلكترونية مكثفة لإثارة الفتن ودق الأسافين بين الشعب السوري وتأليب المكونات السورية على بعضها البعض خدمة لمشاريع خارجية، وكما هو واضح اليوم هناك أكثر من جهة لها مصلحة في تفتيت سوريا وتقسيمها إلى دويلات قزمية عبر بث الإشاعات وتحريض الناس على بعضها البعض، وقد كشف مصدر بأن أكثر من خمسة وثمانين بالمائة من الأكاذيب والإشاعات التي تستهدف سوريا مصدرها خارجي، وهذه الفبركات تفعل فعلها اليوم في أوساط السوريين المنهكين المتعبين الذين يعانون كل صنوف الفقر والقهر والعذاب.
صحيح أن مواجهة الذباب الإلكتروني متعدد الجنسيات ليس بالأمر السهل، لكن كل الدول اليوم باتت تسن قوانين قاسية جداً لمعاقبة المسيئين والمستغلين للفضاء الإلكتروني لأهداف قذرة وتجريمهم. وبات من حق أي دولة أن تضع منظومة جديدة من القوانين لمواجهة الفضاء الإلكتروني والذكاء الاصطناعي، وهذا ليس اعتداء على حرية التعبير، لا أبداً، بل هو إجراء ضروري لضبط الإعلام الإلكتروني المنفلت من عقاله. قانون الجرائم الإلكترونية أصبح حاجة ملحة، وكثير من البلدان بدأت العمل به جدياً. وللعرب الذين يرفضون فكرة المحاكم الإلكترونية عليهم أن يعلموا أن القوانين الديمقراطية في الغرب باتت اليوم تعاقب المسيئين على أبسط التعديات التي يرتكبها البعض على مواقع التواصل، وهناك آلاف القضايا المرفوعة في المحاكم الغربية على أشخاص ليس بسبب تغريدة أو منشور أو صورة، بل حتى بسبب إعادة نشر تغريدة لشخص آخر فيها إساءة بسيطة لجهة ما. حتى إعادة النشر في منصة أكس مثلاً يعاقب عليها القانون البريطاني ويمكن أن تكلف الدعاوى ملايين الدولارات. وأعرف أن أشخاصاً رفعوا دعاوى على أشخاص آخرين لمجرد أنهم أعادوا نشر مجرد رابط لا يحوي أي كلمة بارزة، لكنه يتضمن إذا فتحته جملة يتهم فيها أحدهم شخصاً آخر بالكذب مثلاً. تصوروا أنه بإمكانك اليوم أن ترفع دعوى قضائية في بعض المحاكم الغربية على شخص لمجرد أنه نشر كلاماً لشخص آخر اتهمك بالكذب، وليس لأنه قال الكلام بنفسه. وإذا باتت القوانين «الديمقراطية» الغربية بين قوسين قادرة على محاكمة شخص لمجرد أنه اتهم آخر بالكذب، فمن حق الحكومات العربية أن تسن قوانين صارمة لمواجهة حملات التشويه والقدح والذم والافتراء والفبركة والشيطنة التي يمارسها كثيرون اليوم على مواقع التواصل بخفة عجيبة دون حسيب أو رقيب. وقد أصبح الوضع خطيراً للغاية ولم يعد محصوراً بشتيمة أو مسبة بين أشخاص، بل صار مصدراً لزعزعة استقرار البلدان وتأليب الناس على بعضها البعض مما يؤدي إلى صراعات دموية وأعمال عنف مرعبة على نطاق واسع، كما حصل في سوريا مثلاً بسبب منشور أو فيديو مفبرك. لقد أصبح الوضع مسألة أمن قومي للدول وليس مجرد حرية تعبير، فشتان بين حرية التعبير وحرية التبعير التي يمارسها كثيرون اليوم على مواقع التواصل. وللذين يتشدقون بالديمقراطية، فالديمقراطية لا تعني مطلقاً الانفلات الإعلامي والإساءة للآخرين، بل للديمقراطية أنياب حادة أقسى من أنياب الديكتاتورية أحياناً. ولا بأس أن تبدأ سوريا بالتصدي قانونياً للإرهابيين والمخربين والمفترين والمفتنين الإلكترونيين الذين لا يقلون خطراً عن المخربين والإرهابيين الحقيقيين في أقرب وقت ممكن.
القدس العربية
————————–
تركيا تبدي انضباطاً أكبر تجاه الملف السوري.. ما الأسباب؟/ فراس فحام
الجمعة 2025/05/02
كان المسؤولون الأتراك من بين أول الواصلين إلى دمشق مباشرة بعد سقوط نظام الأسد آواخر عام 2024، وتم تداول الصورة الشهيرة لوزير الخارجية التركية هاكان فيدان على قمة جبل قاسيون إلى جانب الرئيس السوري الجديد أحمد الشرع، للدلالة على حجم الحضور التركي في الملف السوري، ثم ظهرت تسريبات شبه رسمية تركية لاحقاً عن نية أنقرة عقد اتفاقيات عسكرية واقتصادية مع الإدارة السورية الجديدة، والمساهمة الفاعلة في هيكلة المؤسسة العسكرية.
منذ البداية، حرصت أنقرة على تنسيق الخطوات في الملف السوري مع دول عربية مؤثرة مثل المملكة العربية السعودية، تجنباً لأي تداعيات سلبية. مع مرور الوقت، بدأ الجانب التركي يظهر سياسية تحفظية، وانضباطاً أكبر للخطوات في الملف السوري بحكم المتغيرات وتضارب مصالح الفاعلين الدوليين.
تراجع الحديث عن الدور العسكري
حتى ما قبل بداية شهر نيسان/ أبريل الفائت التي شهدت هجمات إسرائيلية جوية واسعة على مواقع عسكرية وسط سوريا، انتشرت تسريبات مكثفة عن توجه دمشق وأنقرة لإقامة قواعد عسكرية تركية جديدة في حماة وحمص، ستساهم في حماية الأجواء السورية وتقديم الاستشارات الأمنية والتدريبات للجيش السوري.
على إثر التصعيد الإسرائيلي الذي بررته تل أبيب بالمخاوف من النفوذ التركي في سوريا، عقدت إسرائيل وتركيا لقاءاً أمنياً برعاية الحليف المشترك للجانبين المتمثل بأذربيجان، تخللها تأكيدات من الطرفين بعدم الرغبة بالاشتباك في سوريا.
أيضاً، لعبت واشنطن فيما يبدو دوراً مؤثراً في ضبط الموقف بين أنقرة وتل أبيب في سوريا، حيث أكد الرئيس الأميركي دونالد ترامب لرئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو عند استقباله في البيت الأبيض في نيسان/ أبريل الفائت، ضرورة التنسيق مع تركيا لحل القضايا العالقة في سوريا، حيث لا يرغب ترامب فيما يبدو بزيادة منسوب التصعيد بين حليفين رئيسيين له في منطقة الشرق الأوسط، وبالتالي سيستلزم الأمر مراجعة كل من أنقرة وتل أبيب لخطواتهما في الملف السوري.
في المقابل، تستمر تركيا بالتركيز على الأولوية الأمنية في الملف السوري المتمثلة بالحفاظ على وحدة الأراضي السورية، وعدم السماح لمشروع الإدارة الذاتية الكردي بترسيخ نفسه على حدودها، ومن خلال التنسيق مع الإدارة السورية التي تحرص أنقرة على أن تحوز على شرعية كاملة، مع عدم إظهار نزعة تركية لتوسيع دورها ليشمل مختلف المجالات في سوريا كالسيطرة على مشاريع طرق النقل، أو رعاية تأسيس الجيش السوري الجديد.
حرية أوسع للإدارة السورية
من الواضح أن الموقف التركي يتيح حرية أوسع للإدارة السورية في سياساتها الخارجية، حيث تراجع التصعيد الإسرائيلي ضد المواقع الحكومية السورية إلى مستوى منخفض للغاية منذ منتصف نيسان/ أبريل الماضي، كما أن الطلعات الجوية التي نفذتها الطائرات الإسرائيلية فوق دمشق خلال عمليات سيطرة القوات الحكومية على أشرفية صحنايا الخاضعة لسيطرة فصائل درزية لم تكن معيقة لهذه السيطرة، بل بدى لافتاً في البيان الذي أصدرته الحكومة الإسرائيلية، الحديث عن مطالبتها للإدارة السورية بمنع انتهاكات بحق الدروز مما أعطى انطباعاً بأن تل أبيب تجري اتصالات مباشرة مع دمشق.
من شأن السياسة التركية التحفظية تجاه الملف السوري أن تعطي انطباعاً للفاعلين الدوليين بأن الإدارة السورية لا تتحرك فقط من منظور العلاقة مع تركيا، خاصة وأن دمشق تبدي انفتاحاً على تطوير العلاقة مع فاعلين إقليميين ودوليين مهتمين بالملف السوري، ولديهم تنافسية مع تركيا مثل الإمارات وفرنسا، وقد أثمر هذا المسار توقيع اتفاقية بين الحكومة السورية وشركة فرنسية تتضمن استثمار ميناء اللاذقية، مما يعني أن باريس ستصبح دولة فاعلة في خطوط نقل البضائع والطاقة عبر البحر المتوسط باتجاه أوروبا.
على العموم، من المتوقع أن تستمر تركيا بالعمل على حشد الدعم الدبلوماسي للإدارة السورية من خلال الاتصالات مع إدارة ترامب، لأن من مصلحة أنقرة أن تسيطر الحكومة السورية على كامل أراضي البلاد بحكم المصالح الأمنية المشتركة بين الجانبين، والمخاوف من محاولات تقسيم سوريا إلى كيانات متعددة، وأيضاً ستركز أنقرة على علاقات تجارية واقتصادية مثمرة، دون إظهار رغبتها بالهيمنة في الملف السوري.
المدن
———————————
إسرائيل تختبر تركيا: كيف تُدار معارك “الإحماء” في صراع الدول؟/ كمال أوزتورك
2/5/2025
سنحت لي فرصة الحديث مع وزير الدفاع الوطني التركي يشار غولر قبيل اجتماعٍ ما، وكما هو متوقّع، ما إن طُرِق موضوع سوريا حتى سارعت إلى سؤاله عن آخر المستجدات، فقال: “الآلية التي أنشأناها لمكافحة تنظيم الدولة، والتي ناقشناها في اجتماع عُقد في الأردن، ستدخل حيز التنفيذ قريبًا. نحن عازمون على ذلك. ومن الأمور الأخرى ذات الأهمية بالنسبة لنا أن تُلقي المنظمة الإرهابية (في إشارة إلى حزب العمال الكردستاني أو كيانات مشابهة) السلاح وتقوم بحلّ نفسها. غير أن إسرائيل ما فتئت تسعى لإثارة المشاكل في كل هذه المسائل، ولكن عبثًا، فنحن عازمون على تنفيذ قراراتنا”.
وفي اللحظة التي كان يُكتب فيها هذا المقال، كانت الطائرات الحربية الإسرائيلية تحلّق فوق القنيطرة، بينما دخلت مجموعات درزية صغيرة، مدعومة بشكل غير مباشر من إسرائيل، في اشتباكات مع الجيش السوري هناك.
وفي الوقت نفسه، صرَّح الرئيس رجب طيب أردوغان، في تصريحات له على متن الطائرة أثناء عودته من إيطاليا، قائلًا: “هجمات إسرائيل محاولة لعرقلة الإدارة الجديدة في سوريا. وحدة الأراضي السورية بالنسبة لنا أمر لا يمكن التنازل عنه، ولن نسمح بفرض أمر واقع”.
منذ اللحظة التي بدأت فيها إسرائيل ترى في الإدارة الجديدة في سوريا، وفي الوضع الجيوسياسي المتشكل هناك تهديدًا لها، لم تكفّ عن محاولات إثارة الفوضى داخل البلاد واختبار تركيا.
تنشر مراكز الفكر ووسائل الإعلام الإسرائيلية تقارير تتحدث عن النتائج المحتملة لصدام تركي- إسرائيلي، في محاولة للتعبير عن “جدية” الوضع. لكنها لا تكتفي بذلك، بل تمارس أيضًا حملات دعائية ضد تركيا في الإعلام البريطاني وبعض المنصات الناطقة بالعربية، مستغلة الملف السوري.
كل هذا يدل على أن الساحة السورية تُستخدم كميدان للإحماء ولاختبار احتمالات الصدام بين تركيا وإسرائيل. فإسرائيل تسعى من خلال هذه التجربة أن تكتشف مدى جدية تركيا، ومدى اعتبار الإدارة السورية الجديدة أمرًا لا غنى عنه بالنسبة لأنقرة، ومدى قدرة تركيا على التشدد في مواقفها تجاه إسرائيل.
في لقاء أجريته مع أحد القادة رفيعي المستوى في القوات المسلحة التركية، سألته عن المقارنة العسكرية بين تركيا وإسرائيل، فأجاب بأن هذه مقارنة “مضحكة”، مؤكدًا أن لا فرصة لإسرائيل في مواجهة الجيش التركي.
وأضاف بلهجة حازمة: “قاعدة الاشتباك لدينا واضحة: نرد على أي هجوم يُشنّ علينا بالمثل، بغض النظر عن الدولة التي تقف خلفه. أي هجوم على قواعدنا العسكرية يُعدّ سببًا للحرب”.
تصريحات المسؤولين الأتراك كافة تسير في هذا الاتجاه. وإسرائيل تقرأ هذه الرسائل جيدًا. لكن السؤال هو: إلى أي مدى يمكن لتركيا أن ترد على إسرائيل، خاصة، وهي تتلقى دعمًا أميركيًا كاملًا؟ هذا ما تسعى إسرائيل لاختباره.
تركيا، دون شك، سترد على أي تطور ميداني سلبي تواجهه، لكن الرد قد لا يكون بأساليب عسكرية تقليدية. فالأمر يتوقف إلى حد بعيد على أساليب التحرش التي تنتهجها إسرائيل.
لا أحد يتوقع من إسرائيل أن تُقدم على خطوة مباشرة تؤدي إلى صدام، لكن من الواضح أنها لم تعد تخفي رغبتها في إضعاف الإدارة السورية الجديدة، بل إنها مستعدة للقيام بكل ما يلزم لتحقيق ذلك. ولهذا السبب، يُختبر في الميدان من هو الأقوى عزمًا وبأسًا.
واختبار صراع أميركي-صيني في كشمير
وعلى بعد آلاف الأميال من سوريا، هناك اختبار آخر للإرادة. لقد ألفنا التوتر القائم منذ سنوات بين الهند وباكستان، خاصة في قضايا مثل كشمير والمياه والمهاجرين وأمن الحدود.
ولكن الأحداث الأخيرة اكتسبت ديناميكية مغايرة ومتصاعدة بشكل غير متوقع. لعل تفاصيل الاشتباكات التي قُتل فيها 25 شخصًا في كشمير لم تعد بحاجة إلى سرد. ما يغير المعادلة هذه المرّة هو التموضع الجديد لكل من الصين والولايات المتحدة في هذا الصراع.
فبينما كثفت الولايات المتحدة من علاقاتها مع الهند، بلغت علاقات الصين مع باكستان ذروتها. وأعلن وزير الدفاع الباكستاني أن روسيا والصين ستشاركان في التحقيق في أحداث كشمير. كما أعلنت الصين، ردًا على تعليق الهند لاتفاقيات المياه، أنها قد تقدم على قطع المياه المتدفقة من أراضيها نحو الهند، في ردٍ على ما اعتبرته موقفًا عدوانيًا تجاه باكستان.
وفي حين تواصل الولايات المتحدة دعواتها الظاهرية لخفض التوتر، فإنها، في الخفاء، لا تتوانى عن تأكيد دعمها الكامل للهند.
هل تصبح هذه الساحة اختبارًا للقوة بين أميركا والصين؟
من الواضح أن الحرب التجارية التي شنتها الولايات المتحدة بهدف كبح نمو الصين وزيادة تأثيرها العالمي، لم تحقق النتائج المرجوة. فكثيرًا ما تراجع ترامب عن تصريحاته النارية.
ومع ذلك، تدرك الولايات المتحدة أنه لا بدّ من اتخاذ خطوة حاسمة قبل الموعد الذي حددته كآخر فرصة لوقف التمدد الصيني. ويبدو أنّ التوتر بين الهند وباكستان يُرى اليوم كفرصة لاختبار القوى في منطقة مجاورة مباشرة للصين.
في مشهد معقد تشارك فيه بنغلاديش وأفغانستان وروسيا، قد ترغب الولايات المتحدة في معرفة موقف الصين في حال اندلاع صراع مسلح: إلى أي مدى يمكن أن تُستنزف، وكم من مواردها يمكن أن تستهلك؟ ومن المؤكد أن واشنطن ترى أن إجراء هذا الاختبار على بعد 13 ألف كيلومتر من أراضيها أمر آمن.
وكما فعلت في الحروب التجارية، فإن صبر الصين الإستراتيجي الشهير سيتصدر المشهد في هذه الأزمة، وستسعى للخروج منها برباطة جأش محققةً أكبر قدر ممكن من المكاسب.
لكن ما فاجأني هو استعداد الصين، ولأول مرة، لأن تأخذ جانبًا واضحًا في صراع مباشر. ويبدو لي أن نهاية هذه الأزمة ستشهد على الأرجح مزيدًا من التوغل الصيني داخل باكستان، فضلًا عن تعزيز نفوذها في بنغلاديش وأفغانستان والدول المماثلة، من خلال إظهار الخطر الذي يشكله التحالف الهندي- الأميركي.
وأحسب أن الولايات المتحدة تضغط على كل الأزرار في حالة من الهلع من أجل عرقلة الصين واحتوائها وإيقافها. لكن، وكما في الأزمات السابقة، تخرج الصين أقوى في كل مرة، بينما تتراجع الولايات المتحدة خطوة إلى الوراء.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
كاتب وصحفي تركي
الجزيرة
———————————-
عشائر شرقي سوريا.. صراع الولاءات ومخاض الدولة الجديدة/ أنس الفتيّح
2025.05.02
تعود جذور الوجود العشائري في منطقة الجزيرة الفراتية إلى هجرات قديمة من الجزيرة العربية، لحقتها هجرات بعد الفتوحات الإسلامية حيث استقرت القبائل حول نهر الفرات، مشكلةً مجتمعات متماسكة.
وقد شكلت العشائر العربية في المنطقة الشرقية من سوريا، وخاصة في محافظة دير الزور، نسيجاً اجتماعياً وسياسياً معقداً له جذور تاريخية عميقة، لقد لعبت هذه العشائر أدواراً متباينة عبر المراحل السياسية المختلفة التي مرت بها سوريا، من العهد العثماني مروراً بالانتداب الفرنسي وصولاً إلى عهد الأسد الأب والابن، اليوم، وفي خضم الوقع السوري المتغير، تبرز العشائر كفاعل رئيسي في المشهد السياسي والأمني بالمنطقة الشرقية، حيث تتقاطع ولاءاتها بين القوى المحلية والإقليمية والدولية المتداخلة.
من العثمانيين إلى حزب البعث
خلال الحكم العثماني، اتبعت الدولة سياسة المنفعة المتبادلة مع العشائر، حيث منحت شيوخها النفوذ والسلاح مقابل مساعدتهم في السيطرة المركزية على المناطق النائية.
تحول هذا الوضع مع الانتداب الفرنسي، حيث حاول الفرنسيون شراء ولاء العشائر عبر منح شيوخها أراضي واسعة وامتيازات، مما خلق حالة من الاستقطاب بين المدن والقبائل.
ومع الاستقلال وإلغاء قانون العشائر عام 1953، ثم سياسات الرئيس عبد الناصر خلال الوحدة مع مصر، تراجع دور العشائر بشكل ملحوظ .
سياسة الأسدين اتجاه العشائر
اتبع حافظ الأسد سياسة مزدوجة تجاه العشائر، فمن ناحية عمل على تقليص نفوذ الشيوخ التقليديين، ومن ناحية أخرى خلق قيادات عشائرية جديدة ضعيفة ومرتبطة بالمؤسسات الأمنية.
وفي عهد بشار الأسد، تم توظيف بعض الشيوخ في مواجهة خصومه السياسيين، بدا ذلك جلياً في الرد على الحراك الذي نظمته قوى كردية في الجزيرة عام 2004.
دور العشائر بعد الثورة
الانقسامات العشائرية وتباين المواقف
زادت محاولات النظام استمالة العشائر بعد اندلاع الثورة عام 2011، فقد عقد ضمنياً تحالفات مع شيوخ العشائر، وتباينت مواقف العشائر بين مؤيد للنظام ومعارض له، ففي حين وقف بعض الشيوخ مع النظام، انضم آخرون إلى الثورة أو اتخذوا مواقف محايدة . كما ظهرت ولاءات جديدة لقوات سوريا الديمقراطية (قسد) أو لفصائل المعارضة الأخرى، وفي معظم الأوقات كان ولاء شيوخ العشائر وخاصة المستحدثين منهم للجهات المتغلبة.
العشائر بين قسد والنظام
في مناطق سيطرة قسد اتبعت الأخيرة في البداية سياسة النأي بالنفس تجاه النزاعات العشائرية، خشية أن يُحسب تدخلها على طرف ضد آخر، لكنها لاحقاً حاولت بناء تحالفات مع شخصيات عشائرية موالية لها، متجاهلة الشيوخ التقليديين، مما أثار غضب العديد من العشائر.
شهدت دير الزور احتجاجات متكررة ضد سياسات قسد، خاصة فيما يتعلق بسوء الخدمات والتجنيد الإجباري والتمييز ضد العرب أصحاب الأرض، كما اشتكى السكان من تعيين قسد لشخصيات غير ممثلة حقيقيةً للعشائر، وتطورت الأمور لتصل إلى مواجهات مسلحة توجت بتشكيل جيش العشائر، وقد حاول النظام استغلال التصعيد عبر دعم هذا الجيش ، بمباركة إيرانية وأحياناً بدعم مباشر من ميليشياتها.
التنافس الدولي على العشائر
تحولت العشائر في دير الزور إلى ساحة صراع مفتوحة بين القوى الدولية، حيث تدعم الولايات المتحدة قوات قسد وتسعى إلى إشراك بعض العناصر العشائرية في الإدارة المحلية، في حين تحاول روسيا تعزيز حضورها عبر التواصل مع العشائر في منطقتي الميادين والبوكمال. في المقابل، تعمل إيران على تنظيم لقاءات مع شيوخ العشائر وتدعم التشكيل العسكري الجديد المعروف بجيش العشائر هذا عدا عن المحاولات الحثيثة للتشييع والتي قد نجحت فعلاً في بعض المواضع، أما تركيا، فتركز على دعم تشكيل مجالس عشائرية في المناطق التي تقع تحت نفوذها، في حين تلعب قطر دوراً مشابهاً لدور تركيا ولكن بدعم مالي أكبر وخبرة أعمق في فهم تركيبة العشائر.
النزاعات العشائرية
شهدت المنطقة الشرقية، وخاصة دير الزور، نزاعات عشائرية متكررة، كانت هذه النزاعات انعكاس لخلاف القوى التي تواليها العشيرة سياسياً ، أو العكس أي أن تحالفات الشيوخ وخلافاتهم السابقة كان أساس لاختياراتهم السياسية، خلفت النزاعات قتلى وجرحى وتجددت الثارات القديمة ،عكست هذه النزاعات تصدع البنية العشائرية التقليدية وتأثير العوامل خارجية فيها.
الدور المتوقع للعشائر في مرحلة ما بعد الأسد
تحديات الوضع الراهن:
تواجه العشائر تحديات بنيوية عميقة، إذ فقدت تماسكها التقليدي نتيجة للتنازع الداخلي والتشظي في الولاءات السياسية، ما أدى إلى تصدع في بنيتها الاجتماعية، كما تراجعت مصداقية كثير من شيوخ العشائر بسبب تحالفاتهم المتناقضة مع مختلف أطراف الصراع، مما أضعف موقعهم أمام قواعدهم الشعبية، ومع استمرار التدخلات الإقليمية والدولية ومحاولات توظيف العشائر لخدمة أجنداتها الخاصة، ازداد المشهد تعقيداً، وإلى جانب ذلك، أدى ابتعاد كثير من الشيوخ وبيوت المشيخة عن أرضهم الأصلية واستقرارهم مع عائلاتهم خارج البلاد إلى تقليص نفوذهم وتأثيرهم ضمن مجتمعاتهم التقليدية.
السيناريوهات المحتملة:
في ظل استمرار الظروف الحالية، تبدو احتمالات بقاء العشائر في حالة من التشرذم والانقسام قائمة ما لم تُطرح حلول واقعية تتناسب مع معطيات المرحلة الجديدة، ومع ذلك، يمكن للعشائر أن تلعب دوراً محورياً في الوساطة، والمصالحة المجتمعية، وإقرار السلم الأهلي والعدالة الانتقالية بأسلوب قبلي، وهو ما يتطلب معالجة الانقسامات الداخلية وتجاوز الولاءات الضيقة التي تعيق هذا الدور، كما أن إعادة التنظيم تطرح خياراً آخر أمام العشائر، إذ قد تسعى بعض التكتلات العشائرية إلى إعادة ترتيب صفوفها لتتحول إلى قوة ضغط سياسي في المرحلة الانتقالية، مستفيدة من الروابط القائمة داخل الإدارة، خصوصاً مع الحديث المتداول عن تخصيص كوتا للعشائر ضمن المجلس التشريعي المزمع تشكيله، ما قد يمنحها وزناً جديداً في المشهد السياسي المقبل.
كان الانتماء ثورة:
فيما يبقى الحنين يملأ قلوب الأحرار، ينبض الشوق في صدورهم إلى مبادئ الثورة المباركة، إلى تلك اللحظة النقية التي أعادت صياغة معاني الانتماء وأعطت له بُعداً أسمى من المنطقة والعشيرة، كان المنتفضون في دير الزور حينها يضعون الثورة فوق كل اعتبار، يرون فيها كرامتهم وهويتهم ومجدهم، ويعتزون بانتمائهم لها أكثر من أصولهم وأنسابهم، عندها أصبحت الثورة عشيرتهم الكبرى، وقتها كان الجواب الأوحد عن سؤال العشيرة وبكل أنفة وفخر: (أنا من عشيرة الأحرار).
تلفزيون سوريا
————————————-
الدراما السورية: الوقوف على ضفّة النهر الأحمر/ محمد أمين
06 مايو 2025
ربما ستحتاج الدراما السورية وصنّاعها زمناً كي تستوعب صدمة الانتقال من ضفةٍ إلى أخرى، من زمن إلى آخر، فالتغيير عميق جداً. لو هُيئ لبشّار الأسد الانتصار وكسر إرادة السوريين، لكانت الدراما مضطرّة لتخليد (وتوثيق) سردية ذاك النظام المخلوع القائمة على الكذب والبهتان. وهي كانت بدأت بالفعل في السنوات العشر الأخيرة في هذه المهمّة السوداء من خلال مسلسلات وأفلام رديئة ومرتجلة، حاولت من دون جدوى نسف الحقيقة، لتبرئة هذا النظام من جرائمه. أمّا وقد انتصر السوريون بعد ملحمة ثورية، فإن الدروب مفتوحة لكل الكتّاب والمخرجين لتناول الملحمة التي كان وقودها الناس الطيبون والشجعان. حقيق بهؤلاء أن تكون سير حيواتهم منهلاً لا ينضب للدراما (تلفزيون وسينما) لتخليد مرحلة كاملة، عنوانها الأبرز الإصرار على التغيير واقتلاع بذرة الشر.
دراما التلفزيون فن متأصل في مسيرة الثقافة السورية، بدأ مبكّراً مع انطلاق بثّ التلفزيون السوري عام 1960. قدّمت الدراما السورية في الستينيات والسبعينيات من القرن الفائت أعمالا لا تزال خالدة في ذاكرة السوريين. إلى أن جاء عقد الثمانينيات فتحوّلت الدراما التلفزيونية إلى صناعة حقيقية جذبت رؤوس الأموال الخليجية التي اعتمدت على مبدعين سوريين في إنتاج أعمال عديدة، وخصوصاً التي تتعاطى مع التاريخ. في التسعينيات، ومع ثورة الفضائيات، تصدّرت الدراما السورية المشهد الإعلامي العربي، لا سيما أن الدراما المصرية كانت تعاني مشكلاتٍ عديدة، فضلا عن ترحيب المشاهد العربي بدراما جديدة تحمل بذور نضج وتميّز، ينهض بها ممثلون موهوبون تعلّموا الأداء في المعهد العالي للفنون المسرحية.
مطلع الألفية الجديدة يعد الانطلاقة الحقيقية للدراما السورية التي كانت قد نضجت إلى حد بعيد، سواء من حيث النص والإخراج، أو من جهة الظرف الإنتاجي. في أواخر عام 2001، قدّمت الدراما السورية عملاً تاريخياً، ربما يعد الأعلى شعبية وتأثيرا في المشرق العربي، وهو مسلسل “الزير سالم”، الذي كتبه ممدوح عدوان، الذي قرأ هذه السيرة الشعبية بطريقة استفزت الوجدان والمخيال العربي، وأخرجه حاتم علي. وكان هذا العمل بمثابة إعلان صريح عن موهبة سورية سوف تلعب دورا غاية في الأهمية في الدراما التاريخية. نشأت شراكة متميزة بين كاتب مبدع، هو وليد سيف، ومخرج صاحب مشروع ثقافي هو حاتم علي، فقدّما أهم الأعمال التاريخية في تاريخ الدراما العربية على الجملة: صلاح الدين الأيوبي، وثلاثية الأندلس (صقر قريش، ربيع قرطبة، ملوك الطوائف)، والتغريبة الفلسطينية، التي تابعها السوريون بشغف وتأثر في عام 2004 غير مدركين أنهم سيمرّون بكل تفاصيلها الموجعة والمؤلمة بعد عقد. أدرك النظام الأسدي البائد أهمية الدراما التلفزيونية في حياة السوريين، فاتخذها مطيّة سهلة القياد من أجل الوصول السريع إلى وجدان السوريين لحرفه، فدعم، كل الدعم، ما باتت تُعرف بـ”الدراما الشامية”، وعنوانها الأبرز مسلسل “باب الحارة” الذي شوّه وجه دمشق وثقافتها. وباتت الدراما تجارة تتحكّم بها شركات إنتاج مرتبطة بقنوات تلفزيونية عربية بلا مشروع سوى التسلية والترفيه السطحي.
قبيل اندلاع الثورة السورية بعد أشهر، لم يتردّد النظام البائد في استخدام الدراما التلفزيونية خنجراً لطعن عقيدة غالبية السوريين، وبعثرة هويتهم، فظهر مسلسل (وقفت خلفه أجهزة النظام الأمنية)، كان سببا لاستياءٍ عمّ البلاد، “ما ملكت أيمانُكم” للكاتبة هالة دياب وللمخرج الأكثر قربا وانتفاعا من نظام الأسد نجدت أنزور. لقد تجرّأ على المؤسّسة الدينية السورية، رغم قربها منه وتسويقها المتكرر له على المنابر. اعتُبر العمل حربا على الإسلام الشامي الوسطي، ما دفع أشهر علماء الشام، محمد رمضان البوطي، والمصنّف ضمن المدافعين عن النظام البائد (قتل في عام 2013)، إلى التحذير من الخطر الداهم على البلاد، نتيجة هذا العبث غير المسبوق من خلال ذاك العمل الذي يعدّ الأسوأ في تاريخ الدراما السورية، وقال إنه رأى “غضبة إلهية عارمة، تسدّ بسوادها الأفق، هابطة من السماء وليست من تصرّفات الخلائق”.
تجمّعت في ربيع عام 2011 غيوم الثورة في السماء السورية قادمة من سماوات عربية قريبة. كانت حدثاً متوقّعاً ومنتظراً، فالبلاد في ذلك الحين كانت تغرق في الفساد بكل وجوهه. داهمت الثورة الدراما السورية التي كانت قد انجرفت في ذلك العام إلى القاع. بدأ الفرز داخل الوسط الفني السوري بين مؤيد أو معارض أو صامت باحث عن مصالح شخصية ضيقة، مدفوعاً من الخوف وبطش الأجهزة. طوال سنوات الثورة الطويلة، ظهرت عشرات الأعمال التي بقيت على ضفة النهر الأحمر لا تتجرّأ على الخوض فيه. مرّت هذه الأعمال من دون ضجيج إعلامي، لسطحيتها ومحاولة بعضها تبرير إجرام النظام بحقّ السوريين. أما وقد انتصروا فلم تعد للدراما وصنّاعها الذين انحازوا للقاتل المكانة التي فرضها النظام عليهم. ولعلّ مشهد تجاهل السوريين قبل أيام دريد لحّام (90 عاماً)، الذي كان أكثر الفنانين قرباً من النظام البائد، العقاب الأقسى الذي تلقّاه في حياته. تجاهله يعني تجاهل مرحلة كاملة. حاول بعض صنّاع الدراما القديمة ركوب الموجة الجديدة، عبر التعاطي المرتجل والتجاري مع واحد من أكثر الملفات وجعاً، وهو ملف المعتقلين في سجون الأسد، إلا أن السوريين كانوا لهم بالمرصاد وأوقفوهم عند حدّهم. قالوا: إن الوجع لن يكون تجارة لدى فناني الأسد المخلوع.
العربي الجديد
——————————–
السوريون ووزارة الثقافة… الماضي أم المستقبل؟/ أحمد جاسم الحسين
06 مايو 2025
لو كنت مكان وزير الثقافة السوري، لكان أول عمل أقوم به هو قراءة تاريخ الوزارة: من عمل بها، وما هو تاريخها، ما المضيء فيه وما المظلم؟ كون الوزير عاش الكثير من حياته خارج البلد، قراءة التاريخ في هذا السياق هدفها أن أتعرف لأطور، وكي تترسخ في ذهني مكانة الوزارة، وأعرف قضها وقضيضها، تبرها وقمحها وزوانها.
معرفة ما قام به الأسلاف في الميدان الذي أقوم به ضرورة، كي لا أكرر أعمالهم، أو أخطئ في تقدير جهودهم. المعرفة مدخلي ليس للأشخاص بل كذلك للمؤسسات والهيئات التابعة له. ثم أجري جلسات عصف مع ذاتي لأقدم عصارة تفكيري لتطوير ما هو موجود، ولأن الفكرة تقدحها الفكرة الأخرى والعصف لا ينمو إلا بالخبراء فسأدعوهم، خاصة أولئك الذين يختلفون مع طريقة تفكيري، سأستمع إلى المدراء الحاليين والسابقين عن الصعوبات التي منعتهم عن العمل الفاعل والمؤثر، دون أن تفوتني فكرة التعرف إلى طريقة عمل الوزارات العربية والأجنبية، سأقرأ الكثير عن جهود الثقافة في رأب الصدع في مراحل ما بعد النزاع وأطلع على جهود دول مرت بما يشبه الوجع السوري.
يبدو أن مشاغل وزارة الثقافة في سورية اليوم أنها مشاغل نخبوية، قد يكون ذلك صحيحاً، كون السوريين مشغولين حالياً بما قبل الحاجة إلى الثقافة. مشغولون بالحاجات اليومية: لقمة الخبز، والأمان، والخدمات الأساسية اليومية، والصحة، والتعليم. فلن يطرق باب وزارة الثقافة جائع أو محتاج إلى عمل أو من لديه عملية جراحية.
أن تكون وزير ثقافة يعني أنك شخص محظوظ، فقد تمَّ تكليفك بوزارة ذات مهمات باردة، تتيح لمن يكون صاحب القرار فيها أن يأخذ كامل وقته؛ كي يخطط ويضع استراتيجيات لجعل الثقافة في سوريا في محور اهتمام المواطن.
المهم في كل ذلك أن يكون لديه رؤية واستراتيجية. و استراتيجية وزارات الدولة حصيلة: السياسات العامة للدولة، والحوار مع المختصين والخبراء (في سياق مقالنا هذا المثقفين والمنشّطين) والرؤية الشخصية لصاحب القرار. ثم تتولى أجهزة الوزارة تنفيذ الخطط، ويتابع الوزير التنفيذ والإشراف وتعديل ما يحدث إبّان التنفيذ.
ماذا ينتظر مثقفو بلد كحالة سورية من وزارة الثقافة؟ بلدٌ خرج من نزاع استمر عقداً ونصف العقد، وتخلص من نظام استبدادي؛ جثم على قلوب السوريين أكثر من نصف قرن!
اقتصارُ وزارة الثقافة على تلبية حاجة المثقفين فيه ابتسار لدورها، وتقوقع على النخبة، ربما جاء هذا الدور المبتسر من تعريفات قديمة للثقافة، يوم كان المثقف فاعلاً كرائد ومفكر وصانع سياسات، أما اليوم فتغير دور الثقافة بعد أن مشت البشرية مراحل.
أهم ما ينتظره السوريون من وزارة الثقافة ألا تبقى وزارة ذات طبيعة نخبوية، فمن غير المعقول أن تكون الوزارة الراعية للفنون والآداب والمسرح والسينما والموسيقا والكتاب والتراث وزارة غير جماهيرية، أو مرتبطة بالنخبة فحسب، أو بمجموعة ممن يضعون “المشط في جيب قمصانهم” ويدخنون الغليون ويلبسون نظارات بعدسات ثخينة وفقاً لصورة المثقّف المكرسة في السينما العربية.
كيف تتخلص الوزارة من نخبويتها لتغدو وزارة جماهيرية يعني متابعة ما يحدُث في العالم وما حدث على صعيد التوصيل وتغير مسارات الأنشطة، لم يعد هناك من لديه وقت ليحضر محاضرة لطرف واحد، بل هناك لدينا “البودكاست” الواقعي، أي الحوارات التي يديرها مختصون، فالإلقاء ولّى زمانه، وتشتت وسائل التواصل الاجتماعي ترك بصماته!
وزارة الثقافة معنية كذلك بأن تعيد النظر في دورها والانتقال إلى دور الرعاية بدل الاستحواذ والتعددية بدل اللون الواحد بما يعكس التنوع السوري، فهل لديها مثل هذه النية؟
اليوم، ينتظر منها أن تكون منشطّة للحراك الثقافي وضامنة لتنوعه وليس احتكاره، فالتعددية في العمل الثقافي فيها إبراز لغنى البلد وقدرته على إنتاج أنواع مختلفة من الإبداع.
سوريا خارجة من نزاع طويل، هذا يعني أن تراثها المادي واللامادي قد تعرض لتخريب وتشويه وسرقة وتدمير، من سيقوم بملء فراغات ما حدث؟
نتيجة الثقافة ذات الطابع التعبوي التي مست سوريا فترة طويلة؛ فقد كان الكثير من الإنتاج الثقافي الكتابي والمرئي والسموع والفني أقرب ما يكون للدروس، هناك أحد ما سيقول: حتى طريقة إعطاء الدروس قد تغيرت، لم يعد التجييش حلاً أمثل.
البوصلة ذات الطابع القومي كانت حجة لتغييب التنوع الداخلي السوري، وحدها وزارة الثقافة القادرة على تدوين الذاكرة السورية من سرد وفنون شعبية وسواها، إذ إنه لم يتح لسوريا أن تركز يوماً على ذاكرتها الوطنية، بل غيبت تلك الذاكرة نتيجة المبالغة بالاهتمام بالطابع العربي، التوازن بين البوصلتين أمر تحتاجه الثقافة، ولنا أن نتعلم من تجارب الآخرين.
لم تكن وزارة الثقافة فيما مضى في جوانب كثيرة من عملها ممثلة للسلطة تماماً، بل بقيت تشتغل في منطقة رمادية، معتمدة على اشتغال مثقفين كثيرين كانوا يعملون فيها، وكذلك على وجود شخصيات قريبة من السلطة، وتركت جوانب كبيرة من عملها في المنطقة الرمادية وقد ارتبطت بشخصية الشخص الذي يديرها، قد يكون موالياً فتغدو المخرجات موالية وقد يكون معارضاً فتغدو المخرجات ذات طبيعة فنية كما حالة المثقف المعروف أنطون مقدسي.
قيل عن وزارة الثقافة يوماً إنها وزارة المعارضين، وفي مؤتمرات عدة لحزب البعث طالب البعثيون أن تكون جزءاً من أجندة القيادة القطرية، ويوم انتهى عهد نجاح العطار وبداية عهد الوزيرة مها قنوت حدثت صدامات كثيرة بين رؤيتين في الوزارة راح ضحيتها كثيرون!
عايشتُ وزارة الثقافة خمسة وثلاثين عاماً، وارتبطتُ بحوارات مع معظم الفاعلين فيها، وقرأت منشوراتها نحو نصف قرن، يمكنني القول اليوم: إنها الوجه الأضعف تعبيراً عن النظام البائد، والأقرب إلى المثقفين السوريين!
في خضم التحولات التي تشهدها سورية بعد رحيل النظام البائد، تبرز الثقافة كمجال حيوي يتطلع إليه المواطنون، و ليس فقط كمصدر إلهام، بل بصفتها أداة فاعلة في بناء المستقبل.
الثقافة اليوم ليست ترفاً أو حكراً على النخب، بل هي حقٌّ لكل فرد، ومجالٌ يتيح للجميع التعبير عن آرائهم وتطلعاتهم والبحث عن “سورياهم”.
أدرك السوريون أن الأزمة التي عصفت ببلادهم لم تكن سياسية أو اقتصادية فحسب، بل كانت ثقافية في وجه من وجوهها. ومن هذا المنطلق، يرون في الثقافة مفتاحاً للحل، وجسراً نحو التفاهم والتعايش. فبناء الدول لا يتم إلا بسواعد أبنائها، وتاريخهم، وثقافتهم التي تشكل هويتهم الجامعة التي تضمن لهم التعبير عن ذاتهم.
وزارة الثقافة ليست مؤسسة خدمية تقليدية، بل هي كيان استراتيجي يُعنى ببناء الإنسان، وصقل هويته، وتعزيز انتمائه الوطني. لذلك تتجدد الآمال بأن تشهد الوزارة نقلة نوعية تعبر عن قيم الحرية التي ثار السوريون لأجلها.
تاريخ وزارة الثقافة أظهر أن المثقفين السوريين قادرون على تقديم الكثير، إذا ما أُتيحت لهم الفرصة. فقد أثبتت إصدارات وزارة الثقافة، من ترجمات ومجلات، حضورها في الساحة العربية، ونالت تقدير العديد من المثقفين العرب، وكانت الرائدة في مجالات عدة.
لحظة التغيير والمنعطفات التاريخية لحظة مكثفة، تعلو فيها الآمال ويكبر حجم التوقع بعد انتصار الثورات، كون الثورة، في أحد أبسط تعريفاتها، احتجاج على واقع تراكمت أخطاؤه، ورغبة بتحقيق أهداف في مستقبل منشود، وهذا ما ينتظره المثقفون والسوريون من وزارة الثقافة في سورية الجديدة! فهل سيتحقق هدفهم وينظرون إلى مستقبل مختلف أم ستؤلمهم رقابهم من طول النظر إلى الماضي؟
العربي الجديد
———————————-
قصّة الشام بعيون قططها/ آلاء عامر
06 مايو 2025
تتحدث كتب التراث عن تاجر شامي كان مصاباً بحمّى “حبّ القطط”. كان الرجل، كما تصفه الحكايات، يمشي في شوارع الشام العتيقة مرتدياً طربوشه الأحمر وزيه الدمشقي الأنيق وهو يحمل كيساً جمع فيه بقايا اللحم ومخلفات المسالخ.
كان ذلك التاجر يقف قرب باب التكية السليمانية، فتتجمّع حوله القطط التي تعرفه ويعرفها، تتهادى إليه من كل درب، من تحت العربات، ومن فوق الأسطح، تموء وتقترب وتتزاحم، تحيط به وكأنها ترسم حوله هالةً من الرحمة، الرحمة تلك التي لطالما اتّصفت بها شوارع الشام الحنونة.
لم تحتفظ كتب التراث باسم ذلك التاجر، لكن جدتي أخبرتني أن بعض أهل الشام لقّبوه بـ “أبو هريرة”، تيمّناً بصاحب الرسول صلى الله عليه وسلم الذي اشتهر بحبّه القطط، ولم يكن ما يفعله أبو هريرة الشامي غريباً على دمشق وأهلها. فالمدينة، في زمن الدولة العثمانية، عرفت أول مبادرة من نوعها في العالم الإسلامي، وربما في العالم بأسره، “وقف القطط”؛ وهو وقفٌ خيريّ أنشأه المحسن الدمشقي أبو المعالي القيمري الكردي من حي القيمرية عام 1267، لقد بنى في الحي مدرسة ومسجداً وتولّى رعاية (وإطعام) القطط المشرّدة وتلك التي لا يستطيع أصحابها تأمين الرعاية والطعام المناسب لها.
وهو سابق للوقف الأكبر الذي عرفته دمشق على ضفة نهر بردى، وهو مرج الحشيش، والذي ظلّ وقفاً خاصاً للحيوانات التي هجرها أصحابها، أو بلغت سنّاً متقدّمة، ولم تعد مفيدة لأعمال الحمل والركوب، فكان هذا الوقفُ ملجأ لها تقضي فيه آخر أيامها بسلام، وتوضع فيه كل أنواع الحيوانات من خيلٍ وبغالٍ وحمير، وحتى القطط والكلاب، وقد ظلّ هذا الوقف مخصّصاً لهذه الغاية منذ القرن الثالث عشر حتى منتصف القرن العشرين، حين أقيم مكانه معرض دمشق الدولي.
وللقطط سرٌ كبير في دمشق، مثلها مثل اليمام (الستيتي) وهو سلالة من الحمام، تعيش في دمشق بسلام منذ آلاف السنين، ومثل الحمام الذي يرتبط وجوده بأماكن محددة مثل الجامع الأموي، وساحة المرجة، ولكن يبقى للقطط خصوصيّة في هذه المدينة، حيث يمكنك أن تراها تتمطى وتتثائب في أي مكان، دون أن تخاف من المارين، أو تكترث لهم، وهذا يدل على قوة العلاقة الآمنة التي تشعر بها بين أهل دمشق. فكم من الزمن مرّ، حتى توالدت آلاف الأجيال من القطط، وتوارثت جينة الإحساس بالأمان في هذا المكان. ولذلك ليس من المستغرب أن يتغنّى شاعر الشام نزار قباني بقطط المدينة التي تكرر ذكرها ووصفها والتغزل بها في شعره فقطط الشام كما قال نزار: للياسمين حقوقٌ في منازلنا/ وقطّة البيت تغفو حيث ترتاح.
حين بكت قطط الشام
ما ذاقه السوريون من قصفٍ وقتلٍ وتهجيرٍ وفقرٍ على يد نظام الأسد المجرم، لم تكن القطط بمنأى عنه، فقد عاشت قطط الشام المأساة بأشكال متعدّدة، فخلال حصار الغوطة اضطرّ بعض الأهالي مُكرهين ومقهورين، بعد أن تقطّعت بهم السبل إلى أكل القطط، ويُقال أنه بعد مجزرة الكيماوي صارت الغوطة خالية من قططها، وفي داريا بقيت القطط وحيدة تموء من شدة الهلع والخوف بعد المجزرة التي راح ضحيتها المئات، حتى القطط التي كانت تقتات على القمامة، ما عادت تجد في الحاويات ما يسدّ الرمق، بعدما ضاقت موائد الناس واقتصرت على أبسط أنواع الخضروات. أما القطط المنزلية، تلك التي كانت مدلّلة في أحضان البيوت، فتُركت لمصيرها حين فُرض على أصحابها الهرب، ولم يجدوا سبيلاً لحمْلها في رحلة اللجوء، فوجدت نفسها وحيدة، في شوارع لا تعرفها، تصارع السيارات والزحام والعطش والجوع.
ورغم قسوة تلك الأيام، لم تغب الرحمة تماماً، فقد ظهرت مبادرات من سيدات محبّات للحيوانات، نساء حاولن كسر عتمة المشهد، فأسّسن مبادرات وجمعيات صغيرة تعمل على إنقاذ القطط والكلاب المشرّدة، محاولاتٌ لكسر توحش الواقع رغم ضعف الإمكانات، اعتمدت تلك الجمعيات على تبرّعات المغتربين وأهل الخير، وكانت تسعى إلى توفير الدفء والرعاية لأرواح بريئة، أنهكها الجوع والخوف”. وشهدت هذه المبادرات نشاطاً تطوعياً لافتاً في أقسى الظروف التي مرّت على دمشق خلال سنوات الثورة، حتى أن صوراً انتشرت لأماكن مخصّصة لوضع الطعام والماء للقطط على جذوع الأشجار، في الفترة التي كانت فيها المعارك حول دمشق على أشدّها، وكان القصف الجوي لطيران النظام يدكّ أحياء أطراف العاصمة، وكانت القذائف تنزل على المدينة، ومع ذلك كان هناك من “يفكّر بقوت القطط والحمام”.
جنس دمشقي جديد من القطط
من يسيرُ اليومَ في شوارعِ الشام، لا بدّ أن تستوقفه ملامحُ الجمالِ والغرابةِ التي تحملُها قططُها، فالتزاوج الذي حصل خلال سنوات الحرب بين القطط المشرّدة وقطط الصالونات التي أُطلقت في الشوارع ولّد جنساً دمشقياً جديداً من القطط؛ سلالة دمشقية فريدة لا نعرف خصائصها الجينية، ولا نملك ترف دراستها حالياً، لكنّ صفاتها الجمالية لا تُخطئها العين؛ عيون يقظة بلون العنبر أو الرماد، وخفة وذكاء ومهارة في الحركة، قطط تحمل مورثاتٍ تشبه كثيراً ما ورثه السوريون والسوريات من قدرة على التحمل، والتكيّف، وصناعة الحياة من فتات الأمل خلال السنوات العجاف التي عشناها.
ومع عودة بعض السوريين من المهجر، خاصة من تركيا، حملوا معهم عادةً محببة نشأوا عليها هناك؛ عادة إطعام الحيوانات المشردة. ما إن عادوا حتى بدأت تظهر في شوارع دمشق إشارات رحمة خجولة، لكنها دافئة؛ صحن بلاستيكي صغير ممتلئ بالماء عند عتبة دكان، ووعاء فيه بعض الحبوب أو بقايا الطعام على زاوية الرصيف. ولكن اللافت أن هذه المبادرات لم تكن غريبة عن الشام، بل تلاقت بألفة وودّ مع عاداتٍ كان أهل المدينة قد اعتادوها خلال سنوات الحرب، فدمشقيون كثيرون، رغم ضيق الحال، كانوا يتركون فتات الخبز والماء للحيوانات، وكأنهم يطمئنون تلك الكائنات أن الشام، برغم الجراح، ما زالت تعرف الرحمة.
امتزجت العادات العائدة مع تلك التي صمدت، فتكوّن نهر صغير من الحنان اليومي يتدفق في زوايا المدينة. مبادرات فردية، نعم، لكنها باتت تشبه صلوات خفية تهمس بها الأرصفة كل صباح. ولم تعد القطط تتسلل خائفة كما في السنوات العجاف، بل باتت تمشي بخطى واثقة، كمن استعاد مكانه ومكانته. وكأنها تقول: “عدنا… وعادت دمشق”.
العربي الجديد
——————————–
هل لنظرية المؤامرة المذهبية وجاهة في وصول الأسد للسلطة؟/ فاطمة ياسين
06 مايو 2025
انهار نظام الأسد خلال عشرة أيام مثل بيت مصنوع من الورق، وفي ليلة واحدة تبخّر من بقي من أعمدة سلطة مطلقة استمرت نصف قرن. وكان من الممكن رؤية حصاد الفترة الأسدية كلها موزّعة على شريط الطريق الدولي الممتدّ من حمص إلى اللاذقية مروراً بطرطوس، عائلات كاملة وضباط هاربون ركبوا أية وسيلة مواصلات، بعد أن بدّلوا ألبستهم ليصلوا إلى قرى الساحل، إذ اعتبر كل هؤلاء أن السياج الذي كان يحميهم قد انهار في لحظة واحدة، وأصبحوا مكشوفين أمام الجميع، وطار في تلك الليلة إحساسٌ كان لديهم بالقوة والقدرة الفائقة، واختلّ شعورٌ زائفٌ بالأمان عاشته الطائفة التي ينتمي إليها الأسد عقوداً.
تنتشر على نحو واسع في الأوساط السورية نظرية تقول إن وصول حافظ الأسد إلى السلطة، وتمكّنه من البقاء في سدّة الحكم 30 عاماً، ثم تمرير الكرسي إلى ابنه من بعده، يرجع إلى مؤامرة سريّة حيكت في زمن الوحدة مع مصر، عندما كان حافظ الأسد يقضي فترة خدمته العسكرية هناك، حيث انخرط في تشكيل اللجنة العسكرية التي اقتصرت على ضبّاط متوسطي الرتبة ينتمون إلى أقليات متنوعة في سورية، كانت تجتمع سرّاً في مصر، ونسّقت العمل العسكري فيما بينها، وظلت محافظة على سرّيتها طوال فترة الوحدة ثم الانفصال، حتى وصول قيادة حزب البعث إلى الحكم عام 1963، وفي اللحظة المناسبة قفزت مجموعة حافظ الأسد ورفاقه إلى السلطة، بعد أن دخل عناصرها من ثغراتٍ عدّة في حكومة الانفصال، واستغلوا بعض ضباط الجيش المتنفذين، حتى استطاعوا اتخاذ مراكز في الصف الأول، ثم تمكّن الأسد من التخلص من رفاق اللجنة العسكرية واحداً تلو الآخر، وأبعد في ما بعد كل من حاول الوقوف في وجهه، ليبقى وحيداً لأطول فترة توفّرها له الحياة.
لا تفصّل نظرية المؤامرة المذهبية كثيراً في آلية التآمر بين أعضاء اللجنة العسكرية أنفسهم الذين تخلصوا بعضهم من بعض، ولكنها تصرّ على أن الأمر كان مبيّتاً ومنذ زمن بعيد، وقد مهّد كل أعضاء اللجنة لحدوثه، ولم يكن مفاجئاً أن يظهر حافظ الأسد في السلطة وقد أحكم الخطّة للوصول إلى أبعد مدى، ولم تقتصر الخطّة على تمكين الأسد، بل تعدّت ذلك لوصول الطائفة بأسرها إلى الموقع الأول، وقد تحقق ذلك بالتوريث.
لا تأتي هذه النظرية من الفراغ، فقد تشكّلت بالفعل لجنة من ضبّاط عسكريين سوريين يعملون في مصر في زمن الوحدة، وتحديداً في أواخر عام 1960، وجميع أعضاء هذه اللجنة من الضبّاط المنتمين إلى أقليات مذهبية: محمد عمران، وصلاح جديد، وحافظ الأسد، وعبد الكريم الجندي، وأحمد المير. كان هؤلاء يجتمعون في مصر، ويتناولون أموراً سياسية وعسكرية، ولم تنحلّ اللجنة بعد الانفصال ورجوع جميع الضبّاط السوريين إلى سورية. وبعد عودتهم، جرى تسريح بعضهم من الجيش، وأحيلوا إلى قطاعات مدنية ضمن مجموعة أكبر من ضبّاط الجيش السوري، كما جرى التخلص من بعضهم خلال عهد الانفصال لعدم الثقة بهم. وفي هذه المرحلة، بدأ العمل الجدّي بين أعضاء هذه اللجنة السرّية التي تكثفت اجتماعاتها، واتصلت بضباط آخرين ما زالوا في الخدمة، واستغلّوا ضعف البنية العسكرية في الجيش وانقساماته المتعدّدة، وهشاشة الحكومة وعدم سيطرتها الكاملة على القوات المسلحة، فكان تنفيذ الانقلاب سهلاً نسبياً، بعد أن تحالفت اللجنة مع ضبّاط ناصريين، وضعتهم في الواجهة ونفّذت الانقلاب بواسطتهم. وعند النجاح والتأكد من السيطرة الكاملة، تسلّمت اللجنة المراكز الأولى والمفصلية في الدولة، وبدأت خطّة سريعة للتخلص من كل مَن هو غير بعثي. ويقول أنصار نظرية المؤامرة إياها إن التخلّص كان على أساس طائفي. ربما يصح ذلك، ولكن العامل الحاسم كان أن أمر اللجنة العسكرية بقي طي الكتمان ولا يَعرف عن العلاقة بين أعضاء اللجنة أحد، حتى إنها وصلت إلى الحكم من دون أن يُعرف عنها.
الجيش السوري الذي سقط حينها بسرعةٍ في يد عدد قليل من الضباط العسكريين من قادة الوحدات مع أعضاء اللجنة العسكرية الذين كان ما يزال معظمهم خارج الخدمة، كان في حالة سيئة، بعد التاريخ القصير الذي مرّ به منذ الاستقلال عام 1946 وحتى لحظة الانقلاب، فحتى اليوم الذي سبق حركة البعثيين والقوميين عام 1963، كان الجيش قد شهد تسع حركات ما بين انقلاب ناجح أو فاشل أو محاولات تمرّد وعصيان عسكري، بالإضافة إلى ما تعرّض له من تبديلات خلال الوحدة مع مصر. كان الجيش يستنزف من قواته بعد كل حركةٍ، نجحت أو فشلت، والاستنزاف يأتي على تسريح موجة جديدة من الضباط، أو نقل بعضهم إلى مناطق ثانوية غير مؤثرة. وكان معظم المسرّحين أو المنقولين من العناصر المؤثرة التي ساهمت في بناء مؤسّسة الجيش، ولكن الخوف على السلطة ومحاولة تجنب الانقلاب التالي كانا يجبران القادة على التخلي عن مزيدٍ من العناصر. وهكذا شهدت كل حركة عسكرية موجات تسريح كبيرة أو صغيرة، وحتى في عهد الوحدة، تخلّص جمال عبد الناصر من كثيرين، وكان قد قرأ التاريخ السوري العسكري جيداً، وعرف أن الخطر الأكبر سيأتيه من الجيش. ولذلك عمل على تحييد كثيرين من عناصره بنقلهم إلى وظائف مدنية، أو للعمل في سفارات البلد في الخارج، ولجأ كذلك إلى نقل بعض الضبّاط، وخاصة البعثيين منهم، إلى مصر وتكليفهم بمهام ثانوية، وأغدق عليهم، في الوقت نفسه، على أمل أن ينسوا أو يتخلوا عن أية أفكار انقلابية، كل تلك العوامل جعلت مما بقي من ضباط الجيش مجموعة من المغامرين الطامحين، أو الخائفين من موجة التسريح القادمة، وليحمي الضباط أنفسهم تكتّلوا ضمن جماعات بعضها مناطقي وبعضها الآخر مذهبي، وربما كانت اللجنة العسكرية شكلاً من أشكال الحماية الذاتية المبكّر. لم ينسَ عناصرها فكرة الانقلاب، لكن يبدو أنهم أجلوها فقط، وساعدت الأحداث الجارية والظروف المحيطة بالتقدم خطوة إثر خطوة إلى الأمام، وصولاً إلى هدفهم النهائي باستلام السلطة.
لم يكن تنظيم اللجنة العسكرية بأسمائها المعروفة التنظيم الأول، فقد كان محمّد عمران جزءاً من تنظيم سابق شهد أسماء ضباط آخرين ممن لا يُعتبرون من الأقليات المذهبية، وحركة التغيير التي أجراها عبد الناصر أخرجت هؤلاء من الخدمة، فوجد محمد عمران نفسه يعيد إنشاء تنظيم جديد، وقد كان الوحيد من اللجنة السابقة الذي نجا من النقل أو التسريح. وغالباً يرجع ذلك إلى صغر رتبته العسكرية آنذاك. لم يوفر وقتاً كثيراً، فعرف كيف ينتقي من كل صنوف القوات المسلحة ممثلين في لجنته العسكرية الجديدة، ومن الصعب أن نصدّق أن انتقاء الأسماء جرى اعتباطياً، وأن خلفيات كل منهم الدينية كانت مجرّد مصادفة. وبحلول عام 1960 كانت لدينا لجنة عسكرية من البعثيين يضمّون صنوف الأسلحة كلها، وجميعهم من أقليات سورية.
من لا يصدّق فكرة المؤامرة المذهبية يقول إن اللجنة سرعان ما توسّعت بعد أن انتصر انقلاب 1963، وضمّت إليها مجموعة كبيرة من الضباط من الطوائف الأخرى، ووضع في رئاستها ضابط مثير للجدل، استدعي على عجل من سفارة سورية في الأرجنتين، يدعى أمين الحافظ، وقد كان من ضمن عداد الوفد الذي سافر إلى مصر في يناير/ كانون الثاني 1958، وطالب عبد الناصر بالوحدة الفورية. ويحتج من لا يؤمن بالمؤامرة أن من كشف أمر اللجنة العسكرية أصلاً هو محمّد عمران ذاته مؤسس اللجنة العسكرية، والمنتمي إلى الأقليات، فهو من قدّم تقريراً إلى قيادة الحزب القومية، كشف فيه أن القرارات الكبرى إنما تتخذ في اجتماعات اللجنة العسكرية. ورغم ذلك لم يكن انكشاف أمر اللجنة مناسبةً لحلها، بل كان فرصة لتعزيزها، بعد أن أصبح الصراع مفضوحاً وانتهى بانقلاب داخلي أطاح القيادة القومية للحزب وبمحمد عمران وأمين الحافظ، لتسيطر مجموعة متشدّدة على الحكم يتربع على رأسها صلاح جديد، وهو شخصٌ يقظ وحريص، يؤمن بالتخطيط الهادئ والسرّي. ولديه قدرة على القيادة من الخلف، وهي سياسة اعتمدها فعلاً، فعيّن نفسه في منصب ثانوي، ووضع في المقدّمة أسماء قوية ومهمة ولكن بصلاحيات منقوصة، ومع صلاح جديد كان عهد من الطائفية قد بدأ، معزِزاً بالفعل نظرية المؤامرة.
العربي الجديد
————————————-
سوريا وتحديات نجاح المسار الانتقالي/ د. ناصيف حتي
6 مايو 2025 م
أشهرٌ خمسةٌ مرَّت على السقوط المدوي للنظام في سوريا. السقوط الذي شكَّل مفاجأة كبيرة للعديد من المراقبين، أياً كان موقف بعضهم من النظام، معارضةً، أو دعماً، أو قبولاً، وذلك بالسُّرعة والشكل اللذين اتخذهما ذلك السقوط. القيادة التي قامت بإسقاط النظام بالدعم الواسع الذي كان متوفراً لها من الخارج، وبالأخص من تركيا، منعت عبر هذا الدعم من أن يتحول «اليوم التالي» في سوريا إلى حالة شبيهة بما صار يعرف بـ«النموذج الليبي». انطلق المسار التغييري، وما زال الاتفاق مفقوداً، ولو في ملامحه العامة بين مختلف المكونات والقوى السورية الفاعلة والمؤثرة والمعنية، حول طبيعة ونموذج التغيير المطلوب، وبالتالي طبيعة النظام الذي سيستقر لاحقاً في سوريا. الخوف من السقوط في الفوضى تعززه الأحداث التي حصلت في الساحل السوري، وبالأخص أعمال القتل التي طالت مدنيين تحت عناوين الثأر، والانتقام، وضمن منطق التعميم، والتي كانت في حقيقة الأمر عدواناً على أبناء فئة محددة. ونشهد انتقال حرب الهويات التي تقوم بها هذه القوى، أو تلك التي تنتمي إلى ذات المدرسة المتشددة، والأصولية والإلغائية ضد الآخر المختلف في المذهب الديني، أو غيره، إلى الجنوب السوري. كل ذلك يؤجج المخاوف، ويزيد من حدة التوتر بين المكونات المجتمعية، أو بعض أبنائها، تجاه الآخر الشريك في الوطن.
ورغم قيام السلطة الانتقالية بإدانة هذه الممارسات، وبذل كافة الجهود للعمل على احتوائها، ووقفها، والعمل على اتخاذ الإجراءات الضرورية لمنع تكرارها، فإن مخاطر الانزلاق نحو صدامات هوياتية، أياً كان شكلها، تبقى قائمة. المسبب الأساسي لذلك كما أشرنا يكمن في عقائد إلغائية تتغذى من مشاعر الانتصار، والانتقام، ومتأصلة في أفعال من يعتنقها. المطلوب، وهو تحدٍ ليس بالسهل، أن تكون المعالجة الشاملة لهذا الفكر، في جذوره، ومنطلقاته، بشكل حازم، وواضح، وكلي، على جدول أولويات العملية الانتقالية في سوريا. سوريا التي يشكل التنوع في «الهويات ما دون الوطنية» في المجتمع السوري مصدرَ غنى، وتعزيزاً للهوية الوطنية الجامعة. وتاريخ سوريا في مراحل عديدة منذ ما قبل الاستقلال يقدم خير دليل على ما ذكر.
الجغرافيا السياسية لسوريا في المشرق العربي بشكل خاص، وفي الإقليم الشرق أوسطي بشكل عام، جعلتها جاذبة لـ«لعبة الأمم»، تعاوناً، وصراعاً، وتقاسماً، حول مد النفوذ في دمشق. الأمر الذي يزداد قوة في فترات التحول، أو الفترات الانتقالية، كما هو الوضع حالياً. كذلك الأمر، فإن إحياء الصراعات باسم الهويات ما دون الوطنية، وبعض العقائد «العابرة للوطنية»، خطاباً وممارسة، كما أشرنا سابقاً، يعزز المخاوف من «الآخر» الشريك في الوطن، ويساهم في فتح الأبواب أمام كافة أشكال التدخل الخارجي المباشر، وغير المباشر. التضامن والدعم العربي بشكل خاص، والدولي المطلوب، هما أمران أكثر من ضروري لينجح المسار الانتقالي في سوريا. وللتذكير بشأن الوضع الإنساني الصعب والمأساوي، وبالتالي القابل للاستغلال من أطراف لها أجنداتها الخاصة، فقد أشارت المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين إلى أن 90 في المائة من السكان يعيشون تحت خط الفقر، وأن نحو 12.9 مليون مواطن يعانون من فقدان الأمن الغذائي. لذلك يبقى المطلوب الإسراع، وبالطبع ليس التسرع، في العمل على إنجاح المسار الانتقالي نحو بناء النظام الجديد، والذي هو مسؤولية سورية أساساً، ولو أن من الأكثر من ضروري وجود مواكبة عربية لدعم هذا المسار.
إن استقرار سوريا مصلحة عربية أساسية، ومصلحة لكل من يريد الاستقرار في المنطقة. نظام جديد يقوم على التشاركية السياسية لجميع المكونات الهوياتية السورية. النظام الذي يعزز مفهوم المساواة في المواطنة تحت سقف الدولة الواحدة، بحيث يصبح التنوع مصدرَ غنى للوحدة الوطنية الفعلية، لا مصدر انقسام لفتح أبواب مشرعة لكافة أشكال التدخل الخارجي، أياً كانت عناوين هذا التدخل.
الشرق الأوسط
————————–
زيارة إلى باتريك سيل/ جمال الكشكي
6 مايو 2025 م
لا يمكن فهم الأحداث الجارية الآن في سوريا، من دون العودة إلى الكاتب البريطاني باتريك سيل، الذي تخصص في سوريا، وألّف عنها عدة كتب مهمة، منها: «الأسد: الصراع على الشرق الأوسط»، و«الصراع على سوريا»، وأخيراً «الرئيس»، بالاشتراك مع فيرجينيا سيل.
في كتابه الأول، يتناول سيل كيف صعد الأسد الأب إلى السلطة، وكيف بنى دولة أمنية محكمة، وكيف تعامل مع الصراعات الإقليمية والدولية، وكيف لعب دوراً في الحرب الأهلية اللبنانية الطويلة، وأخيراً، الصراع مع إسرائيل، وكيف نظر إلى التحالفات الإقليمية مع سوريا.
أما في كتابه الثاني «الصراع على سوريا»، فقد عاد سيل إلى ما قبل الأسد بعقود، وغاص في الحالة السورية، وتناول المؤلف رحلة سوريا ما بعد الاستقلال، بدءاً من عام 1945، إلى عام 1958، حيث كانت سوريا مسرحاً، وساحة صراع بين القوى الكبرى «الولايات المتحدة الأميركية – بريطانيا»، إضافة إلى الدول العربية الكبرى.
وفي الكتاب ذاته، يحلل سيل لماذا كانت الانقلابات المتكررة، ولماذا كانت حالة عدم الاستقرار السياسي، ولماذا كانت التدخلات الغربية في الشأن السوري لا تتوقف، ولماذا قامت الوحدة المصرية – السورية، وكيف انتهت.
يمكننا الآن أن نفهم، لماذا جرى ما جرى في عام 2011، واستمر إلى عام 2024، عندما تغير النظام السوري بعد 55 عاماً من حكم الأسدين، ولعل ما شرحه سيل يكشف لنا الجوانب الأخرى في كتابه الثالث «الرئيس»، الذي قدم فيه سرداً مكثفاً لبعض الجوانب الشخصية للأسد الأب، وربطه بالأحداث الداخلية والإقليمية والدولية، وربطه أيضاً بالمواقف الاجتماعية والسياسية الداخلية.
فسوريا كما يقول سيل: دولة محورية، تؤثر وتتأثر بمحيطها العربي وغير العربي، فمن يسيطر عليها يؤثر في لبنان وفلسطين والأردن والعراق وتركيا، وعادة ما تتداخل فيها الألعاب السياسية الدولية.
عدت إلى كتابات باتريك سيل حول سوريا، لنفهم تأثير المعادلات القديمة في المشهد الجديد، فسوريا مجتمع متعدد الأعراق والإثنيات، والملل والنحل، ففيها السنة وهم أغلبية، والدروز، والعلويون، والمسيحيون، والكرد، وفيها الإسماعيليون.
كان يجب أن يكون هذا مصدر غنى، لكن القوى الدولية والإقليمية، رأت فيه أنه يمكن أن يكون مصدر شقاق، وأضيفت لهم الحالة الطارئة على الشرق الأوسط، منذ ثمانين عاماً، والتي تمثلت في النشأة الإسرائيلية التي لا تزال تشكل الهاجس الأكبر للأمن الإقليمي العربي، خصوصاً مع سوريا، التي تواجهت معها منذ عام 1948، ضمن دول عربية أخرى، وحتى الآن.
كان لافتاً، أن تستغل إسرائيل حالة السيولة، التي أعقبت الثامن من ديسمبر (كانون الأول) عام 2024، وتهاجم القوات السورية، التي لم تكن مستعدة، ولا تزال، للاشتباك معها، ولم تفكر في الهجوم على إسرائيل.
ببساطة كانت مشغولة في محاولة لمّ الشمل السوري، بعد نهاية حكم الأسد الابن، لكن الهجوم الإسرائيلي لم ينتظر، وجاء مباغتاً، ليدمر إمكانات القوات المسلحة السورية، أو ما تبقى منها، في رسالة سيطرة على سوريا الجديدة.
وهذا يذكرنا بما قاله باتريك سيل، عن أن من يسيطر على سوريا، يستطيع أن يؤثر في جزء واسع من الإقليم العربي، وإسرائيل هنا تريد أن توسع من خريطتها، وقد يذكرنا هذا بما قاله الرئيس الأميركي دونالد ترمب مرة، بأن مساحة إسرائيل صغيرة جداً، ولا بد من توسيعها.
إسرائيل التقطت الخيط من تصريح ترمب، وتوسعت في جنوب سوريا، وكسرت معاهدة فض الاشتباك الموقعة عام 1974، ودخلت على خط ما يحصل في محافظة السويداء، ووصلت إلى ريف دمشق. كما أنها لم تتوقف عن القصف، كما جرى في حماة، وحمص، واللاذقية، والساحل السوري عموماً، والمركز العلمي في دمشق. وأخيراً، استغلت الاشتباكات التي وقعت الأسبوع الماضي، بين الدروز في صحنايا وقوات الأمن، وقصفت محيط القصر الرئاسي بدمشق في كسر لكل أعراف الدبلوماسية العالمية، والقواعد المستقرة.
وقد عبرت جامعة الدول العربية عن الرفض التام للسلوك الإسرائيلي ببيان واضح، بأن على إسرائيل أن تعود إلى ما بعد اتفاق «فض الاشتباك»، وتنسحب من الأراضي السورية. وأشار البيان أيضاً إلى ضرورة عدم تدخل القوى الإقليمية والدولية في الأراضي السورية، والتأثير على مستقبل الدول العربية، العضو المؤسس للجامعة.
سوريا خريطة عربية تخص الإقليم العربي من دون سواه، أهمية موقعها – كما قال باتريك سيل – يجعل استقلالها واستقرارها رقماً مهماً في منظومة الأمن القوى العربي؛ بل يقطع الطريق أمام مطامح ومطامع إقليمية ودولية.
جربنا خلال الخمسة وخمسين عاماً الماضية، حالة الاستقطاب في سوريا، التي جعلت الإقليم العربي عرضة للخطر.
والشاهد أن الاعتداءات الإسرائيلية على سوريا، ليست موجهة إلى دمشق فقط، بل إلى قوى أخرى، ترى إسرائيل أن وجودها الفاعل على الأراضي السورية، يشكل خطراً على مستقبل مشروعها، هذه الذريعة استخدمتها إسرائيل في السابق تجاه قوى أخرى، كان لديها نفوذ في سوريا، لكن في الحالتين، فإن الواجب أن تكون سوريا للسوريين وحدهم، بجميع طوائفهم وثقافاتهم، وليست ساحة لتصفية الحسابات، أو مضمار سباق على النفوذ، وتكوين الإمبراطوريات.
أخيراً، أقول إن أي محاولة لتفتيت سوريا إلى كيانات صغيرة، سيكون وباء على الخرائط العربية والإقليمية، والحقيقة أن الزيارة إلى باتريك سيل في هذا التوقيت، مهمة وواجبة، لفهم ما الذي يجرى في عاصمة الأمويين.
الشرق الأوسط
————————
من يحمي المواطن السوري؟/ أحمد زكريا
2025.05.06
في خضمّ التحديات التي تواجه سوريا اليوم، يبرز سؤال جوهري يتردد في أذهان الكثيرين: من يحمي المواطن السوري؟ هل هو السلاح الذي قد يحمله بين يديه، أم أن الحماية الحقيقية تكمن في انخراطه في بناء دولة قوية، عادلة، ومؤسساتية؟ إن هذا السؤال ليس مجرد نقاش نظري، بل هو قضية مصيرية تحدد مستقبل الشعب السوري وملامح المجتمع الذي يطمح إلى العيش بكرامة وأمان.
إذا ما استعرضنا تجارب الدول عبر التاريخ، نجد أن الحماية لم تكن يومًا مسؤولية منفردة تقع على عاتق طرف دون آخر. الدولة، بمؤسساتها وجيشها، تمثل الدرع الذي يحمي الشعب من التهديدات الخارجية والداخلية، لكن هذا الجيش نفسه يستمد قوته من أبناء الشعب، إنها علاقة تكاملية: الدولة توفر الأمن والاستقرار، والمواطن يساهم في بنائها من خلال انخراطه في مختلف المجالات، سواء كانت عسكرية، إدارية، اقتصادية، أو ثقافية.
الحماية الحقيقية للمواطن السوري تكمن في بناء دولة قوية تستند إلى مبدأ المواطنة، وهذا يتطلب من المواطنين المشاركة الفعالة في إعادة البناء، سواء من خلال العمل في القطاع العام، دعم الاقتصاد، أو تعزيز الثقافة الوطنية.
في المقابل، يجب على الدولة أن تثبت جدارتها من خلال سن قوانين عادلة، محاسبة الفاسدين، وتوفير الأمن، كما أن الجهود الحالية، مثل صياغة الدستور والحوار الوطني، تمثل خطوات واعدة، لكنها تحتاج إلى دعم دولي وإرادة سياسية لتجنب الفشل.
في سوريا، حيث مزّقت الحرب النسيج الاجتماعي وأضعفت مؤسسات الدولة، أصبحت فكرة المواطنة – تلك القيمة التي تجمع الناس تحت مظلة الهوية الوطنية بغض النظر عن الطائفة أو العرق أو المنطقة – أكثر أهمية من أي وقت مضى.
الدول الناجحة، من أوروبا إلى شرقي آسيا، علّمتنا أن المواطنة هي الركيزة التي تقوم عليها الدولة القوية، ففي هذه الدول، يُعتبر الحديث عن الانتماءات الفرعية، سواء كانت دينية أو عرقية، نوعًا من التمييز الذي قد يُعاقب عليه القانون، والنتيجة؟ مجتمعات متماسكة تنعم بالاستقرار السياسي والازدهار الاقتصادي.
في غياب دولة قوية، قد يلجأ البعض إلى السلاح ظنًا منهم أنه وسيلة للحماية، لكن التاريخ والواقع يثبتان عكس ذلك، بمعنى أن السلاح المتفلت، الذي لا يخضع لسلطة الدولة، لا يحمي حامله فحسب، بل يصبح مصدرًا للتهديد على الجميع، يشيع الفوضى، يغذي الصراعات، ويعمّق الانقسامات.
في الدول المستقرة، مثل ألمانيا أو اليابان، نجد أن السلاح محصور بيد الدولة، وأي محاولة لامتلاكه خارج هذا الإطار تواجه بعقوبات صارمة، وهذا النهج ليس قمعًا، بل هو ضمان للأمن العام الذي ينعكس إيجابًا على حياة المواطنين.
شهدنا كيف أدى انتشار السلاح المتفلت في سوريا إلى تفاقم الصراعات المحلية، سواء بين الفصائل المسلحة أو داخل المجتمعات نفسها، وقد يظن المواطن الذي يحمل سلاحًا خارج إطار الدولة أنه يحمي نفسه، لكنه في الواقع يعرّض نفسه ومجتمعه للخطر، فالسلاح، مهما كان هدفه نبيلًا، يصبح أداة للعنف إذا لم يُدار ضمن إطار قانوني ومؤسساتي.
التاريخ والواقع السوري يظهران أن السلاح خارج إطار الدولة يغذي الفوضى، وانتشار الأسلحة المتفلتة خلال الحرب السورية أدى إلى تفاقم الصراعات المحلية بين الفصائل وداخل المجتمعات، في المقابل، فإن الدول المستقرة مثل ألمانيا واليابان تحصر السلاح بيد الدولة، مما يضمن الأمن العام، في حين أن الفصائل المسلحة في سوريا والتي ترفض الخضوع للسلطة المركزية تشكل تهديدًا مستمرًا، مما يؤكد أن السلاح لا يحمي بل يعرض الجميع للخطر.
وفي سياق حماية المواطن السوري، يُطرح سؤال حاسم: هل السلاح الفردي أو الفصائلي هو الحل، أم أن الحماية الحقيقية تكمن في بناء دولة قوية ومؤسساتية؟ لفهم هذا الأمر، قمنا بمقارنة بين السلاح الفردي/الفصائلي والدولة المؤسساتية من خلال عدة جوانب رئيسية: الأثر على الأمن، الاستدامة، التأثير الاجتماعي، والأمثلة العملية.
وفيما يلي تحليل مفصل يعكس هذه المقارنة ويوضح السياق السوري الحالي:
أولاً، من حيث الأثر على الأمن، تشير الأدلة إلى أن السلاح الفردي أو الفصائلي يؤدي إلى زيادة الفوضى والصراعات. وفي سوريا، على سبيل المثال، أدى انتشار الأسلحة بين الفصائل المختلفة إلى تفاقم العنف. في المقابل، توفر الدولة المؤسساتية أمنًا شاملاً من خلال جيشها ومؤسساتها، التي تعمل على فرض النظام وحماية المواطنين.
ثانياً، فيما يتعلق بـالاستدامة، يُعتبر السلاح الفردي أو الفصائلي حلاً مؤقتًا وغير منظم، إذ يعتمد على الفرد أو الفصيل المسلح، وقد يتغير أو يضعف مع الزمن. على سبيل المثال، في المناطق التي تسيطر عليها فصائل مسلحة، قد تتغير السيطرة بسرعة بسبب الصراعات الداخلية، بالمقابل، تقدم الدولة المؤسساتية حلاً دائمًا ومنظمًا، يعتمد على شرعية الدولة وهيكلها المؤسساتي، مما يضمن استمرارية الحماية، وهذا واضح في دول مثل ألمانيا، حيث يتم تحقيق الاستقرار من خلال مؤسسات قوية تحكم استخدام القوة.
ثالثاً، من الناحية الاجتماعية، يعمل السلاح الفردي أو الفصائلي على تعميق الانقسامات الطائفية والمناطقية، حيث يؤدي إلى تفاقم التوترات بين المجتمعات. في سوريا، على سبيل المثال، أدى انتشار السلاح إلى صراعات محلية بين الفصائل، مما عزز الانقسامات القبلية والجهوية، في المقابل، تعزز الدولة المؤسساتية مفهوم المواطنة والوحدة الوطنية، إذ تضمن حقوقًا متساوية لجميع المواطنين، مما يعزز الشعور بالانتماء إلى الوطن الواحد. هذا النهج يقلل من التمييز ويعزز الثقة بين المكونات المختلفة.
إن الضامن الحقيقي لبناء دولة وطنية قوية في سوريا ليس السلاح، بل المؤسسات التي تستند إلى مبدأ المواطنة، أي أن المؤسسات القوية، التي تطبّق القانون بعدالة وتضمن المساواة بين الجميع، هي التي تخلق شعورًا بالانتماء للوطن، وعندما يشعر المواطن أن حقوقه مكفولة، وأن لديه فرصًا متساوية للمشاركة في بناء المجتمع، يتحول من مجرد فرد إلى شريك فاعل في مشروع الدولة.
للأسف، نرى في سوريا اليوم كيف تؤدي المحاصصة والتمييز إلى تعميق الانقسامات، وعندما تطالب فئة معينة، سواء كانت كردية أو درزية أو غيرها، بحقوق استثنائية أو امتيازات خاصة، ينشأ نوع من التنافس غير الصحي بين المكونات، وهذا التنافس يعيد الناس إلى انتماءاتهم الفرعية – الطائفية، القبلية، أو الجهوية – بدلاً من توحيدهم تحت راية المواطنة.
على سبيل المثال، عندما تسعى جهة لتمثيل الكرد بطريقة استئثارية، يظهر تناقض مع مطالب أخرى، مثل تلك القادمة من أهالي السويداء، مما يغذي التوترات ويعيق بناء دولة موحدة.
الحل يكمن في بناء مؤسسات عادلة تتيح للجميع، بما في ذلك الأقليات، فرصًا متساوية للوصول إلى مراكز القرار. المفارقة أن هذا النهج قد يمنح الأقليات مكاسب أكبر مما يمكن أن تحققه من خلال المطالبة بالمحاصصة، فعندما يُعامل الجميع على قدم المساواة، تصبح القدرات الفردية والخبرات هي المعيار، وليس الانتماء العرقي أو الديني.
مهمة الجيش في أي دولة هي حماية الحدود من العدوان الخارجي، لكن هذه المهمة لا يمكن أن تتحقق دون انخراط المواطنين في السلك العسكري وفي بناء المؤسسات الأخرى.
الدولة، بجيشها ومؤسساتها، هي الحامي الأول للشعب، لأنها تمتلك الشرعية والقدرة على تنظيم المجتمع وضمان أمنه. في المقابل، السلاح المتفلت لا يمكن أن يحل محل الدولة، لأنه يفتقر إلى التنظيم والمسؤولية التي تقدمها المؤسسات.
في سوريا، حيث تعاني البلاد من تداعيات الحرب وغياب الاستقرار، يجب أن يكون الهدف الأول إعادة بناء الدولة على أسس المواطنة والعدالة، وهذا يتطلب من المواطنين أن يضعوا ثقتهم في مشروع الدولة، وأن يشاركوا فيه بكل طاقاتهم، سواء من خلال العمل في القطاع العام، أو دعم الاقتصاد، أو تعزيز الثقافة الوطنية، وفي الوقت نفسه، على الدولة أن تثبت أنها تستحق هذه الثقة من خلال سنّ قوانين عادلة، ومحاسبة الفاسدين، وتوفير الأمن للجميع.
خلاصة القول: السلاح ليس الحل، بل هو جزء من المشكلة إذا خرج عن سيطرة الدولة، وبالتالي فإن الحماية الحقيقية للمواطن السوري تكمن في بناء دولة قوية، عادلة، ومؤسساتية، تستند إلى مبدأ المواطنة.
إن انخراط المواطن في هذا المشروع ليس مجرد واجب، بل هو الطريق الوحيد لضمان مستقبل ينعم فيه الجميع بالأمن والكرامة، فلنضع أيدينا معًا، ولنعمل على بناء سوريا التي تحمي مواطنيها، لأن الدولة القوية هي تلك التي يبنيها شعبها.
——————————–
سياسة إطفاء الحرائق.. إلى متى؟/ حسن النيفي
2025.05.06
هل باتت البلاد السورية على فوهة بركان؟ نعم هي كذلك، بل هي أشبه ما تكون بجزر متناثرة من الحرائق، وكلّما انطفأ حريق هنا، شبّ حريقٌ هناك، يخبو اللهب حيناً ولكنّ جذوة النار تبقى مستعرةً تحت الرماد، لا تحتاج إلّا قليلاً من النفخ حتى تشتعل من جديد، وما أكثر النافخين في النيران السورية.
حين تتجاور الحرائق ويختلط دخانها بعضه ببعض، تصبح البلاد غمامة سوداء مشرئبة بالسواد الممزوج بالقهر، وربما يكون من أيسر الطرق لإخفاء القهر هو إسكات المقهور، سواء بقمعه أو البطش به أو التهديد أو الترغيب، ولكنه سرعان ما سيعود إلى الاشتعال، وربما إلى الانفجار بطريقة مباغتة.
في السادس من شهر آذار الماضي اشتعلت حرائق الساحل، في جبلة وطرطوس واللاذقية، ولم يكن من أشعلها شبحاً أو شخصاً مجهولاً، بل وقف يصيح بملء فمه: أنا من ألقمَ برميل البارود شعلةً من نار، وسأحرق هذه الديار طالما لم أعد متسيّداً فيها، فهذه البلاد الجميلة لا تليق بكم من بعدي، ولعله كان من المقدور عليه آنذاك محاصرة الفاعل وإغلاق جميع نوافذ الأوكسجين عنه، ليموت اختناقاً بناره ودخانه، ولكن جرت الأمور على غير هذا النحو، إذ يبدو أن نهج التجييش والانتقام الجماعي وأخْذ البرىء بجريرة المسيء هو نهج ضرب بجذوره في ترابنا ووجد من يغذّيه ويرعاه. لعله من الصحيح أن ألسنة اللهب المشتعلة قد خبتْ، ولكن بقع السواد ما تزال تختزل كثيرا من الأحقاد التي لم تحترق بعد، بينما أبطال (الفزعة) والنفير العام وحَمَلة (سيوف الحق) ولّوا وجوههم شطر وجهات أخرى للبحث عن حرائق أخرى لتأدية واجب الجهاد.
وفي أواخر شهر نيسان الماضي انتشر تسجيل مرئي لشخص مجهول يتمادى فيه على شخص النبي الكريم، نعم هو مجرّد تسجيل لشخص نكرة، ولكنّه قلب البلاد رأساً على عقب، وقامت الدنيا ولم تقعد، أليس من المذهل هذا الاستعداد الفظيع للهياج؟ وهل تكمن المشكلة في الإساءة ذاتها أم لم تكن سوى شرارة لامست أطراف الهشيم؟ فكثر المتصايحون واحتدم اللطم والندب، والجميع بات يحذّر من حرب أهلية توشك بالوقوع، أليست هذه الحرب الأهلية ذاتها؟ لقد وقعت وانتهى الأمر، وقعت ليس بتدبير خارجي ولا تآمر صهيوني ، ولنفرض أن إسرائيل لم تدّخر جهداً في تحريضها وهدفها الرامي إلى تقسيم البلاد من خلال استثمار التكوين الطائفي والعرقي في سوريا، أليس الأجدى في هذه الحالة هو العمل على تفويت الفرصة على الخطاب الإسرائيلي وسدّ الثغرات أمامها وقطع الطريق على مسعاها؟ وذلك من خلال تعزيز أواصر المواطنة بين السوريين ورفض التجييش الطائفي ومحاربة المحرّضين الذين يجدون في تعميم الاتهامات هوايتهم الفريدة ونبوغهم النادر؟ فالتذرّع الدائم بوجود مؤامرة خارجية لن يأتي بنتيجة ولن يكون مقنعاً مع استمرار افتقاد الدولة أو الحكومة إلى مبادرات فاعلة وجدّية لمواجهة المشكلة، لكن المؤسف أن ما حدث كان بفعل عقول لا تفكّر إلّا على هدْي يقينياتها ولا ترى إلّا من خَرْم مناظيرها، ولا تسمع إلّا ما يطربها ويداعب أوتار غرورها.
في سوريا أصناف عدة من البشر المنتمين إلى أعراق وطوائف، عرب وكورد وتركمان وشركس، مسلمون سنة ومسيحيون وشيعة وعلويون ودروز وآشوريون وووو، ولعل هذه الانتماءات جميعها كانت بالولادة، ولم تكن خياراً فكرياً وسياسياً وثقافياً لجميع هؤلاء الناس، فما هو الحق الذي يجيز لأحد أن يتمايز على الآخر، وإن كان ثمة امتياز ، فهو لمن استطاع أن يرتقي بهذا الانتماء إلى مراتب أكثر إنسانيةً ونبلاً، ليبرهن – حينها – على أن هذه الانتماءات الفرعية – القدرية – يمكن أن تكون مصدر ثراء وخصوبة حين يكون أصحابها أكثر قابلية لتفهّم الاختلاف وتقبّل الآخر باعتباره شريكاً حقيقياً بكل مقدّرات البلاد وليس ضيفاً طارئاً أو دخيلاً تنبغي حمايته. وربما كان التعويل في هذا الاتجاه على المثقفين والسياسيين وأصحاب الفكر من أصحاب هذه الانتماءات جميعها، إلّا أن المفارقات كانت أدهى وأمرّ، حين استنفر كثيرا من هؤلاء، وعاد كلٌّ إلى مرابع طائفته وعشيرته، ليصبح حادياً للركب، ولا يني يردح ليل نهار، بمنشور على وسائل التواصل هنا، وبتسجيل مرئي هناك، ونكاد نرى الزهوَ والنشوة تتدفقان من حروفه وحركاته، إذ يرى أن كل ( ردحة ) تحصل على مئات وربما آلاف ( اللايكات) والمئات من المشاركات، كيف لا، وهو يتحصّن بحاضنته الطائفية أو العشائرية ويرى في التصفيق الذي يعقب ردْحَه إنجازاً معرفياً كبيراً وتفرّداً إعلامياً قلّ نظيره، ويغدو كلامه السابق ومجمل تنظيراته حول العلمانية والديمقراطية وقيم الحداثة مجرّد (مطويّات من السجّاد المزركش الفاخر) لا تُفرشُ إلّا في المناسبات الوجاهية والندوات العامة والهرج الثقافي. وفي المقابل نجد أن من نصّبوا أنفسهم حماةً ورعاةً للدين وتجهّزوا لاستكمال المسيرة حتى فتح الأندلس قد امتشقوا السيوف وملؤوا جُعبَهم بفتاوى التكفير وكبّروا للجهاد الأكبر.
هل ينبغي الالتفات إلى الوراء؟
منذ سقوط الطاغية الأسدي في الثامن من شهر كانون الأول الماضي، بدأ الحديث عن ضرورة انعقاد مؤتمر وطني كحاجة لا بدّ منها، ذلك أن المؤتمر المنشود من جانب الجميع كان وحده القادر على الإجابة عن السؤال: ما هي أولوياتنا – نحن السوريين – لمواجهة المرحلة القادمة؟ وما هي التحدّيات التي تواجهنا، وما هي وسائلنا وعدّتنا لمواجهة ما ينتظرنا من استحقاقات راهنة ومستقبلية؟ وحين ارتفع أكثر من صوت من أصحاب الرأي والغيرة الوطنية والذين يفكرون بعمق وهدوء وبعيدين عن المعمعة، ورأى هؤلاء أن الخطوة الأهم هي التحضير للمؤتمر، وتعني هذه المسألة الشروع في حوارات معمّقة تعلن عنها وتشرف عليها السلطة الجديدة، ولا تستثني تلك الحوارات أي طرف من الأطراف (مكونات عرقية وطائفية وكيانات سياسية)، وربما يستغرق التحضير ستة أشهر على الأقل، يتم خلالها البحث المعمق والنقاش الجاد حول جميع مسائل الخلاف بين السوريين، وينبغي ألّا تثنينا كثرة الخلافات وتعقيداتها عن متابعة الحوار، إذ يمكن أن نتعثّر مرات، ثم نعود إلى استكمال هذا المسعى، ولا شك لن يكون طريقنا معبّداً باليسر والسلاسة، ولكن علينا التحلّي بالمزيد من الصبر واتساع الأفق والإخلاص لتجاوز هذا المخاض الذي إن تحقق بنجاح، فالجميع ناجح، وإن أخفق فالجميع خاسر، وبعد تجاوز مرحلة التحضير تلك، يمكن للمؤتمر أن يأتي تتويجاً لمجمل التفاهمات، وحينها يكون السوريون – على الأقل – باتوا يعرفون ماذا يريد كل طرف منهم. لكن الأمور مضت على غير هذا النحو، فتحوّل اللقاء إلى (مؤتمر حوار وطني) لمدّة يومين 24 – 25 – شباط 2025 ) وإذا حذفنا فترة الاستقبال والتعارف يبقى أمامنا يوم واحد، وقد اعتمدت دعوة الحضور على معيار العلاقات الشخصية والمعارف الخاصة، ذلك أن المراد من المؤتمر – بالنسبة إلى السلطة الجديدة – هو المنجز الرمزي الذي يمكن تصديره للرأي العام الخارجي، باعتباره مستحقاً يجب على الحكومة تأديته. ولكننا الآن – نحن السوريين جميعاً – ندفع ثمن سَلْق ذاك المؤتمر، لأنه فوّت علينا فرصة كان يمكن استثمارها بعمق، من خلال معرفة مواجع كل طرف من السوريين، وماذا يريد؟ وما هو الممكن وما هو الممتنع؟ وما هي هوامش الاتفاق والاختلاف؟ يمكن ألّا تكون هكذا حوارات قادرةً على احتواء جميع مسائل خلافات السوريين، ولكنها بالتأكيد سوف تكون قادرة على كبح الانفجارات كالتي حدثت في الساحل والسويداء وجرمانا وأشرفية صحنايا.
ما نزال في بداية الطريق، والالتفات إلى الوراء بغية اكتشاف الشروخات والكبوات هو من علائم التفكير السليم، والعودة لتأسيس انطلاقة أكثر سلامةً أجدى بكثير من القفز فوق الصعاب أو تجاهلها، نتمنّى أن تحظى هذه الدعوة باهتمام أصحاب القرار.
تلفزيون سوريا
———————————-
التعافي الاقتصادي في سوريا: الواقع والتوقعات/ نبراس إبراهيم
2025.05.06
بعد أكثر من عقد ونصف على اندلاع الصراع السوري، يقف الاقتصاد الوطني اليوم عند مفترق طرق حاسم، تتنازعه تحديات الانهيار العميق من جهة، وبوادر أمل خجولة بالتعافي من جهة أخرى. فبينما تبرز مؤشرات أولية على بدء مناقشات رسمية مع مؤسسات دولية كالبنك الدولي حول آليات دعم الاقتصاد السوري وتيسير التحويلات المالية، إلا أن الواقع الميداني والبيانات الأممية ترسم صورة أكثر تعقيداً وتحدياً.
تشير تقارير الأمم المتحدة إلى أن الاقتصاد السوري انكمش بمقدار الثلثين منذ عام 2011، وفقدت الليرة السورية نحو ثلثي قيمتها خلال عام 2023 فقط، ما أدى إلى ارتفاع معدل التضخم الاستهلاكي إلى 40% عام 2024.
يعيش نصف السكان في سوريا في فقر مدقع، وتضاعف معدل الفقر ثلاث مرات ليصل إلى 90%، في حين ارتفع الفقر المدقع إلى 66%، مع تراجع الناتج المحلي الإجمالي بنحو 800 مليار دولار خلال 14 عاماً. كما أن ربع السكان عاطلون عن العمل، وأكثر من 40% من الأطفال خارج المدارس، ما يعكس عمق الأزمة الإنسانية والاجتماعية المرافقة للانهيار الاقتصادي.
وإن الاقتصاد السوري يواجه حاليا أزمة هوية هيكلية، تتجلى في غياب رؤية تنموية واضحة وتذبذب السياسات. كما تعمقت الانقسامات الاقتصادية مع نشوء أربع مناطق اقتصادية مستقلة، لكل منها نظامها المالي وسياساتها التجارية، مما خلق تفاوتاً حاداً في مستويات المعيشة وأعاق تحقيق تعافٍ اقتصادي حقيقي. وتبقى العقوبات الاقتصادية الغربية أحد أبرز العوائق أمام أي مساعٍ جدية للتعافي، حيث إنها تسهم في تعميق الأزمة الإنسانية وتعطيل إعادة الإعمار.
إلى جانب ذلك، يواجه الاقتصاد تحديات إضافية تتعلق بتغير المناخ وتفاقم موجات الجفاف، ما أثر على القطاع الزراعي، أحد أعمدة الاقتصاد الوطني، وأبرز الحاجة الملحة لإعادة تأهيل البنية التحتية الزراعية وتبني تقنيات حديثة لضمان الأمن الغذائي.
وتطرح تقارير أممية سيناريوهات متعددة لمسار التعافي الاقتصادي في سوريا. في السيناريو المتفائل، يمكن أن ينمو الناتج المحلي الإجمالي بمعدل 13% سنوياً بين 2024 و2030 إذا ما تم تنفيذ إصلاحات جريئة وحظيت البلاد بدعم دولي كافٍ، إلا أن هذا النمو لن يعيد الاقتصاد إلى مستواه قبل الحرب إلا بحلول نهاية العقد، ولن يصل نصيب الفرد من الناتج المحلي إلا إلى نصف مستوى عام 2010. أما السيناريو الأكثر واقعية، فيتطلب تحقيق نمو سنوي بنسبة 5% على مدى 15 عاماً لإعادة الاقتصاد إلى حجمه السابق، وهو أمر يبدو بعيد المنال في ظل الظروف الحالية.
وتبدو الصورة أكثر قتامة في السيناريو المتشائم، إذ تشير تقديرات الأمم المتحدة إلى أن الاقتصاد السوري لن يستعيد مستواه ما قبل الحرب حتى عام 2080 إذا استمرت معدلات النمو الحالية البطيئة. يظل التعافي الحقيقي رهناً باستثمارات واسعة النطاق، وإعادة توحيد الاقتصاد الوطني، وتنفيذ إصلاحات شاملة في النظام الضريبي والسياسة الصناعية والبنية التشريعية، إلى جانب تسويات سياسية حقيقية تعيد الاستقرار وتفتح الباب أمام الدعم الدولي.
وعلى الرغم من بعض المؤشرات الإيجابية، يبقى التعافي الاقتصادي في سوريا عملية طويلة ومعقدة، تتطلب إرادة سياسية صلبة، وإصلاحات هيكلية جريئة، ودعماً دولياً واسع النطاق. إن تجاوز الانقسامات البنيوية، ومعالجة آثار الحرب، وبناء اقتصاد وطني موحد قادر على استيعاب التحولات العالمية، هي الشروط الأساسية لأي انتعاش مستدام. دون ذلك، سيظل التعافي الاقتصادي هدفاً بعيد المنال، وستبقى المعاناة الإنسانية هي عنوان المرحلة القادمة.
————————–
عبثية الانتماء.. ماذا يحدث في سوريا؟/ أحمد عسيلي
ما الذي جرى في وطننا خلال الأسبوع الماضي؟ سؤال بسيط، لكنه كفيل بأن يولّد مئة رواية متناقضة، ليس لأن الوقائع غائبة، فمعظمنا يعرف ما جرى، ولكل منا وسائل تواصله مع أماكن الصراع تلك، بل لأن إدراكها يخضع لتحولات نفسية وانفعالية تتجاوز الحدث نفسه، الجميع يتفق على المعطيات الأولية: تسريب صوتي نُسب إلى شاب درزي يهين فيه النبي محمد، تبعته اعتداءات جسدية من قبل طلاب في السكن الجامعي بحمص على طلاب من الطائفة الدرزية، لتبدأ سلسلة من أعمال العنف والقتل في مناطق متفرقة كجرمانا وصحنايا بريف دمشق، ترافقت مع مشادات واتهامات متبادلة على وسائل التواصل الاجتماعي، وشهادات تتراوح بين الزيف والصدق، تُروى وتُعاد بروح هستيرية محمّلة بالغضب، فكل طرف يركز على ضحاياه وعلى مجرمي الطرف الآخر.
لكن ما لا يمكن الاتفاق عليه، وما ينفلت من قبضة الوصف المباشر، هو: لماذا؟ لماذا يُستثار الناس إلى هذا الحد؟ لماذا تُطلق طاقة عدوانية هائلة في وجه “الآخر”؟ من “نحن” أصلًا ومن هذا “الآخر”؟ ولماذا يتماهى الأفراد مع جماعة أو سردية لا يعرفون عنها شيئًا، سوى أنها ليست “هم”؟
لفهم هذه التمفصلات النفسية، لا بد من التوقف عند تجربة لافتة في علم النفس الاجتماعي، أجراها عالم النفس الفرنسي من أصول بولندية يهودية هنري تاجفيل، الذي عاش تجربة الاعتقال في معسكرات النازية وأخفى يهوديته خوفًا من القتل، بعد الحرب، عاد ليسأل السؤال الجذري: ما الذي يدفع فردًا إلى كراهية آخر لا يعرفه، لمجرد انتمائه إلى مجموعة معينة لا حدود واضحة لها، فقد نجا تاجفيل من القتل لأنه ادعى أنه مسيحي، ولو عرف هذا “الآخر” أنه يهودي لأمسك بسكين وقتله، هكذا بكل بساطة! لكن لماذا؟
في العام 1970، أجرى تاجفيل تجربة شهيرة، جمع مجموعة من الأطفال، وقسمهم بشكل عشوائي إلى فريقين A وB، دون أي سمة واقعية تفصل بينهم، لاحقًا، طُلب من الأطفال توزيع مكافآت على أعضاء الفريقين، فظهر انحياز واضح، كل طفل فضل مكافأة أعضاء فريقه، حتى وإن لم يعرفهم شخصيًا. فقط وجود “نحن” و”هم” كان كافيًا لإنتاج الانحياز، أصبح هؤلاء الأطفال يميزون بشكل عفوي بين داخل وخارج المجموعة.
هكذا تعمل الهوية الاجتماعية، تكوّن الذات انتماء لجماعة، أحيانًا بلا سبب موضوعي، وتحمي هذا الانتماء كأنه امتداد للنفس. العدوان، في هذه الحالة، لا يُوجَّه إلى “الآخر” بوصفه فردًا، بل كتمثيل رمزي لما يهدد صورة “الذات/الجماعة”، تُمحى هنا ذاتية الفرد تمامًا، لم يعد ينظر إليه كإنسان له أهل وحياة وحقوق ومشاعر، بل ربما تربطنا به علاقة ما، ليصبح مجرد جزء من مجموعة، جزء من الـ”هم”، وكلما زاد الخوف والقلق زاد هذا التمسك بسجن الـ”نحن” والـ”هم”، وعلى العكس، كلما ازداد الإنسان طمأنينة تجرأ أكثر على الخروج من هذا التصنيف.
هذا ما يجعلنا نعيد التفكير في معنى الانتماء وحدوده. وهنا، تستدعي الذاكرة مشهدًا لافتًا من رواية “بلد صغير” للكاتب الفرنسي الرواندي غايل فاي، حيث يسأل طفل والده عن سبب الاقتتال بين الهوتو والتوتسي، هل هو العرق؟ اللون؟ الدين؟ اللغة؟ فيجيبه الأب بمرارة ساخرة: “لا شيء من هذا. فالكل أسود البشرة، يؤمنون بنفس الدين، ويتكلمون اللغة ذاتها… الفرق فقط في شكل الأنف”.
هذه المفارقة الساخرة تكشف جوهر المأساة، كيف تتحول فروقات شكلية، لا معنى لها في الأصل، إلى حدود للقتل والنجاة، إنها لحظة يتجلى فيها العبث بوصفه منطقًا منظمًا، كل ما تحتاج إليه الحرب الأهلية هو وهم الفرق، لا الفرق نفسه.
وما يحدث اليوم في سوريا لا يخرج عن هذه البنية، انقسامات حادة تتأسس أحيانًا على إشارات لفظية أو دلالات تاريخية جوفاء (“بني أمية”، “آل البيت”، “دروز”، “سنة”)، لكنها تُفعّل في الذهن الجمعي كأنها تمس جوهر الهوية، كل شتيمة تصبح طعنة في القلب، كل موقف حيادي يُترجم كخيانة، وكل رواية تُقرأ كإثبات على ذنب “الآخر”، وفقط الآخر.
في الواقع، لسنا أمام أحداث متفرقة، بل أمام تحشد انفعالي حول هوية خيالية، يتم فيها تبرير العنف بوصفه دفاعًا عن “نحن”، حتى ولو لم يعد أحد يعرف من تكون “نحن” أصلًا (هل هناك سريالية أكثر من ذلك)، هنا تتجلى عبثية الانتماء، حين يتحول إلى مرآة مشروخة لا تعكس الحقيقة، بل ترسم صورة مُضلّلة، قاتلة أحيانًا.
ربما يكون الخروج من هذه الحلقة المفرغة ممكنًا، إذا بدأنا بمراجعة نقدية للخطاب الطائفي (لخطابنا وخطابهم)، بالقدرة على طرح أسئلة جريئة، على شاكلة من نحن ومن هم، وتفعيل العدالة الرمزية، وتعزيز التربية على التفكير النقدي، بالقدرة على رؤية الخطأ وتسميته بكل حيادية، وتوسيع دوائر الحوار بين الجماعات، ودعم وسائل إعلام مستقلة، وأخيرًا، ترميم صورة “الآخر” في الوعي الجمعي لا عبر العفو بل عبر الفهم، للأسف وبكل صراحة لا يمكن القيام بكل هذا في ظروف الخوف والتوتر والاستقطاب تلك، لنكن صريحين وواقعيين، لأنها هكذا الطبيعة البشرية، نحتاج إلى حد معين من الأمان والثقة كي نستطيع الخروج من سجن الهوية المتخيلة هذه، نحتاج إلى أن ندرك أننا بخروجنا لن يكون هناك وحش مفترس بانتظارنا، وإلا لن نخرج أبدًا وسنبقى حبيسي أوهامنا، وهذا يتطلب الكثير الكثير من العمل، على أنفسنا وعلى دولتنا الوليدة.
عنب بلدي
————————–
الشيباني في نيويورك.. تحرك دبلوماسي بغطاء من الجالية السورية/ أحمد العكلة
5 مايو 2025
تأتي زيارة وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني، إلى نيويورك، في سياق السعي إلى فتح قنوات تواصل مباشرة مع الولايات المتحدة، وذلك وسط تقارير تتحدث عن تنظيم اجتماع مع مسؤولين أميركيين لبحث سبل تخفيف العقوبات.
ونقلت وكالة “رويترز” عن مصدرين مطلعين أن الشيباني التقى بمسؤولين كبار في وزارة الخارجية الأميركية في نيويورك، وسط محاولات الحكومة السورية لتخفيف العقوبات الأميركية المفروضة على سوريا.
وبحسب “رويترز”، فإن هوية المسؤولين الذين اجتمع معهم الشيباني غير معروفة، لكن أحد المصادر رجّح حصول اجتماع مع القائمة بأعمال السفيرة الأميركية في الأمم المتحدة دورثي شيا.
وقالت المتحدثة باسم وزارة الخارجية الأميركية، تامي بروس، إن “بعض ممثلي السلطات السورية المؤقتة” موجودون في نيويورك لحضور اجتماعات الأمم المتحدة، دون أن تضيف تفاصيل أخرى مرتبطة باجتماع الوفد السوري مع مسؤولين أميركيين.
وأشارت بروس إلى أن الإدارة الأميركية تواصل تقييم سياساتها “تجاه سوريا بحذر وسنحكم على السلطات المؤقتة بناء على أفعالها”، وأضافت: “لسنا بصدد تطبيع العلاقات الدبلوماسية مع سوريا حاليًا، ولا أستطيع أن أقدم لكم أي معلومات مسبقة بخصوص أي اجتماعات”.
ووفقًا لأحد المصدرين، فإن دمشق حريصة على رؤية خارطة طريق واقعية من الولايات المتحدة لتخفيف العقوبات بشكل دائم، مع تقديم جدول زمني واقعي لتلبية مطالب واشنطن.
بدورها، أوضحت المستشارة السياسية والصحافية المعتمدة في البيت الأبيض، مرح البقاعي، أن هذه العملية تتسم بتعقيد بالغ، نظرًا لكون العقوبات قد أُقرت عبر مجلس النواب الأميركي، وأصبحت بذلك جزءًا من حزمة التشريعات القانونية في البلاد. وعليه، فإن أي قرار برفع العقوبات، حتى إن اتُّخذ، لن يُنفذ بسرعة، ولن يتحقق بين ليلة وضحاها.
وأضافت البقاعي أن للولايات المتحدة مطالب محددة من دمشق مقابل أي تخفيف في نظام العقوبات، بعض هذه المطالب قد تحقق بالفعل، إلا أن المطالب الجوهرية، لا سيما المرتبطة بالتعامل مع المقاتلين الأجانب ومصير المواطنين الأميركيين المفقودين في سوريا، لا تزال دون استجابة مرضية. كما أن واشنطن تُصر على تعزيز التعاون مع الحكومة السورية في ملف مكافحة الإرهاب، وهو شرط أساسي لم يُستوفَ بعد.
وفي هذا السياق، صرحت البقاعي بأنها لا تتوقع تعليق أو رفع العقوبات في المستقبل القريب، ما يحتم على الحكومة في دمشق العمل على إيجاد بدائل مرحلية لدعم الاقتصاد السوري، وحماية الليرة، وضمان الاستقرار المعيشي، لما لذلك من أثر مباشر على الأمن الداخلي في سوريا.
أما عن زيارة وزير الخارجية السوري، أسعد الشيباني، إلى الولايات المتحدة، فقد أكدت البقاعي أن للزيارة أهمية استراتيجية خاصة، كونها تمثل أول تواصل رسمي على مستوى حكومي مع المجتمع الدولي منذ انطلاق الثورة السورية. فقد ألقى الوزير كلمة في مجلس الأمن رحب بها عدد كبير من ممثلي الدول، خاصةً من السفراء العرب، كما ألقى كلمة مهمة في الجمعية العامة، وجرى رفع علم الثورة السورية ليُعتمد رسميًا ممثلًا لسوريا.
وقد تميزت الزيارة بلقاءات مباشرة مع مسؤولين في الحكومة الأميركية، حيث تم طرح المطالب الثمانية لواشنطن، ومناقشة ملف العقوبات بشكل صريح. وتأتي أهمية هذه اللقاءات من كونها تشكل تحولًا نوعيًا في الحوار بين دمشق وواشنطن، إذ انتقل الحوار من القنوات غير المباشرة إلى مستوى التفاوض الرسمي بين الحكومتين، وهو ما سعت إليه الجالية السورية الأميركية والناشطون السياسيون في واشنطن.
ومن أبرز القوانين التي تؤثر على الاقتصاد السوري الحالي هو “قانون قيصر”، الذي تم سَنّه في عام 2020، ليفرض عقوبات اقتصادية على النظام السوري، بما في ذلك حظر الاستثمار والتعامل مع الشركات السورية.
المنظمات السورية – الأميركية: الجهود متواصلة
يقول العضو في منظمة “مواطنون لأجل أميركا آمنة”، د. بكر غبيس، في حديث لـ”الترا سوريا”، إن سياسة منظمته “تقوم على الاجتماع مع الإدارة الأميركية الجديدة وشرح الواقع وشرح تأثير عدم رفع العقوبات بشكل عاجل على الوضع الاقتصادي”. مضيفًا: “هناك تواصل مستمر مع النواب الأميركيين؛ لإطلاعهم على الأوضاع المعيشية والاجتماعية والاقتصادية والخدمية في سوريا”، ويقول: “أطلعنا الجانب الأميركي على الواقع داخل سوريا وعلى ردّة فعل الشعب السوري على التغيرات التي تحققت، والفرح العارم للسوريين بسقوط النظام، والارتياح الكبير بإعطائهم الفرصة لبناء بلدهم”.
ولفت إلى أن طلبات الإدارة الأميركية تتلخص في نبذ الإرهاب والتبرؤ منه علنًا، مع ضمان عدم استعمال سوريا كمنصة لهجمات تطال أي دول مجاورة، أو كقاعدة تدريب لعناصر إرهابية. إضافة إلى إيجاد آلية واضحة ومبعوثين خاصين بالمواطنين الأميركيين المختفين في سجون الأسد.
التأثيرات الاجتماعية والاقتصادية للعقوبات
وزار د. بكر غبيس، برفقة شخصيات سياسية سورية أميركية، العاصمة دمشق ثلاث مرات منذ سقوط النظام، ويقول إنه عاين الوضع الاقتصادي والاجتماعي وآثار الخراب التي خلفها النظام السابق، مؤكدًا أنه نقل الصورة إلى الكونغرس والإدارة الأميركية وصُناع الرأي في واشنطن، بما يكشف عن تأثير العقوبات على حياة السوريين اليومية.
وجاءت زيارة الشيباني إلى الولايات المتحدة لتبرز الدور النشط للجالية السورية الأميركية في التأثير على دوائر صنع القرار في واشنطن، مستفيدة من تجربتها السياسية والمدنية.
وبين تعقيد المسارات القانونية للعقوبات، وتطلعات السوريين لتحسين واقعهم الاقتصادي، يبدو أن المشهد مقبل على مفاوضات طويلة، تتطلب حنكة دبلوماسية، واستجابة إصلاحية جريئة من دمشق، وإرادة سياسية مرنة من واشنطن.
——————————
ما هي أبرز تحدّيات تقارب سوريا مع المحيط العربي؟/ جعفر مشهدية
الثلاثاء 6 مايو 2024
تحاول الإدارة السوريّة الجديدة توطيد علاقاتها مع المحيط العربي، مستندةً في ذلك إلى أنها سلطة جديدة جاءت بعد ثورة على نظام كانت علاقاته متوتّرة في أغلب فتراته مع العالم العربي. لكن هذه العلاقات المنشودة من حكومة الرئيس أحمد الشرع تصطدم بعدة معوِّقات لعل من بين أبرزها خلفيّة السلطة الجديدة “الجهاديّة” التي تجعل الدول العربية حذرة في التعامل مع دمشق، فضلاً عن علاقة هذه الإدارة المتينة مع تركيا وقطر اللتين وقفتنا طويلاً في موقف خصومة مع كل من السعودية والإمارات ومصر في صراع النفوذ الإقليمي.
برغم هذه المعوِّقات، إلا أن الرئيس الشرع ومنذ إسقاط نظام بشار الأسد، حاول تمرير رسائل تطمينيّة للمحيط العربي بهدف بناء علاقات متينة معه، فكانت الرياض أول محطة خارجية له كرئيس لسوريا وأتبعها، قبل فترة وجيزة، بزيارة “نوعيّة” للإمارات المعروفة بعدائها لتيارات الإسلام السياسي في المنطقة، عدا عن محاولة بناء علاقات متوازنة مع كل من الأردن والعراق، في مغازلة صريحة وميل واضح نحو المحيط العربي بعد عقود من موالاة سوريا الأسد لكل من إيران وروسيا.
في هذا التودّد للجارات العربيّات، لا يسعى الشرع فيه إلى غسل سمعة سلطته من الخلفية الجهاديّة فحسب بل أيضاً للاستفادة من الدعم العربي في إعادة إعمار البلاد، وكمدخل لتحسين علاقات سوريا مع أمريكا والغرب، والاستقواء بها لدرء خطر إسرائيل.
“الحضن العربي وبحثٌ عن مخرج”
في هذا السياق، يلخّض المحلل السياسي بسام السليمان لرصيف22 رؤية الإدارة الجديدة للعلاقة مع المحيط العربي في أن “العلاقة مع الخليج، وخصوصاً السعودية، هي علاقة إستراتيجية، وكذلك مع الأردن، ولو بدرجة أقل من المجموعة الخليجية التي تعد الرافعة الأولى لسوريا اليوم، وتأتي بعدها تركيا. أما عن العلاقة مع العراق، فهي مختلفة نتيجة التأثير الإيراني على العراق”.
أما الباحث السياسي بشار عبد الله، فيقول لرصيف22: “ليس ممكناً الحديث جملةً عن علاقة الإدارة السوريّة مع العواصم العربية، فبعض هذه العواصم اعتبرت الوليد الجديد (يقصد سوريا الجديدة ما بعد إسقاط الأسد) منذ البداية أخاً أو ابناً، وحملت آلام مخاضه في دبلوماسيتها الدوليّة، باحثةً عن سبيل لتقصير درب آلامه نحو الاستقرار، وأخص الرياض والدوحة اللتين تذهب نحوهما الإدارة الجديدة بشغف وارتياح كبيرين، بينما كان الفتور والحذر شعورين متبادلين بين هذه الإدارة وبين عواصمٍ أخرى منها بغداد وأبو ظبي وعَمَّان والقاهرة”.
يشرح عبد الله وجهة نظره في أنه “منذ البداية توجست هذه العواصم المذكورة أخيراً من النفوذ التركي الواضح، ومن فكرة وصول تيار جهادي إلى حكم دمشق، لا سيّما وأن الرئيس الشرع زاد على مخاوفهم تلك تموضعه الواضح عربياً عندما زار الرياض في أول زيارة خارجية له، وعندما استقبل أمير قطر كأول حاكم عربي يدخل سوريا الجديدة”.
مع ذلك، يرى عبد الله أن “بغداد كانت البوابة الطبيعيّة لتخفيف الاحتقان مع طهران وتبريد الأجواء، ولو بشكل غير مباشر، لاستبعاد أي ‘ضربة تحت الحزام’ محتملة منها، كيف لا والإدارة السوريّة شعرت بعدم قدرة حلفائها على حمايتها من أي محاولات خارجية لزعزعة الوضع الهش أصلاً، أو استدراك ما قد ينجم عن تلك المحاولات من آثار سلبية خاصة بعد الثمن الفادح الذي دفعته الإدارة الحالية عقب أحداث الساحل السوري”.
وهو لذلك، يعتبر أن إدارة الشرع “ورغم تمسّكها برفض عودة أي نفوذ إيراني داخل سوريا، لقناعتها بخطورة الأمر على أمن البلاد الإستراتيجي، ولأنها تعي أن هذا خط أحمر لدى واشنطن وتل أبيب، اختارت تلطيف الأجواء مع الحكومة العراقية، واللافت أن الأمر تم بوساطة قطريّة، حيث عادةً ما تعمل الدوحة وسيطاً في المحادثات الخاصة بإيران مع الدول العربية فيما مسقط وسيطة في محادثاتها مع الغرب”.
ويردف عبد الله بأن هذا يدلّ على خلفيّة التقارب مع بغداد وما يُراد منه من بناء تعاون مع بغداد في ملفّات عديدة تخصّ الأمن وتبادل المعلومات الاستخباراتية لمكافحة تنظيم داعش، وغياب التصريحات الإيرانيّة عن سوريا في الآونة الأخيرة بعد أن كانت شبه يوميّة.
“كل هذا يعكس إدراك الإدارة السوريّة للحكمة القديمة التي تقول بضرورة توزيع البيض على أكثر من سلة. من هنا، تسعى لإزالة المشكلات مع الجميع، لأن الأشهر الأولى أكدت أن الاكتفاء بالرافعتين السعوديّة والتركيّة لا يكفي، فبدأت بتقديم نفسها كشريك جيّد للجميع وأفضل احتمالات سوريا الممكنة، وهذا ما أشار إليه الشرع في حواره مع نيويورك تايمز من أن الفوضى في سوريا تضر كل دول العالم، وليس فقط دول الجوار. لكل ما سبق، يرى العرب اليوم – وتحديداً الدول التي ترتبط بحدود مباشرة مع سوريا – أن الوقت غير مناسب لترك سوريا كساحة تصفية حسابات لأنه يدمّر ما تبقّى من إمكانية لنسج شيء من الأمن القوميّ العربيّ أمام الإيرانيين والأتراك والإسرائيليين”، يقول.
واستخلاصاً مما سبق، يبدو أن الإدارة السوريّة الجديدة تحاول تمكين بنيان حكمها داخلياً من خلال نسج علاقات قوية ومتنوّعة مع المحيط العربي سواء تلك الدول الميالة لهذه الإدارة، أو الحذِرة منه، أو حتّى تلك التي كان متوقعاً أن تتحفّظ في علاقتها معها مثل كالعراق. ويمكن أن نعزو ذلك إلى إدراك الشرع وإدارته أن البُعدين الأمني والاقتصادي لا يمكن تأمينهما سوى من خلال علاقات متينة عربياً في ظل عدم قدرة الحليف التركي على سد الفراغ الاقتصادي والأمني في سوريا لوحده، وذلك لأن تركيا لا تملك الملاءة المالية المتاحة لدى الدول الخليجية من جهة، ولأن الاعتماد على الحضن التركي يجعل العرب خصماً ربما يدعم محاولات زعزعة استقرار الحكم الجديد.
الشرع والعلاقة مع الإمارات
تاريخياً، رفعت أبو ظبي راية العداء في وجه جماعات الإسلام السياسي سيّما ذات الخلفية الجهادية في العالم العربي، وربما يكون هذا ما دفعها إلى أن تكون أولى الدول العربية التي طبّعت مع نظام الأسد بذريعة الخوف من الجهاديين. لكن زيارة الرئيس الشرع إلى الإمارات حديثاً أثارت تساؤلات كثيرة لدى المعنيين بالشأن السياسي، نظراً لخلفيّة الحكم الجديد في سوريا التي لا تتفق مع توجهات أبو ظبي.
وتزامنت زيارة الشرع للإمارات مع حل الفيلق الثامن بقيادة أحمد العودة لنفسه وتسليم عتاده لوزارة الدفاع السوريّة. علماً أن هذا الفيلق الذي كان ينظر له ولقائده كمنافس حقيقي على سلطة الشرع، نظراً لعُدّة الفيلق وعديده وعلاقاته مع روسيا والإمارات.
ويرى بشار عبد الله أننا “نشهد مؤخراً أن الإدارة السوريّة بدأت تتوازن أكثر في علاقاتها الخارجية عموماً والعربية خصوصاً، لأن تعويلها على أنقرة والرياض والدوحة فقط لتعويمها دولياً، وتحديداً أمريكياً، لم ينجح. وما زالت شروط واشنطن كما هي، كما أن ذلك المثلّث لم يردع اسرائيل جنوباً بل إن إسرائيل قالت كلمتها بالحديد والنار، ولم تفلح حظوة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان لدى نظيره الأمريكي دونالد ترامب بإجبار إسرائيل على التنازل للأتراك، ففشلت بينهما مباحثات الوساطة الأذربيجانية، ولم تزل خطوط تل أبيب نفسها. لذا، لجأت دمشق إلى تنويع الوسطاء مع الغرب وإسرائيل، ولا بوابة أمثل لذلك من تحسين العلاقة مع الإمارات”.
ويتكهّن عبد الله بأن حل اللواء الثامن وتسليم سلاحه مرتبطان بتفاهمات سبقت ذهاب الشرع إلى العاصمة الإماراتيّة، واصفاً ذلك بأنه “مؤشّر إيجابي على صعيد الداخل قبل كل شيء، فكل تفاهم يتيح لدمشق لملمة الخارطة السوريّة هو خطوة محمودة، وإن احتاج السوريون لشيء من الانتظار حتّى يتلمّسوا النتائج، كحال التفاهم مع قوات سوريا الديموقراطيّة (قسد)”. كما يشدّد على أن “ما نرجو الوصول إليه من تفاهمات مع السويداء، والساحل السوري، وحلحلة الوضع في درعا لما تمثله من رمزيّة للثورة السوريّة، فهي مهد الثورة ورأب الصدع فيها رأب للصدع الجغرافي والسياسي والوجداني”.
ويضيف عبد الله أن “كلمة السر هي بداية في وضع العلاقات مع الإمارات على الدرب الصحيح، لأن الزيارة مؤشر إيجابي، لكن الاعتقاد بأن العلاقات أصبحت دافئة وخالية من التباينات هو اعتقاد غير دقيق. فالحصول على نتائج حقيقيّة من الزيارة مرتبط بقدرة الرئيس الشرع على تصفير المخاوف الإماراتيّة، تليها المصريّة، والأردنيّة تحديداً، من وصول الإسلام السياسي إلى الحكم في سوريا، أضف إلى ذلك حساسية هذه الدول من ملف المقاتلين الأجانب، فإرضاء هذه الدول وإلغاء مخاوفها يعني بالنتيجة إرضاء واشنطن وتل أبيب التي تمتلك علاقات كاملة مع الدول الثلاث، وتمثّل أبو ظبي رأس الحربة في الاتفاقات الإبراهيمية بينها وبين الدول العربية. لذا، قد يفلح محمد بن زايد فيما عجز عنه أردوغان من ناحية تبريد الوضع بين الإدارة السوريّة الجديدة ونتنياهو، ويفتح الباب على مصراعيه للرئيس الشرع نحو علاقات أكثر استقراراً مع القاهرة وعَمَّان”.
لكن بسام السليمان يميل إلي أن زيارة الرئيس الشرع إلى الإمارات “ناقشت مسائل أكبر وأكثر إستراتيجية، مع التأكيد على أنه يمكن للإمارات أن تساهم في حلّ ملف إسرائيل، فهي الأقدر على إدارة ملف بهذا الحجم أكثر من قطر”.
وعليه، يرى مراقبون أن أبو ظبي قد تكون، رغم عدائها للإسلام السياسي، بمثابة “حبل نجاة حقيقيّ” للإدارة السوريّة الجديدة، سيّما مع ما يتردّد من امتلاكها حظوة لدى على بعض الفصائل المسلّحة المناوئة للإدارة الجديدة، ما يعني ضرورة التواصل معها لإبعاد خطر القلاقل الداخلية، عدا عن كونها ذات مكانة مهمّة عربيّاً ودوليّاً من شأنها أن تساعد الشرع في جعله مقبولاً، والأهم في ما تملكه من تأثير وعلاقات مع إسرائيل قد تمكّنها من المساهمة في إبعاد خطرها عن دمشق وحكمها الوليد.
هل يتكرّر سيناريو الانفتاح على الأسد؟
شهدت الفترة السابقة لإسقاط نظام بشار الأسد علاقات عربية جيّدة ومتسارعة مع نظامه، وخصوصاً من دول الخليج حيث ظهر بشار وكأنما هو الرئيس الذي ثبّت أركان حكمه، وقضى على جميع خصومه، وعاد مرفوع الرأس إلى الحضن العربي، وذلك قبل أن ينتهي به الحال مهزوماً هارباً في روسيا.
على نفس المنوال، يتخوّف البعض من أن حالة الانفتاح العربي المشابهة التي تحظى بها السلطة السوريّة الجديدة لعدة أسباب لا تتعلق بماضي هذه الإدارة، بل برغبة المحيط العربي بتلقّف الحالة السوريّة، ومنع أنقرة من بسط سيطرتها على دمشق. ويبقى السؤال: هل هذا الانفتاح قادر على حماية النظام الجديد من مصير بشار الأسد؟
في هذا الصدد، ينبّه بشار عبد الله إلى أنه “ليس هناك ما يمنع فشل الانفتاح العربي في حماية الإدارة السوريّة الجديدة كما حدث مع نظام الأسد سابقاً. الأسد كان مقتنعاً في قرارة نفسه بعجز إيران عن تعويمه، وعدم قدرة طهران على انتشاله اقتصادياً، فكان الانفتاح العربي طوق نجاة له، لكنه لم يكن قادراً بقواه الذاتية على طرد إيران وحزب الله. في المقابل، لم يكن لدى الدول العربية سوى خطّة الخطوة بخطوة، فقدّمت له الجزرة التي لم يسعف الوقت الأسد لأكلها”.
ويعتقد عبد الله أن “معادلة اليوم شبيهة؛ العرب قلقون من توغّل النفوذ التركي والإسلام السياسي في سوريا، لكنهم متمسّكون بالجزرة ينتظرون من الإدارة السوريّة أن تتقدّم خطوة ليتقدّموا خطوة، لكنهم يدركون اليوم، على عكس ما توهّموا أيام الأسد، أن النظام الجديد الذي يُرسم اليوم في الإقليم لا ينتظر، ولا يقبل ممن يريد دوراً فيه ألا يشارك في رسمه ويلعب بالوقت، لذلك عليهم ترك الصبر الإستراتيجي إن أرادوا لسوريا أن تكون حقاً في الحضن العربي”.
الموازنة بين الحضنين العربي والتركي
بعد أن تبنّت تركيا بقيادة أردوغان عملية “رد العدوان” دولياً ودعمتها حتّى وصل قادتها إلى سدة الحكم في دمشق وأسقطوا نظام البعث، أصبحت عرّاب الإدارة الجديدة وبوابتها خارج حدود سوريا، الأمر الذي خلق حالة من الإرباك لدمشق في علاقاتها مع المحيط العربي الذي يملك تاريخاً حافلاً من السجال مع أنقرة، لتجد الإدارة الجديدة نفسها بين تيارين لا يمكنها السير مع واحد منهما على حساب الآخر، فهي تحتاج إلى خلق التوازن ومداورة الزاوية بين الطرفين.
ويعتقد بسام السليمان أن “هناك توازن في العلاقات بين التركي والعربي في سوريا حالياً، والطرفان يريدان هذا التوازن على عكس ما جرى في 2013 حين اختلف الطرفان، وأثّر ذلك على مسار الثورة. يضاف إلى ذلك وجود قيادة واعية اليوم في دمشق، قادرة على إدارة الملفات”.
وعن توازن العلاقات بين العربي والتركي في سوريا، يقول بشار عبد الله: “ليس الأمر بالسهولة المتخيّلة، لا سيّما وأن الإدارة السوريّة لا تملك موازين قوى لصالحها مع أي دولة إقليمية دون اتكالها على دولة إقليمية أخرى، وإذا اعتبرنا العرب جسماً صلباً مقابل الأتراك، فيمكننا القول إن التوازن من الصعب أن يكون بيد المايسترو السوري وتجاوز الخلافات والصراعات بين المعسكرين، وخاصّةً مع امتداد التنافس على كامل رقعة الإقليم”.
ويستفيض: “إن اعتبرنا أن العرب مضطرون للتنازل أكثر للإدارة السوريّة لانعكاس أي أثر سلبي في سوريا بشكل مبالغ فيه على الواقع العربي، بالتزامن مع صفقة أمريكية إيرانيّة مرتقبة، واستيقاظ المارد العثماني، ولحظة الزهو الإسرائيلية بوجودها في الجنوب السوري، وبينما يتوقّع العرب أن يكون كل هذا على حسابهم، نجد الأتراك في سوريا غير مبالين بأي مصلحة سوريّة لا تتفق مع مصالحهم الإستراتيجية، لدرجة بات الجميع معها مقتنعاً بأن مفتاح ملف المقاتلين الأجانب المعرقل لرفع العقوبات عن سوريا مع الشرع وأردوغان، وأن سبل حلّه تناقش في أنقرة لا في دمشق، فهذه المجموعات دخلت من الأراضي التركيّة وتنعم بتنسيق عال مع مخابراتها، لذلك هي أشبه بفاغنر تركي لا يتم إقصاؤه عن الكعكة إلا من خلال إرضاء تركيا”.
ويختم عبد الله بالتساؤل: “كيف للرئيس الشرع أن يمسك العصا من المنتصف، وهو يزور تركيا إما قبل أي زيارة لدولة عربية أو بعدها؟ من الواضح أن أنقرة تُرهق دمشق ولا تهتم بعدم إحراجها ولو من حيث الشكل. لذا، أظن بأن التوازن التركي العربي غير ممكن بسهولة، ويحتاج ربما حسماً من خارج الطرفين”.
في المحصّلة، لا يمكن للإدارة السوريّة الجديدة حلّ الملفات الداخلية والخارجية لوحدها، نظراً لثِقل التركة التي خلّفها نظام بشار الأسد، كما لا يمكنها الاعتماد على تركيا دون المحيط العربي، وفي الوقت ذاته قد تجد نفسها مشغولة بإيجاد صيغة مشتركة بين الطرفين تضمن الحصول على خير الطرفين، دون الدخول في صراعاتهما الإقليمية، في وقت تشهد فيه دمشق ضغطاً أمريكياً كبيراً وشروطاً صعبة لرفع العقوبات عنها والاعتراف بها، مع خطر إسرائيلي شبه يومي يهدّد وحدة الأراضي السوريّة لم تفلح معه كل محاولات تركيا لحماية الإدارة الجديدة، ما يعني أن ملف العلاقات الخارجية سيبقى ممتلئاً بفخاخ تحتاج إلى جهد كبير من دمشق لتجنّبها، إضافة إلى توافق شعبي داعم للإدارة الجديدة بعيداً عن التوترات الحاصلة في العلاقة مع بعض المكونات، الأمر الذي يمكن أن يؤثر على شكل العلاقة مع الإقليم.
رصيف 22
—————————–
========================
واقع وكواليس الاتفاق بين “قسد” وحكومة الجمهورية العربية السورية مقالات وتحليلات تتحدث يوميا تحديث 06 أيار 2025
لمتابعة تفاصيل هذا الملف اتبع الرابط التالي
دوافع وكواليس الاتفاق بين “قسد” وأحمد الشرع
—————————
مؤتمر وحدة الصف الكردي في القامشلي: إعادة تموضع أم محاولة فرض أمر واقع؟
2 أيار/مايو ,2025
في ظلّ إعادة انتشار القوات الأميركية وقوات التحالف الدولي في الجزيرة السورية، والتقدّم المحدود في موقف الولايات المتحدة تجاه الإدارة السورية الانتقالية، وفي ظل مراقبة تركيا لما يجري في الجزيرة السورية، انعقد مؤتمر بعنوان “وحدة الصف والموقف الكردي في روجآفاي كردستان”، في مدينة القامشلي، يوم 26 أبريل/ نيسان 2025. وقد زاد هذا المؤتمر ومخرجاته المشهد تعقيدًا، إذ وضع الأكراد السوريين أمام تحدٍ كبير، يتمثل في تحييد قضيتهم عن النزاعات الكردية الإقليمية الأخرى، في ظل توازنات إقليمية ودولية دقيقة ومعقدة. ويأتي هذا المؤتمر بعد سلسلة محاولات سابقة لرعاية اتفاقات بين القوى الكردية، برعاية من الرئيس مسعود البرزاني، إلا أنها لم تجد طريقها إلى التنفيذ.
شارك في المؤتمر أكثر من 400 شخصية، من بينهم قادة في المجلس الوطني الكردي، وأحزاب الوحدة الوطنية الكردية، إضافة إلى ممثلين عن أحزاب كردية أخرى وشخصيات مستقلة، وممثلين عن حزب العمال الكردستاني (PKK)، وممثلين عن أحزاب كردية من إقليم كردستان العراق، ومراقبين من أحزاب كردية تركية، مثل حزب المساواة وديمقراطية الشعوب، إلى جانب المبعوث الأميركي سكوت بولز، وقادة عسكريين من قوات التحالف الدولي.
استمرّت التحضيرات للمؤتمر قرابة خمسة أشهر، وتركّزت أجندته على صياغة رؤية كردية موحدة، تحدد معالم مشاركة الأكراد في مستقبل سورية. وقد تبنّى المشاركون وثيقة سياسية مشتركة، تدعو إلى بناء دولة ديمقراطية لامركزية في سورية، تضمن في دستورها حقوق “الشعب الكردي”. ونصّت الوثيقة الختامية على ذلك، على الرغم من أن الحكومة السورية أكّدت مرارًا التزامها بحفظ وصون حقوق الأكراد، كما سائر مكونات الشعب السوري، ضمن إطار الدولة الواحدة.
وكان الرئيس السوري الانتقالي أحمد الشرع وقائد قوات (قسد) مظلوم عبدي وقّعا، في 10 آذار/ مارس 2025، اتفاقًا ينصّ على اعتبار “الأكراد” مكوّنًا أصيلًا في الدولة السورية، وضمان كامل حقوقه الدستورية، ودمج المؤسسات المدنية والعسكرية للإدارة الذاتية ضمن مؤسسات الدولة السورية. وبالرغم من الاتفاق، أبدت (قسد) انتقادات للإعلان الدستوري، معتبرة أنه منح الرئيس الانتقالي سلطات واسعة لا تتناسب مع متطلبات المرحلة الانتقالية، كما أبدت اعتراضها على الحكومة الجديدة إذ رأت أنها لا تعبّر عن التنوع السوري، على الرغم من مشاركة وزيرين كرديين فيها، وما تزال (قسد) ترفض دمج قواتها ضمن وزارة الدفاع السورية، وتماطل في تسليم المناطق التي تحت سيطرتها للحكومة الانتقالية، وهذا ما يجري في منطقة سد تشرين على سبيل المثال.
مخرجات المؤتمر:
وثيقة سياسية تأسيسية:
أعلن المؤتمر وثيقة سياسية، تضمّنت مجموعة من المبادئ العامة التي تُلاقي توافقًا واسعًا بين السوريين، خصوصًا ما يتعلق بقضايا مشاركة المرأة في الحياة السياسية والعامة، وحماية حقوق الطفل، والتأكيد على وحدة الأراضي السورية، واعتماد هوية وطنية جامعة تراعي مختلف المكونات القومية والدينية، والالتزام بالمواثيق والمعاهدات الدولية. إلا الوثيقة تضمّنت بعض القضايا الخلافية التي لا تحظى بإجماع وطني سوري، ومن أبرزها:
“نظام الحكم البرلماني بغرفتين”، حيث نصّت الوثيقة على اعتماد نظام برلماني ثنائي الغرف، وهو طرحٌ لا يلقى توافقًا عامًا بين السوريين، ولا سيما بعد معاينة التجارب السلبية للنظام البرلماني في لبنان والعراق، فضلًا عن أن غياب أحزاب سياسية فاعلة حاليًا في سورية يزيد من صعوبة نجاح هذا النموذج، وهذا ما يجعل الخيار الأقرب للنقاش هو النظام شبه الرئاسي أو الرئاسي، وهي قضايا سيحددها الدستور الدائم.
“تغيير علم الدولة واسمها ولغاتها الرسمية والأعياد الرسمية”، وهي قضايا سيادية حساسة، يجري التوافق عليها عادة في مراحل دستورية نهائية عبر استفتاء شعبي، وليس عبر مبادرات جزئية.
تشكيل جمعية تأسيسية “برعاية دولية”، فالدعوة إلى جمعية تأسيسية برعاية دولية قد تواجه رفضًا واسعًا، إذ يرى كثيرون أن مثل هذا الطرح يمسّ السيادة الوطنية، ويخضع القرار السوري للضغوط الخارجية.
إيقاف عمليات التغيير الديموغرافي وإلغاء نتائجه، وهو مطلب يحظى بتأييد عام من حيث المبدأ، لكنه قد يثير جدلًا حول التفسيرات المختلفة لماهية “التغيير الديموغرافي”.
“الاعتراف بالديانة الإيزيدية ديانة رسمية”، مع أن الوثيقة تؤكّد حيادية الدولة تجاه الأديان، فضلًا عن أنّ عدد أتباع الديانة الإيزيدية لا يتجاوز بضع مئات في سورية.
جعل المناطق الكردية “وحدة سياسية إدارية متكاملة ضمن سورية اتحادية”، ويثير هذا الطرح إشكاليات حقيقية، خاصة مع غياب تعريف دقيق لماهية “المناطق الكردية”، وكيفية تكوين وحدة سياسية متماسكة رغم التباعد الجغرافي بين هذه المناطق، ولم تذكر الوثيقة كلمة فدرالية، ولكن روح الوثيقة فيدرالي.
“ضمان تمثيل الكُرد في مؤسسات الدولة”، فعلى الرغم من تأكيد الوثيقة على المساواة بين المواطنين، فإن تخصيص نسب أو مقاعد لمكوّن بعينه يتناقض مع مبدأ المواطنة الكاملة والمساواة أمام القانون، ويؤسس نظام محاصصة، وسيدفع مجموعات أخرى للمطالبة بالمثل، مما يعني شرذمة سورية.
الإشارة إلى قضية “الحزام العربي”، حيث ذكرت الوثيقة “الحزام العربي”، وهو تعبيرٌ يثير حساسيات لكونه يرتبط بسياسات سابقة في محافظة الحسكة، ولا سيما إسكان المغمورين من سد الفرات في أراضٍ زراعية تابعة في معظمها للدولة، وهو موضوع قديم يتم تضخيمه دائمًا، وقد زالت آثاره الفعلية، وقد يُثير إعادة فتح هذا الملف حساسيات اجتماعية ومناطقية.
المطالبة بتطوير البنية التحتية للمناطق الكردية، علمًا أن معظم مناطق سورية كانت مهمّشة، مثل دير الزور والرقة وريف حلب والسويداء وغيرها.
تشكيل وفد تفاوضي موحد
اتفق المؤتمرون على تشكيل وفد كردي موحد، يتولى مهمة التفاوض مع الحكومة السورية الانتقالية، ودعا البيان الختامي إلى اعتماد الرؤية السياسية المشتركة، كأساس لأي حوار وطني مستقبلي بين القوى الكردية من جهة، والإدارة الانتقالية في دمشق من جهة أخرى، مع تأكيد أهمية التنسيق مع مختلف الأطراف الفاعلة لترجمة مضامين هذه الرؤية إلى خطوات عملية.
موقف السوريين والقوى الكردية الأخرى من مؤتمر القامشلي:
تفاوتت ردود الفعل داخل المجتمع الكردي السوري، إزاء مخرجات مؤتمر القامشلي، فقد اعترضت عدة قوى وشخصيات كردية على نتائج المؤتمر، معتبرة أنه لا يمثّل جميع الأكراد السوريين، وأن هناك عددًا من المناطق الكردية لم تكن ممثلة في المؤتمر، ومن أبرز هذه المواقف:
“بيان الكتل السياسية والعشائرية والمدنية الكردية” الذي أعلن صراحة رفضه لوثيقة المؤتمر.
“رابطة الكرد المستقلين السوريين” التي أكدت أن المؤتمر ومخرجاته “لا يعنيها”.
في المقابل، رحّبت بعض القوى الكردية بالمؤتمر، معتبرة إياه بداية لمرحلة جديدة نحو تحقيق “الحقوق القومية” للأكراد ضمن إطار الدولة السورية.
أما من جهة المكونات الأخرى، فقد عبّرت قطاعات واسعة، من السكان العرب والسريان، عن تخوفهم من أن تؤدي مخرجات المؤتمر إلى تهميشهم سياسيًا، وأصدر تجمع أبناء الجزيرة (تاج) بيانًا، رفض فيه وثيقة المؤتمر، وانتقد استمرار انتهاكات قوات (قسد) في المنطقة.
موقف الحكومة السورية الانتقالية:
في اليوم التالي لانعقاد المؤتمر، أصدرت الرئاسة السورية بيانًا رسميًا عبّرت فيه عن رفضها القاطع لأي محاولات لفرض واقع تقسيمي أو إنشاء كيانات منفصلة بمسميات الفدرالية أو الإدارة الذاتية من دون توافق وطني شامل، والتشديد على أن وحدة سورية، أرضًا وشعبًا، خط أحمر لا يمكن تجاوزه، وأن تحركات وتصريحات (قسد) تتعارض مع مضمون الاتفاق الموقع بين الرئيس الانتقالي أحمد الشرع ومظلوم عبدي في 10 آذار/ مارس الماضي، والذي اعتُبر “خطوة إيجابية نحو التهدئة والانفتاح على حلّ وطني شامل، وأن الدعوات إلى الفدرالية وتكريس واقع انفصالي تهدد وحدة البلاد، وأن هناك قلقًا بالغًا من ممارسات تشير إلى توجهات خطيرة نحو تغيير ديموغرافي في بعض المناطق، بما يهدد النسيج الاجتماعي السوري.
وحذرت الرئاسة السورية من تعطيل مؤسسات الدولة في مناطق سيطرة (قسد)، ومن تقييد وصول المواطنين إلى خدماتها، واحتكار الموارد الوطنية وتسخيرها خارج إطار الدولة، وأكدت أن حقوق الأكراد مصونة في إطار الدولة السورية الواحدة، على قاعدة المواطنة الكاملة والمساواة أمام القانون، من دون الحاجة لأي تدخلات خارجية أو وصاية أجنبية، وبالرغم من تشدد خطابها، تركت الحكومة الانتقالية باب المناورة مفتوحًا، عبر التأكيد على استعدادها لاحقًا للبحث في تسويات شكلية تحت سقف وحدة سورية، حيث إن الحكومة تريد التفرغ أكثر لبعض الملفات الأكثر حساسية في هذه الفترة، قبل التفرغ لملف (قسد).
المواقف الإقليمية والدولية
عبر مشاركة مبعوثها الخاص، أرسلت واشنطن رسالة دعم سياسي للأكراد السوريين، لكنها حرصت على عدم الذهاب بعيدًا، لإنها تراعي في الوقت ذاته علاقتها مع أنقرة، كحليف في الناتو، ما يجعل سياستها تجاه الأكراد السوريين مرتبكة ومحكومة بالحسابات التكتيكية، وهذا التباين يُنتج وضعًا هشًا بالنسبة لـ (قسد)، التي لا تستطيع الاعتماد استراتيجيًا على واشنطن في الوقت الحالي، ولا بناء شراكة مؤسساتية مستدامة، مما يُضعف موقفها التفاوضي مع دمشق.
وبالنسبة إلى تركيا، فرغم عدم إصدارها موقفًا رسميًا، فقد أبدت، عبر تسريبات إعلامية، معارضة شديدة للمؤتمر، خاصة بسبب مشاركة شخصيات مرتبطة بـ حزب العمال الكردستاني (PKK)، وهو ما تعتبره أنقرة تهديدًا مباشرًا لأمنها القومي.
بينما قدّم إقليم كردستان العراق دعمًا سياسيًا وإعلاميًا قويًا للمؤتمر، انطلاقًا من اعتبارات قومية ومصلحية ترتبط بتعزيز دور الإقليم ضمن المعادلة الإقليمية والدولية، ودعم الإقليم للمؤتمر يعكس رغبته في تعزيز النفوذ الكردي السوري ضمن معادلة كردستانية أوسع، لكن هذا الدعم يصطدم بحساسيات تركيا من تقارب أي مكون كردي سوري مع حزب العمال الكردستاني، والعلاقات الجيدة بين أربيل وأنقرة قد تجعل الإقليم وسيطًا محتملًا، في حال حصول توافق دولي على تسوية ما، لكنه في المقابل لا يستطيع تبني (قسد) بالكامل من دون إغضاب تركيا.
السيناريوهات المستقبلية المحتملة
سيناريو التسوية السياسية
يُعدّ هذا السيناريو الأكثر توازنًا، من حيث المكاسب الممكنة لكافة الأطراف، إذ إن نجاح الوفد الكردي الموحد في التفاوض مع الإدارة السورية الانتقالية، بدعم إقليمي ودولي، ولا سيما إذا جرى انسحاب أميركي من المنطقة، قد يؤدي إلى إقرار صيغة لامركزية تضمن وحدة سورية، وتكفل حقوق كل المكونات والمناطق السورية.
ويمثل توحيد الصف الكردي، في حال تحققه، عاملَ قوّة تفاوضي، ولا سيما مع طرح رؤية سياسية معتدلة ومتوازنة تُعزز القبول المحلي والدولي. وعلى الرغم من أن هذا السيناريو يبدو الأكثر عقلانية، فإن تحقيقه يصطدم بعدة عوائق منها:
غياب الثقة المتبادلة بين (قسد) ودمشق.
تباين كبير في التصورات حول شكل النظام السياسي.
وجود فيتو إقليمي، خاصة من تركيا، لأي مشروع يمنح الأكراد شرعية مؤسسية في الشمال السوري.
وهو سيناريو قابل للتحقق على المدى المتوسط، لكنّه يتطلب تنازلات من الطرفين، وضمانات دولية واضحة.
سيناريو التصعيد والانفجار:
في حال فشل الحوار واستمرار الخطاب المتشدد من قبل (قسد)، وثبات موقف دمشق الرافض لأي صيغة فدرالية خارج إطار التوافق الوطني، مع رفض أميركي للانسحاب، وتشدد تركي؛ فقد يؤدي ذلك إلى انسداد سياسي كامل، قد يُفضي لاحقًا إلى تصعيد عسكري، وهناك عوامل تعزز هذا السيناريو:
تحفيز إقليمي (خصوصًا تركي) لدفع دمشق نحو المواجهة المباشرة أو غير المباشرة.
المخاوف من أن يكون المؤتمر الأخير مدخلًا لفرض أمر واقع سياسي على الأرض.
التناقض بين الخطاب المعتدل لبعض القيادات الكردية، وبين مشاركة شخصيات مرتبطة بحزب العمال الكردستاني (PKK)، ما يُضعف المصداقية الدولية.
هذا السيناريو أقلّ ترجيحًا من سيناريو الجمود، إلا أنه يبقى واردًا، ولا سيما إذا استمر تصاعد التوتر دون مسار تفاوضي جدي، ويرتبط بتطورات المشهد الإقليمي والدولي، وخاصة موقف أميركا.
سيناريو الجمود السياسي (السيناريو الأرجح حاليًا)
في المدى القريب، يُرجّح أن تستمر (قسد) بحكم الأمر الواقع في المناطق التي تخضع لسيطرتها، في ظل غياب تسوية نهائية، وبقاء الوضع السياسي هشًا وخاضعًا لمساومات متقطعة بين الأطراف المحلية والدولية، خاصة مع عدم وضوح الموقف الأميركي من الإدارة الجديدة، والقرار بشأن الانسحاب من منطقة الجزيرة السورية، ما يعني استمرار (قسد) بدون اعتراف رسمي، وتقييد الدولة السورية في مؤسساتها وسيادتها ضمن تلك المناطق، وانشغال الأطراف الدولية بمصالحها، دون الدفع الحقيقي نحو تسوية.
هذا الوضع غير مستدام على المدى البعيد، ويُمهّد إما لتسوية واقعية، أو لتصعيد مفاجئ في حال تبدّل المعادلات الدولية، خصوصًا في حال انحسار الدعم الأميركي أو تغير الموقف الأميركي من (قسد)، واحتماليته مرتفعة جدًا في المدى القصير.
خاتمة
جاء مؤتمر وحدة القوى الكردية في القامشلي محاولة بارزة لإعادة ترتيب البيت الكردي السوري وتوحيد الموقف السياسي، وهو بلا شك محطة مفصلية في مسار القضية الكردية، غير أن مدى نجاحه سيعتمد على قدرة القادة الأكراد على صياغة خطاب وطني جامع يطمئن بقية المكونات السورية والإقليمية، وعلى مدى تجاوب الحكومة السورية الانتقالية مع المطالب المطروحة، إضافة إلى حجم الدعم الدولي وإرادته في دفع عجلة الحل.
وقد أثارت الوثيقة السياسية الصادرة عن المؤتمر نقاشًا واسعًا، حيث إنها عكست تصعيدًا في سقف المطالب، واستخدام المؤتمر كورقة ضغط على دمشق لانتزاع مكاسب سياسية. وأثار ذلك مخاوف من محاولات (قسد) لاستثمار الاتفاقات السابقة، لفرض نفسها كممثل وحيد للأكراد، والدفع نحو تسويات مشروطة تكرّس الانفصال بدل الشراكة الوطنية.
ومع أن الاتفاق، بين الرئيس أحمد الشرع ومظلوم عبدي، ينصّ على دمج المؤسسات الكردية ضمن مؤسسات الدولة السورية، فإن (قسد) لا تراهن على قدراتها الذاتية، بل على الدعم السياسي الأميركي والدولي لمنع أي مواجهة مع دمشق، مع مساعٍ واضحة لتثبيت وجودها كطرف لا يمكن تجاوزه في العملية السياسية، وتشير المعطيات الميدانية إلى أنّ هذا الرهان محفوف بالمخاطر، في ظلّ تغير المزاج الدولي لصالح الدولة السورية، وتصاعد السخط الشعبي داخل مناطق الإدارة الذاتية، نتيجة ممارسات (قسد) وانفرادها بالقرار.
وتُظهر التجارب المقارنة أنّ الحلول الأحادية تُقلّل من فرص تحقيق استقرار طويل الأمد، ومن ثم، فإن مستقبل القضية الكردية في سورية يكون من خلال انخراط فعّال في عملية وطنية شاملة، تقوم على شراكة متوازنة، واعتراف متبادل، ضمن دولة ديمقراطية موحدة، تحترم التعدد القومي والثقافي، وتضمن المساواة الكاملة بين جميع أبنائها.
ويقف مسار الأزمة في الجزيرة السورية عند مفترق حسّاس، بين فرص تسوية وطنية، ومخاطر التصعيد، أو الجمود، وتُظهر السيناريوهات أن التسوية السياسية، القائمة على صيغة لا مركزية ضمن إطار الدولة السورية الموحدة، تمثّل الخيار الأمثل، لكنها مشروطة بتنازلات متبادلة وبوجود مرونة تفاوضية من جميع الأطراف. وفي المقابل، يبقى احتمال التصعيد واردًا، إذا فشل الحوار السياسي، واستمرّ التناقض بين خطاب (قسد) السياسي وارتباطاتها الإقليمية، فيما يبدو الجمود السياسي السيناريو الأرجح مؤقتًا، لكنه هش وقابل للانفجار مع تغير المعطيات الإقليمية والدولية.
إن بناء شراكة وطنية حقيقية يبقى السبيل الوحيد لضمان استقرار دائم، وإنّ إخراج الجزيرة السورية من دائرة النزاعات المفتوحة، نحو صيغة سياسية شاملة، قد يُسهِم في تعزيز شرعية مؤسسات الدولة وتحقيق التوازن المجتمعي.
تحميل الموضوع
مركز حرمون
————————————
تجاذبات اللامركزية وضرورة الوصول إلى صيغة وطنية شاملة لها في سوريا/ د. عبد المنعم حلبي
2025.05.04
تُطِلُّ اللامركزية من جديد على المشهد السوري المُعقد، في ظل إصرار بعض الأطراف طرح الصيغة السياسية منها، الفيدرالية أو ما يقاربها، عبر مطالب قومية ومذهبية لا تخلو من الاستقواء بالخارج. ولكن اللامركزية بشكلها الإداري والمالي، بما فيه الموسَّع، كانت مطلباً مهماً لمؤسسات المعارضة السورية وأغلب مثقفيها ومسؤوليها قبل سقوط النظام، فلماذا لا يتم طرح اللامركزية ضمن إطار وطني شامل لإنجاز صيغة منها تتناسب مع الواقع السوري، ومتطلبات حماية وحدة البلاد، وتمنح المشاركة العادلة لجميع السوريين في إدارة شؤونهم وثرواتهم وصناعة مستقبلهم؟!
وهكذا وأمام المساعي والجهود والاتفاقات المنجزة وعراقيل تطبيقاتها على الأرض، بخصوص دمج المؤسسات المدنية والقوات العسكرية التي بقيت خارج سلطة دمشق خلال اثتني عشرة سنة مضت، تثور مشكلة تطبيق اللامركزية بمستوياتها المتعددة، بدءاً من المستوى الطبيعي من الحكم المحلي، إلى نوع من اللامركزية الإدارية، أو الموسعة مالياً، وصولاً إلى طرح اللامركزية السياسية بمعنى الفيدرالية، والذي تبناه بشكل أو بآخر ما سمي بمؤتمر وحدة الصف الكردي الذي عُقد في القامشلي في 26 نيسان الماضي. ومع استمرار المطالب المشابهة في كل من الساحل والسويداء بعد أحداث العنف التي عصفت في كل منهما، تثور مخاوف العديد من الأطراف الأخرى في صفوف الأغلبية من فرض مركزية دمشق مجدداً على سوريا، بالصورة التي كانت موجودة في ظل نظام الأسد.
لقد بقيت طروحات الفيدرالية تشكل بالنسبة لغالبية السوريين ناقوس خطر، كما بقيت دعوات اللامركزية الموسعة إدارياً ومالياً تثير مخاوف تبدو حقيقية بالنسبة لتطبيقها على مناطق معينة، في ظل السيطرة العسكرية لقسد لمناطق سورية واسعة. ومن الواضح هنا أن السنوات السبع الماضية على تجربة الإدارة الذاتية في المناطق ذات أغلبية كردية، والمناطق ذات الأغلبية العربية التي استولت عليها قسد في الحرب على تنظيم الدولة، تعتبر الركيزة الأساسية التي يتم الاستناد إليها في تلك النقاشات والطروحات والمخاوف على حد سواء، ليأتي المؤتمر الكردي المشار إليه، ليجسد أول ظهور سياسي واضح لتلك المطالب، ويثير في الوقت نفسه ذروة مخاوف تبدو حقيقية هذه المرة على مستقبل النظام السياسي الدستوري ووحدة الدولة السورية.
أحداث الساحل في الأسبوع الأول من آذار كانت قد أدت إلى مطالب مماثلة بالحكم الذاتي من قبل شخصيات ومؤسسات علوية في الخارج، والتي اعتبرت أن ما جرى شكَّل حالة لا يمكن تمريرها بدون العمل على وضع إطار إداري خاص بالمنطقة التي يوجد فيها العلويون بكثافة في الساحل السوري، امتداداً إلى ريف حمص وأجزاء من الريف الحموي أيضاً.
وإذا ما أضفنا إلى المشهد محافظة السويداء، فإننا نستذكر هنا أن الحراك الذي انطلق قبل عام كامل من سقوط النظام، كانت مطالبه تتضمن شكلاً موسعاً جداً من أشكال اللامركزية. وقد استمر ممثل ذلك الحراك وهو شيخ عقل الطائفة الدرزية حكمت الهجري بتلك المطالب بصورة أكثر إلحاحاً بعد سقوط النظام، في ظل توتر مستمر في علاقته مع السلطات السورية الجديدة في دمشق، والتي زاد من حساسيتها التحركات الإسرائيلية العسكرية في الجولان، وتهديدات نتنياهو بالتدخل في الجنوب السوري، وصولاً للاشتباك العسكري والأمني الأخير، المترافق مع الضربات الجوية الإسرائيلية على قصر الشعب والعديد من الأهداف العسكرية.
ومع بقاء أغلب المعارضين السوريين للنظام ضد أي طرح حول الفيدرالية، إلا أننا كنا نجد قلة قليلة منهم فقط متمسكين بالمركزية الدمشقية، فكلنا نعرف قبل سقوط النظام، بأن نقاشات وطروحات وأبحاثاً متعددة الأطراف كانت قد تمت بالفعل خلال السنوات الماضية، عبر مثقفين وباحثين وسياسيين معارضين ومؤسسات بحثية تابعة للمعارضة، حول اللامركزية الإدارية، بل والمالية الموسّعة، والتي يمكن أن يتم منحها لجميع المحافظات والمدن والبلدات على مستوى الجغرافيا السورية في إطار أي حل سياسي، بمعنى نقل صلاحيات تنفيذية وإدارية من الوزارات دون استقلال تشريعي، بما فيها صلاحيات الجباية وتخصيص نسب من الضرائب المحلية لصالحها، تُصرف على واقعها الخدمي والمعيشي، وفق ميزانيات شفافة وخاضعة للرقابة الحكومية والمؤسسات المختصة، وتجري فيها انتخابات محلية تمثيلية تضمن دوراً سياسياً لكفاءاتها في خدمة الأهالي، بعيداً عن الحسابات المعقدة للسلطة والتي تكون مبنية –في الغالب- على الولاء. وعلى الرغم من اختفاء كل تلك المطالب المعارضة بعد سقوط النظام، إلا أن كثيراً من السوريين المنتمين للأغلبية، يُبدون خشيةً من استعادة دمشق لواقع المركزية الشديدة التي فرضها نظام الأسد على الجغرافيا السورية، في مختلف مناحي حياتهم السياسية والاقتصادية والاجتماعية وحتى الوظيفية. والتي تخللها إهمال تاريخي لمختلف المدن والمحافظات الكبرى، وعلى رأسها حلب، المدينة الصناعية والتجارية الأولى في البلاد، سواء إهمالها على مستوى البنية التحتية والخدمات، أو على مستوى التمثيل السياسي. فإذا ما وضعنا حجم الدمار وهو الأوسع الذي تعرضت له حلب خلال سنوات الحرب، وهي المدينة والمحافظة التي تمثل أكبر تجمع بشري للأغلبية، وحجم اللاجئين المرشحين للعودة إليها من تركيا ومختلف المناطق، فإننا يمكن أن نقدر ماذا يمكن أن يعنيه أي إهمال لحلب خلال المستقبل المنظور. أيضاً هناك دير الزور، المدينة والمحافظة التي تطفو على جوف ضخم من النفط والغاز، وهي بنفس الوقت المدينة التي تعاني من واقع التدمير المهول الذي تعرضت له خلال السنوات الاثنتي عشرة الماضية، ولا نعرف إذا كانت ستأخذ في إعادة إعمارها حصة من موارد النفط والغاز متناسبة مع التدمير الذي تعرضت له بسبب وجود هذه الموارد والصراع عليها.
وفي الواقع، إن الوقت لن يطول حتى تجد الحكومة الانتقالية والسلطة في دمشق نفسها أمام تدفق اللاجئين السوريين القادمين من الخارج إلى مدنهم وقراهم، والذي يُتوقع أن يكون كبيراً، بما سيحمل معه من استحقاقات ضخمة متعلقة بالواقع الخدمي وتلبية الاحتياجات الأكثر إلحاحاً، المرتبطة بترميم المنازل والبنية التحتية من الطرق والمدارس والكهرباء والمياه والصرف الصحي، ولا يُعقل هنا، أن تكون الدورة الإدارية والمالية لمواجهة الواقع القادم منوطة بآليات اتخاذ قرار وعمل مركزية، مشهود لها بالروتين البطيء والبيروقراطية المطوَّلة. لذلك فمن البديهي هنا أن تعمل السلطة السورية الانتقالية على أخذ زمام المبادرة في ملف اللامركزية الإدارية والمالية، وبشكل يمكنها من طرح رؤيتها بخصوص الحكم المحلي، والأطر التنظيمية التي يمكن أن تعمل من خلالها لتوسيع نطاقه بما يلبي احتياجات السكان، ويفضي إلى فرصٍ متكافئة في إشراك جميع السوريين في بناء مستقبلهم وإدارة شؤونهم وتحقيق العدالة في توزيع الثروة وجهود التنمية في ظل ضمانات دستورية وقانونية ومؤسساتية، وبيان مراحل وآليات التطبيق بصورة شاملة على الجغرافيا السورية كاملة، ضمن حقوق المواطنة، وانطلاقاً من التقسيمات الإدارية والتنظيمية الموجودة فعلاً، في إطار أربع عشرة محافظة أو تعديلها بما لا يؤثر على التنوع المجتمعي، وفي إطار منظورَي: المرحلة الانتقالية وفق الإعلان الدستوري وصولاً إلى الحالة الدستورية الدائمة، ودون أي اعتبار آخر محدود بالخصوصيات العرقية والمذهبية التي تستقوي بالخارج، أو أي تهديد أو تلاعب بوحدة البلاد وسيادتها، وبما يضمن إمساكاً مُحكماً للدولة المركزية بالملفات السيادية المرتبطة بقضايا الدفاع والتعليم والأمن والعلاقات الخارجية بصورة أساسية.
تلفزيون سوريا
——————————–
تحدّيات أمنية وسياسية أمام الشرع/ فاطمة ياسين
04 مايو 2025
تلتفّ حول سورية ظلال سوداء بعد خمسة أشهر من سقوط نظام الأسد، ونتابع اليوم مشهداً شديد الغموض، فما يحدُث يثير عواصف من الريبة والشك. كانت تركة الأسد ثقيلة بشكل هائل وتستلزم ورشات وتفاهمات لتباشر في حلحلة التعقيد الناجم عما خلفه بعد عقود طويلة، وعلى وجه الخصوص، خلال الأربعة عشر عاماً الأخيرة من سنوات حكمه.
ما زال عدم الوضوح يحيط بوضع قوات سوريا الديمقراطية (قسد) في الشمال السوري، وبعد توقيع اتفاق الشرع – مظلوم عبدي قبل شهر، ارتفع مستوى التفاؤل وغمرت البشرى الشوارع السورية على ضفتي الفرات، وتعزّزت تلك البشرى بعد الخطوات التي أنجزت في أحياء حلب. لكن الأمور فجأة تعقّدت، وصدر بيانٌ عن مجموعات كردية تتراجع فيه عن الاتفاق السابق، وترفع سقف مطالباتها بما يخالف الإعلان الدستوري الذي صدر قبل اتفاق الشرع – عبدي، وهذا ما عرقل الاتفاق عند خطوة سد تشرين، وجعل حالة من اللايقين تطفو مرّة أخرى على السطح، ووضعت السياسي في قصر الشعب في مأزق يستلزم إيجاد حلول جديدة.
على الجانب الآخر من سورية، وفي ضواحي العاصمة دمشق، تتحرّك مجموعات مسلحة تحاول إثارة الوضع، وهي ليست المرّة الأولى، وتضع الدولة السورية الوليدة أمام اختبار هام للغاية، وقياساً لمدى قدرتها على مواجهة وضع أمني غير مستقر، وأصبحت الدولة مطالبة بإعادة الهدوء إلى الشوارع وتنظيف المنطقة من السلاح وفرض الأمن، وإيقاف المجموعات التي تحمله وتستعمله لإثارة الفوضى. استغلّت المجموعات ما تعتقد أنه خاصرة رخوة للدولة، فتحرّكت في أطراف دمشق، لكن قوى الأمن استطاعت أن تسيطر على الشارع، وتعتقل من كان يحمل السلاح ضدّها، مثيراً فتنة وفوضى. وقد يمكننا حساب نقطة لصالح الدولة لسرعة تعاملها في حسم المسألة. ولكن لتكمل صورة الوضع الأمني المستقر، عليها بناء مظلّة أمنية واسعة الطيف تلفّ العاصمة وما حولها وتمتدّ إلى الجنوب، إلى حيث انتقلت الإضرابات في محافظة السويداء، بحيث تقطع الحكومة الطريقَ أمام إسرائيل التي تحاول النفاذ من فراغ أمني تحاول أن تُحدثه بعض المجموعات، تمهيداً لتداخل إسرائيلي. وقد حاولت إسرائيل بالفعل أن تتدخّل، فأرسلت مسيّراتٍ ضربت على مقربة من الحوادث المشتعلة، وفي دمشق وصلت إلى محيط قصر الرئيس نفسه، وهو تحدٍّ أمني آخر ذو مفاعيل خطيرة، يضع نفسه أمام الحكومة الجديدة.
ما زالت حكومة الشرع تتعاطى سياسياً مع مشكلة “قسد” في الشمال السوري، وتعطي أفضلية للمحادثات مهما طالت للوصول إلى حل من دون توريط يضع السوري أمام السوري في مواجهات عسكرية، فقد استُوعِبَت دروس الأربع عشرة سنة الماضية التي استنفدت من السوريين الكثير مادّياً ونفسياً. ومن المفيد التفكير مليّاً قبل القيام بخطوة إلى الأمام، بوجود كل هذا الشحن والتداخل الخارجي والتهديدات الكبيرة الماثلة على الأرض، وقد بدأ تنظيم الدولة الإسلامية يظهر ويختفي، وهو مستعد مرّة أخرى ليشغل أي فراغ يمكن أن يحدُث، والفراغات لا تأتي إلا بعد المعارك الكبيرة والسجالات العسكرية، وما زال الوقت متاحاً أمام السياسة لتأخذ دورها كاملاً، ولا بأس بمزيدٍ من الوقت لتجنّب المواجهات بالسلاح.
الاتفاق على ضم مزيدٍ من أبناء السويداء لجهاز الأمن العام خطوة جيدة، فمكوّنات سورية كلها ضرورية مهما كانت نسبتها داخل المجتمع، ومشاركتها بجدّية حاسمة. ومن أولويات الإنجاز السياسي الصحيح، ومن المهم التفريق بين مكوّن سوري أصيل (وكامل) ومجموعة عسكرية متمرّدة أو خارجة عن القانون. ولا بد من الاعتراف بالثقافة الخاصة للجميع من دون انتقاص أو تضييق، فلا يشعر مكوّنٌ بغضاضة أو بغُبن يجرّه إلى التمرّد أو طلب المساعدة من الخارج، وقد توجد جهات خارجية تنتظر “بشوق” أن توجّه إليها دعوة بالتدخل، وهناك تجربة مع وجود إيران ومليشياتها التي أذاقت السوريين الأمرّين، ولا يريدون بغالبيتهم تكرارها مع أي تدخّل خارجي جديد.
العربي الجديد
——————————-
شمال سوريا: تعيين أبوحاتم شقرا يهدّد اتفاق عبدي والشرع
الإثنين 2025/05/05
في خطوة عسكرية غير معلنة رسمياً، كلّفت وزارة الدفاع السورية العميد أحمد إحسان فياض الهايس، المعروف بلقبه “أبو حاتم شقرا”، بقيادة الفرقة (86)، المكلّفة بالعمل في قطاعات تشمل محافظات دير الزور، الرقة، والحسكة. وأفادت مصادر مطّلعة لموقع “العربي الجديد”، بأن القرار اتُّخذ اليوم الإثنين، في وقت تشهد فيه المنطقة الشرقية تصعيداً ميدانياً وارتباكاً سياسياً متنامياً.
وعبّر مصدر كردي مقرّب من “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد)، في تصريح خاص لـ”المدن”، عن مخاوفه من أن يؤدي تعيين شقرا في موقع عسكري رسمي إلى تقويض الاتفاق الذي وقّعه الرئيس أحمد الشرع وقائد “قسد” مظلوم عبدي، في آذار/مارس الماضي، والذي نصّ على دمج المؤسسات الإدارية والعسكرية للإدارة الذاتية ضمن هيكل الدولة السورية. إذ ترى أطراف كردية أن خطوة كهذه قد تمثّل تراجعاً عن وعود الشراكة وتفريغاً للاتفاق من مضمونه، في ظل غياب إجراءات المحاسبة والعدالة الانتقالية.
وقال المصدر إنه بينما تسعى الدولة إلى بسط سيادتها عبر إعادة هيكلة الأجهزة العسكرية والأمنية، فإن الاستمرار في إسناد المواقع القيادية إلى شخصيات يُتّهمون بارتكاب جرائم حرب، مثل شقرا، يهدّد بتفجير التفاهمات مع “قسد”، وتعميق فجوة الثقة مع المكوّن الكردي، الأمر الذي قد يعيد شرق سوريا إلى مفترق طرق حادّ بين التهدئة والتفكك.
من هو أبو حاتم شقرا؟
يُعد شقرا من أبرز القادة العسكريين المنحدرين من المنطقة الشرقية، إذ وُلد في بلدة الشقرا بريف دير الزور الغربي، عام 1987، ويحمل شهادة في العلوم السياسية والعلاقات الدولية نالها من جامعة ماردين التركية عام 2023. وقد لمع اسمه بعد أن أسّس فصيل “أحرار الشرقية” في يناير/كانون الثاني 2016، وقاده لاحقًا للاندماج ضمن “حركة التحرير والبناء” التي تضم فصائل أخرى مثل “جيش الشرقية”، و”الفرقة 20″، و”صقور الشام – قطاع الشمال”، وهي مجتمعة تُشكّل أحد أذرع “الجيش الوطني السوري” المعارض والمدعوم من تركيا.
وتسلّم شقرا قيادة “حركة التحرير والبناء” خلفاً للعقيد حسين الحمادي، في كانون الثاني/يناير 2024، قبل أن يتم تكليفه بمنصب رسمي داخل الجيش الوطني، رغم إدراجه على قائمة العقوبات الأميركية منذ تموز/يوليو 2021. وقد اتهمته وزارة الخزانة الأميركية حينها بالإشراف على سجنٍ يتبع لـ”أحرار الشرقية” في ريف حلب، شهد، بحسب تقارير حقوقية، عمليات إعدام ميدانية وتعذيب لمعتقلين منذ عام 2018، إلى جانب ضلوعه المباشر في ممارسات وصفتها واشنطن بأنها “انتهاكات جسيمة وممنهجة لحقوق الإنسان”.
ومن أبرز تلك الاتهامات، مسؤوليته عن اغتيال السياسية الكردية والأمينة العامة لحزب “سوريا المستقبل” هفرين خلف، التي قُتلت مع مرافقيها في عملية إعدام ميداني على الطريق الدولي “إم-4” قرب رأس العين، في تشرين الأول/أكتوبر 2019، أثناء عملية “نبع السلام” التركية.
واعتبرت الخارجية الأميركية تلك الجريمة “خرقاً صريحاً للقانون الدولي الإنساني”، كما اتهمت “أحرار الشرقية” بالتورط في عمليات اختطاف وتعذيب وابتزاز، ونهب ممتلكات مدنيين، ودمج عناصر سابقين في تنظيم “داعش” ضمن صفوفها.
وعلى الرغم من ذلك، دافعت قيادة “حركة التحرير والبناء” عن شقرا، معتبرة أن إدراجه في قوائم العقوبات كان بدوافع سياسية، ويأتي استجابةً لضغوط من أحزاب كردية “انفصالية”، ولا يستند إلى تقارير موثّقة صادرة عن لجان تحقيق مستقلة.
وكان ظهور العميد شقرا في “مؤتمر النصر السوري”، قد أثار موجة انتقادات واسعة في الأوساط الحقوقية والمدنية، خصوصاً في شمال وشرق سوريا، حيث اعتبرت منظمات نسوية وحقوقية أن ظهوره في دمشق وتسلّمه منصباً رسمياً داخل المؤسسة العسكرية يُمثّل “تبييضاً لصفحات سوداء من الجرائم المرتكبة بحق المدنيين”، لا سيما جريمة اغتيال هفرين خلف.
علاقة خاصة مع أنقرة
يُعد شقرا من أبرز القادة المرتبطين بالمؤسسة التركية، إذ حضر اجتماعاً مع الرئيس رجب طيب أردوغان عام 2018، إلى جانب قادة “الجيش الحر”، في أعقاب عملية “غصن الزيتون”. وتُعتبر فصيلته من الأذرع القتالية الأكثر قرباً من أنقرة، مما يثير تساؤلات حول إعادة مشاركة الشخصيات المسلحة ضمن مؤسسات الدولة، واحتمالات وجود تفاهمات غير معلنة بين دمشق وأنقرة في ملف شرق سوريا، خاصة مع صعود خطاب “التسويات الواقعية” تحت مظلة إقليمية.
دير الزور تشتعل
ويتزامن تعيين شقرا مع تصاعد ميداني في دير الزور، حيث أعلنت “قسد” عن إحباط هجوم نفذه تنظيم “داعش” على مقر لواء ذيبان، وقتل خمسة من عناصرها في عمليات أخرى. كما اعتقلت قيادياً في التنظيم يُدعى “أبو زكريا”، كان ينشط في مجال الابتزاز الاقتصادي.
في غضون ذلك، نفّذ التحالف الدولي مناورات عسكرية واسعة قرب حقل العمر، بالتزامن مع انسحاب تكتيكي للقوات الأميركية من ثلاث قواعد في شمال شرق سوريا. وفي الوقت ذاته، فصلت إدارة الأمن العام 32 عنصراً ثبت انتماؤهم السابق لميليشيات إيرانية، وأحالتهم إلى التحقيق، وسط استياء شعبي من محاولات اختراق الأجهزة الأمنية.
————————-
“قسد” تستأنف اللقاءات مع الحكومة السورية في حقل كونيكو/ سلام حسن و محمد كركص
06 مايو 2025
استأنف وفد الحكومة السورية و”قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) لقاءاتهما في حقل كونيكو النفطي، الذي كانت قد أخلته قوات التحالف الدولي أخيراً، وذلك في إطار متابعة تنفيذ بنود الاتفاق الموقع بين الرئيس السوري أحمد الشرع، وقائد “قسد” مظلوم عبدي.
ونقلت وكالة “نورث برس”، المقرّبة من “قسد”، عن مصدر عسكري لم يُكشف عن اسمه، أنّ وفداً من الحكومة السورية زار حقل كونيكو في ريف دير الزور الشرقي شرقي سورية، حيث التقى وفداً من “قوات سوريا الديمقراطية”، لبحث آليات تطبيق الاتفاق الموقع بين الطرفين. وأشار المصدر إلى أن “دولة إقليمية وأخرى دولية” تبذلان جهوداً لاستكمال الحوار، وتفعيل الاتفاق بين دمشق والقامشلي، بعد فترة من التوتر.
وذكر المصدر أنّ الاجتماع الأخير شدد على ضرورة تطبيق اتفاق “سد تشرين”، وتحويل السد إلى منشأة مدنية محيدة بالكامل عن الصراع العسكري. وكان السد قد شهد، خلال الأشهر الثلاثة الماضية، اشتباكات متكررة بين “قسد” من جهة، وفصائل “الجيش الوطني” من جهة أخرى. ونفى المصدر ما تم تداوله من أنباء حول تسليم قاعدتي العمر وكونيكو إلى الحكومة السورية، موضحاً أن الاجتماع ركّز في مجمله على مناقشة بنود الاتفاق بين الشرع وعبدي.
وتُعتبر قاعدتا العمر وكونيكو أبرز قواعد التحالف الدولي في سورية، وهما من أهم وأكبر حقول النفط والغاز في البلاد. في سياق أمني متصل، أعلنت “قوات سوريا الديمقراطية”، اليوم الثلاثاء، في بيان رسمي نشرته عبر موقعها الإلكتروني، أنها أحبطت، لليوم الثاني على التوالي، هجمات شنّتها خلايا تابعة لتنظيم داعش على نقاط عسكرية تابعة لها في ريف دير الزور الشرقي.
وأوضح البيان أنّ قوات “قسد” تمكّنت، مساء أمس الاثنين، من صدّ هجومين متزامنين شنهما عناصر التنظيم على بلدتي ذيبان والشحيل. ووفقاً للتفاصيل، فقد استهدفت خلية تابعة لـ”داعش” نقطة عسكرية تابعة للواء ذيبان باستخدام قذائف “آر بي جي”، في حين هاجمت خلية أخرى نقطة في بلدة الشحيل باستخدام أسلحة “بي كي سي” وبنادق كلاشنيكوف.
وأشار البيان إلى أن قوات “قسد” تصدّت للهجومين واشتبكت مع المهاجمين، ما اضطرهم للفرار دون وقوع إصابات في صفوفها، في حين سقط عدد من الجرحى في صفوف التنظيم، دون توفر معلومات دقيقة عن عددهم. وأكدت “قسد” في ختام بيانها، استمرارها في ملاحقة خلايا “داعش” النشطة، و”ضرب أوكارهم ومخابئهم، بهدف إنهاء تهديد التنظيم للمنطقة”.
إطلاق نار داخل مستشفى في دمشق
في سياق آخر، تداولت وسائل إعلام محلية، فجر اليوم الثلاثاء، أنباء عن اقتحام مسلحين لمستشفى المواساة الجامعي في العاصمة السورية دمشق، وإطلاقهم النار داخل حرم المستشفى، وسط حديث عن مقتل طبيب، في حادثة أثارت جدلاً واسعاً على مواقع التواصل الاجتماعي، إلا أن إدارة مستشفى المواساة سارعت إلى نفي هذه المعلومات، مؤكدة عبر بيان رسمي نُشر على صفحتها في “فيسبوك”، أنه “لا صحة لما تداولته بعض الصفحات حول مقتل طبيب في المستشفى، والخبر منفي بشكل قاطع”.
وأوضح البيان أن ما جرى هو وصول حالة إسعاف لامرأة مصابة بطلق ناري، نتيجة مشاجرة عائلية، حيث “توفيت فوراً قبل أي إجراء طبي”. وبيّنت الإدارة أن ذوي السيدة أطلقوا النار بشكل عشوائي عند سماعهم نبأ وفاتها، وتم توقيفهم من قبل عناصر الأمن العام على الفور.
وتأتي هذه التطورات في وقت لا تزال تعيش فيه العاصمة دمشق على وقع جدل واسع أثاره الهجوم المسلح الذي استهدف ملهى “الكروان” الليلي، فجر أمس الاثنين، والذي أسفر عن مقتل شابة وإصابة آخرين، على يد مجهولين، فيما رجح محامٍ في دمشق أن الحادثة قد تكون وراءها دوافع جنائية.
ويُذكر أن هذا الحادث سبقته بيوم واحد واقعة مشابهة، حيث تداول رواد مواقع التواصل الاجتماعي مقطع فيديو يظهر هجوم مجموعة مسلحة على ملهى ليلي آخر يُدعى “ليالي الشام”، واعتداءهم على الموجودين فيه بالضرب. وفي أول تعليق رسمي على هذه الأحداث، قال محافظ دمشق ماهر مروان: “تؤكد محافظة دمشق على ضرورة الالتزام بالقوانين والأنظمة المعمول بها في البلاد، وعدم مخالفتها. ونستنكر الحادث المؤلم الذي وقع في (الكروان) الليلي والذي أسفر عن مقتل فتاة. نؤكد أننا لن نتوانى عن محاسبة العابثين بأمن المدينة مع اتخاذ الإجراءات اللازمة، ونسعى جاهدين للحفاظ على الأمن والسلامة العامة للمواطنين وضبط المخالفات غير القانونية”.
دوي انفجارات في مدينة حلب
وفي سياق منفصل، سُمع، صباح اليوم الثلاثاء، دوي انفجارات في مدينة حلب شمالي سورية، حيث أُفيد في البداية بأنها ناجمة عن قذائف من مخلفات الحرب قرب الأكاديمية العسكرية غربي المدينة، إلا أن المعلومات الأحدث بيّنت أن السبب هو انفجار دبابة نتيجة خلل فني قرب مستودع قذائف في كلية المدفعية بمنطقة الراموسة.
——————————————
كيف سيتعامل الشرع مع نتائج مؤتمر الأكراد؟/ عمر كوش
29/4/2025
ما تزال تحديات وملفات عديدة تواجه السلطة الجديدة في سوريا، وذلك على الرغم من سقوط نظام الأسد البائد في الثامن من ديسمبر/ كانون الأول 2024، حيث عقدت في 26 من أبريل/ نيسان الجاري، غالبية القوى السياسيّة الكردية مؤتمر “وحدة الصف والموقف الكردي” في مدينة القامشلي السورية.
ثم ظهر منشور نسب إلى رامي مخلوف، أبرز رموز الفساد في عهد النظام الاستبدادي، متحدثًا عن “مجزرة الساحل”، ومبشرًا بولادة “فتى الساحل”، و”إعادة تنظيم قوات النخبة” التي ادعى أنها تضم نحو 150 ألف عنصر، إلى جانب تشكيل لجان شعبية قوامها مليون شخص. وذهب إلى حدّ مطالبة المجتمع الدولي، وروسيا بوضع إقليم الساحل تحت رعايتهما المباشرة.
لم يتأخّر الناشطون من الساحل السوري في الرد على مخلوف والتبرؤ منه، كونه “لا يمثل العلويين، بل يمثل الفاسدين الذين استغلوا الطائفة، وسرقوا قوت السوريين”، وأكدوا أن الطائفة العلوية “تتبرأ من هذا الخطاب الطائفي الانقسامي”، ولن تنجر وراء الأكاذيب والمؤامرات الاستخباراتية.
ما يثير السخرية المرّة هو حديث مخلوف عن “نصرة المظلومين”، كونه يشكل إهانة لذاكرة السوريين الذين ذاقوا ويلات نظام الاستبداد الأسدي، وكان شريكًا أساسيًا فيه.
ولعل الخطير في الأمر هو أن الجهات المعادية للتغيير السوري تصعد من خطاب الانقسام الطائفي، والتفتيت المناطقي في مرحلة دقيقة تمر بها سوريا الجديدة، وتحاول التعافي من تبعات نظام الأسد، فيما توجه تلك القوى سهامها نحو ما تبقى من النسيج الوطني السوري، محاولة إعادة إشعال بؤر التوتر الطائفي والمناطقي.
غير أن ما يستحق التوقف عنده هو مؤتمر “وحدة الصف والموقف الكردي”، الذي خرج بمطالب وتوصيات أثارت جدلًا واسعًا بين عموم السوريين، واستدعى ردًا سريعًا من الرئاسة السورية، رفضت فيه أي محاولات فرض واقع تقسيمي، أو إنشاء كيانات منفصلة تحت مسميات الفدرالية أو “الإدارة الذاتية”، دون توافق وطني شامل، معتبرة أن وحدة سوريا أرضًا وشعبًا خطّ أحمر، وأي تجاوز يعدّ خروجًا عن الصف الوطني، ومساسًا بهُوية سوريا الجامعة.
بداية، لا يعدُّ مؤتمر القامشلي هو الأوّل من نوعه بين القوى الكردية السورية، التي يشكّل كل من حزب الاتحاد الديمقراطي والمجلس الوطني الكردي قطبَيها الأساسيّين، فقد سبق أن عقدت مؤتمرات واجتماعات بين الطرفين في مدينة أربيل بإقليم كردستان العراق، وبرعاية الزعيم الكردي العراقي مسعود البارزاني، ونتجت عنها اتفاق “هولير 1″ الذي وقّعه في 11 يونيو/ حزيران 2012، كل من المجلس الوطني الكردي، و”مجلس شعب غربي كردستان” اللذين شكلهما حزب الاتحاد الديمقراطي، وحركة المجتمع الديمقراطي. وكانت غايته بلورة مشروع سياسي وقيادة الصف الكردي، والتواصل مع قوى المعارضة السورية للوصول إلى سوريا ديمقراطية وفدرالية.
ونتج عن الاتفاق تشكيل لجان أمنية وخدمية وسياسية، لكنه بقي حبرًا على ورق. ثم حاول مسعود البارزاني استيعاب الخلافات الحاصلة بين الطرفين، وتمكن من عقد لقاءات واجتماعات بينهما، أفضت إلى اتفاقية أخرى بينهما تحت مسمى اتفاقية “هولير 2” في ديسمبر/ كانون الأول 2013، ونصّت على شراكة الطرفين في إدارة المناطق السورية الكردية عسكريًا وسياسيًا.
بيدَ أنّ “مجلس شعب غربي كردستان” تنصّل بعد أشهر قليلة من الاتفاق، لتنتهي الهيئة الكردية العليا فعليًا مع انضمام “المجلس الوطني الكردي” إلى “الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية”، فيما أعلن “حزب الاتحاد الديمقراطي” عن “إدارة ذاتية” للمناطق الكردية، مؤلفة من ثلاثة كانتونات، هي: عفرين، وكوباني، (عين العرب) والجزيرة. ثم جرى توقيع اتفاقية في دهوك العراقية في 22 أكتوبر/تشرين الأوّل 2014، لكنها لم تنفّذ على الأرض.
تولت كل من الولايات المتحدة، وفرنسا رعاية الحوار بين القوى الكردية في سوريا بعد فشل جهود مسعود البارزاني، ونجحتا هذه المرّة في عقد اجتماع القامشلي، الذي حضره ممثلون عن حزب العمال الكردستاني التركي، وتمّ رفع علمه في المؤتمر وبمستوى أعلى من مستوى الأعلام الأخرى بما فيها العلم الوطني السوري.
لا شك أن عقد مؤتمر للقوى والأحزاب السياسية الكردية السورية مرحّب به إن كانت غايته إنهاء ما خلّفته السنوات من توترات في الشارعين الكردي والعربي، والخروج بورقة عمل واحدة من أجل الانخراط في الجسد السوري الجديد، وإعادة بناء الدولة السورية، وفق مبادئ المواطنة المتساوية، ودولة الحق والقانون، وضمان حقوق كافة المكوّنات السورية وتمثيلها سياسيًا.
كما أنه لا خلاف على إقرار المشاركين في المؤتمر، وثيقة تأسيسية تعبّر عن إرادة جماعية، وتقدّم مقاربة واقعية لحلّ عادل وشامل للقضية الكردية في إطار سوريا موحّدة، “بهويتها متعددة القوميات والأديان والثقافات، ويضمن دستورها الحقوق القومية للشعب الكردي، ويلتزم بالمواثيق والمعاهدات الدولية لحقوق الإنسان، ويصون حرية المرأة وحقوقها ويمكنها من المشاركة الفاعلة في المؤسسات كافة”.
ولا خلاف أيضًا على أن يطالب المشاركون في المؤتمر الكردي بأن يكون نموذج الحكم في سوريا لا مركزيًا، بوصفه بديلًا عن الأطروحات الاتحادية أو الكونفدرالية التي تنادي بها أحزاب كردية، ما يعني جنوح قوى المؤتمر إلى النهج الواقعي الذي باتت تتعامل به بعض القوى الكردية مع الحالة السورية الجديدة بعد سقوط نظام الأسد البائد.
لكن المستغرب هو تفسير بعض الأحزاب السياسية الكردية بأن اللامركزية المقصودة هي لا مركزية سياسية وإدارية، ما يعني إعادة الأمور مجددًا إلى المطالب الفدرالية والحكم الذاتي، خاصة أن وثيقة المؤتمر تدعو إلى “توحيد جميع المناطق الكردية ضمن وحدة سياسية إدارية متكاملة، في إطار سوريا اتحادية”، في وقت تحرص فيه الإدارة السورية الانتقالية على التعامل برؤية سياسية جامعة مع التحديات التي تواجه وحدة البلاد.
لذلك فضّلت الحوار مع قوات سوريا الديمقراطية (قسَد)، وجرى توقيع اتّفاق بين الرئيس أحمد الشرع، ومظلوم عبدي في العاشر من مارس/ آذار الماضي، أقرّ بأن “المجتمع الكردي مجتمع أصيل في الدولة السورية، وتضمن الدولة السورية حقه في المواطنة وكل حقوقه الدستورية”، وذلك في خطوة سياسية غير مسبوقة في تاريخ البلاد، تعكس تركيز الإدارة السورية على استعادة وحدة البلاد، وانفتاحها على منح الأكراد لا مركزية إدارية في المناطق التي يشكلون فيها أكثرية، وصون حقوقهم الثقافية والقانونية، مع حرصها على دمج قوات “قسد” في الجيش السوري الجديد.
وبالتالي تقتضي الوطنية السورية بألا تذهب الأحزاب الكردية التي اجتمعت في القامشلي إلى المطالبة بـ”تشكيل جمعية تأسيسية برعاية دولية تضم ممثلي كافة المكونات السورية لصياغة دستور بمبادئ ديمقراطية، وتشكيل حكومة من كافة ألوان الطيف السوري ومكوناته بصلاحيات تنفيذية كاملة”، لأنها تحيل إلى عهود الوصاية الدولية المرفوضة من طرف غالبية السوريين، بمن فيهم غالبية السوريين الأكراد.
أخيرًا، تعكس مخرجات مؤتمر وحدة الموقف الكردي بعض الاستقواء، وانعدام الثقة بالحكومة المركزية، لذلك رفعت الأحزاب الكردية سقف مطالبها كي تساومها، ويكون لها حصة في السلطة، لكن المرفوض سوريًا هو ما يشكل تهديدًا يمسّ وحدة البلاد وسيادتها. والسؤال المطروح: هو كيف ستتعامل الحكومة السورية مع مخرجات هذا المؤتمر؟
لن تخرج الإجابة عن أن الحكومة السورية ليس أمامها سوى بذل مزيد من الجهود، وانتهاج لغة الحوار للتعامل مع التحديات التي طرحتها أحزاب المؤتمر، وكذلك لمواجهة التحديات الأخرى التي تواجهها في منطقة الساحل السوري والجنوب أيضًا، لأن بناء سوريا الجديدة يتطلب صدرًا واسعًا، وعقلًا سياسيًا جامعًا يؤمن بضرورة إشراك الجميع، وبمرجعية المواطنة والقانون فوق الاعتبارات الطائفية والفئوية والمناطقية، لأن الدولة ليست امتيازًا حصريًا لأي طائفة أو حزب أو هيئة.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
كاتب وباحث سوري
الجزيرة
——————————–
التسوية الكردية- التركية… ومعالم الشرق الأوسط الجديد/ جو معكرون
تولاي أوغلاري لـ«الشرق الأوسط» : «لا يمكن لأنقرة مصالحة الكرد لديها واستعدائهم في سوريا»
4 مايو 2025 م
أدت أحداث محورية خلال الأشهر الماضية إلى رسم ديناميات جديدة وغير مسبوقة في القضية الكردية بمنظورها الواسع.
سقوط نظام بشار الأسد في 8 ديسمبر (كانون الأول) الماضي غيّر حسابات «قوات سوريا الديمقراطية» (قسد) التي خرجت من عزلتها عن أكراد الإقليم.
إعلان زعيم حزب العمال الكردستاني عبد الله أوجلان مبادرة تسليم سلاح مقاتليه أدى إلى فتح أكراد تركيا قنوات تواصل مع أكراد العراق وسوريا.
في قلب هذه التحوّلات، تأتي الرئيسة المشاركة لحزب الشعوب والمساواة والديمقراطية (DEM) تولاي حاتم أوغلاري، التركية اليسارية العلوية التي تحمل في هوياتها المركّبة نبض وغنى المشرق العربي وامتداداته.
بشخصيتها الكاريزمية والبسيطة، لا ترفض أوغلاري أي طلب دردشة أو التقاط صورة من مؤيديها الأكراد. التقيتُ بها في ديار بكر، أو آمد كما يسميها الأكراد، بعد وصولها من أنقرة. حرصت على الفور على إخباري، بلغة عربية فصيحة، أنها تتحدر من إسكندرون، التي كانت بين عامي 1921 و1937 جزءاً من لواء إسكندرون المستقل داخل سوريا، والخاضع للسيطرة الفرنسية قبل أن تضمه تركيا لأراضيها في استفتاء «إشكالي» بعد إبعاد سكانه.
وعائلة تولاي من العلويين العرب الذين بقوا، وبرزت الآن كواحدة من السياسيين الأتراك الذين استطاعوا التوسط بين الحكومة التركية وحزب العمال الكردستاني في لحظة قد تكون تاريخية.
في 27 فبراير (شباط) الماضي، أصدر عبد الله أوجلان، زعيم حزب العمال الكردستاني، المسجون مدى الحياة في سجن جزيرة إمرالي ببحر مرمرة، دعوة لتسليم سلاح الحزب وحلّه، وهي دعوةٌ نقلها ممثلو حزب الشعوب والمساواة والديمقراطية الذين التقوه في السجن. وكانت القوات الخاصة التركية اعتقلت أوجلان في كينيا في فبراير عام 1999، وتمركز بعد ذلك مقاتلو حزب العمال الكردستاني بشكل أساسي في المناطق الجبلية شمال العراق.
وجاءت دعوة أوجلان عقب بيانٍ صدر في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي عن دولت بهجلي، وهو زعيم حزب قومي متطرف وحليف رئيسي للحزب الحاكم في البرلمان التركي، والذي عرض فيه صفقةً لإطلاق سراح أوجلان مقابل إنهاء حزب العمال الكردستاني تمرّده. توضح أوغلاري لـ«الشرق الأوسط» أنه «مع وجود إعلان عن نية حزب العمال الكردستاني عقد مؤتمر لنزع السلاح، فمن أجل توفير الأساس لذلك، يجب أن تتوقف العمليات العسكرية والقصف الجوي، ويجب إنشاء البنية التحتية التقنية والمادية التي ستمكّن السيد أوجلان من التواصل المباشر مع حزب العمال الكردستاني».
اضطراب في إسطنبول
خلال احتفالها بعيد النوروز في دياربكر في مارس (آذار) الماضي، اضطرت أوغلاري إلى قطع زيارتها لبضع ساعات للذهاب إلى إسطنبول بعدما ألقت السلطات التركية القبض على رئيس بلديتها أكرم إمام أوغلو بتهم الفساد ومساعدة حزب العمال الكردستاني بينما كان يستعد للإعلان عن حملته الرئاسية للتنافس ضد الرئيس الحالي رجب طيب إردوغان. كان فريق عمل أوغلاري قلقاً بشأن كيفية التعامل مع هذه المسألة المعقدة.
من ناحية أخرى، فإن آخر شيء يريده حزبها هو استفزاز إردوغان لأنهم يتوسطون بين حكومته وحزب العمال الكردستاني، ومن المحتمل أن يتم اعتقالهم، والأهم من ذلك أنه قد يمنعهم من التواصل مع أوجلان في سجنه لتسهيل هذه الصفقة. ومن ناحية أخرى، لا يمكن للحزب أن يحتمل أن يُنظر إليه على أنه يتنصل من مبادئه الديمقراطية عبر التزام الصمت حيال مسألة كهذه.
وعندما وصلت أوغلاري إلى إسطنبول، كان القرار هو السير على خط رفيع عبر التأكيد في خطاب على دعم كل من السلام والديمقراطية، مع إدانة اعتقال رئيس بلدية مدينة تركية رئيسية متعاطف مع القضايا الكردية، بما يضمن للحزب الحفاظ على خط الاتصال مفتوحاً مع الحكومة التركية.
وتعتقد أوغلاري اليوم أن قرارها التوقف في إسطنبول للاعتراض على اعتقال إمام أوغلو كان صائباً وتقول: «كنا قد حذرنا مراراً في الرأي العام من أن السياسات القمعية ستمتد يوماً ما إلى كل بقعة في تركيا… إذا لم تتحرر آمد (ديار بكر) وفان وماردين، فلن تتحرر إسطنبول وأنقرة وإزمير أيضاً». كانت الحكومة التركية قامت في مراحل سابقة بخطوات مشابهة في المناطق الكردية عبر تعيين «قيّمون إداريون» بدلاً من رؤساء البلديات المنتخبين، لكن ترى أوغلاري أن «سياسة تعيين الأوصياء وتجميد الديمقراطية بدأت اليوم تُطبَّق حتى في إسطنبول تحت ذرائع مختلفة».
نوروز هادىء في دياربكر
للمرة الأولى، كانت دياربكر أكثر هدوءاً من إسطنبول في يوم نوروز، لكن الاحتفال كان مختلفاً هذا العام. بعد بضع ساعات من رقصة غوفيند، وهي رقصة كردية تقليدية، قاطعتها خطب تعبوية، سمعت الحشود الكبيرة صوت أوجلان علناً لأول مرة منذ 12 عاماً. بمجرد بث المقاطع القصيرة القديمة لأوجلان، أصبحت الشرطة التركية في حالة تأهب مع معدات مكافحة الشغب جاهزة لمواجهة أي احتجاجات في «ساحة نوروز» في آمد، بينما كان المحتفلون يرقصون ويهتفون. سألت العشرات من المسؤولين والناشطين المحليين الأكراد عن رأيهم في محادثات السلام وما إذا كانوا يثقون في أن إردوغان سيتابعها، كانت الإجابة بالإجماع: «لقد سئمنا العنف»، ويبدو أنهم متفائلون لكنهم غير متأكدين من كيفية انتهاء هذه العملية.
وكانت عُقدت جولتا محادثات للسلام سابقاً في 2009-2011 و2013-2015، وفشلت كلتاهما في تحقيق اختراق. وفي نوفمبر (تشرين الثاني) 2012، بدأ السجناء الأكراد إضراباً عن الطعام وكان أحد مطالبهم بدء عملية سلام بين الحكومة التركية وحزب العمال الكردستاني. كان المسؤولون الأتراك يتفاوضون مباشرة مع أوجلان في سجنه بالإضافة إلى وساطة حزب الشعوب الديمقراطي. في 21 مارس 2013، وبعد أشهر من المفاوضات مع الحكومة التركية، تُليت رسالة أوجلان بمناسبة عيد النوروز في آمد باللغتين التركية والكردية، والتي دعت إلى إنهاء الكفاح المسلح. كان مسؤولو حزب «الشعوب والمساواة والديمقراطية» يأملون هذه المرة أن تتمكن السلطات التركية من السماح لهم بالوصول إلى أوجلان عشية يوم النوروز والحصول منه على رسالة لقراءتها في آمد عند الاحتفال بالعيد، إلا أن الاضطرابات في إسطنبول قد تكون أجهضت هذه الخطة لكن لم تُعرقل الوساطة القائمة، إذ التقى الفريق المفاوض مع أوجلان، للمرة الرابعة منذ إعلان مبادرته إنهاء النزاع، في 21 أبريل (نيسان) الماضي.
في مايو (أيار) 2013، بعدما انسحب مقاتلو حزب العمال الكردستاني من تركيا إلى جبال شمال العراق، انهارت المحادثات وعاد العنف، ثم أُلقي القبض على قادة حزب الشعوب الديمقراطي وحُكم عليهم بالسجن وأُجبر حزبهم على الإغلاق. تم تشكيل حزب «الشعوب والمساواة والديمقراطية» في أكتوبر 2023 كاندماج بين «الشعوب الديمقراطي» وحزب «اليسار الأخضر» بإيعاز من أوجلان لتشكيل جبهة موحدة للقوى التقدمية. عرض أوجلان حالياً هو إنهاء النزاع وحل حزب العمال الكردستاني مقابل ضمانات قانونية وسياسية تقدمها الحكومة التركية، بما في ذلك وقف الملاحقات القضائية والأمنية ضد الأكراد.
مبادرة أوجلان
تشمل مبادرة أوجلان وقف التصعيد، واقتراح وقف نار آحادي، واستعادة حقوقه في السجن للتواصل مع الخارج، وهو ما لم يتح له منذ عام 2021، وتشكيل لجنة تركية-كردية مستقلة لمراقبة السلام. حتى الآن، لم ترد الحكومة التركية بشكل رسمي على مبادرة أوجلان، بل أطلقت حملة عسكرية حدودية استهدفت فيها مواقع لحزب العمال الكردستاني في المناطق الجبلية شمال العراق حيث جرت أكثر من 120 مواجهة بين الطرفين منذ فبراير/ شباط الماضي، تاريخ إعلان مبادرة أوجلان. كذلك ألقت الطائرات التركية منشورات باللغتين التركية والكردية فوق محافظة دهوك، تدعو أعضاء حزب العمال الكردستاني إلى «الاستجابة لنداء أوجلان» و«الاستسلام مقابل التساهل مع من يلقي سلاحه» بخلاف العرض الفعلي.
حزب العمال الكردستاني قال في بيان في 28 أبريل الماضي إن أوجلان سيقود مؤتمر الحزب القادم من دون تحديد الوقت في رسالة ضمنية إلى الحكومة التركية بأنه لن ينعقد مؤتمر الحزب لتسليم السلاح قبل إطلاق سراح أوجلان.
لا يُظهر إردوغان أي مؤشرات على التراجع حتى الآن؛ فهو يتوقع حضور أوجلان إلى البرلمان التركي ليُعلن إلقاء السلاح بلا شروط مسبقة. ومع ذلك، يطالب الجانب الكردي بما يسمّيه ضمانات قانونية وديمقراطية على اعتبار أن الأكراد يشكّلون نحو 20 في المائة من سكان تركيا. وصرح مسؤول محلي كردي لـ«الشرق الأوسط» بأن الدعوة إلى «سياسة ديمقراطية» هي «مسؤولية تقع على عاتق الحكومة التركية».
إذن حتى الآن، لا يوجد اتفاق مكتوب من الطرفين سوى إعلان أوجلان الأحادي في 27 فبراير الماضي وتقول أوغلاري في هذا السياق: «إذا اعتمد الطرفان خطاباً ونهجاً لا يُفرّغ خطوات بعضهما البعض من المضمون، فإن خريطة الطريق الشاملة الكفيلة بإنهاء الصراع جذرياً ستدخل حيّز التنفيذ في إطار هذا المسار».
لكن وحده إردوغان يفرض إيقاع هذا المسار وتوقيته، وهو بطبيعة الحال الطرف الأقوى في هذه المعادلة. وبالمناسبة، هو لا يستخدم هذه المرة خطاباً ديمقراطياً للترويج لمحادثات السلام مع الأكراد كما فعل في المحادثات السابقة، بل على العكس هو في ذروة استخدام السلطة بأدواتها القمعية. في يناير (كانون الثاني) الماضي، اعتقلت السلطات التركية السياسي اليميني المتطرف أوميت أوزداغ، وفي 19 مارس الماضي، رئيس بلدية إسطنبول، ويُنظر إليهما على أنهما يُشتتان الانتباه عن محادثات السلام مع حزب العمال الكردستاني، في الوقت الذي يسعى فيه إردوغان إلى الفوز بولاية رابعة في الانتخابات الرئاسية لعام 2028.
انعكاسات إقليمية
ما قد يحدث بين إردوغان وأوجلان قد يكون له تأثير على الشرق الأوسط، وبدأت تظهر ملامح هذه التأثيرات. فقد أرسل كل من زعيم الحزب الديمقراطي الكردستاني مسعود بارزاني ورئيس إقليم كردستان العراق نيجيرفان بارزاني ممثلين لحضور احتفالات نوروز في آمد والتقيا بمسؤولي حزب «الشعوب والمساواة والديمقراطية»، الذي أرسل أيضاً في فبراير الماضي ممثلين إلى إقليم كردستان العراق لمناقشة مبادرة السلام والتقى بمسؤولين من كل من حزب بارزاني (الحزب الديمقراطي الكردستاني) وزعيم الاتحاد الوطني الكردستاني بافل طالباني.
خطاب ممثل بارزاني في دياربكر كان متقدماً حيث دعا إلى إطلاق سراح أوجلان، لا سيما إذا أخذنا بعين الاعتبار تاريخ التأزم في العلاقة بين الطرفين منذ الانقلاب الذي قاده رئيس الأركان العامة الجنرال التركي كنعان إيفرين مع مجموعة من الضباط في يوم 12 سبتمبر (أيلول) 1980 وما تبعه من فرار حزب العمال الكردستاني إلى سوريا والعراق.
كل هذا يأتي ضمن حراك انطلق بداية العام الحالي. في شهر يناير الماضي، زار قائد «قسد» مظلوم عبدي أربيل واجتمع مع مسعود البارزاني الذي نصحه بالحوار مع الرئيس السوري أحمد الشرع وتطمين تركيا على حدودها. منذ هذا اللقاء تطور موقف الطرفين بحيث انفتح البارزاني على حزب العمال الكردستاني، ومظلوم عبدي على الشرع.
ولكن، في 19 أبريل الماضي، انعقد الاجتماع الرفيع المستوى الخامس للآلية الأمنية في إنطاليا بين الجابين التركي والعراقي وأجمع مرة أخرى على تصنيف حزب العمال الكردستاني «منظمة إرهابية»، فيما تحاول حكومة إقليم كردستان في العراق التوازن بين رفض استخدام مقاتلي حزب العمال الكردستاني أراضيها في عمليات عسكرية ضد تركيا وبين اعتراضها على التوغل التركي وانتهاك السيادة العراقية. فمعلوم أنه لدى الجيش التركي أكثر من 38 نقطة عسكرية شمال العراق، فيما الاتحاد الوطني الكردستاني، الذي يحكم السليمانية، ترك الخطوط مفتوحة مع الأكراد في المنطقة.
وكان مسعود بارزاني أجرى في سبتمبر 2017 استفتاءً سعياً لاستقلال إقليم كردستان، مما دفع قوات الأمن العراقية وقوات الحشد الشعبي بدعم إيراني إلى دخول مدينة كركوك التي يسيطر عليها الأكراد، وجاء الاستفتاء ليسرّع قرار مسعود بارزاني بالتنحي عن منصب رئيس إقليم كردستان. ويرتبط بارزاني بعلاقات مع إردوغان لأسباب سياسية واقتصادية، لكن إعلانه عن محادثات السلام بين الحكومة التركية وحزب العمال الكردستاني شجع بارزاني على اتخاذ خطوة الانفتاح على حزب العمال الكردستاني.
أربيل أقرب من أنقرة
القامشلي وأربيل أقرب جغرافيا إلى آمد من أنقرة وإسطنبول، وهناك ترابط عضوي للمناطق الكردية في تركيا مع امتدادها التاريخي عبر الحدود السورية، لكن هناك عوائق جيوسياسية قد تتلاشى تدريجياً. هناك رهان على أن يتحوّل مع الوقت الموقف الرسمي التركي من القيادات الكردية في سوريا إلى نموذج كردستان العراق حيث كانت تعتبر أنقرة الحزب الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني «تنظيمات إرهابية» قبل أن تعترف بهما الدولة التركية كجزء من حكومة إقليم كردستان وتستقبل ممثليهم رسمياً في أنقرة. بطبيعة الحال لم ترسل «قسد» أي ممثل لها إلى احتفال «النوروز» في آمد لأن علاقتها متوترة مع أنقرة ولا يُسمح لها زيارة تركيا. لكن بدأت تظهر مؤشرات إيجابية لانعكاسات محادثات السلام التركية مع زيارة وفد من حزب المساواة وديمقراطية الشعوب إلى الإدارة الذاتية في شمال وشرق سوريا في مدينة الرقة، وهذه الزيارة لا يمكنها أن تحصل من دون سماح السلطات التركية بعبور الحدود.
هدف زيارة حزب المساواة وديمقراطية الشعوب كان حضور «كونفرانس وحدة الموقف والصف الكردي» في روجافا في مدينة قامشلي بتاريخ 26 أبريل الماضي الذي شارك فيه أيضاً ممثل إقليم كردستان العراق الذي ألقى كلمة مسعود البرزاني، وبالتالي اجتمعت الأطراف الثلاثة في مكان واحد لأول مرة. هذا يأتي بعد الاتفاق الذي وقعه أحمد الشرع مع مظلوم عبدي في 10 مارس الماضي، ويهدف «الكونفرانس» إلى توحيد موقف أكراد سوريا لإيجاد أرضية في محاولة لفك ارتباط «قسد» مع حزب العمال الكردستاني وتشكيل وفد موحّد للحوار مع الشرع، لكن ليس واضحاً إذا ما سينجح البرزاني في فك ارتباط «قسد» بالكامل مع حزب العمال الكردستاني، وقد لا يكون هذا الأمر ضرورياً إذا تم التوصل إلى اتفاق بين إردوغان وأوجلان.
تقول أوغلاري: «من غير المنطقي، بل ويشكّل عائقاً أمام السلام، أن تُبدي حكومة في تركيا نية في المصالحة مع الكرد داخل حدودها، بينما تُصر في الوقت نفسه على اعتبار الكرد السوريين أعداء». معتبرة إنه خلال حكم نظام بشار الأسد «لم تتوفر أرضية للاتفاق… أو لم يُسمح بتوفيرها» وأن «الجهات التي تسيطر على الأرض حالياً تضعف إمكانية الوصول إلى سلام دائم في سوريا». وترى أوغلاري أن السلطة الجديدة «مطالبة بضمان حياة مشتركة تقوم على المساواة في الحقوق، ليس فقط مع الكرد، بل أيضاً مع العلويين والدروز. وحتى الآن، لم يقدّم النظام القائم في دمشق نموذجاً جيداً في هذا الصدد، ولا يُتوقع أن يكون قادراً على تأمين وحدة سوريا بشكل فعلي».
ويتباين ذلك مع المقاربة التركية للقضية الكردية؛ إذ تفضل أنقرة التوصل إلى اتفاقات سلام بـ«التجزئة» مع الأطراف الكردية لديها وفي العراق وسوريا بما يضمن نشوء شريط حدودي يمتد من أربيل إلى قامشلي، قائم على تقديم خدمات سياسية واقتصادية للمنطقة ومن ضمنها إسرائيل.
أوغلاري، التي تُعرّف نفسها بأنها نسوية وعلوية، تشير في سياق حديثها إلى أن «حتى أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، كانت حركة الحرية الكردية تعتمد مقاربة تُعطي الأولوية للاعتراف الدستوري بحقوق الأكراد» لكن «مسألة تحرر الكرد وديمقراطية تركيا ككل تُطرحان كقضية واحدة مترابطة، ولا يتم فصلهما عن بعضهما بعضاً». كما تعتقد أن إردوغان يستخدم الاعتقالات في إسطنبول «لإعادة تشكيل المشهد السياسي» في تركيا «إلا أن اعتقال رؤساء بلديات من جبهة معارضة مختلفة، خارج الإطار الكردي، للمرة الأولى، يمكن اعتباره انعكاساً للإصرار على عدم حلّ القضية الكردية». لكن على الرغم من التحديات، تتمسك أوغلاري بجهود دفع الحوار بين الحكومة التركية وأوجلان «بهدف تحقيق تحوّل ديمقراطي في تركيا» وأنه «في ظل هذه الظروف الاستثنائية واستمرار القمع، علينا أن نستغل كل فرصة ممكنة من أجل إحلال سلام دائم… لا نريد لهذا المسار، القادر على تحقيق حالة من الاستقرار والانفتاح، أن يتعثر مرة أخرى».
الشرق الأوسط
—————————-
هل يقدم حزب العمال الكردستاني حقًا على حلّ نفسه؟/ نديم شنر
4/5/2025
منذ تأسيسها عام 1978، ارتكبت منظمة “بي كا كا” مجازر راح ضحيتها نحو 16 ألفًا من الموظّفين الرسميين في تركيا، من بينهم جنود ورجال شرطة ودرك وأطباء ومعلمون، إضافةً إلى عدد لا يُحصى من المدنيين من نساء وأطفال، وتكبّدت تركيا جرّاء هذه الحرب تكلفة اقتصادية تقدّر بنحو تريليونَي دولار. فهل وصلت المنظمة إلى نهاية الطريق؟
لطالما تلقت “بي كا كا” دعمًا ماديًا وبشريًا وتسليحيًا من قوى متعددة، من بينها روسيا، وإيران وعدد من دول حلف شمال الأطلسي التي تنتمي إليها تركيا، مثل ألمانيا، وفرنسا، وبلجيكا، وهولندا، والسويد، والولايات المتحدة الأميركية. وقد أُبيد نحو 60 ألفًا من عناصرها حتى الآن، فهل يعقل أن تعلن هذه المنظمة عن حلّ نفسها؟
هذا هو السؤال الذي يُطرح بإلحاح في تركيا وفي عموم منطقة الشرق الأوسط.
وفي الأسبوع الماضي، ورغم أنّ وزير الخارجية التركي هاكان فيدان لم يُدلِ بإجابة قاطعة عن هذا السؤال خلال مشاركته في مؤتمر صحفي مشترك في العاصمة القطرية الدوحة مع رئيس الوزراء ووزير الخارجية القطري الشيخ محمد بن عبدالرحمن آل ثاني، فإنّه أعاد تأكيد تطلعاته وعزمه الثابت أمام أعين العالم بأسره، قائلًا بلهجة واضحة فيما يتعلق بالقضية السورية: “أولًا، نحن لا نقبل بأي مبادرة تستهدف وحدة الأراضي السورية.
وبناءً عليه، فإننا نرفض أي تحرك من شأنه أن يتيح استمرارية وجود التنظيمات الإرهابية في سوريا. ولا يمكن قبول تغيير الأسماء أو الهياكل أو الإدارة؛ بهدف تمويه وجود منظمة “بي كا كا ” الإرهابية وإطالة عمرها”.
وأضاف: “نتوقع تفعيل الاتفاق الموقّع بين “واي بي جي” (وحدات حماية الشعب الكردية، الذراع السورية لـ”بي كا كا”) والإدارة المحلية في سوريا خلال الأشهر الماضية.
ونتوقع أيضًا من “بي كا كا” أن تردّ سريعًا وبشكل إيجابي على الدعوة الموجهة إليها، وأن تتخلى عن سلاحها، وتتوقف عن كونها عقبة أمام عودة الحياة إلى طبيعتها في منطقتنا. فكما أُخرج تنظيم الدولة من المنظومة، فإنّ “بي كا كا” أيضًا ستُستأصل. فإما أن ترحل طوعًا وبسلام، وإما أن ترحل بطريقة أخرى، لكنها سترحل لا محالة”.
واختتم قائلًا: “سيكون لذلك تداعيات في سوريا، وإيران، والعراق. وإذا ما واصلت جهةٌ ما، ارتضت أن تكون أداة في يد قوى خارجية، الوقوف في طريقنا كمحارب بالوكالة، فإنّنا بحول الله نمتلك الوسائل والقدرات اللازمة لمواجهتها”.
كلمات الوزير فيدان هذه تعكس استياءه من التأخّر في تنفيذ دعوة عبدالله أوجلان، زعيم منظمة “بي كا كا” الإرهابية والمعتقل منذ عام 1999 في سجن إيمرالي، التي أطلقها في 27 فبراير/ شباط 2024، ودعا فيها إلى حلّ التنظيم. وقد مرّ على تلك الدعوة شهران كاملان دون اتخاذ خطوات فعلية.
جذور الانفصال تمتد إلى 51 عامًا
ترجع جذور التنظيم الإرهابي الانفصالي الذي أسّسه عبدالله أوجلان إلى 51 عامًا مضت. ففي عام 1973، تشكّل في العاصمة أنقرة ما عُرف حينها بـ”مجموعة الأبوكيين” (نسبة إلى لقب أوجلان: أبو)، وبحلول عام 1976 بدأ هذا التيار في الانتشار شرقًا وجنوب شرق الأناضول تحت اسم “ثوار كردستان”. وبحلول عام 1977، انتقلت هذه الجماعة إلى تنفيذ عمليات مسلحة في المناطق الريفية، لتبدأ لاحقًا، اعتبارًا من عام 1978، نشاطها داخل المدن.
وفي اجتماع سري عقده أوجلان مع 18 عضوًا في منطقة ليجه التابعة لمحافظة ديار بكر يوم 27 نوفمبر/ تشرين الثاني 1978، أُعلن رسميًا تأسيس ما يُعرف اليوم بـ”حزب العمال الكردستاني – PKK” كتنظيم غير شرعي.
في بداياته، استهدف “بي كا كا” الجماعات السياسية الكردية التي رآها خصمًا له في مناطق الشرق والجنوب الشرقي ذات الأغلبية الكردية، فنفّذ ضدها اغتيالات وهجمات دامية. وفي المؤتمر التأسيسي الأول للتنظيم، تقرر تسريع عمليات التنظيم الداخلي، وإعداد البرنامج السياسي والبيان التأسيسي.
لكن اعتقال أحد المشاركين في الاجتماع، ويدعى شاهين دونميز، في مايو/ أيار 1979، واعترافه بالتفاصيل الداخلية للتنظيم، تسبب بحالة من الذعر داخله. وبالتوازي مع استمرار الهجمات على الجماعات الكردية الأخرى، بدأت سلسلة من التصفيات الداخلية بذريعة “العمالة” و”الخيانة”.
وفي خضم هذه الفوضى، بقي أوجلان القائد الأوحد للتنظيم، واستفاد من دعم استخبارات النظام السوري لعبور الحدود في يونيو/ حزيران 1979، حيث أصدر تعليماته بإعلان تأسيس التنظيم عبر “عملية ضخمة تلفت الأنظار”.
من الانفصالية إلى الاستسلام
في ظل حماية الاستخبارات السورية، استقرّ أوجلان في بلدة عين العرب (كوباني حاليًا)، والتي باتت اليوم مركزًا لما يُعرف بـ”بي كا كا/بي واي دي”، ثم انتقل إلى دمشق. وفي 29 يوليو/ تموز 1979، نفّذ أنصاره هجومًا مسلحًا على النائب البرلماني عن حزب العدالة وزعيم عشيرة البوجاق، محمد جلال بوجاق، ما أدى إلى إصابته، ومقتل صهره وطفل في التاسعة من عمره.
وترك الإرهابيون في موقع الهجوم البيان التأسيسي لـ”بي كا كا”، الذي أعلن فيه هدفه بوضوح: “تأسيس دكتاتورية شعبية في كردستان المستقلة والموحّدة”.
لاحقًا، بدأ أوجلان يعدّل من طرحه السياسي، فانتقل من شعار “كردستان المستقلة والموحّدة” إلى شعارات مثل “الفدرالية” و”الحكم الذاتي الإقليمي”.
وخلال قرابة نصف قرن من العمل المسلح، لم تحقق المنظمة الإرهابية أيًّا من أهدافها المعلنة، باستثناء زراعة بذور القومية العرقية في أذهان فئة محدودة. ويُعزى ذلك إلى النضال المتواصل وغير المنقطع الذي خاضته ضد الدولة التركية بكل مؤسساتها.
لقد بدأ أوجلان مسيرته عام 1979 بشعار: “تأسيس دكتاتورية شعبية في كردستان المستقلة والموحّدة”، ثم ختمها في 27 فبراير/ شباط 2025 بهذه الكلمات، التي تعكس بوضوح اعترافًا بفشل المشروع: “الانزلاق نحو قومية مفرطة، وما تبعها من أطروحات كالدولة القومية المستقلة، والفدرالية، والحكم الذاتي الإداري، والحلول الثقافوية، لم تعد تُلبّي متطلبات علم الاجتماع التاريخي للمجتمع”.
أي أن أوجلان نفسه أقرّ، بعد 45 عامًا من التمرّد المسلح، بأن لا الدولة الكردية المستقلة، ولا الفدرالية، ولا الحكم الذاتي، تشكّل حلولًا واقعية.
بيان أوجلان
حمل البيان الذي أصدره عبدالله أوجلان بتاريخ 27 فبراير/ شباط 2025 عنوان: “دعوة إلى السلام والمجتمع الديمقراطي”، وقد ورد فيه:
“لقد نشأت منظمة بي كا كا في القرن العشرين، الذي يُعدّ أكثر القرون عنفًا في التاريخ، والذي شهد حربين عالميتين، وتجارب الاشتراكية الواقعية، وأجواء الحرب الباردة التي عمّت العالم، ووسط إنكارٍ تامٍ للواقع الكردي، وقمعٍ للحريات، وفي مقدمتها حرية التعبير.
وقد تأثرت المنظمة من حيث النظرية والبرنامج والإستراتيجية والتكتيك، بتجربة الاشتراكية الواقعية آنذاك تأثرًا بالغًا.
ومع انهيار الاشتراكية الواقعية في تسعينيات القرن الماضي لأسباب داخلية، ومع انحسار سياسة إنكار الهوية داخل البلاد، والتقدم الذي أُحرز في مجال حرية التعبير، دخلت منظمة بي كا كا في مرحلة من الفراغ المعنوي والتكرار المفرط، مما جعل نهايتها، كغيرها من التنظيمات المشابهة، أمرًا ضروريًا.
لقد ظلت العلاقة الكردية التركية على مدى أكثر من ألف عام قائمة على تحالف طوعي، كانت فيه الغاية المشتركة هي الحفاظ على الكيان في مواجهة القوى المهيمنة. لكن الحداثة الرأسمالية، على مدى القرنين الماضيين، سعت إلى تفكيك هذا التحالف، ووجدت من يخدمها في إطار الصراع الطبقي والاجتماعي. وقد تسارعت هذه الوتيرة بفعل التفسيرات الأحادية للجمهورية.
واليوم، ومع ازدياد هشاشة هذه العلاقة التاريخية، فإن إعادة تنظيمها على أساس روح الأخوّة، دون إغفال البعد الإيماني، بات ضرورة ملحّة. فحاجة المجتمع إلى الديمقراطية أمر لا مفر منه.
إن صعود منظمة بي كا كا كأكبر حركة تمرد وعنف في تاريخ الجمهورية، جاء نتيجة انسداد قنوات السياسة الديمقراطية. وإن الحلول القائمة على الدولة القومية المنفصلة، أو الفدرالية، أو الحكم الذاتي الإداري، أو الأطروحات الثقافوية، الناتجة عن الانجراف القومي المفرط، لم تعد تقدم جوابًا مقنعًا لعلم الاجتماع التاريخي للمجتمع.
إن احترام الهويات، وضمان حرية التعبير والتنظيم الديمقراطي، وحق كل فئة في أن تكون لها بنيتها السوسيو-اقتصادية والسياسية، لا يمكن أن يتحقق إلا بوجود مجتمع ديمقراطي وساحة سياسية حقيقية”.
ويتابع أوجلان: “إن قرن الجمهورية الثاني لن يكون مستقرًا ومستدامًا إلا إذا تُوّج بالديمقراطية. ولا سبيل لتحقيق الأنظمة المنشودة إلا من خلال الديمقراطية، فالاتفاق الديمقراطي هو الأساس. كما يجب تطوير لغة تناسب الواقع لمرحلة السلام والمجتمع الديمقراطي.
وفي هذا السياق، ومع دعوة السيد دولت بهتشلي، والموقف الذي أبداه السيد رئيس الجمهورية، والمواقف الإيجابية التي أبدتها بعض الأحزاب السياسية تجاه هذه الدعوة المعروفة، فإنني أوجه دعوة لوقف إطلاق النار وأتحمل المسؤولية التاريخية لهذه الدعوة.
وكما تفعل أي جماعة أو حزب عصري لم يُجبر على إنهاء وجوده قسرًا، فإنني أطلب منكم عقد مؤتمركم واتخاذ قرار: يجب أن تضع جميع المجموعات السلاح، وأن يتم حلّ منظمة بي كا كا. أبعث بتحياتي لجميع الجهات التي تؤمن بالعيش المشترك وتصغي إلى ندائي”.
انهيار النموذج الفكري
كان البيان المكتوب بخط يد أوجلان والمكوّن من ثلاث صفحات ونصف، بمثابة لحظة انهيار النموذج الفكري ليس فقط لتنظيم “بي كا كا/ك ج ك”، بل أيضًا لذراعه السورية “بي واي دي”، وامتداده الأوروبي، وجناحه السياسي داخل تركيا، حزب “ديم”.
فبهذه الدعوة، أعلن مؤسس التنظيم بنفسه انتهاء “الإستراتيجية الأساسية” المزعومة، وأقرّ بأن منظمة بي كا كا أصبحت “فاقدة للمعنى”، لأنها فقدت الهدف الذي أُسست من أجله.
فبعدما حُلّت قضية الهوية في تركيا، ولم تعد هناك أهداف من قبيل الدولة المستقلة، أو الفدرالية، أو الحكم الذاتي، لم يعد للمنظمة ما تبرّر به استمرارها. وقد لخّص أوجلان ذلك بقوله:
“مع انهيار الاشتراكية الواقعية في التسعينيات لأسباب داخلية، وانحسار سياسة إنكار الهوية داخل البلاد، والتقدم في حرية التعبير، فقدت بي كا كا معناها ودخلت مرحلة من التكرار، ومن ثم بات حلها ضرورة كما هو الحال مع التنظيمات المشابهة” .
وأخيرًا، ختم أوجلان دعوته الحاسمة بقوله:
“أتحمّل المسؤولية التاريخية لهذه الدعوة. وأدعو كل المجموعات التابعة لبي كا كا لعقد مؤتمر واتخاذ قرار نهائي: على الجميع ترك السلاح، ويجب أن تُحلّ منظمة بي كا كا”.
قرارات لم تلتزم بها “بي كا كا”
حين تحدّث أوجلان عن “جميع المجموعات”، فقد كان يقصد كامل هيكل “بي كا كا/ ك ج ك”، سواء في تركيا، أو في سوريا، أو إيران، أو العراق، أو في الشتات الأوروبي. ومع ذلك، وبناءً على تجارب سابقة، كان يدرك أن دعوته لن تلقى الاستجابة المرجوّة، ولهذا أنهى بيانه المكتوب بخط يده بجملة ذات دلالة:
“أبعث بتحياتي لجميع الجهات التي تصغي إلى ندائي”.
المراقبون المقربون من ملف “بي كا كا”، والذين يدركون تمامًا أنّ هذه المنظمة لم تعد تسعى بأي شكل لـ”حقوق الأكراد”، وإنما تحوّلت إلى أداة خاضعة تمامًا للولايات المتحدة، وذراع يُستخدم لصالح إسرائيل الصهيونية المنغمسة في جرائم الإبادة، يرون أنّ التنظيم لن يُقدم بسهولة على حلّ نفسه أو على تسليم سلاحه، ولن يلتزم بوقف إطلاق النار.
ذلك أن “بي كا كا” سبق لها أن أعلنت عن قرارات “وقف إطلاق نار/تسليم سلاح/ حل التنظيم” ست مرات، وذلك في الأعوام: 1993، 1995، 1998، 2006، 2009، و2013، لكنها في كل مرة ما لبثت أن نكثت عهودها، واستأنفت عملياتها الإرهابية.
وفي الأول من أكتوبر/ تشرين الأول 2024، وهو اليوم الذي افتُتحت فيه الدورة الجديدة للبرلمان التركي، توجّه رئيس حزب الحركة القومية دولت بهتشلي إلى مقاعد نواب حزب “ديم”، الذراع السياسية لـ”بي كا كا”، وصافحهم في خطوة رمزية؛ فُسّرت بأنها البداية لمبادرة سياسية جديدة. وإن قُدّر لهذه المبادرة أن تكتمل، فستكون هذه المرة السابعة التي يُتخذ فيها قرار بحل التنظيم.
لكن، وعلى الرغم من الآمال المعقودة على بناء “تركيا خالية من الإرهاب”، فإنّ التجارب المريرة السابقة تستدعي الحذر. ولهذا يتردد كثيرًا في الأوساط السياسية والإعلامية مصطلح “تفاؤل حذر”.
مؤشرات غير مبشّرة
غير أنّ الأخبار الواردة من خلف الكواليس لا تدعو حتى لهذا القدر من التفاؤل؛ بل على العكس، فإن ما يُنقل عن اللجنة التنفيذية لـ”بي كا كا” يفيد بأنها تطرح شروطًا لقبول حلّ نفسها.
ومن أكثر الشروط غرابة أنها تطلب أن يترأس عبدالله أوجلان بنفسه مؤتمر التنظيم، رغم أنه لم يُبدِ هذا الطلب أصلًا، وهو يقضي حكمًا بالسجن المؤبد!
وفي بيان نُشر خلال عطلة نهاية الأسبوع، قالت اللجنة: “لا نريد أن نكون الطرف الذي يخرق العملية”، لكنها بذلك ألمحت ضمنيًا إلى احتمال عودتها إلى العمل الإرهابي مجددًا.
يريدون أن يُشعلوا فتيل القتال، ولكن دون أن تُنسب إليهم المسؤولية، تمامًا كما اعتادوا، عبر سياسة كسب الوقت والمماطلة. أما تغيير الأسماء والقيادات، فهو من التكتيكات المتكررة لديهم، وإظهار العداء للعنف ما هو إلا نفاق سياسي يتقنونه جيدًا.
كما يُتوقّع أن يُقدِم التنظيم على تنفيذ عمليات استفزازية في الداخل التركي، أو في الأراضي السورية، والعراقية، مع الحرص على أن تُنسب هذه العمليات زيفًا إلى الأتراك، بغرض إثارة الفتنة.
وقد تكون بعض هذه الهجمات موجّهة ضد الأكراد أنفسهم، أو ضد أهداف أميركية سبق أن أعلنت نيتها الانسحاب من المنطقة، وهو ما قد يدخل في إطار التصعيد الاستفزازي.
السلاح: مصدر القوة الوحيد
تاريخ منظمة “بي كا كا”، الممتد لنصف قرن، يجعل جميع السيناريوهات ممكنة، غير أن أضعفها احتمالًا هو تخليها عن العنف والسلاح، وهما مصدر قوتها الوحيد.
لقد استمرت “بي كا كا” طوال خمسين عامًا لسببين رئيسيين:
الدعم الخارجي الذي تلقّته من دول مثل إسرائيل، إيران، الولايات المتحدة، ودول أوروبية وروسيا.
الامتداد السياسي داخل تركيا، ممثلًا بحزب “ديم”.
ما دام هذا الدعم الدولي مستمرًا، وما دام جناحها السياسي في تركيا لم يُقطع نهائيًا، فلن يكون بمقدور أمثالنا أن نكون متفائلين. لا نملك إلا “التحفظ”، لا التفاؤل.
أملي الوحيد هو أن يتمكّن حزب “ديم”، الذراع السياسية لـ”بي كا كا”، من النأي بنفسه بصدق عن التنظيم الإرهابي. غير أن المواقف الصادرة عنه حتى الآن تشير إلى غموض كبير، وعدم وضوح الرؤية.
بكلمات أخرى، لا يوجد تغيير فعلي في الظروف التي أوجدت “بي كا كا”. والدولة التركية على دراية تامة بذلك.
وقد عبّر الرئيس رجب طيب أردوغان عن هذا الإدراك بقوله: “إذا لم تُنفَّذ الوعود، وإذا تحوّلت العملية إلى مراوغة وتسويف، أو محاولات لخداعنا بتغيير الأسماء دون تغيير الجوهر، فسيُرفع القلم عنا. وسنواصل عملياتنا الجارية بلا هوادة، حتى لا يبقى حجرٌ فوق حجر، ولا رأسٌ فوق كتف، حتى القضاء على آخر إرهابي”.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
كاتب وصحفي تركي
الجزيرة
————————-
=========================
الحكومة السورية الانتقالية: المهام، السير الذاتية للوزراء، مقالات وتحليلات تحديث 06 أيار 2025
لمتابعة مكونات الملف اتبع الرابط التالي
—————————
حكومة تكنوقراط في مواجهة كل شيء/جمعة حجازي
06 مايو 2025
مع تأدية حكومة الرئيس أحمد الشرع القسم الدستوري، دخلت سورية مرحلة انتقالية حساسة، ليس على المستوى السياسي وحسب، بل على الصعيد الاقتصادي أيضاً، إذ يواجه الوزراء الجدد تحدّيات جسيمة تتطلب حلولاً سريعة ومبتكرة. هذه الحكومة، التي يغلب عليها الطابع التكنوقراطي، تعِد بإصلاحات شاملة تهدف إلى انتشال البلاد من أزماتها، لكنّ المهمة تبدو محفوفة بالعقبات.
لعلّ التغيير الأبرز في هذه الحكومة تركيبتها غير التقليدية، فقد جرى اختيار الوزراء للوزارات التقنية والاقتصادية من ذوي الخبرات العلمية والعملية في مجالاتهم، بعيداً عن التوازنات السياسية المعتادة.
وجود شخصيات بارزة في عالم الاقتصاد، مثل نضال الشعار في وزارة الاقتصاد، ومحمد يسر برنية في المالية، قد يعكس رغبة حقيقية في إصلاح الاقتصاد بعيداً عن الحسابات الأيديولوجية. لكنّ السؤال هنا: هل يكفي وجود التكنوقراط لتحقيق التحول الاقتصادي المطلوب في ظل بيئة مليئة بالتحديات؟ وما هي أبرز التحديات التي تنتظر هذه الحكومة؟
منذ مطلع عام 2012، شهدت الليرة السورية انهياراً متواصلاً أمام العملات الأجنبية، ما أدّى إلى ارتفاع غير مسبوق في الأسعار، وتآكل القدرة الشرائية للمواطنين. اليوم، يقف الفريق الاقتصادي للحكومة الجديدة أمام معضلة شائكة: كيف يمكن وقف هذا التدهور في ظل غياب احتياطي نقدي قوي، وعقوبات اقتصادية خانقة؟
يدرك الوزراء التكنوقراط أن الحلول التقليدية لم تعد مجدية، لذا بدأت الحكومة ببحث آليات جديدة لتحقيق الاستقرار النقدي، منها تعزيز الإنتاج المحلي لتقليل الحاجة إلى الاستيراد، ومحاولة استعادة ثقة المستثمرين عبر إصلاحات ضريبية وإدارية، إضافة إلى إجراءات رقابية أكثر صرامة على سوق الصرف، لكن التحدّي الأكبر يبقى مدى قدرتها على تنفيذ هذه السياسات في ظل محدودية الموارد والضغوط السياسية.
تعهدت الحكومة الجديدة بإطلاق مشاريع إعادة الإعمار في أسرع وقت ممكن، مستندة إلى خطط مدروسة تشمل الشراكة بين القطاعين العام والخاص، إضافة إلى البحث عن استثمارات خارجية، غير أن الواقع أكثر تعقيداً مما تبدو عليه الخطط على الورق، فالعقوبات المفروضة على سورية تعرقل إمكانية الحصول على تمويل دولي، فيما لا تزال رؤوس الأموال المحلية متردّدة في المغامرة في بيئة اقتصادية غير مستقرّة. لذلك، تسعى الحكومة إلى جذب السوريين المغتربين للاستثمار في بلدهم، مستغلة وجود شخصيات تكنوقراطية بارزة عادت من المهجر، مثل وزير الصحة مصعب نزال العلي القادم من ألمانيا، ومازن الصالحاني وزير السياحة، خريج كندا وصاحب خبرة في قطر. ووزيري المالية والاقتصاد. لكنّ نجاح هذه الاستراتيجية يعتمد على مدى قدرة الحكومة على توفير بيئة استثمارية آمنة وقوانين واضحة تحمي المستثمرين.
من بين الملفات الأكثر تعقيداً على طاولة الحكومة نجد ملفي الزراعة والصناعة، وهما قطاعان يعانيان من تدهور حاد بسبب الحرب وضعف البنية التحتية وارتفاع تكاليف الإنتاج. وزير الزراعة الجديد، أمجد بدر، يواجه تحدياً مزدوجاً: تأمين الأمن الغذائي للبلاد، وفي الوقت نفسه، دعم الفلاحين الذين تضرروا من الأزمة الاقتصادية.
أما في القطاع الصناعي، فإن دمج وزارات الصناعة والتجارة والاقتصاد في وزارة واحدة يعكس توجهاً نحو سياسات أكثر تكاملية، حيث تسعى الحكومة إلى حماية المنتج المحلي، وخفض تكاليف الإنتاج، وتوفير بيئة أفضل للاستثمار الصناعي. لكنّ العائق الأكبر هنا هو أزمة الطاقة، حيث تواجه البلاد نقصاً حاداً في الكهرباء والمحروقات، ما يعيق دوران عجلة الإنتاج.
من بين الأولويات التي حدّدها الرئيس أحمد الشرع، مسألة خلق فرص العمل واستقطاب الكفاءات السورية المهاجرة. لكن كيف ستتمكن الحكومة من إقناع هؤلاء بالعودة في ظل عدم الاستقرار الأمني والاقتصادي؟ توفير بيئة عمل جاذبة ورواتب مغرية قد يكون خطوة في الاتجاه الصحيح، لكن دون حلول جذرية للأوضاع الاقتصادية، سيظل استقطاب الكفاءات تحدياً صعب التحقيق.
رغم أن الحكومة تضم شخصيات غير محسوبة على الأحزاب التقليدية، إلا أنها لا تزال تواجه إرث العقوبات الاقتصادية، الذي يعوق القدرة على استيراد المواد الأساسية وجذب الاستثمارات الأجنبية. ورغم أن هناك بوادر انفتاح من بعض الدول الإقليمية، مثل الترحيب العربي والأوروبي والأميركي المبدئي، إلا أن فك العزلة الاقتصادية عن سورية لن يكون سهلاً. ويحتاج إجراءات قانونية معقدة، وحتى ذلك الحين أعتقد أننا بحاجة للبحث عن محرّكات ذاتية للنمو الاقتصادي كالزراعة والصناعة والسياحة.
الحكومة الجديدة، رغم طابعها التكنوقراطي، لن تستطيع تجنب المعادلات السياسية الإقليمية والدولية، ما يعني أن أي تحسن اقتصادي سيكون مرتبطاً بمدى نجاحها في إدارة علاقاتها الخارجية، خصوصاً مع الدول التي تملك تأثيراً مباشراً على الاقتصاد السوري، مثل تركيا والسعودية والدول الخليجية من حيث التبادل التجاري والطاقة والغاز والنقل والسياحة، إضافة إلى موضوع الربط السككي.
تحمل حكومة الشرع في تركيبتها مزيجاً من الخبرات التقنية والطموح للإصلاح، لكن النجاح لن يكون سهلاً، فالمشكلات الاقتصادية التي تواجهها البلاد معقّدة ومتداخلة، ولا يمكن حلّها بمجرد وجود كفاءات.
يبقى التحدي الأكبر مدى قدرة هذه الحكومة على تنفيذ رؤيتها في بيئة مليئة بالعقبات الداخلية والخارجية. فإذا نجح التكنوقراط في تطبيق سياسات فعالة على أرض الواقع، قد يكون ذلك بداية لعهد اقتصادي جديد في سورية. أما إذا اصطدمت الخطط الطموحة بالواقع الصعب فقد تكون هذه الحكومة مجرّد تجربة أخرى لتمرير الوقت.
العربي الجديد
——————————–
=========================
الموقف الأميركي اتجاه سوريا، مسالة رفع العقوبات، الشروط التي تفرضها الولايات المتحدة الاميركية على الحكومة السورية تحديث 06 أيار 2025
لمتابعة هذا الملف التبع الرابط التالي
العقوبات الأميركية على سوريا الجديدة وسبل إلغائها
—————————
هل من مفاجأة سورية في زيارة ترامب السعودية؟/ رغيد عقلة
06 مايو 2025
مع تأكيد البيت الأبيض زيارةَ الرئيس الأميركي دونالد ترامب المنطقة (بين 13و16 مايو/ أيار)، وتشمل السعودية والإمارات وقطر، تزداد تكهّنات عديدين من المهتمّين بالشأن السوري لتصل إلى درجة الاعتقاد بأن سورية في قائمة أولويات الرئيس الأميركي، إلى حدٍّ يجعلها محور مباحثاته مع قادة هذه الدول، وتحديداً مع ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، وربّما الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في حال تأكّدت القمّة بينهما في الرياض، حتى إنّ بعض هذه التوقّعات بلغت شطط الإصرار على أن لقاءً سيجمع الرئيس ترامب برئيس المرحلة الانتقالية أحمد الشرع خلال هذه الزيارة، الأمر الذي قد يكون من الصعب تخيّل حدوثه، وإنْ عوّدنا ترامب على توقّع اللامتوقّع.
من يتحدّثون عن مثل هذا الاهتمام السعودي، حدث اللقاء أو لم يحدث، يستندون إلى رغبة سعودية واضحة في مساعدة سورية والسوريين على العبور ببلدهم إلى حالة استقرار، هي في صلب مصالح السعودية في المنطقة، وتحاول دوماً ألّا تتأثر كثيراً بشكل النظام القائم في دمشق، وأن السعودية لن تتأخّر في استثمار علاقاتها المميّزة بواشنطن، وبإدارة الرئيس ترامب لتحقيق ذلك. على أنّ هناك اعتقاداً مهمّاً لفريق آخر يرى أن احتواء النظام الرسمي العربي (والسعودية في مقدّمته) للإدارة الجديدة في دمشق، وإن كان من ضمن مجموعة مصالحه وهواجسه في سورية وحولها، إلّا أنه جاء أساساً بطلب غربي، تقف وراءه حزمةُ مصالحَ وهواجس لدول كبرى، وربّما في إطار مخطّطاتها الأوسع للمنطقة كلّها. يستطيع هذا الفريق بسهولة أن يستند في اعتقاده إلى مؤشّرات عديدة لافتة، لعلّ أهمّها جاء في حديث جون سويرز لقناة سكاي نيوز، الذي لا يستمدّ أهميته من حقيقة أن سويرز عمل مديراً للاستخبارات الخارجية البريطانية بين عامي 2009 و2014 فحسب، بل يضاف إلى ذلك أنه جاء في توقيت مبكّر جدّاً يوم 8 ديسمبر/ كانون الأول، أي مع دخول الجولاني/ الشرع إلى دمشق، ولأنّ المتحدّث ليس مستجدّاً في الشأن السوري، فقد بدأ مسيرته الاستخباراتية من دمشق في ثمانينيّات القرن الماضي، حينما عمل في السفارة البريطانية مسؤولاً في الاستخبارات تحت غطاء “ملحق سياسي”.
سأل معلّق سكاي نيوز الشهير تريفور فيليبس، ضيفَه: “غالباً ما نكون في البداية متفائلين حول مثل هذه الأمور، ثمّ نكتشف أحياناً أنّنا استبدلنا السيّئ بالأسوأ، ماهي توقّعاتك من خلال ما نعرفه عن هيئة تحرير الشام، هل تعتقد فعلاً بإمكانية تحوّلهم من رديف للقاعدة إلى ما يصفه بعضهم بـ”حركة تحرّر حقيقي”؟، ليجيبه سويرز: “من المحقّ تبنّي الحذر هنا، ولكنّني عندما كنتُ مديراً للاستخبارات البريطانية… أجرينا تقييماً شاملاً لكلّ فصائل المعارضة السورية، لنميّز الذين نستطيع دعمهم من الآخرين غير المقبولين، لقربهم من تنظيم القاعدة، وهيئة تحرير الشام كانت قطعاً في التصنيف الثاني، لكنّني أعتقد (والكلام لا يزال لسويرز) أن قائدهم أبو محمد الجولاني قد بذل في العشر سنوات الماضية جهوداً عظيمةً للبقاء على مسافة من التنظيمات الإرهابية، وبكلّ تأكيد فإن المراس الذي رأيناه من هيئة تحرير الشام، في الأسبوعَين الماضيَّين (السابقَين على سقوط النظام) كان مراس حركة تحرّر، وليس مراس منظّمات إرهابية. ومن هنا، أظنّ أن وزير الداخلية سوف يطلب من جهاز الاستخبارات الداخلي، والمركز المشترك لتقييم الإرهاب، مراجعة تقييمهم لهيئة تحرير الشام، والبتّ إن كان يجب أن تحتفظ بذاك التصنيف المبدئي، لأنه سيكون سخيفاً ألّا نستطيع الانخراط مع القيادة السورية الجديدة استناداً لتقييم مضى عليه 12 عاماً”، هنا يسأله فيليبس صراحةً ومباشرةً: “لو كنت لا تزال في رأس عملك مديراً للاستخبارات الخارجية، هل كنت ستوجّه بالانخراط مع القيادة السورية الجديدة؟”، ليجيب سويرز بلهجة حاسمة: “بكلّ تأكيد، هناك واقع جديد في سورية اليوم، لكن المهمّة الصعبة فعلاً الآن محاولة لمّ شمل بلد لم يعرف الديمقراطية، ما نراه تحالف مجموعات مسلّحة، وليس جماعات سياسية”.
المثير جداً للانتباه في كلام سويرز كان في معرض حديثه عن الموقف الإسرائيلي ممّا يجري في سورية، الذي توقّع أن يشوبه التوتّر بعد أن استمتعت إسرائيل بحدود شمالية هادئة مع سورية 50 عاماً، عزاها إلى تفاهم ضمني، روسي إسرائيلي، منع الأسد بموجبه أي عمل عدائي ضدّ إسرائيل من الجولان مقابل عدم اتخاذها أيّ إجراءات قد تُضعف نظامه، الأمر الذي وصفه سويرز بالصفقة الروسية الإسرائيلية “القذرة غير المكتوبة”، لكنّه يستدرك أن إسرائيل اليوم تتابع ما يجري في سورية بكثير من التشكّك والوجل، وربّما تتحضر لأسوأ سيناريو تخشاه في أن ينفرط عقد سورية إلى كيانات أصغر، بجماعات مسلّحة قد تعيد تصويب سلاحها يوماً ضدّها، وإنْ كان الأمر لا يبدو مرجّحاً اليوم، لكنّه بكلّ تأكيد ليس مستحيل الحدوث، وستستمرّ إسرائيل في متابعته بدقّة، ليختم: “أعتقد أن على الإسرائيليين الوصول إلى تفاهمات مع الأتراك، لأنهم سيكونون وسطاء السلطة في سورية”.
قراءة متأنية لكلام سويرز، تأخذ في الاعتبار تطوّرات المشهد السوري منذ سقوط الأسد، ستخلُص إلى مجموعة نتائج مهمّة، منها أن انفتاحاً استخباراتياً غربياً عموماً، وبريطانياً خصوصاً، وفي أعلى مستوى على السلطة القائمة اليوم في دمشق قد حصل فعلاً، لكنّه لن يكون مجّانياً ومن دون مقابل، ويفترض وجود قائمة طلبات مهمّة وأساسية، ستكون قدرة الشرع على الوفاء بها الضامن الوحيد للاستفادة منه، ولعلّ أهمها بالمطلق وردَ صراحةً في كلام سويرز عن الهاجس الذي تشكّله المجموعات المسلحة لإسرائيل خصوصاً، والغرب عموماً، بغضّ النظر عن ولاءات هذه المجموعات وتحالفاتها اليوم، لأن التجارب أثبتت أنها تتغيّر بسرعات واتجاهات لافتة ومخيفة. الأمر الآخر المهم تقييم سويرز الدور الروسي في سورية، الذي تطوّر دراماتيكياً منذ 2011، ففي ظلّ اختلاف الأجندات الإقليمية والدولية في سورية، وحولها، وعدم وجود حتى طرفَين متّفقَين على كلّ شيء فيها، أو مختلفَين على كلّ شيء، أثبتت التفاهمات الروسية الإسرائيلية أنها كانت الأهم والأقوى والأكثر فاعليةً في المشهد السوري، وفي ظلّ حالة عدم ثقة ونفور شديد بين إسرائيل نتنياهو وتركيا، هل من الممكن أن تعود روسيا إلى المشهد السوري بإلزام غربي هذه المرّة؟
من يعتقد أن روسيا فقدت بطاقاتها كلّها في سورية، ربّما عليه أن يعيد حساباته، فهي لا تزال تحتفظ بقاعدتَين عسكريّتَين مهمّتَين، تضطلع إحداهما بدور أساسيّ في عملية التحصيل الاستخباراتي للمنطقة كلّها، وقد تَأوي إحداهما، كما في روسيا وربّما في مناطق أخرى، عدداً مهمّاً من الضبّاط القادة السوريين من الطائفة العلوية، ولا تزال لهم امتداداتهم في المشهد السوري. الأمر الآخر المهم أن روسيا مقبولة عند مكوّنات سورية عدّة، والأهم من ذلك كلّه أنها أثبتت دوماً لإسرائيل أنها شريك يمكن الوثوق به. وفي المقابل، لن تسمح إسرائيل على الإطلاق بتقدّم أيّ مسار استخباري سوري غربي طويل الأمد، وهذا محسوم وغير قابل للنقاش في الذهنيّتَين الاستخباراتية والسياسية الإسرائيليّتَين، يضاف إلى ذلك حقيقة أن نتنياهو لو أُعطي الخيار فيمن يفضّل التفاهم معه في سورية، فهو من دون شكّ سيختار بوتين على أردوغان، الأمر الذي قد يفعله النظام الرسمي العربي أيضاً.
من هذه الزاوية تماماً، تجدر مراقبة زيارة الرئيس ترامب المنطقة، خصوصاً في حال تخلّلتها قمّة مع الرئيس بوتين في السعودية، فعلاقة ترامب الشخصية ببوتين ليست متأخّرةً عن علاقته بالرئيس أردوغان. رغم ذلك، لا يزال موقف بوتين من الوساطة الأميركية مع كييف متشدّداً، رغم محافظتها على المكاسب الروسية في أوكرانيا، فإذا أخذنا في الحسابات مدى أهمّية هذه الوساطة للرئيس ترامب لتداخلها مع اتفاقية التنقيب الأميركي عن المعادن الثمينة في أوكرانيا، ورغبة إسرائيلية أكيدة بوجود طرف ضامن لهواجسها الأمنية في سورية (غير تركيا)، وقدرة الرئيس ترامب على إحياء تفاهمات روسية تركية إسرائيلية في سورية، فهل نرى موقفاً أميركياً جديداً في المشهد السوري هو أقرب لإعادة دورٍ روسيٍّ ما هناك؟ وهل قرأ الشرع ذلك مبكّراً فذكّرنا بأخيه المتخرّج من روسيا، ويتقن لغتها.. ومصاهرتها؟
العربي الجديد
—————————-
——————————–
=========================
======================
العدالة الانتقالية تحديث 06 ايار 2025
لمتابعة هذا الملف اتبع الرابط التالي
—————————
سؤال العدالة بوصفه تأسيساً ممكناً لطغيان جديد/ موريس عايق
في الطبيعة المُلتبسة للعدالة وتحدياتها في سوريا
03-05-2025
التفكير بالعدالة في سوريا مسألة صعبة ومعقدة ومتورطة في تحديات كثيرة تعتاش على الانقسامات الأهلية وسؤال المستقبل والعيش المشترك. فلا يمكن طرح سؤال العدل بمعزل عن هذه الأسئلة والتحديات، وهو ما يدفعنا للتفكير في العدالة بطرق استكشافية وتجريبية أكثر من كونها تقريرية حول «طبيعة العدل».
من الجيد البدء بالمسألة الأكثر وضوحاً وبداهة، وهي أن لا شيء سوف يُعيد الموتى إلى أحبائهم وأهلهم؛ لن يعود الضحايا إلى ما كانوا عليه قبل أن يحصل ما حصل، لن تعود الأجساد والمنازل المُستباحة والمحطمة إلى سابق عهدها، ولن يعود الأبناء المفقودون إلى أهاليهم الذين عليهم إكمال حياتهم غير العادلة بجراحها وأحزانها حتى النهاية، مع قليل من المواساة والعزاء. المسألة بديهية وواضحة، لا شيء سوف يعود كما كان، ما انكسرَ قد انكسر والذين ذهبوا لن يعودوا. هذا الأمر البديهي يُقدم تفصيلاً مهماً، وهو أن العدل هنا لا يعني عودةً إلى وضع سابق قبل وقوع الشرّ، إنما هو مزيجٌ من العقاب والتعويض من أجل المستقبل، من أجل منع -قدر الإمكان- حصول ما حصل مرة أخرى. فمُعاقبة القاتل لن تُعيد للثكلى فقيدها، لكنها مزيجٌ من العقاب والتعويض والإقرار بما وقع على الضحية من أجل منع مثل هذه الجريمة من أن تقع مرة أخرى. هذه المسألة على بَداهتها، تحتاج للتذكير بها، حتى يتضح أن ما يُضمره سؤال العدل والعقاب هو المستقبل بالإضافة إلى تعويض الضحية. العدل الذي يُفترَض منذ البداية امتناعُهُ الواقعي حقاً، إلا في الأعالي حيث يجتمع الناس عند ربهم.
بهذا المعنى يمكن أن نتساءل عن كيفية تحقيق العدل، بأفضل ما يمكن، في سوريا مع ما حصل فيها من جرائم مهولة وممتدة، جرائم تتفاوت مستوياتها من الإبادة والتطهير والاغتصاب حتى جرائم التعذيب والقتل الفرديين. كيف لنا أن نتعامل مع كل هذا الإرث من المقتلة التي شاهدناها لسنوات؟
هل العقاب هو الوسيلة الوحيدة لإحقاق العدل؟ هل نُعاقب كل من تلوثت يداه بالدم؟
المقاربة العقابية الشاملة تواجه العديد من الصعوبات في سوريا، بما يجعلها غير ممكنة. فمن شاركَ في الجرائم من السوريين هم أعدادٌ مهولة حقاً، ينتمون إلى الأطراف المتصارعة جميعها. غير أن الجرائم جرائمُ على أية حال، دون أن يعني هذا أن نضع الجميع في خانة واحدة، أن نساوي بين نظام الأسد وبين من ثار عليه. وأيضاً يجب الاعتراف أن الجرائم، أيضاً، سويّات. فجرائم الإبادة والتطهير والتعذيب في صيدنايا لا يمكن قياسها مع جرائم فردية أو نهب هنا وهناك. لكننا نبقى أمام جرائم، وأمام أعداد كبيرة من السوريين المتورطين في هذه الجرائم بما يجعل من فكرة العقاب الشامل فكرة خطيرة، لعدم إمكانية تنفيذها حقاً وما يترتب عليها من تدمير لإمكانية أن تقوم قائمة لهذا البلد وأن ينطلق من جديد، بل ربما تكونُ شرارة لحرب أهلية جديدة. العدلُ لا يمكن له أن يكون على حساب المستقبل، على حساب العالم وإعماره، وإلا فإنه يكفُّ عن أن يكون عدلاً. هذا هو التحدي الأول الذي علينا مواجهته؛ ما كمية العدل والعقاب التي يمكن لنا أن نتحملها دون أن ينهار العالم من حولنا ومن دون أن يفقد العدل معناه في الوقت ذاته؟ لا إجابة بسيطة ومباشرة على هذا السؤال، حتى إذا قبلنا مسألة محاسبة عدد محدود ومُقيَّد، والأرقام التي لدينا في التقارير تتحدث عن بضعة آلاف من الأسماء المتورطة في الجرائم الكبيرة من طرف النظام، فإن الموضوع قد لا ينتهي. فقط تخيّلوا أحدهم وقد تعرَّفَ على من اعتدى على امرأته أو شقيقته، وهذا يمكن أن يكون ضابطاً برتبة صغيرة، وما يمكن له أن يقوم به؟
هل علينا أن نُدخِلَ في حسابنا أيضاً أسماء المنتصرين؟
* * * * *
هناك جانب آخر للسؤال لا يدور على العدد وحسب، إنما على الانقسام الأهلي الكامن وراء العدد. إن الأسماء المتداولة لكبار المجرمين تُقدّم لنا واقعة لا يمكن تجاهلها، تماماً مثلما تُقدّم لنا هويةُ الضحايا بدورها قرينة لا يمكن تجاهلها، على دور الانقسام الطائفي والأهلي في الحرب. الحضور العلوي الكبير في أسماء الضباط والمقاتلين، كما الحضور السنّي الكبير بين الضحايا في حالة جرائم نظام الأسد. لا يفسّر الانقسامُ الأهلي وحده كل جرائم نظام الأسد، فقد وُجِدَ ضباط كبار من كل طوائف وإثنيات المجتمع السوري (انظر أسماء الممولين والبيروقراطين من أصول سُنّية) في آلة الموت التي أطلقها على المجتمع السوري، مثلما كان هناك علويون كثر بين الضحايا وممن دفعوا أثماناً هائلة لمعارضتهم على مرّ عمر النظام الأسدي. غير أنه لا يمكن تجاوز البعد الطائفي-الأهلي في الجرائم التي حصلت، في حرب أهلية كان للبُعد الطائفي دورٌ كبيرٌ فيها. يمكن وضع المسألة على الشكل التالي فيما يخص جرائم الحرب التي ارتكبها نظام الأسد: العلوي الذي قَتَلَ فَعَلَ هذا لأنه يتصرف على أساس من العصبية العلوية، والعلوي الذي رفضَ وتمرَّدَ على الجريمة فعل هذا لأنه لم ينظر لنفسه بحصرية الهوية العلوية. كذلك السُنّي الذي قُتل، قُتل في العديد من الأحيان لأنه سُنّي (مثلما حصل في الحولة والقصير)، بينما السُنّي الذي شارك في القتل إلى جانب النظام لم يفعل هذا انطلاقاً من كونه سُنّياً، فيما السُنّي الذي مارس القتل في صفوف الفصائل المتمردة فعل هذا لأنه تصرف على أساس من عصبية سُنّية.
الانقسام الطائفي وتَداخُله مع وقائع الحرب والجريمة يعني أننا أمام مجموعة من التحديات حول سؤال العدالة: عقابُ المتورطين جميعاً يعني بطريقة أو بأخرى إيقاع أذى واسعٍ بالعلويين، وهؤلاء قد يرونه بوصفه ثأراً ضدهم وليس عقاباً على ما حصل فحسب. أيضاً، هل يمكن للعلويين، كجماعة، احتمال هذا القدر من العقاب الذي سيحل على شُبّانهم؟
ثم، ما الذي نفعله مع البُعد الطائفي للجريمة، كما للعقاب أيضاً؟ ألم تكُن العصبية العلوية حاضرة في التعبئة لمواجهة المنتفضين، ولتنفيذ الجرائم وتأمين بيئة حاضنة ومُرحِّبة بما حصل! بالطبع، كان خيار النظام هو توريط العلويين بأكبر قدر ممكن في الجرائم الحاصلة، كما فعلَ عبر استدعاء ميليشيات الشبيحة من قرى علوية للقيام بفظائع مثلما حصل في الحولة، أو كما حصل في مدينة حمص حيث استخدم علويين لقمع المعتصمين عند الساعة والاعتداء عليهم. فبالتالي ألا يجب تحميل العصبية العلوية المسؤولية المعنوية عما يحصل باسمها؟ وبالتالي «إعادة التربية» وهو المصطلح الذي سبق واستُخدِمَ لوصف السياسات الثقافية والتعليمية التي طبقها الحلفاء تجاه الألمان بعد الحرب العالمية الثانية. أعتقد أن هذا ضروري بمعنى المسؤولية في بُعدها المعنوي، فيما يكون البعد الجنائي للعقاب حصراً للأفراد طبعاً. لكن مرةً أخرى؛ ما هو قدر هذا العقاب وطبيعته وطريقة تنفيذه بحيث لا يسحق إمكانية العيش المشترك؟ ولكن من دون أن يتم القفز عن سؤال العدالة في الوقت نفسه.
غير أن هذا الأمر لا يقتصر على حالة العلويين وحدهم خلال هذه الحرب، ذلك أن البعد الطائفي/الإثني للجرائم كان حاضراً لدى عامة الفصائل الإسلامية (السُنّية) المقاتلة، والقياس نفسه ينطبق هنا أيضاً. على سبيل المثال، ما حصلَ في عدرا العمالية وعدد من القرى العلوية خلال سنوات الثورة، ولاحقاً ما تعرَّضَ له الأكراد وغيرهم من المكونات في مناطق سيطرة المعارضة، والأقسى كان ما حصل تجاه الإيزيديين من جريمة الإبادة على يد الدولة الإسلامية، وهذا كله باسم عصبية سُنّية! ألا يجب تحميل العصبية السُنّية المسؤولية المعنوية عن هذا مثلما قد يحصل تجاه العصبية العلوية تطبيقاً للمعيار ذاته، وأن يُلاحَق المتورطون من أفرادها مثلما يُفترَض أن يحصل مع المتورطين من الطائفة العلوية؟ إن كان هذا مُمتنعاً بواقع النصر نفسه، هل يمكن لسؤال العدل أن يبقى سؤالاً ذا معنى دون أن ينحلَّ في عقاب المنتصر للمهزوم؟
مرة أخرى إذا نظرنا إلى التجارب المختلفة للتعامل مع أسئلة الإبادة والجريمة فإن الواقع ليس مثالياً، فمن عُوقبوا بعد الحرب العالمية الثانية لم يكونوا كَّل المجرمين، إنما المجرمون المهزومون. لم يحصل عقابٌ لأكبر عملية استباحة جنسية حصلت للنساء خلال الحرب العالمية الثانية على يد الجيش الأحمر بحق النساء الألمانيات، أو للانتهاكات التي قام بها الفيلق اليهودي تجاه الألمان، وبالتأكيد تم تناسي العنصرية والإبادات التي قام بها الحلفاء في مستعمراتهم وغيرها. لكن بالمقابل، ورغم هذا التناسي، تم جعلُ لحظة نورمبرغ لحظة تأسيسية، بمعنى أنه ومع معاقبة المجرمين على ما فعلوه تم تعريف الجريمة، وبهذا صار هذا السلوك مداناً وغير مقبول تكراره من الجميع، حتى لو لم يتم معاقبة المنتصرين وقتها على ما قاموا به. المهزومون دفعوا ثمن التأسيس القانوني للجريمة، ولم يدفعه المنتصرون، لكن التأسيس حصل وأُلزِمَ به الجميع. هذا تَقدُّمٌ في النهاية! هل يمكننا إنتاج مثل هذا التَقدُّم في سوريا حتى لو قمنا بعقاب انتقائي يدفع ثمنه المهزومون وحدهم؟ غير أن هذا يمتنع في غياب تقليد ثقافي وفكري يسمح بهذا، مع غلبة الهويات الطائفية على سوريا وانتشاء عصبية سُنّية تَرى في النصر تأسيساً لحُكمها!
سؤال العدل في سوريا سؤال تأسيسي يُحدِّد ويُعرِّف شكل سوريا المستقبل. أسئلة العدل والمحاسبة والعنف في هذه اللحظة هي أسئلةٌ تأسيسية، لا يمكن تأطيرها الآن في سياق القانون، بل إنها تقوم بتأسيس هذا القانون. لهذا فإن القفز عن سؤال العدل يخبرنا كثيراً عن سوريا المستقبل، مثلما أن طريقة إنفاذ وتحقيق هذا العدل ستُخبرنا بالكثير عن سوريا المستقبل. عملية تحقيق العدالة في سوريا نفسها من طبيعة تأسيسية، تقوم بتأسيس القانون في اللحظة التي تتحقق فيها، فلا يمكن إخضاعها مسبقاً لتصورات حقوقية حول كيفية تحقيقها انطلاقاً من معايير شكلية مُسبَقة نفترض أنها تُعرِّف الجريمة والعدل، وكأننا في دولة حصلت فيها جريمة، فيما نحن في سياق مغاير هو سياقُ تأسيس الدولة انطلاقاً من كيفية تعريفنا للعدل وتحقيقه في مواجهة لحظة الجريمة السابقة. الأسئلة التي علينا أن نطرحها هنا؛ ما هو مضمون العدل الذي نريد التفكير به؟ ما هو القانون الذي نريد تأسيسه؟ وكيف نمارس القانون؟ الإجابات المُقدَّمة والمُمارَسة عملياً هي تأسيسُ الدولة الجديدة.
* * * * *
شابَ سلوكَ السلطة الجديدة قدرٌ كبيرٌ من عدم الجدية والالتباس فيما يخصّ سؤال العدالة، بما لا يتناسب مع طبيعة العدالة التأسيسية في السياق السوري. توجد بالتأكيد أسباب موضوعية تتعلق بمحدودية قدرات وسلطات السلطة الجديدة، بما يفسّر جانباً من هذا السلوك مثل افتقارها إلى القدرة والخبرة في التعامل مع موضوع بمثل هذا الحجم والصعوبة، وضعف سيطرتها بما في ذلك سيطرتها على الفصائل المنضوية تحت إمرتها. غير أن هناك أسباباً أخرى ذاتية تتعلق بطبيعة السلطة الجديدة نفسها التي كانت طرفاً في الحرب الأهلية، وارتكبت -سواء هي نفسها أو عبر الفصائل المُلتفَّة حولها- قدراً كبيراً من الجرائم، بالإضافة إلى الطبيعة الإيديولوجية لها ولفصائلها التي تجعل من سؤال العدل مسألة ملتبسة تماماً.
في البداية كانت التسويات، وهي أمر مهم في ذاته لتأمين الجنود وصغار الضباط من موجات الانتقام المنفلتة، لكن التسويات امتدت إلى ضباط كبار لهمٌ دورٌ مشهود في الجرائم التي حصلت بما يهدر سؤال العدل. حتى أن بعض قادة ميليشيات الدفاع الوطني المشهود بارتكابهم الجرائم، أو ممولي هذه الميليشيات، عادوا ليحظوا بمواقع رسمية أو شبه رسمية. وإلى جوار التسويات هذه، غُيِّبَ الكثير من الجنود وصغار الضباط في معسكرات اعتقال دون أن يُعرَف عنهم شيء حتى الآن، ومن دون انطلاق للمحاكمات أو التحقيقات التي تشير إلى تورطهم في الجرائم. وصولاً حتى إلى غياب آلية عمل مؤسسية للتعامل مع سؤال العدالة، وتأمين المواد والمواقع التي تمسّ هذه العملية.
غير أن الأهم هو الالتباسُ الواسع في قاعدة السلطة بين منطق العدالة والقانون من ناحية، والسردية الطائفية القائمة على الانتقام والإبادة التي تشرعن نفسها عبر «مظلومية السنة» من ناحية أخرى، مُمثَّلة بجرائم الإبادة والمجازر التي تَعرَّضَ لها السوريون، وتحديداً البيئات السُنّية، على يد نظام الأسد. وعبر تَوسُّلِ خطاب «المظلومية السُنّية» أُقيمت مساواة بين نظام الأسد والطائفة العلوية، حيث تم تجريم ونزع إنسانية طائفة كاملة، فصارت هذه المساواة دليلاً على الطبيعة الإجرامية الجوهرية لهذه الطائفة. وهذا ما ظهر في الساحل مع جرائم التطهير الطائفي-الإثني تجاه العلويين لكونهم علويين، وبالتالي مذنبين سلفاً بجرائم النظام السابق.
هنا لا يعود سؤال العدل لحظةَ تأسيسٍ لمُصالحة وطنية ودولةِ قانون، بقدر ما أنه يتحول إلى مُسوِّغ لمشروع إبادة وتطهير إثني يستخدم العدالة بشكل أداتي لتسويغ الجريمة باعتبارها إحقاقاً للعدل، حيث يلعب العلويون دور كبش الفداء الذي يُحمَّل جميع الآثام لتتم التضحية به تطهيراً وتوحيداً للجماعة السُنّية، ومحافظةً على لُحمتها وعصبيتها. إن العدالة شرطٌ لازمٌ لا يمكن الاستغناء عنه لمواجهة خطر الاحتراب الأهلي وتفكيك خطابات الكراهية التي تستخدمه ذرائعياً، دون أن تكون العدالة نفسها شرطاً كافياً لدرء هذا الخطر.
ومن جانب آخر، يلعب سؤال العدالة أيضاً دور أداة لفرض وترسيخ سلطة السلطة الجديدة، أداة للهيمنة والتسلط بما يذكر بسلوك نظام الأسد السابق حيث يتم شراء الإذعان والخضوع باسم الحماية والأمن وضبط الآخرين الأشد تطرفاً وتهوراً. بالمقابل، يتم تقديم السلطة لجمهور الأكثرية على أنها تعبيرٌ عنهم والضمانة لحماية حقوقهم واستردادها.
بعد مجازر الساحل يَظهرُ أن سؤال العدل قد يتحول إلى أداة من أدوات الضبط والسيطرة، والتأسيسُ المتدثّرُ بسؤال العدالة يصبح عندها تأسيساً لنظام ذي نزوع فاشي وسلطوي، مثلما هو تمييزي تجاه الآخرين مع تَصوُّر استنسابي للعدل بما يُلغي معناه. تحت ستار العدل تظهر استراتيجيات الملاحقة الدائمة والقمع للآخرين بذريعة الفلول وملاحقتهم، وهو ما يَؤول إلى تجربة قريبة منا وهي العراق، حيث انتهى العدل إلى انتقام قانوني وتمييز وإخضاع يحمل معه كافة شروط الحرب الأهلية التي انفجرت لاحقاً. وحتى الانتصارُ في الأخيرة لم يأتِ بدولة قانون، إنما دولة تتناهُبها الميليشيات والفساد. وبعد ما حصل في الساحل في ظلِّ سلطة العهد الجديد، صار سؤال العدالة واحداً لا ينفصم، لضحايا نظام الأسد ولضحايا مجازر الساحل من العلويين، وإلا فإننا في مواجهة تَحوُّل العدل إلى انتقام قانوني، فنفقد بهذا فرصة تأسيس دولة القانون انطلاقاً من سؤال العدالة.
* * * * *
التحدي السوري أمام سؤال العدل هو كيف لنا أن نُعرِّف العدل ونُحدَّدَ طرائق إنفاذه دون أن نُسحَق تحت ثقله، ولكن في الوقت نفسه أن لا نتجاوزه بذريعة ثقله الذي لا يمكن لنا احتماله بما يُفوِّتُ علينا إمكانية المصالحة الوطنية والتأسيس لعهد جديد. بدون عدل تبقى شروط الاحتراب الأهلي والكراهية حاضرة في انتظار جولة جديدة، ولا يمكن مُداراتها إلا عبر القمع. ومن جانب آخر، لدينا خطرُ تَحوِّل العدل إلى أداة في مشروع سلطوي. عندها، فإننا نُفوِّتُ على أنفسنا فرصة التأسيس لعهد جديد يجعل مما حصل أمراً لا يمكن أن حصوله ثانية، وفرصة تكريس ثقافة سياسية ووطنية وأخلاقية تمنع الجريمة من التكرار. من دون هذا التأسيس يبقى ما حصل أمراً عادياً لا شيء يمنع حصوله مستقبلاً، طالما أن كل شروط إعادة إنتاجه بقيت دون أن تُمَسّ.
لكن، هل السلطة الحالية قادرة أو جادة أو حتى راغبة في هذا التقدم والتعامل مع سؤال العدل ومحاذيره؟ وهي سلطة فصائل سُنّية، وهذا توصيف لا يقتصر فحسب على واقعها وتاريخها خلال الحرب الأهلية، إنما هو قائمٌ في واقع الحال وفي تَوسُّل الشرعية لديها ولدى جمهورها. الإجابة ليست مُبشِّرة إطلاقاً، وكأننا نُحدِّقُ في الهاوية!
موقع الجمهورية
————————————
——————————–
=========================
عن أشتباكات صحنايا وجرمانا تحديث 06 أيار 2025
لمتابعة تفاصيل هذا الملف اتبع الرابط التالي
—————————
السويداء.. مقاربة من زاوية مختلفة/ محمد صبرا
2025.05.05
ملأت الأخبار القادمة من السويداء ومن جرمانا وصحنايا في ريف دمشق، الفضاءات الإعلامية والشاشات، التي خصصت أوقاتاً طويلة لتغطية الحوادث اليومية التي تجري في هذه المناطق، واستضافت الكثير من المحللين والاستراتيجيين والخبراء العسكريين إلى حد الإرهاق، ورافق ذلك سعار طائفي متبادل وبغيض، على وسائل صفحات التواصل الاجتماعي، واتهامات بالخيانة والعمالة، واتهامات مقابلة بالتكفير والتطرف والإرهاب.
كل هذا المشهد ستكنسه الأيام، وستبقى الحقيقة المؤلمة أن هناك دماء سالت وأن هناك أمهات سوريات انتظرن أبناءهن الذي عادوا إليهن مضرجين بدمائهم، ولا يهم هوية هؤلاء الضحايا، لأن الألم في قلوب الأمهات والآباء والأبناء هو واحد من دون لون أو نكهة طائفية، وبعيداً عن الغرق في تفاصيل الحوادث وأسبابها وسياقها الذي تطورت فيه، فإن العودة للوراء قليلاً والابتعاد قدر المستطاع عن التفاصيل المؤلمة، ربما يسمح لنا أن نرى الأمور من زاوية مختلفة، وأن نضع ما حدث في سياقه الأكبر باعتباره جزءا من الصراع الإقليمي بين قوى متوسطة ناهضة، تريد طرح مشاريعها الخاصة، عبر استخدام أدوات “متدنية الكلفة” لتحقيق طموحاتها وإعادة تموضعها الجيوسياسي في المنطقة، ولذلك ستغفل هذه القراءة عن عمد، كل ما يتعلق بالراهن اليومي وبالمحلي السوري، لنستطيع أن نرى جزءا مختلفاً من المشهد بعيداً عن ركام الصراعات الصغيرة البائسة، لقوى محلية مرهقة وتفتقد للبصر والبصيرة في آن.
صراع القوى المتوسطة والإقليمية في إقليم مضطرب
يُستخدم مصطلحا “القوى المتوسطة” و”القوى الإقليمية” بشكل متزايد في الأوساط السياسية والأكاديمية، رغم غموض تعريفاتهما واختلاف الآراء حولهما، تشير “القوة المتوسطة” إلى دولة تحتل موقعاً بين القوى العظمى والدول الأضعف، وتمتلك نفوذاً دولياً مؤثراً، وإن لم يكن مطلقاً، تعود جذور المفهوم إلى القرن السادس عشر، لكن استخدامه الرسمي بدأ مع مؤتمر باريس عام 1815، يُعرّف هذا النوع من القوى تقليدياً بناءً على القدرات العسكرية والاقتصادية والموقع الجيوستراتيجي، بينما يركز نهج أحدث على مدى تأثير الدولة وشرعيتها القيادية.
برزت أهمية القوى المتوسطة خلال الحرب الباردة، حيث مثلت دول مثل كندا وأستراليا أطرافاً فاعلة رغم افتقارها للقوة العظمى، بعد الحرب الباردة، صعدت دول مثل البرازيل والهند والصين ضمن مجموعة “البريكس”، ما أدى إلى التمييز بين القوى المتوسطة التقليدية والناشئة.
أما “القوة الإقليمية” فهي دولة تملك تأثيراً بارزاً في منطقة معينة، وقد تصبح مهيمنة إقليمياً إذا تفوقت على جيرانها، ويشكّل التفاعل المحلي والدولي عاملاً حاسماً في تحديد النفوذ الحقيقي لكل من القوى المتوسطة والإقليمية.
تلعب القوى المتوسطة والإقليمية دوراً متزايد الأهمية في إعادة تشكيل تقسيم العمل الدولي، خاصة مع تراجع الهيمنة المطلقة للقوى العظمى وتعدد مراكز التأثير العالمي، فبفضل قدراتها الاقتصادية المتنامية ومواقعها الجيوسياسية الحيوية، أصبحت هذه القوى طرفاً فاعلاً في المبادرات العابرة للحدود، مثل مشروع “الحزام والطريق” الذي تقوده الصين، وتسهم القوى المتوسطة، كتركيا وإندونيسيا والبرازيل، في ربط الأسواق الإقليمية، وتوفير بيئات مستقرة نسبياً للنقل والتجارة، مما يمنحها نفوذاً في تصميم شبكات الإنتاج وسلاسل الإمداد العالمية، من جانب آخر، تسعى القوى الإقليمية مثل إيران وجنوب إفريقيا وإسرائيل، إلى استخدام موقعها ومكانتها لتعزيز مصالحها الاستراتيجية، سواء عبر الانخراط في هذه المشاريع أو طرح بدائل تنافسية، في هذا السياق، لم تعد القوى العظمى قادرة على تنفيذ مشاريع كبرى بمعزل عن شركاء إقليميين ومتوسطي القوة، بل أصبحت بحاجة للتنسيق معهم لضمان الاستقرار والقبول المحلي، ويعكس هذا التحول تعقيد النظام الدولي اليوم، حيث تلعب هذه القوى دوراً مزدوجاً كمساهمين في التنمية العالمية من جهة، وكحراس لمصالحهم الوطنية والإقليمية من جهة أخرى، مما يمنحهم وزناً سياسياً واقتصادياً متزايداً في رسم مستقبل النظام الدولي.
ويشهد الشرق الأوسط تنافساً محتدماً بين ثلاث قوى إقليمية رئيسية: إيران، وتركيا، وإسرائيل، حيث تسعى كل منها لتعزيز نفوذها في المجال الحيوي الإقليمي والتأثير على السياسات الدولية، والاستحواذ على دور فاعل في شبكات سلاسل التوريد وفي التقسيم الدولي للعمل، تستند هذه القوى إلى مزيج من المقومات الجيوسياسية والاقتصادية والعسكرية، وتختلف استراتيجياتها بحسب أولوياتها وأدواتها.
اعتمدت إيران على تحالفات أيديولوجية وشبكات نفوذ تمتد عبر العراق وسوريا ولبنان واليمن، مدعومة بقدرات عسكرية غير تقليدية مثل الميليشيات المسلحة، العابرة للحدود، وذلك بهدف ضمان عمق استراتيجي يربط الخليج العربي بالبحر المتوسط، ما يتيح لها الضغط في قضايا الطاقة والملاحة الدولية، ويعطيها دورا في سلاسل التوريد العابرة من آسيا إلى أوروبا، ولذلك كان مشروعها الأساسي هو خلق مجال نفوذ خالص لها في ما بات يعرف “بالهلال الشيعي”، ووضعت خططا طموحة لبناء شبكات سكك حديدية من الأراضي الإيرانية إلى المتوسط عبر العراق وسوريا، وربط إيران بالبحر الأحمر عبر سكة حديد تمتد من إيران إلى البصرة ومنها إلى ميناء العقبة عبر الأردن، فضلا عن خططها حول شبكات أنابيب الطاقة.
في مقابل المشروع الإيراني، تسعى تركيا لاستعادة دورها كقوة أوراسية من خلال تعزيز وجودها في القوقاز وشرق المتوسط وأفريقيا، وتُراهن على موقعها كممر حيوي في سلاسل التوريد بين أوروبا وآسيا، وربط شبه الجزيرة العربية بتركيا عبر شبكات سكك حديد إما من السعودية إلى الأردن وسوريا أو عبر مشروع ممر “القناة الجافة” والذي يهدف لربط ميناء الفاو على شط العرب بميناء مرسين عبر شبكة معقدة من الطرق السريعة والسكك الحديدية، ووظفت تركيا صناعاتها الدفاعية المتقدمة والدبلوماسية النشطة لتعزيز نفوذها في الإقليم.
إسرائيل، من جهتها، تعتمد على تفوقها التكنولوجي والعسكري، وتوسع علاقاتها مع دول الخليج وأفريقيا، ما يجعلها لاعبا محوريا في الأمن الإقليمي، وساعياً للاندماج في مشاريع الطاقة وسلاسل التوريد العالمية، وقد سبق أن طرح إسرائيل كاتس وزير الدفاع الإسرائيلي الحالي، عام 2017 ما يعرف بمشروع ” سكك السلام الإقليمية”، لربط السكك الحديدية في الجزيرة العربية من ميناء الدقم في بحر العرب، إلى ميناء حيفا على المتوسط، وقد عزز الطموح الإسرائيلي، المبادرة التي طرحها الرئيس الأميركي جو بايدن لإنشاء ممر اقتصادي بين الهند والشرق الأوسط وأوروبا خلال قمة مجموعة العشرين في نيودلهي في 9 سبتمبر 2023، وتهدف المبادرة إلى إنشاء ممر تجاري وسككي ضخم يربط الهند عبر الشرق الأوسط (الإمارات، السعودية، الأردن، وإسرائيل) وصولاً إلى أوروبا، تشمل المبادرة تطوير البنية التحتية، مثل السكك الحديدية والموانئ، إلى جانب خطوط الطاقة والاتصالات الرقمية.
هذا التنافس المحموم بين القوى الإقليمية الثلاث قد يكون هو العامل المؤثر الأبرز على السياسات الدولية في المنطقة، حيث تنخرط القوى الكبرى مع هذه الدول لتحقيق توازنات إقليمية تخدم مصالحها في الطاقة، والأمن، والتجارة العالمية.
أين سوريا
منذ صعود المشروع الإيراني مثّلت سوريا، حلقة أساسية في هذا المشروع، وبعيداً عن المبررات الأيديولوجية التي يتم التركيز عليها عادة، فإن تعقيد الواقع الجيوسياسي المحيط بإيران، يجعل من سوريا المنفذ الوحيد لها من مأزق الجغرافيا، فإيران محشورة بين شبه القارة الهندية في شرقها وفيها قوتان نوويتان الهند وباكستان، وفي شمالها دول آسيا الوسطى وهي الحديقة الخلفية لروسيا والتي لا تستطيع إيران اللعب بها، وفي غربها تركيا الناهضة والتي تنافس على موقع إقليمي مركزي، وبالتالي لم يبق أمام إيران إلا النفاذ عبر العراق وسوريا للوصول إلى المتوسط، ومن هنا شكلت خسارة سوريا بالنسبة لإيران كارثة جيوسياسية وأحد العوامل الأساسية لانكفاء المشروع الإيراني، ولذلك تحاول إيران استعادة هذا الدور بأي ثمن كان.
في المقابل بالنسبة للاستراتيجية الإسرائيلية فإن سوريا لا تشكل أهمية في حلقات الوصل الجيوسياسي التي تريدها، لكنها أيضا تعتبر ساحة إعاقة باقي المشاريع، فالمشروع التركي مثلاً الساعي لربط شبه الجزيرة العربية بتركيا لا بد أن يمر بسوريا، لأن العراق بات بإقرار تركيا منطقة هشة أمنيا تسيطر عليه قوى موالية لإيران، ولذلك فإن إبقاء سوريا في حالة عدم استقرار يسمح لإسرائيل بإعاقة المشروع التركي، وذلك من أجل تهيئة الظروف لتنفيذ المشروع الإسرائيلي.
متغيرات المنطقة وخلط الأوراق
في 23/سبتمبر 2023 وقف بنيامين نتنياهو في اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة، منتشياً بأوهامه، ورفع خريطتين للمنطقة واحدة خضراء تضم إسرائيل ودول مجلس التعاون الخليجي ومصر والسودان، وسماها منطقة الازدهار، والثانية سوداء تضم إيران والعراق وسوريا ولبنان، وسماها منطقة التطرف، وبشّر في هذا الخطاب أن فجر ولادة مرحلة جديدة في الشرق الأوسط قد بدأ وأن المتغيرات طوت القضية الفلسطينية، وأن السلام العربي الإسرائيلي قد أصبح حقيقة واقعية وأن إسرائيل قد استطاعت إعادة تشكيل المنطقة، وتحدث بإسهاب أيضا عن مشروع الممر الاقتصادي الرابط بين الهند وأوروبا عبر الجزيرة العربية وإسرائيل مبشرا باقتراب السلام مع السعودية، وبعد هذا الخطاب بأسبوعين وقع هجوم 7/أكتوبر ما أدى لخلط الأوراق جميعها، ودخلت إسرائيل مرحلة حرب متعددة الجبهات ضد حماس في غزة وحزب الله في لبنان والميليشيات الإيرانية في سوريا، ووصل الصراع إلى حد الصدام المباشر بين إيران وإسرائيل للمرة الأولى في تاريخهما، عبر تبادل القصف الصاروخي.
بعد هذه التطورات انهار محور المقاومة وسقط نظام بشار الأسد وسُحق حزب الله، وتراجعت إيران إلى داخل حدودها في محاولة منها لحماية ما تبقى من نفوذها الإقليمي، حيث لم يبق لها سوى الجماعات الموالية لها في العراق واليمن، ولذلك يشعر نتنياهو أن انتصاره العسكري ضمن الحرب متعددة الجبهات، وضرب استراتيجية إيران التي كانت تعتمد على مبدأ وحدة الساحات، يجب أن يقابله انتصار سياسي يحصد نتائجه بشكل مباشر عبر تحول إسرائيل إلى الدولة الإقليمية المركزية في المنطقة التي توزع الأدوار وتُقسم المنافع.
أدوات الإشغال متدنية الكلفة
إثر سقوط بشار الأسد وهروبه إلى موسكو، بدأت إسرائيل حملة جوية هي الأكبر والأعنف في تاريخها، حيث دمرت كل الأصول العسكرية للجيش السوري، وحطمت كل القواعد والمطارات والموانئ العسكرية، والمنظومات القتالية باختلاف أنواعها، وهذا لا يدل على الصدمة التي شعرت بها إسرائيل نتيجة السقوط المدوي والسريع وغير المتوقع للمجرم بشار الأسد وحسب، بل يدل أيضاً على الارتباك الاستراتيجي الذي وقعت به إسرائيل، فسقوط بشار تم على أيدي قوى حليفة لتركيا، وبالتالي فإن إسرائيل شعرت أن كل ما قامت به من حروب خلال العام ونصف الماضية، والتي أدت لإضعاف محور إيران، ومهد لسقوط بشار الأسد، قد جنت ثماره تركيا على المستوى الإقليمي، ولذلك بعد تحطيم القوة العسكرية السورية، بدأت إسرائيل التسويق لقضية حماية الأقليات، ثم اختصرتها لحماية الدروز، وهذا الاختصار له مبرراته ضمن الاستراتيجية الإسرائيلية وسنأتي على ذكرها لاحقا.
للأسف باتت التصريحات الإسرائيلية عن حماية الدروز ومنع انتشار القوات السورية في الجنوب السوري، الخبز اليومي لمسؤولي الحكومة اليمينية المتطرفة في إسرائيل، وصدق بعض الواهمين والذين لا يعرفون أنهم باتوا أداة “منخفضة الكلفة” لإبقاء الوضع الأمني مضطربا وغير مستقر في جنوبي سوريا، صدقوا أنهم قادرون على الانخراط في لعبة إقليمية ودولية أكبر وأبعد من ساحة مضافاتهم، فالهدف الإسرائيلي لم يكن في يوم من الأيام ولن يكون حماية الدروز أو سواهم، لأن المشروع الإقليمي الدولي الذي تسعى إسرائيل لتحقيقه أبعد كثيراً من حارات وشوارع الجنوب السوري وصراعاته المحلية.
السويداء وجنوبي سوريا في تقاطع المصالح
في خطبة نتنياهو في سبتمبر عام 2016 في اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة، تحدث عن أن إسرائيل تخوض صراعها مع إيران بالنيابة عن “الدول العربية السنية”، وتتالت تصريحات إسرائيل حول هذه السردية بالذات، من أن إسرائيل تواجه إيران ” الشيعية” لمصلحة الدول العربية ” السنية”، وبشر نتنياهو كثيراً في السنوات الماضية لوحدة الهدف وأن الدول العربية وإسرائيل يواجهون مخاطر واحدة تتمثل في إيران والتطرف الإسلامي وأن التحالف العربي الإسرائيلي ضروري لاستقرار المنطقة، وبعد اتفاقيات إبراهيم وتوسيع دائرة السلام الإسرائيلية العربية ظنت إسرائيل أن مشروعها الإقليمي قد انتصر، ولا سيما بعد أن تراجع المشروع التركي اعتبارا من عام 2014 وانكفأ إلى حد مواجهة الصراعات الداخلية في تركيا والتي تجلت في محاولة الانقلاب في يونيو عام 2016، ومن ثم سقوط حلب في ديسمبر من نفس العام، وما يعني ذلك من تراجع كبير للمشروع التركي، في ذلك الوقت ظنت إسرائيل أن مهمتها الوحيدة المتبقية لها تتمثل في إزاحة المشروع الإيراني حتى تخلو لها المنطقة بالكامل.
لكن تطورات الأوضاع السريعة في سوريا وسقوط بشار الأسد الذي مثل الحلقة الأهم في حلقات المشروع الإيراني، وإعادة تموضع تركيا إقليميا بعد تعزيز علاقاتها مع الدول العربية ولا سيما دول الخليج ومصر، وبعد صياغة تفاهمات جديدة بينها وبين هذه الدول، أجبرت إسرائيل على إعادة النظر في واقعية تحقيق مشروعها، ولذلك فإن مسألة إبقاء سوريا تحت وقع النيران وضمن حالة من الاضطراب هو الهدف الذي تعمل عليه إسرائيل، لأن أي مشروع إقليمي عابر للحدود يربط بين الخليج العربي وتركيا لابد أن يمر بجنوبي سوريا، ولذلك كان تركيز إسرائيل على موضوع الجنوب، وليس الساحل أو المنطقة الشرقية مثلا.
ولذلك فإن كل ما نسمعه في الإعلام وكل هذا الصخب حول موضوع الصراع في السويداء، يجب أن تتم قراءته ضمن المعطيات الحقيقية لمصالح الدول الإقليمية التي تبحث دوماً لتحقيق سياساتها على “أدوات متدنية الكلفة”، فإسرائيل تستطيع ببضع تصريحات إعلامية حول حماية الدروز، وبمساعدات لا تتجاوز كلفتها عشرات آلاف من الدولارات، أن تدفع بكثير من الحمقى للرهان على إسرائيل، أو بكثير من الحمقى للقول” “ألا ترون أن الدروز عملاء لإسرائيل”، والدليل هو تصريح نتنياهو وقوله كذا وكذا، والدليل هو تحركات الجيش الإسرائيلي، وكذا كذا….، ثم تبدأ حفلات الجنون على وسائل التواصل الاجتماعي والتي تنتهي بسقوط قتلى وجرحى في الشارع من الأمن العام أو من المجموعات الدرزية المسلحة أو من المدنيين، والعرب قديما قالت أول الحرب الكلام، وفعلا فإن إسرائيل بقدرتها التقنية وإمكانياتها على مستوى الذكاء الصناعي وإدارة منظومات التواصل الإلكتروني، قادرة على خلق حرب عاصفة في فنجان قهوة بإحدى مضافات مدينة قنوات أو في اللجاة أو سواها، وستجد للأسف الكثير من الآذان الصاغية ومن الملتاثين طائفياً الذين ينفذون سياساتها من دون أن يعلموا، وهم يظنون أنهم حملوا سلاحهم غيرة للدين أو انتصاراً للرسول الكريم.
ملاحظة منهجية: التحليل السابق يتعمد إغفال كل فواعل الصراع المحلية، وذلك لصالح إبراز العامل الإقليمي كعامل “إفضاء” وفق تعبير ابن خلدون، وهو العامل الذي يطلق مجموعة ديناميات تتفاعل مع بعضها لخلق واقع معقد وصراعات متعددة المستويات منها هوياتي ومنها ديني ومنها سياسي ومنها اقتصادي اجتماعي.
أما ما هو الحل للوضع في السويداء، فهذا ما سأفصله في مقال لاحق يتضمن رؤية متكاملة لتصور أولي لحل سياسي في السويداء وفي الجنوب السوري عموما، وفي باقي المحافظات السورية.
تلفزيون سوريا
——————————-
استنزاف الشرع أم تفكيك سوريا؟/ غسان شربل
5 مايو 2025 م
يأخذ بنيامين نتنياهو المنطقةَ نحو أخطار كبرى. يدفعها إلى أنفاق تنذر بحروبٍ لا نهاية لها في حال تمكّنه من تمرير مشروعه. يحاول استثمارَ الضربات التي وجهها جيشُه في الحروب الأخيرة لفرض وقائعَ جديدة داخل أراضي جيرانه. يحلم بإحاطة إسرائيل بدول ضعيفة أو مفككةٍ تنشغل بنزاعاتها الداخلية كي يتفرَّغَ هو لتمرير مخططات التهجير.
يتصرّف وكأنَّ لإسرائيلَ «الحقَّ» في استباحة الأجواء المجاورة لها وشنّ الغارات على «أخطار» قائمة أو يمكن أن تقوم مستقبلاً. يعتبر العالمَ غابة وأنَّ من حق القوي أن يفرضَ قانونه ويشطبَ حقوق الآخرين.
الاعتداءات الإسرائيلية الأخيرة على سوريا أشدُّ خطورة من كلّ ما سبقها. ليس بسيطاً على الإطلاق أن تتذرّع إسرائيل بحماية مكوّنٍ سوري لتبرير استباحة الأجواء والأرض. واضح أنَّها تأمل في دفع سوريا إلى حرب مكونات تضعها على طريق تفكك دائم. وتفكك سوريا سيشكّل في حال حصوله مأساةً لسوريا وجيرانها. إنَّه مشروع نارٍ جوالة وعابرة للخرائط.
وفي هذا المناخ من حقّ لبنان أن يقلقَ والأمر نفسُه بالنسبة إلى العراق والأردن، وحتى بالنسبة إلى تركيا. وفي الأيام الأخيرة بدا الرئيس أحمد الشرع مقيماً بين جروحٍ عديدة وألغامٍ كثيرة من ذيول أحداث الساحل إلى الملف الدرزي وصولاً إلى المطالب الكردية.
فاجأني سياسيٌّ قديم الصلة بسوريا وعلاقاتها بجيرانها بالقول إنَّ «المسألة تتخطَّى محاولة زعزعة حكم أحمد الشرع. إنَّها تتعلّق بزعزعة سوريا نفسِها. أغلبُ الظن أنَّنا لن نشهد عودةَ سوريا التي كنَّا نعرفها. علينا عدم الاستهانة بكلام نتنياهو عن إعادة تشكيل الشرق الأوسط خصوصاً في المنطقة المحيطة بإسرائيل. سلوك نتنياهو يوحي أنَّ مشروعه الفعلي هو تفكيكُ سوريا. وواضحٌ أنَّ ترمب أطلق يدَه مكتفياً بمطالبته بعدم الاصطدام بتركيا».
لفت المتحدث إلى ما اعتبره تطوراً خطراً على الصعيد الدولي. قال إنَّ موافقة إدارة دونالد ترمب على فوز فلاديمير بوتين – ليس بالقرم فقط بل أيضاً بخمس مساحة أوكرانيا – تشكل اعترافاً صارخاً بسقوط حصانةِ الحدود الدولية واعترافاً صريحاً بحق القوة الساحقة في التلاعب بحدود الخرائط.
هذه المسألة لا تعني أوروبا وحدَها. نتنياهو الذي يرفض وضعَ علامات نهائية لحدود بلاده سيكون في طليعة المستفيدين من سقوط حصانة الحدود الدولية. طمعُ إسرائيلَ في أراضي جيرانها قديمٌ لكن المقصود هو أنَّها قد تستفيد من نتائج الصراع الأوكراني. فإذا كانت روسيا ستغير خريطةَ أوكرانيا بسبب ادعاءات تاريخية وحسابات أمنية تتعلَّق بحلف «الناتو» فإنَّ إسرائيل لا تكفُّ عن استخدام الذرائع الأمنية لإقامة «أحزمة أمنية» داخل أراضي جيرانها.
لاحظ المتحدث أنَّ نتنياهو لم يكتفِ بمعاقبة بشار الأسد على انغماسه في البرنامج الإيراني و«محور الممانعة» بل ذهب أبعد في برنامج لإنهاك سوريا نفسِها وبهدف إصابتها بعطبٍ دائم يضمن وقوعَها في حالة من التفكك واضطراب العلاقة بين المكونات. لا يريد نتنياهو فقط منع قيام حكمٍ قوي في دمشق، بل يريد وضع الأسس لقيام سوريا ضعيفة ومنشغلة بجروحها وألغامها.
أطلق الرجلُ سلسلةً من الأسئلة؛ هل يمكن أن يتقبَّلَ الرأي العام العربي مثلاً القول إنَّنا بصدد هزيمة مدوية أخطر وبكثير من هزيمة 1967 حين قصمَ الجيش الإسرائيلي ظهرَ الجيوش العربية التي واجهها؟ هل يحتمل القول إنَّ أوضاع غزةَ عشية «طوفان الأقصى» كانت على رغم الحصار الإسرائيلي أفضلَ بكثير من وضعها الحالي الذي يمكن وصفه بالدمار الشامل للبشر والحجر؟ هل كنَّا نحتاج إلى تجربة جديدة للتأكد من وحشية الكيان الإسرائيلي وقدرته الواسعة على القتل؟ هل يحق للمراقب مثلاً أن يسأل لماذا لم ينفذ زعيم «حماس» يحيى السنوار عمليةَ لخطف جندي إسرائيلي أو ثلاثة ومبادلتهم بالسجناء الفلسطينيين وهو عاش هذه التجربة شخصياً؟ لماذا ذهب السنوار إلى عملية واسعة لا يمكن أن تردَّ إسرائيل عليها بأقل من حرب واسعة؟ هل كان «الطوفان» في النهاية جزءاً من ضربة أوسع يتقاسم الأدوار فيها حلفاء إيران ومن خرائط عدة؟ وهل هذا هو السبب الذي دفع «حزب الله» اللبناني والحوثيين إلى الانخراط في الحرب؟
لاحظ المتحدث أنَّ سوريا الأسدين تصرَّفت دائماً وكأنَّ التهديدات تأتي من الخارج. رفضت التعامل علانية مع مشكلات الداخل خصوصاً ما يتعلَّق بحقوق المكونات والعلاقات بينها. نظر الحكم السابق إلى أي تحرك يطالب بحقوق وكأنَّه عمل من صنع الخارج وأدرجه في باب التآمر الذي يستحق العقاب الشديد. وهكذا أوكلت العلاجات عملياً إلى جهاز الاستخبارات الذي عمّق المشكلات بدلاً من علاجها. هل كان الموضوع الكرديُّ ليتحول مشكلةً أمام عهد الرئيس أحمد الشرع لو عولج على قاعدة المواطنة والمساواة في عهد حافظ الأسد وبعده عهد نجله بشار؟ وهل كانت أحداث الساحل الأخيرة لتقعَ وبهذه القسوة لولا جروح الماضي وممارساته ولو كانت المكونات تلتقي طبيعياً في رحاب المؤسسات؟ وهل كانت إسرائيل تستطيع الاصطياد في ملف دروز سوريا لو كان القانون هو المظلة والحكم؟
تقيم أطرافٌ كثيرة عند مفترق خطر. هذا يصدق على غزةَ والقضيةِ الفلسطينية برمتها. يصدق على لبنانَ إذا لم يتمكن من بدء رحلة العودة في اتجاه دولة طبيعية تمتلك حكومتُها قرار الحرب والسلم. ويصدق أكثر على سوريا التي تبدو مجدداً في عين العاصفة الإسرائيلية.
الاعتداءات الإسرائيلية تتخطَّى عملية استنزاف الشرع أو ابتزازه. إنَّها تستهدف قصمَ ظهر سوريا ولعقود مقبلة. يحظَى الشرع حالياً باحتضان عربي ودعم تركي. أرسل أكثرَ من إشارة تقول إنَّه ليس في وارد الانخراط في نزاع مع إسرائيل. لكن لجم مشروع نتنياهو يحتاج إلى قرارٍ صارم من ترمب. ولهذا القرار ثمن لا بدَّ لسوريا الشرع من دفعه. وهو ثمن ليس بسيطاً على الإطلاق.
الشرق الأوسط
——————————-
هل تدعم إسرائيل سلامة الدروز أم تورطهم؟/ سميرة المسالمة
الإثنين 2025/05/05
تفترض إسرائيل، في اعتداءاتها المتوالية على سوريا، أن المسؤولين في المنطقة عموماً، يقرؤون جيداً محتوى الرسائل الموجهة إلى هذا الطرف أو ذاك، بيد أن المسألة أكبر وأهم من مجرد فهم لمحتوى التهديدات الكامنة في هذا السلوك العدواني لها إزاء محيطها، ولا سيما أنه متزامن مع اعتداءاتها على الشعب الفلسطيني واللبناني والسوري، وصولاُ لتحدياتها لإيران التي تعدها مصدر تهديد لمصالحها في المنطقة، وربما تركيا -وهي المواجهة الخفية- تبعاً لبعض الحيثيات، التي تشير إلى تضارب المصالح في سوريا، ما يؤكد أنها تحاول تمييز وضعها كقوة عظمى إقليمية في المنطقة، أو كقوة إقليمية مهيمنة في منطقة المشرق العربي.
يأتي ضمن ذلك بالطبع، سعي إسرائيل لفرض نوع من منطقة استراتيجية أمنية، كعمق حيوي لها، يمتد إلى نحو 80 كيلومتراً، يجنبها ظهور أي قوة مستقبلية معادية لها، أو يجنبها مفاجأة “طوفان” آخر، بعد ذلك الذي اختبرته في السابع من أكتوبر/تشرين أول (2023).
وفق هذا التصور، تأتي محاولة إسرائيل، عبر تلك الاعتداءات، التي وصلت إلى حد التلويح باستهداف “قصر الشعب” في جبل قاسيون، حيث مقر القيادة السورية الجديدة، لأن تفرض ذاتها كفاعل داخلي في صياغة الوضع السوري، في موازاة الفاعل التركي (الاسلامي) الذي تخشى إسرائيل من تمدده منفرداً في سوريا، سواء أتى ذلك بادعاء ما تسميه “حماية الأقليات”، أو بدعوى مواجهة إرهابيين وجهاديين قرب حدودها، أو تحت غطاء تحجيم النفوذ التركي، والذي تداعب فيه مطالب الكرد السوريين.
وفي كل الأحوال، فإن إسرائيل تجد نفسها في هذا الوقت مطلقة اليد في العدوان على أي طرف تتوخى إضعافه أو تحييده، أو فرض أجندتها عليه. وفعلياً، تنفذ ذلك في كامل المنطقة، وهذا يشمل سوريا، التي تمر بمرحلة انتقالية، يأتي ضمنها حالة ضعف الدولة والمجتمع، إضافة إلى تدهور الأحوال الاقتصادية والمعيشية، والتي يصعب معالجة الحكومة لها في ظل بقاء العقوبات الأميركية عليها، وتهالك البني التحتية، إضافة إلى فقدان القدرات العسكرية.
باختصار، إسرائيل خصوصاً في ظل حكومتها اليمينية المتطرفة، ترى في الظرف الراهن في سوريا الممزقة فرصتها السانحة. وهنا لا أعني فقط التقسيم الجغرافي الحالي الذي يدار من دول عديدة، وإنما الوضع الاجتماعي الذي تطول مخالبه الطائفية يوماً بعد يوم، فتستثمره إسرائيل للمضي في مشروع قديم يقضي بإنهاء حالة الفرادة الإسرائيلية في المنطقة، عبر تعميم نموذجها في بلدان المشرق العربي، كدولة طائفية ـ دينية.
ومن المفيد التذكير أن دولنا ليست محصنة ضد التقسيم الطائفي مهما صغرت مساحتها أو كبرت، فقد حصل ذلك فعلياً في لبنان والعراق، وإسرائيل الآن بصدد تحويل سوريا إلى النموذج ذاته. بمعنى أن الأمر لا يتعلق برغبتها أو استطاعتها دعم قيام دول مستقلة للمكونات التي تدعي دعمها، إذ الأهم بالنسبة لإسرائيل هو تقسيم الشعب السوري، أو إعاقة تمثيل الشعب أو المجتمع في سوريا، في دولة مواطنين متساوين، وذلك وحده يفسر محاولتها تشجيع وتغذية الانقسامات الهوياتية، على أسس طائفية وإثنية في المنطقة.
ولعل ما يجب إدراكه من قبل كل السوريين والمعنيين في سوريا سواء الحكوميين أو رجال الدين، أن السعي الإسرائيلي الحقيقي هو تثبيت حالة الطائفية في المنطقة، وليس إقامة السلام للطوائف. فلو كانت تريد السلام واستقرار المنطقة فقد عرضه عليها الرئيس السوري للمرحلة الانتقالية أحمد الشرع، ومصلحتها منطقياً مع النظام الحاكم أكبر من مصالحها مع المكونات. لذلك فتصديق إسرائيل أنها حريصة على أي سوري أياً كانت اللاحقة التي ينتمي لها، درزي أو علوي أو كردي أو سني، هو خطأ جسيم وحالة استثنائية، ولكن الخطيئة الكبرى هو وصولنا إلى هذا الانحدار المجتمعي الذي جعل من هوياتنا متفجرات قاتلة ودموية ومستباحة.
المدن
———————–
شكراً إسرائيل؟/ يعرب العيسى
06 مايو 2025
للعيش في الأزمنة الكبرى مئات وآلاف العيوب، فيه الألم، والقلق، واضطراب الرؤية، ضياع البوصلة، التشتت، فقدان الأحبة، والعمل ومصدر الدخل وأشياء البيت والبيت، وربما بعض الأطراف. في الأزمنة الكبرى، تتخلخل العلاقة بالأماكن والأشخاص، ستكره من كنتَ تظنّه خِلاً، وتنفر ممن كان صفيّاً، وتستغبي من كان حكيماً، ستهجر المكان الذي هيّأت فيه قبراً دون أن تلتفت للوراء.
أعيش، مثل كل السوريين أينما كانوا، زمناً كبيراً. وتجري عليّ عيوبه وآلامه، ولعل أكثرها إيلاماً اضطراب المشاعر والمواقف، والتقلّب بين اليأس والأمل، الغضب من الناس، ثم التعاطف معهم، كره الكراهية والكارهين، وهو الشعور الذي يحمل في داخله أكبر تناقضٍ عقلي.
ومع ذلك، أعود إلى رشدي بين الفينة والفينة، وأقول لنفسي: لا تيأس، أيها العجوز، هذه طبيعة الزمن، هذا ديدن أيام التحوّلات، أنت في قلب الزلزال الآن، وقريباً سيتغيّر ذلك، وتخفت أصوات الطنين.
من أكثر أصوات الطنين نقراً على منتصف الرأس تلك الأصوات التي تتناقض كلياً مع بديهياتٍ نسلّم بها، أو تربّينا على اعتبارها بديهيات، مثل أن تسمع سوريّاً راشداً يقول: شكراً إسرائيل.
تعلّمت حلال حياتي أن ألتمس عذراً لأي أحد، ولأي شيء مهما بدا فادحاً، أنجح كثيراً، وأفشل قليلاً، لكني هذه المرّة لم أعثر على عذر، لا في عيوب أزمنة التحولات الكبرى، ولا في تداعيات الزلازل الوطنية، ولا في ما التقطتُه من علم النفس، وعلوم أمراض العقل.
أعرف جيداً أنه حين تفوح رائحة الدم الساخن في الهواء، يقول الناس ما لا يعونه حقاً، وأن الناس يعودون إلى رشدهم بمجرّد أن يجفّ الدم الذي على الحجارة، ولكني كنت أعتقد أن إسرائيل لا تدخل على أيٍ من الجملتين الاسمية والفعلية، ولا في ما له معنى، ولا في ما ليس له معنى.
هذه آخر درجات اضطراب البوصلة، وهي لا تأتي، على فداحتها، إلا بعد أن تكون البوصلة قد عبرت فيافي من الضياع، فتاهت في تخوين جماعةٍ بشرية كاملة، سواءً طائفة، أو قومية، أو مدينة. وعبرت قليلاً في مفازة تكفير من يختلف عما نظنّه الصواب المطلق، أو من ينحرف مقدار شعرة عن شيء قاله رجلٌ ما قبل قرون. كائناً ما كان ذلك الرجل. تحتاج تلك البوصلة كي تخرب تماماً إلى اعتقاد أحدٍ ما أن رجلاً ما قال في زمن ما قولاً ما، وأن الحقيقة انتهت عند ذلك القول.
عملياً، ما كان بإمكان أحدٍ قول ذلك لإسرائيل، لولا أن البوصلة قد خربت تماماً، والأمثلة التي ذكرتها يمكن لها أن تحرفها قليلاً باتجاه الجنوب أو الغرب، لكن خرابها النهائي الذي يُفضي إلى هذه النتيجة يحتاج إلى تكرار ذلك مئات المرّات، وتنويعه وسحبه على كل شيء وكل أحد.
نجحتُ والتمستُ عذراً، حتى لصاحب ذاك القول، والعذر أننا خربنا جميعاً، نحن وخرائطنا ومفاهيمنا، وأن الخراب طَرَق بوصلتنا كالموج عقوداً، طرقها حتى ضيّعت الجهات، وصارت تشير إلى جهات جديدة غير التي نعرفها.
هي من عيوب الأزمنة الكبرى إذاً، بل نهاية عيوبها، وآخر مطافٍ يمكن أن تصل إليه، المحزن ليس أن يقول واحدٌ منّا ذلك، المحزن أنه دليل حيٌّ على أننا وصلنا إلى نهاية المنحدر، وجميعاً عبرنا ضفّة الوادي السحيق.
قديماً قالوا: لا يمكن أن تُصبح الخيانة وجهة نظر، إلا بعد مرور زمن كافٍ على اعتبار وجهة النظر خيانة. فالأمم لا تخسر أبناءها قبل أن يخسروها.
العربي الجديد
——————————
خطاب الكراهية.. الدوافع والمآلات/ فيصل علوش
4 مايو 2025
تتفق المراجع التي تناولت خطاب الكراهية على تعريفه بأنه؛ أيّ شكل من أشكال التعبير التي تشجّع على التمييز وتحض على الكراهية، بهدف تشويه سمعة فرد أو جماعة، (مجموعة من الأفراد)، أو مضايقتهم وإذلالهم، أو إيذائهم وترهيبهم، وصولًا إلى تجريدهم من إنسانيتهم، كتمهيد لاستخدام العنف ضدهم، وذلك على خلفية هوياتية تتصل بانتمائهم العرقي أو الديني أو الإثني أو الطائفي أو الجندري.. إلخ.
ولدى البحث في طبيعة وأبعاد وتأثيرات هذا الخطاب، يمكننا التوقف عند النقاط التالية:
– يتصف هذا الخطاب بالتعميم والتنميط السلبي، وإلقاء اللوم على جماعة بأكملها وتحميلها مسؤولية واقعة ما، أو أفعال فردية، فعلية كانت أو مفترضة ومتخيلة، مخالفًا المبدأ القانوني والأخلاقي الذي يقول بالمسؤولية الفردية. على غرار ما حصل أخيرًا، حين قام شخص محدد بالإساءة إلى النبي محمد (ص)، فتوجهت ردود الفعل الغريزية العمياء نحو أماكن معروفة يقطنها سكان من الجماعة التي ينتمي إليها ذلك الشخص، فقامت بإطلاق الرصاص وإلقاء القذائف العشوائية عليها، موقعةً عددًا من القتلى والجرحى، وتوجهت كذلك نحو طلاب أبرياء يتبعون إلى تلك الجماعة، لتصبّ جام غضبها عليهم، ملحقة الإيذاء النفسي والجسدي بهم.
– خطاب الكراهية، (أو الأفعال المستندة إليه)، لا يفصل بين الكراهية التي يفترض أن تطال فعلًا محددًا سياسيًا أو أخلاقيًا، كالظلم مثلًا، وبين الجماعة التي قد يلحق بها صفة ارتكاب هذا الفعل. فالسيد المسيح يقول، مثلًا: “أنا أكره الظلم لا الرومان”، وهو المثل الذي يشكل نموذجًا للتمييز والفصل بين كراهية الفعل المذموم، وبين الكراهية التي قد تطال جماعة أو شعبًا بأكمله (كأن نقول: أنا أكره الرومان). فخطاب الكراهية يقوم على شيطنة الجماعة ككل، وطلب العقاب الجماعي لها، دونما تمييز بين شخص ملام وآخر بريء. في حين أن القانون والأخلاق يقولان بالمسؤولية الفردية والعقاب الفردي. ولقد تكررت عبارة “وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى”، في غير موضع من القرآن الكريم، كتأكيد على المسؤولية الفردية، وعلى أنّ الله تعالى لا يظلم نفسًا، عبر تحميلها وزر ما لم ترتكب من إثم.
– خطاب الكراهية لا يقتصر علينا نحن في سوريا، بل ثمة موجة عاتية من الكراهية والعنصرية والتعصب تعصف بالعالم ككل؛ سواءً في بلدانه الديمقراطية أم الدكتاتورية، مهددة الأمن والاستقرار في غير مكان من العالم. ويتمثل ذلك في الخطاب الشعبوي المعادي للمهاجرين والمسلمين والسود، مثلًا، وفي التيارات والحركات الشعبوية النامية والمنتشرة في الغرب، وفي ظواهر النازيين الجدد، وتيارات تفوق الإنسان الأبيض، (كما في الظاهرة الترامبية)، المتعارضة مع قيم التسامح والعيش المشترك.
– ظاهرة الكراهية هذه، المنتشرة على نطاق واسع في العالم، تغذيها وسائل التواصل الاجتماعي التي تزيد في تأجيج الكراهية، على الرغم من أن مسلسل التكاره والتباغض قديم، وقصة استخدام الاختلاف والتباين الإثني أو القومي أو الديني أو المذهبي، لزرع العداء والاحتراب بين البشر، قديمة وسبقت الإنترنت بزمن طويل. بيد أن الآليات التواصلية والتفاعلية الخاصة والجاذبة التي تتيحها وسائل التواصل، (ومنها ظاهرة الحسابات المزورة والذباب الالكتروني)، تساهم أكثر في انتشار خطاب الكراهية، وخصوصًا في ظل الاستقطابات الحادة القائمة على مستوى العالم عمومًا، وداخل كلّ بلد على حدة. وهنا رب قائل يقول، ولكن وسائل التواصل متاحة للجميع، فلماذا تساهم في انتشار خطاب الكراهية دون سواه من خطابات متنورة؟ وعلى رغم مشروعية ووجاهة التساؤل هذا، إلا أنه علينا الإقرار، في الواقع، بأن الخطاب العقلاني والمنطقي غالبًا ما يخسر المعركة في مواجهة خطاب التعبئة والتجييش القومي والطائفي، مثلًا، لأنه يخفق في إقناعنا بأن “الآخر لا يختلف عنا، وبأنه من غير الصحيح أننا نحن، نحن فقط، أكثر الناس أصالة ودينًا وحكمة وأخلاقًا.. إلخ”!
– يرتبط مفهوم خطاب الكراهية بقضية الحق في التفكير وحرية التعبير والفكر والمعتقد. ولذلك ففي الدول الغربية، وفي الولايات المتحدة على وجه الخصوص، يتحفظون على تجريم خطاب الكراهية بحد ذاته، ويعدون ذلك مسًّا بحرية الرأي والتعبير، مكتفين بتجريم التحريض على الكراهية، الذي يشكل عتبة للانتقال من الفعل الكلامي إلى الفعل المادي المباشر، (العنف والقتل وارتكاب المجازر)، لأنه يستهدف صراحة وعمدًا تكريس التمييز والعداء والحض على العنف.
ويميلون في الغرب إلى استخدام مصطلحات بديلة من قبيل؛ “التعصب، التنميط السلبي، الوصم، التمييز والتحيز”. وهنا علينا أن ننتبه لضرورة التمييز بين هذين الأمرين؛ وعدم تحويل التصدي لخطاب الكراهية إلى حجة وذريعة، من قبل السلطات، لقمع حرية الفكر والتعبير والتضييق على الحريات العامة وتقييدها. فهذه الحريات هي الكفيلة، في نهاية المطاف، ومن خلال “سوق الأفكار المفتوح”، في عملية الكشف عن الحقيقة، ومنع تطور العقائد المضمرة والباطنية، أو التعصب لحقائق زائفة.
– قد يكون الدافع وراء خطاب الكراهية قوميًا أو دينيًا أو مذهبيًا أو جندريًا، ولكنه لا يتكرس، في المحصلة، إلا عبر ممارسات وسلوكيات تفضي إلى تقسيم المجتمع إلى “نحن” و”هم”. وهو ما يؤدي، بدوره، إلى تفعيل ديناميات وآليات خاصة؛ شعورية أو عقلانية، تعمّق من الانقسام الحاصل، وتزيد في الاستقطاب والكراهية والتباغض، وتاليًا، الصراع واللجوء إلى العنف وأعمال القتل، وهو ما تكفل به النظام البائد، على مدى أكثر من خمسة عقود.
وعلى الحكم الجديد، في هذه الحالة، أن يحاذر كل الحذر من أن يأتي ردّه على نحو شبيه بما كان يقوم به سلفه، أو من جنس أفعاله وممارساته ذاتها. الانزلاق إلى فعل هذا، وعدا عن أنه يفقد السلطة الجديدة إمكانية تقديم نفسها كبديل سياسي وأخلاقي عن النظام الساقط، فإنه يكون، عادةً، أشبه بشرك تقع فيه السلطة الجديدة، بما يُفسح المجال للمقارنات السلبية بين أفعال السلطتين، هذا فضلًا عن كونه وصفة أكيدة للفشل واستمرار المقتلة السورية إلى أجل مفتوح.
فخطاب الكراهية والتحريض الطائفي قد يشدّ عصب جماعة ما، ولكن ذلك لا يحصل، غالبًا، إلا لدى جماعات هشة تفتقر إلى الوحدة والتماسك الداخلي، ما يجعلها أكثر عرضة للتأثر بهذا الخطاب، على هذه الضفة أو تلك. وعندما يبدأ هذا الخطاب بالتفشي، ويبدأ معه تراكم الغبن والمظلومية، فمؤكدٌ أن ذلك سيهدد مقومات العيش المشترك، وسيشكل خطرًا على ثقافة التنوع وخطاب التآخي والتسامح، وفي النهاية، تكريس ثقافة الإقصاء وتجذير الكراهية، وتعزيز اللجوء إلى العنف، واستدعاء الخارج للتدخل أيضًا. فالطريق إلى الاقتتال والاحتراب الداخلي وارتكاب الانتهاكات والمجازر، وصولًا إلى الإبادة الجماعية، في أي مكان من العالم، غالبًا ما يكون مرصوفًا بخطاب الكراهية والتحريض عليه، مع وجود أطراف خارجية متربصة وداعمة ومستفيدة، وجاهزة للتدخل لتحقيق غاياتها الدنيئة.
أما الطريق إلى الحلول الممكنة وتجاوز ذلك في سوريا، فهو معروف أيضًا، وأدواته ووسائله الداخلية تكمن في اللجوء إلى فتح مسار “العدالة الانتقالية” والمضي فيه مهما كانت التعقيدات المحيطة به. وتعزيز دور الدولة الوطنية المحايدة تجاه مجتمعها ومكوناته، دولة القانون والمؤسسات الكفيلة بحماية مواطنيها كافة دون تمييز، واللجوء إلى الحوار وتطوير العقلية التفاوضية بدل عقلية الإلغاء والإقصاء. فأساس العنف غالباً ما ينطلق من الجهل بالآخر، ويستند إلى سرديات باطلة ومضللة عنه، وبالتالي فإن معرفته يمكن أن تقلل من التوتر وتساعد على تقبل الآخر على المستوى النفسي والاجتماعي، وتنمي ثقافة التفاهم وصولًا إلى بناء حصانة مجتمعية ضد الكراهية وخطابها.
الترا سوريا
——————————–
وأنت.. لماذا لا تدين الشيخ الهجري؟!/ عمر قدور
الثلاثاء 2025/05/06
لم يكن ينقص إلا أن يصدر الشيخ حكمت الهجري بيانه، في الأول من هذا الشهر، كي تشتد الحملة عليه من أنصار السلطة، بل صار مطلوباً أن يُدان من قبل أي شخص يدلي برأي في الأحداث المروّعة الأخيرة التي شهدتها جرمانا وأشرفية صحنايا ثم السويداء، بعد هجوم مجموعات قيل إنها فصائل غير منضبطة. الهجري وصف هجمات تلك الفصائل بـ”المجازر الداعشية التكفيرية”، وكان واضحاً في القول: “إننا لم نعد نثق بهيئة تدّعي أنها حكومة، لأن الحكومة لا تقتل شعبها بواسطة عصاباتها التكفيرية التي تنتمي إليها، وبعد المجازر تدّعي أنها عناصر منفلتة”. ليخلص أخيراً إلى طلب الحماية الدولية بشكل فوري، مع تذكيره بمجازر الساحل.
خلال المفاوضات، التي أعقبت البيان، بين السلطة ومشايخ العقل الدروز وقادة الفصائل المحلية الدرزية، راح يُشاع أن الشيخ الهجري هو الأكثر تصلّباً في مطالبه، وحُمّل مسؤولية إفشال تفاهم قيل إنه أُبرِم في ريف دمشق، إلا أن شيخي العقل (الجربوع والحناوي) لم يتبنيّا ذلك الاتهام، وهما اللذان حضرا الاجتماع المذكور. في النهاية، آلت الأوضاع فعلياً إلى اتفاق مشايخ العقل ووجهاء محليين وقادة الفصائل المحلية على لائحة المطالب، واضُطرت السلطة إلى التجاوب معها، ليس من دون خروقات كما حدث بقصف فصائل مجهولة بلدة الثعلة التابعة للسويداء ليلة الاثنين.
الحملة على الشيخ الهجري وشيطنته ليست بالجديدة، وأصحابها بدأوا بها منذ أربعة شهور عندما طالب بأن تُسند إدارة السويداء في المرحلة الانتقالية إلى أبنائها، وأن يؤجَّل تسليم سلاح الفصائل المحلية حتى إنشاء جيش وطني. وقد صار واضحاً خلال الفترة الماضية أن الموالين الجدد يستهدفون أي شخصية تنتقد السلطة الجديدة، وقد حدث هذا مؤخراً لشخصيات من منبت سُنّي أيضاً. المشكلة مع الهجري أن لمشيخته إرث يصعب تجاهله والتقليل من شأنه، كما قد يحدث مع أفراد بلا حيثيات أهلية تقليدية، لذا يُنظر إليه كعقبة أمام خضوع السويداء للمركز.
وعندما لم يكن هناك جديد يُنتقد عليه الهجري، كانت تُستحضر مطالبته بدولة علمانية ليُسخر منه بوصفه شيخاً يطالب بالعلمانية، أي كأنه يناقض نفسه. عن جهل أو خبث، أو كليهما، يخلط أصحاب هذه السخرية بين العلمانية والإلحاد، ويتجاهلون أن الأولى تعني حيادية الدولة تجاه المعتقدات وتوفير الحماية القانونية لها، وليس من التناقض أن يدعو شيخ سني مثلاً إلى العلمانية بينما يمارس معتقداته، بل ويسعى إلى نشرها سلماً وبما لا يتعدى على حريات الآخرين.
ليس الأمر طبعاً في أن الهجري لا يُنتقد، أو لا يُدان، بل في أن منتقديه لم يكن لديهم استعداد وتأهيل جادين لتفنيد أيٍّ من مطالباته أو آرائه. ومن المؤكد أن الهجري لم يكن يحظى بإجماع درزي، بل كانت قد بدأت تباشير مطالبات له بأن يبتعد عن السياسة، بعدما أدى دوره المعنوي الهام في انتفاضة السويداء أثناء حكم الأسد. بعض المتململين من حضور الهجري كانوا أكثر مرونة منه إزاء السلطة في دمشق، والبعض منهم أيضاً حاول فتح قنوات اتصال معها من دون أن يجد تجاوباً على المستوى المأمول.
الدروز، مثل أية جماعة أهلية سورية أخرى، ليسوا كتلة واحدة، وانقساماتهم عديدة ومتنوعة بين متدينين وغير متدينين، وبين أبناء مدينة وريف.. إلخ. في الأحوال العادية تبرز هذه التمايزات، فلا يكون لمشيخة الهجري الموقع الذي شغلته منذ اندلاع انتفاضة السويداء حتى الآن. المشكلة الحقيقية أن سوريا بأكملها لم تعبر بعد إلى ما يمكن اعتباره أوضاعاً طبيعية مُرضية لعموم السوريين، بل لقد تدهورت الأوضاع وتلاشى كثير من الآمال قبل شهرين مع المجازر والانتهاكات التي راح ضحيتها مدنيون في الساحل. وسيكون من الخطأ الفادح عدم الانتباه إلى تأثير ما حدث في الساحل على المزاج العام في السويداء، ولدى الدروز عموماً.
لندعْ جانباً تلك الرواية المبسّطة عن تسجيل صوتي مسيء للنبي أُلصق على صورة شيخ درزي، فأدى إلى غضب ومظاهرات في العديد من أنحاء سوريا، ثم أدّت هذه الغضبة إلى أعمال انتقام من الدروز. تسجيلات المظاهرات التي قيل إنها عفوية كانت قد ملأت السوشيال ميديا، وفيها يمكن رؤية حضور كثيف لأعلام هيئة تحرير الشام الحاكمة، ورؤية حضور بارز لمسلّحين خطب البعض منهم بالمتظاهرين، وحرّض على الدروز وتوعّدهم. وحتى قبل قصة التسجيل كانت حسابات لإعلاميين مقرَّبين من السلطة قد واظبت على شتم وتحقير الهجري، وكان البعض منها أكثر صراحة بتوعّد الدروز بأن دورهم آتٍ بعد العلويين.
هذا الضخّ (الذي لا يمكن إلا فهمه مدبَّراً) كان أفضل خدمة للهجري، وقد أتت تحديداً من قبل المواظبين على شتمه وتحقيره، وتحقير ما يرمز له دينياً، فاستفزوا لنصرته شرائح متزايدة من منبت درزي. وفي المحصلة استفاد الهجري أولاً من انتهاكات الساحل التي دفعت كثر إلى التخوّف مما سيليها، ثم أتت الهجمات على جرمانا وصولاً إلى السويداء لتدفع تيار “الاعتدال” إلى التصلب معه.
وحتى بعد التهدئة لم تخفت لدى أنصار السلطة موجة التهجّم على الهجري، من اتهامه بالعمالة لمخابرات الأسد إلى اتهامه بالعمالة لإسرائيل، مروراً بالمطالبة بمحاكمته على طلب الحماية الدولية، بموجب الإعلان الدستوري الذي جرّم في مادته السابعة “طلب التدخل الأجنبي أو الاستقواء بالخارج”. والطريف أن هؤلاء المطالبين يخالفون المادة ذاتها من الإعلان الدستوري، بإثارة النعرات والتحريض على العنف، فالمادة السابعة تنص على: “تلتزم الدولة بتحقيق التعايش والاستقرار المجتمعي وتحفظ السلم الأهلي وتمنع أشكال الفتنة والانقسام وإثارة النعرات والتحريض على العنف”.
أبعد من ذلك، السلطة نفسها هي في موقع مخالفة الإعلان الدستوري الذي اختارته لنفسها، فحتى الآن لم يُعلن عن القبض على أولئك الذين خرجوا في مظاهرات متوعّدين الدروز بالقتل، ووجوههم مكشوفة ومعروفة، وكذلك حال العناصر المسلحة الذين دخلوا أشرفية مثلاً، وهم يهتفون: سُنية سُنية.. لا درزية ولا علوية. وعلى صعيد متصل، خالفت السلطة المادة 18 من الإعلان الدستوري التي نصت على: “تصون الدولة كرامة الإنسان وحرمة الجسد وتمنع الاختفاء القسري والتعذيب المادي والمعنوي، ولا تسقط جرائم التعذيب بالتقادم”. فهناك عدد كبير من التسجيلات التي يُجبر فيه مسلّحون علويين في الساحل على العواء، وتسجيلات مماثلة يُجبر فيها دروز على قول “ماع” تقليداً للخرفان، فضلاً عن حلاقة شواربهم بهدف إذلالهم على نحو جماعي وممنهج، وهذه كلها فوق مخالفتها للإعلان الدستوري تُعدّ انتهاكات ضد الإنسانية.
بالعودة إلى موضوع طلب الحماية الخارجية، الأصل دائماً هو ألا تُضطر أية مجموعة إلى توسّل الحماية من الخارج، وأن تحمي الدولة مواطنيها، أفراداً وجماعات. أما المرجو مجتمعياً فهو التآزر ومدّ الأيدي إلى المستضعفين، كي يجد هؤلاء العزاء على الأقل عندما لا تقوم الدولة بواجبها، وكي لا يشعروا بالخذلان الذي يجعلهم يتوسّلون أي يد تمتد إليهم. الخذلان وصفة جرّبها السوريون منذ عام 2011، ومن المستحسن تعلّم الدرس وعدم تكرارها.
والأصل أيضاً أن تكون هناك دولة مواطنة حقيقية، وهي لا تكون إلا محايدة، وهذه الدولة هي التي تحدّ من العصبيات الطائفية. ومهما قلنا عن الأسباب الاجتماعية والتاريخية للمسألة الطائفية، فإن واحدة من أكبر العقبات التي تحول دون تذليلها نراها في تغييب المواطنة. ظاهرة الشيخ الهجري هي مثال على العصبية التي تنتعش بغياب الدولة المنشودة، والأسوأ أن المواظبين على شتمه يظنون أنهم هم الدولة.
المدن
——————————–
سورية بين الحالة الفصائليَّة والفخاخ الطائفية/ رانيا مصطفى
06 مايو 2025
كلُّ المشكلات معقَّدة ومركَّبة ومتداخلة في سورية، وهي تمرّ في مرحلة انتقالية شديدة الخطورة، فهناك الدمار والتقسيم الجغرافي، واستنزافٌ بشري وفقر، وملايين المهجّرين في الداخل ودول الجوار، وانقسام مجتمعي حادّ طوال سنوات الصراع وعلى أساس هُويَّاتي، إذ وصلت إلى الحكم جماعةٌ لها ماضٍ جهادي تتعثّر في خطواتها الأولى للسيطرة على الحكم، وعقوباتٌ أميركية ودولية، والأخطر، تدخَّلاتٌ خارجية بالجملة، واعتداءات إسرائيلية مستمرّة بقصف كلّ المواقع العسكرية، وتدمير ما تبقّى من عتاد، واحتلال شريط عريض في المناطق الحدودية يتجاوز خطوط فضّ الاشتباك لعام 1974، وقصف مستمرّ بحجّة حماية الدروز، شمل يوم الجمعة الماضي محيط دمشق، وبالقرب من قصر الشعب، في انتهاكٍ فاضحٍ للسيادة الوطنية.
في ظلّ هذا التعقيد، تضيع سردية التجييش الطائفي أخيراً ضدّ الدروز، والتصعيد العُنفي المرافق له، بين أن يكون المُسبّب ظهور تسجيل صوتي مجهول المصدر يسيء لمقام النبي محمد عليه الصلاة والسلام، نُسب إلى أبناء السويداء، ومطالباتٍ للدروز بتسليم سلاحهم الخارج عن القانون وتخوينهم. وجاءت الاعتداءات الإسرائيلية أخيراً بغرض تعقيد هذا المشهد الطائفي. نشرت حساباتٌ في مواقع التواصل الاجتماعي، مقرّبة من الحكومة، التسجيل الصوتي المسيء، بقصد التحريض الطائفي على الدروز، بعد الاعتداء على طلاب من السويداء في جامعة حمص وإجلائهم، ثمّ جاء الهجوم على شكل غزواتٍ وفزعاتٍ على الحواجز الأمنية في جرمانا، المؤلّفة من مقاتلين دروز منضمّين إلى جهاز الأمن العام، فسقط شهداء، وانتقل التصعيد بالطريقة نفسها إلى صحنايا ثمّ السويداء. جرت التهدئة في جرمانا وصحنايا والسويداء، وتوقّف التصعيد ضدّ الدروز في صفحات التواصل الاجتماعي بعد خسارة كبيرة ومجّانية في الأرواح. وهذا يحيل إلى التساؤل عما إذا كان المقطع الصوتي المسيء حجّة للضغط على الدروز في المناطق كلّها للخضوع الكامل وتسليم السلاح، خاصّة في السويداء، حيث ينشط حزب اللواء، وما يعرف بالمجلس العسكري، اللذان يطرحان إدارةً ذاتيةً للمحافظة، رغم أن هذه القوى لا تسيطر على المشهد المسلّح في السويداء، تُضاف إلى ذلك محاولة شيخ العقل حكمت الهجري تصدّر المشهديْن السياسي والاجتماعي، وتصعيد شروطه تجاه الحكومة، وصولاً إلى طلبه الحماية الدولية.
رغم مكانة الهجري الاجتماعية الكبيرة كأبرز شيوخ الطائفة، لا يصطفّ كلّ الدروز وراءه، ولا وراء أحدٍ آخر، كما أنّ التوجّهات الانفصالية مرفوضة عموماً، وبالتأكيد من المعيب تبنّي أيّ خطاب تخويني تجاه أبناء الطائفة، وتجاه أيّ طائفة أخرى. طوال السنة ونصف السنة من انتفاضتها ضدّ نظام الأسد، لم تنزلق السويداء إلى منزلقات طائفية أو انفصالية، ورفضت مشاريع الإدارة الذاتية، وأيّ مشاريع تدخّلات خارجية، رغم وجود تلك الطروحات كلّها، وظلّت تتظاهر ضمن خطاب وطني عام، مع وجود قوى وتوجّهات مختلفة، وهذا طبيعي، وكلّها مدنيّة الطابع، وظلّت مهمّة السلاح حماية أمن المحافظة، ولم يحصل أن استُخدم في انتهاكات فاضحة ضدّ مناطق أخرى، وهذا لا ينفي إمكانية حصول تجاوزات. وبعد سقوط نظام الأسد، كان التوجُّه العام ضمّ سلاح الفصائل إلى الدولة، وجرى اتفاقٌ بهذا الخصوص، وكانت هناك أصواتٌ وازنةٌ من المحافظة تُطالب بحصر السلاح بيد الدولة. تراجعت هذه المطالب بعد مجازر الإبادة بحقّ السوريين العلويين في بعض قرى الساحل، بعد استخدام الحلّ الأمني، بطريقة الفزعات والغزوات ذاتها، انتقاماً لحوادث التمرّد التي قام بها فلول النظام البائد.
واليوم، بعد استخدام طريقة المعالجة الأمنية الطائفية نفسها تجاه الدروز (انتهاكات لفصائل خارجة عن القانون، برّرها البيان الصحافي لوزارة الداخلية بحجّة التسجيل الصوتي المسيء)، صار تسليم السلاح يعني استباحة الدروز تحت أيّ حجّةٍ واهيةٍ، وصار من الطبيعي اللجوء إلى العصبيّات الدينية لحماية وجودهم، في غياب خطّة واضحة لضبط كلّ السلاح المنفلت، وغياب رؤية سياسية وطنية تشرك كلّ السوريات والسوريين في بناء دولتهم، وهنا بيت القصيد.
لم تتشكّل هُويَّة وطنية سورية، وما زلنا نعيش إرث النظام البائد الذي استغلّ تناقضات المجتمع لمصلحة إدامة حكمه، وكانت خلاصة 14 سنة من الثورة، التي انتهت إلى حروب، ظهور قوى أمرٍ واقعٍ متعدِّدة في كلّ مناطق النفوذ، وتتشكّل على أسس عشائرية وعائلية ومناطقية، ولها مصالح مرتبطة بالسلطة والثروة واقتصاديات النزاع، وبعضها تعمل ضمن الأجندة التركية، وأخرى تأخُذ مسافةً منها، وتتنوّع في درجة تشدّدها الديني، وكانت كثيراً ما تنشب بينها معارك على تلك المصالح في المعابر في الشمال السوري، ويقابلها مستفيدون من اقتصاد الحرب والمخدّرات في مناطق النظام البائد، ولهم ارتباطاتهم العشائرية والطائفية، فضلاً عن مشروع الإدراة الذاتية شمال شرقي سورية، حيث تستفيد منه بالآلية نفسها فئة مرتبطة بــ”قوات سوريا الديمقراطية” (قسد).
من الاستسهال بمكان القول إن سبب المشكلة الأمنية والوطنية في سورية الأقلّيات الدينية والعرقية. هي أزمة مركّبة ومعقّدة، ترتبط في جزءٍ منها بأن شرعية الرئيس الشرع جاءت عبر مؤتمرٍ ذكوريّ لفصائلَ امتهنت العنف سبيلاً للعيش، ويسعى قادتها إلى الحصول على حصصهم من الدولة السورية، وهناك فصائل متشدّدة، بعضها من الأجانب، هم ضمن وزارة الدفاع، جنّدوا آلاف المقاتلين المؤدلجين، ولهم مصالحهم، وطامحون إلى سيطرة جناحهم على القرار في السلطة، وهذه الصراعات لا تخفى على أحد، في ظلّ ميل الشرع إلى التفرّد بالحكم عبر الخطوات السياسية التي اتخذها. وربّما يأتي التجييش المدبّر ضدّ الأقليات في وسائل التواصل الاجتماعي في ظلّ تأخّر الإعلام الرسمي، بقصد خلق عدو، وتفريغ عنف تلك الفصائل بحروب الغزوات الدونكيشوتية.
بناء هُويَّة وطنية غير ممكن بالحلّ الأمني الطائفي، وقد جرّبه نظام الأسد وفشل، وحتى لو ترافق مع قنوات تواصل سياسية للتهدئة وتطبيق الاتفاقات. ما يحتاجه السوريون خطّة سياسية وطنية، وتوسيع المشاركة السياسية التي ستقوّي شرعية الرئيس الداخلية، وتحصّن الدولة السورية من تقديم تنازلات كبيرة أمام المجتمع الدولي مقابل الاعتراف بالحكم الجديد ورفع العقوبات، والتفكير جدّياً في إخراج المقاتلين من دوائر اقتصاديات العنف، عبر شعورهم بأن الدولة الجديدة ستنصفهم؛ خاصّة أن أغلب الشبّان المتطوعين في الفصائل وقوى الأمن العام هم من أبناء المخيّمات أو المناطق التي دُمّرت، وهم الأكثر تضرّراً. هذا يحتاج إلى الإسراع في تطبيق العدالة الانتقالية، وإلى أن تهدف السياسات الاقتصادية بوضوح إلى تحقيق العدالة الاجتماعية، وأن تعطى الأولوية للمتضرّرين.
العربي الجديد
——————————–
الخوف والتشاؤم وغيرُهما/ معن البياري
06 مايو 2025
لا بأس من بعض وعْظٍ مُلحٍّ في غضون ما يتتابع على سورية من وقائع مُقلقة. والعظة هنا أنّ علينا، جميعاً، يُرضينا أداء السلطة الراهنة في سورية أم يُغضبنا، أن نخافَ على سورية. هذا واجبٌ شديد الضرورة، أن يبدأ أيُّ كلامٍ عن هذا البلد، سوريين كنّا أم عرباً أشقّاء، بالخوف عليه، فالذئبُ الإسرائيلي لا يجهر برغبته في افتراس سورية فحسب، وإنما يُزاول عدواناً عليها كلّما عنّ له أن يفعل، للاستعراض وتوجيه رسائل إلى أهل القرار أحياناً ولتحطيم أي مقدّراتٍ عسكريةٍ أحياناً أكثر. وليس هذا الذئبُ وحدَه ما يوجِب الخوف المطلوب، فثمّة الشقاقُ الطائفيُّ الذي لا تُخفي نفسَها تعبيراتُه بين المجموع السوري، وكانت الخشية، لمّا انهار نظام آل الأسد، وهرب رئيسُه الساقط، قبل خمسة شهور، أن يحتدّ في مظهر احترابٍ أهليٍّ مسلّح، ولمّا لم يقع شيءٌ والحمد لله، عُدّ هذا نجاحاً للذين قادوا معركة ردع العدوان وأنجزوا النصر فيها، غير أن وقائع تتالت، موضعيةً هنا وهناك، ثم كارثة الساحل في مارس/ آذار الماضي، أشعلت غابةً من القلق الذي يسوّغ أرطالاً لازمةً من الخوف على سورية. وهذه وقائع جرمانا والسويداء وصحنايا، الأسبوع الماضي، معطوفةً على ما يسمّيها من هم أكثر درايةً من صاحب هذه المقالة “خطوط تماسّ” طائفية في حمص وريف حماة، تُنبئ أن القصّة أكبر (وأعمق؟) من تفلّت مجموعاتٍ مسلحةٍ غير منضبطة، وأكثر من جنوح زعيمٍ محليٍّ هنا أو هناك إلى استقواءٍ بخارج إسرائيلي أو غيره، وإنما هي، في الجوهر، أن ثمّة ما يُباعد سوريين عن بعضهم، أن وطنهم لا يجمع هؤلاء مع أولئك، أن تربّصاً ما يقوى في هذا ضدّ ذاك. وفي الأثناء، يُخبرنا من يُخبرنا أن سوريين، من هذه الأقلية وتلك، بمفرداتٍ ذائعة، ينشطون في تدبير أمور هجرتهم عن البلد إلى أي مطارح في العالم، فلم يعُد الميل فيهم إلى اغترابٍ من أجل عمل وتحصيل موارد العيش والرزق، وإنما ترك البلد من دون رجعة. ويتردّد أن نساءً من أولئك يتعرّضن لخطف، وأن تحريضاً طائفياً لا ينفكّ يشيع، ضدّهم وضد غيرهم.
ليس المقام أكاديمياً، ولا نقاشاً نخبوياً بين باحثين ومثقفين، لننشغل بتعيين من تسبّبوا في هذا الحال، في النظام الساقط، أو في سلطة ما بعد 8 ديسمبر، إنما هو أن نبدأ أيّ كلامٍ عن سورية، وهو كلامٌ ليس في الوسع أن نغادره لو رغبنا، بالخوف على سورية، للسببَيْن أعلاه، إسرائيل وذاك الشقاق الطائفي مجتمعيّاً، ولغيرِهما أيضاً. ولكن هذه الدعوة هنا إلى هذا الخوف لا تعني الاكتفاء بالمكوث فيه، وإنما أن يكون عتبةً أولى إلى ما بعدَه. وهنا، نجدُنا أمام خيارَيْن: التفاؤل أو التشاؤم. هذا حالنا، كلما اجتمع صحبٌ سوريٌّ، ومعهم محبّون لسورية وأهلها، يشرّق الحديث ويغرّب، في الذي يتراكم من حوادث وتلقانا تتقاطر إلينا من أرياف هذا البلد ومدنه وقراه وساحله وشرقه وغربه. نُصادف بعضَنا يتغلّف كلامُه بتفاؤلٍ بقدرة السوريين، وبقيادة سلطة الحكم الانتقالي الراهنة، على تجاوز كثيرٍ من الأوضاع والمتاعب والقلاقل والتحدّيات، سيّما إذا سوندوا عربياً وإقليمياً، وعاونهم الأقربون بما يلزمهم، وهم في شديد الحاجة إلى إغاثتهم بغير قليلٍ مما لدى العرب، في غير شأنٍ. والظاهر مما توبع في الشهور الخمسة الماضية أن ثمّة حماساً سعودياً وقَطرياً وأردنياً في هذه الوجهة. ونُصادف بعضنا الآخر في تشاؤمٍ حادّ، لا يرَوْن لدى السلطة الراهنة أيّ جدارة، ويرمونها بانعدام الكفاءة، ونُقصان الأهلية، ويحدّثونك عن أخطاءٍ وخطايا اقترفتها في هذا الأمر وغيره. وبالتالي، لا يجدون أنفسهم قادرين على التفاؤل بأن سورية في مستقبلها القريب ستَخرُج من الحطام الثقيل الذي تقيم فيه، فلا مؤشّرات، بحسبهم، تزيح عنهم التشاؤم الذي يستبدّ بهم.
ولكن، أليس ثمّة طريق ثالث غير ثنائية التشاؤم أو التفاؤل، سيّما أن لكل منهما أسانيده التي تجعلهما وجيهَيْن، ولو بحدود هنا وهناك؟. ليس سوى إجابة وحيدة، وعذراً للوعظ في الإلحاح عليها في مختتم هذه السطور، وهي أن سلطةً انتقاليةً قائمةً إذا انهارت لا سمح الله، فثمّة الفوضى والجحيم، ولا يملك أي عاقلٍ إلّا الاصطفاف في ضفّتها، بأن نكون مع نجاح تجربتها، على ما في هذه التجربة، في ظرفٍ شديد الحساسية والصعوبة، من ارتباكات وأخطاء وخطايا. وهذا اصطفاف من شروطه واستحقاقاته أن يشهر أصحابه النقد والانتقاد اللازمَيْن.
العربي الجديد
————————–
هل من مفاجأة سورية في زيارة ترامب السعودية؟/ رغيد عقلة
06 مايو 2025
مع تأكيد البيت الأبيض زيارةَ الرئيس الأميركي دونالد ترامب المنطقة (بين 13و16 مايو/ أيار)، وتشمل السعودية والإمارات وقطر، تزداد تكهّنات عديدين من المهتمّين بالشأن السوري لتصل إلى درجة الاعتقاد بأن سورية في قائمة أولويات الرئيس الأميركي، إلى حدٍّ يجعلها محور مباحثاته مع قادة هذه الدول، وتحديداً مع ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، وربّما الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في حال تأكّدت القمّة بينهما في الرياض، حتى إنّ بعض هذه التوقّعات بلغت شطط الإصرار على أن لقاءً سيجمع الرئيس ترامب برئيس المرحلة الانتقالية أحمد الشرع خلال هذه الزيارة، الأمر الذي قد يكون من الصعب تخيّل حدوثه، وإنْ عوّدنا ترامب على توقّع اللامتوقّع.
من يتحدّثون عن مثل هذا الاهتمام السعودي، حدث اللقاء أو لم يحدث، يستندون إلى رغبة سعودية واضحة في مساعدة سورية والسوريين على العبور ببلدهم إلى حالة استقرار، هي في صلب مصالح السعودية في المنطقة، وتحاول دوماً ألّا تتأثر كثيراً بشكل النظام القائم في دمشق، وأن السعودية لن تتأخّر في استثمار علاقاتها المميّزة بواشنطن، وبإدارة الرئيس ترامب لتحقيق ذلك. على أنّ هناك اعتقاداً مهمّاً لفريق آخر يرى أن احتواء النظام الرسمي العربي (والسعودية في مقدّمته) للإدارة الجديدة في دمشق، وإن كان من ضمن مجموعة مصالحه وهواجسه في سورية وحولها، إلّا أنه جاء أساساً بطلب غربي، تقف وراءه حزمةُ مصالحَ وهواجس لدول كبرى، وربّما في إطار مخطّطاتها الأوسع للمنطقة كلّها. يستطيع هذا الفريق بسهولة أن يستند في اعتقاده إلى مؤشّرات عديدة لافتة، لعلّ أهمّها جاء في حديث جون سويرز لقناة سكاي نيوز، الذي لا يستمدّ أهميته من حقيقة أن سويرز عمل مديراً للاستخبارات الخارجية البريطانية بين عامي 2009 و2014 فحسب، بل يضاف إلى ذلك أنه جاء في توقيت مبكّر جدّاً يوم 8 ديسمبر/ كانون الأول، أي مع دخول الجولاني/ الشرع إلى دمشق، ولأنّ المتحدّث ليس مستجدّاً في الشأن السوري، فقد بدأ مسيرته الاستخباراتية من دمشق في ثمانينيّات القرن الماضي، حينما عمل في السفارة البريطانية مسؤولاً في الاستخبارات تحت غطاء “ملحق سياسي”.
سأل معلّق سكاي نيوز الشهير تريفور فيليبس، ضيفَه: “غالباً ما نكون في البداية متفائلين حول مثل هذه الأمور، ثمّ نكتشف أحياناً أنّنا استبدلنا السيّئ بالأسوأ، ماهي توقّعاتك من خلال ما نعرفه عن هيئة تحرير الشام، هل تعتقد فعلاً بإمكانية تحوّلهم من رديف للقاعدة إلى ما يصفه بعضهم بـ”حركة تحرّر حقيقي”؟، ليجيبه سويرز: “من المحقّ تبنّي الحذر هنا، ولكنّني عندما كنتُ مديراً للاستخبارات البريطانية… أجرينا تقييماً شاملاً لكلّ فصائل المعارضة السورية، لنميّز الذين نستطيع دعمهم من الآخرين غير المقبولين، لقربهم من تنظيم القاعدة، وهيئة تحرير الشام كانت قطعاً في التصنيف الثاني، لكنّني أعتقد (والكلام لا يزال لسويرز) أن قائدهم أبو محمد الجولاني قد بذل في العشر سنوات الماضية جهوداً عظيمةً للبقاء على مسافة من التنظيمات الإرهابية، وبكلّ تأكيد فإن المراس الذي رأيناه من هيئة تحرير الشام، في الأسبوعَين الماضيَّين (السابقَين على سقوط النظام) كان مراس حركة تحرّر، وليس مراس منظّمات إرهابية. ومن هنا، أظنّ أن وزير الداخلية سوف يطلب من جهاز الاستخبارات الداخلي، والمركز المشترك لتقييم الإرهاب، مراجعة تقييمهم لهيئة تحرير الشام، والبتّ إن كان يجب أن تحتفظ بذاك التصنيف المبدئي، لأنه سيكون سخيفاً ألّا نستطيع الانخراط مع القيادة السورية الجديدة استناداً لتقييم مضى عليه 12 عاماً”، هنا يسأله فيليبس صراحةً ومباشرةً: “لو كنت لا تزال في رأس عملك مديراً للاستخبارات الخارجية، هل كنت ستوجّه بالانخراط مع القيادة السورية الجديدة؟”، ليجيب سويرز بلهجة حاسمة: “بكلّ تأكيد، هناك واقع جديد في سورية اليوم، لكن المهمّة الصعبة فعلاً الآن محاولة لمّ شمل بلد لم يعرف الديمقراطية، ما نراه تحالف مجموعات مسلّحة، وليس جماعات سياسية”.
المثير جداً للانتباه في كلام سويرز كان في معرض حديثه عن الموقف الإسرائيلي ممّا يجري في سورية، الذي توقّع أن يشوبه التوتّر بعد أن استمتعت إسرائيل بحدود شمالية هادئة مع سورية 50 عاماً، عزاها إلى تفاهم ضمني، روسي إسرائيلي، منع الأسد بموجبه أي عمل عدائي ضدّ إسرائيل من الجولان مقابل عدم اتخاذها أيّ إجراءات قد تُضعف نظامه، الأمر الذي وصفه سويرز بالصفقة الروسية الإسرائيلية “القذرة غير المكتوبة”، لكنّه يستدرك أن إسرائيل اليوم تتابع ما يجري في سورية بكثير من التشكّك والوجل، وربّما تتحضر لأسوأ سيناريو تخشاه في أن ينفرط عقد سورية إلى كيانات أصغر، بجماعات مسلّحة قد تعيد تصويب سلاحها يوماً ضدّها، وإنْ كان الأمر لا يبدو مرجّحاً اليوم، لكنّه بكلّ تأكيد ليس مستحيل الحدوث، وستستمرّ إسرائيل في متابعته بدقّة، ليختم: “أعتقد أن على الإسرائيليين الوصول إلى تفاهمات مع الأتراك، لأنهم سيكونون وسطاء السلطة في سورية”.
قراءة متأنية لكلام سويرز، تأخذ في الاعتبار تطوّرات المشهد السوري منذ سقوط الأسد، ستخلُص إلى مجموعة نتائج مهمّة، منها أن انفتاحاً استخباراتياً غربياً عموماً، وبريطانياً خصوصاً، وفي أعلى مستوى على السلطة القائمة اليوم في دمشق قد حصل فعلاً، لكنّه لن يكون مجّانياً ومن دون مقابل، ويفترض وجود قائمة طلبات مهمّة وأساسية، ستكون قدرة الشرع على الوفاء بها الضامن الوحيد للاستفادة منه، ولعلّ أهمها بالمطلق وردَ صراحةً في كلام سويرز عن الهاجس الذي تشكّله المجموعات المسلحة لإسرائيل خصوصاً، والغرب عموماً، بغضّ النظر عن ولاءات هذه المجموعات وتحالفاتها اليوم، لأن التجارب أثبتت أنها تتغيّر بسرعات واتجاهات لافتة ومخيفة. الأمر الآخر المهم تقييم سويرز الدور الروسي في سورية، الذي تطوّر دراماتيكياً منذ 2011، ففي ظلّ اختلاف الأجندات الإقليمية والدولية في سورية، وحولها، وعدم وجود حتى طرفَين متّفقَين على كلّ شيء فيها، أو مختلفَين على كلّ شيء، أثبتت التفاهمات الروسية الإسرائيلية أنها كانت الأهم والأقوى والأكثر فاعليةً في المشهد السوري، وفي ظلّ حالة عدم ثقة ونفور شديد بين إسرائيل نتنياهو وتركيا، هل من الممكن أن تعود روسيا إلى المشهد السوري بإلزام غربي هذه المرّة؟
من يعتقد أن روسيا فقدت بطاقاتها كلّها في سورية، ربّما عليه أن يعيد حساباته، فهي لا تزال تحتفظ بقاعدتَين عسكريّتَين مهمّتَين، تضطلع إحداهما بدور أساسيّ في عملية التحصيل الاستخباراتي للمنطقة كلّها، وقد تَأوي إحداهما، كما في روسيا وربّما في مناطق أخرى، عدداً مهمّاً من الضبّاط القادة السوريين من الطائفة العلوية، ولا تزال لهم امتداداتهم في المشهد السوري. الأمر الآخر المهم أن روسيا مقبولة عند مكوّنات سورية عدّة، والأهم من ذلك كلّه أنها أثبتت دوماً لإسرائيل أنها شريك يمكن الوثوق به. وفي المقابل، لن تسمح إسرائيل على الإطلاق بتقدّم أيّ مسار استخباري سوري غربي طويل الأمد، وهذا محسوم وغير قابل للنقاش في الذهنيّتَين الاستخباراتية والسياسية الإسرائيليّتَين، يضاف إلى ذلك حقيقة أن نتنياهو لو أُعطي الخيار فيمن يفضّل التفاهم معه في سورية، فهو من دون شكّ سيختار بوتين على أردوغان، الأمر الذي قد يفعله النظام الرسمي العربي أيضاً.
من هذه الزاوية تماماً، تجدر مراقبة زيارة الرئيس ترامب المنطقة، خصوصاً في حال تخلّلتها قمّة مع الرئيس بوتين في السعودية، فعلاقة ترامب الشخصية ببوتين ليست متأخّرةً عن علاقته بالرئيس أردوغان. رغم ذلك، لا يزال موقف بوتين من الوساطة الأميركية مع كييف متشدّداً، رغم محافظتها على المكاسب الروسية في أوكرانيا، فإذا أخذنا في الحسابات مدى أهمّية هذه الوساطة للرئيس ترامب لتداخلها مع اتفاقية التنقيب الأميركي عن المعادن الثمينة في أوكرانيا، ورغبة إسرائيلية أكيدة بوجود طرف ضامن لهواجسها الأمنية في سورية (غير تركيا)، وقدرة الرئيس ترامب على إحياء تفاهمات روسية تركية إسرائيلية في سورية، فهل نرى موقفاً أميركياً جديداً في المشهد السوري هو أقرب لإعادة دورٍ روسيٍّ ما هناك؟ وهل قرأ الشرع ذلك مبكّراً فذكّرنا بأخيه المتخرّج من روسيا، ويتقن لغتها.. ومصاهرتها؟
العربي الجديد
——————————–
تجاذبات اللامركزية وضرورة الوصول إلى صيغة وطنية شاملة لها في سوريا/ د. عبد المنعم حلبي
2025.05.04
تُطِلُّ اللامركزية من جديد على المشهد السوري المُعقد، في ظل إصرار بعض الأطراف طرح الصيغة السياسية منها، الفيدرالية أو ما يقاربها، عبر مطالب قومية ومذهبية لا تخلو من الاستقواء بالخارج. ولكن اللامركزية بشكلها الإداري والمالي، بما فيه الموسَّع، كانت مطلباً مهماً لمؤسسات المعارضة السورية وأغلب مثقفيها ومسؤوليها قبل سقوط النظام، فلماذا لا يتم طرح اللامركزية ضمن إطار وطني شامل لإنجاز صيغة منها تتناسب مع الواقع السوري، ومتطلبات حماية وحدة البلاد، وتمنح المشاركة العادلة لجميع السوريين في إدارة شؤونهم وثرواتهم وصناعة مستقبلهم؟!
وهكذا وأمام المساعي والجهود والاتفاقات المنجزة وعراقيل تطبيقاتها على الأرض، بخصوص دمج المؤسسات المدنية والقوات العسكرية التي بقيت خارج سلطة دمشق خلال اثتني عشرة سنة مضت، تثور مشكلة تطبيق اللامركزية بمستوياتها المتعددة، بدءاً من المستوى الطبيعي من الحكم المحلي، إلى نوع من اللامركزية الإدارية، أو الموسعة مالياً، وصولاً إلى طرح اللامركزية السياسية بمعنى الفيدرالية، والذي تبناه بشكل أو بآخر ما سمي بمؤتمر وحدة الصف الكردي الذي عُقد في القامشلي في 26 نيسان الماضي. ومع استمرار المطالب المشابهة في كل من الساحل والسويداء بعد أحداث العنف التي عصفت في كل منهما، تثور مخاوف العديد من الأطراف الأخرى في صفوف الأغلبية من فرض مركزية دمشق مجدداً على سوريا، بالصورة التي كانت موجودة في ظل نظام الأسد.
لقد بقيت طروحات الفيدرالية تشكل بالنسبة لغالبية السوريين ناقوس خطر، كما بقيت دعوات اللامركزية الموسعة إدارياً ومالياً تثير مخاوف تبدو حقيقية بالنسبة لتطبيقها على مناطق معينة، في ظل السيطرة العسكرية لقسد لمناطق سورية واسعة. ومن الواضح هنا أن السنوات السبع الماضية على تجربة الإدارة الذاتية في المناطق ذات أغلبية كردية، والمناطق ذات الأغلبية العربية التي استولت عليها قسد في الحرب على تنظيم الدولة، تعتبر الركيزة الأساسية التي يتم الاستناد إليها في تلك النقاشات والطروحات والمخاوف على حد سواء، ليأتي المؤتمر الكردي المشار إليه، ليجسد أول ظهور سياسي واضح لتلك المطالب، ويثير في الوقت نفسه ذروة مخاوف تبدو حقيقية هذه المرة على مستقبل النظام السياسي الدستوري ووحدة الدولة السورية.
أحداث الساحل في الأسبوع الأول من آذار كانت قد أدت إلى مطالب مماثلة بالحكم الذاتي من قبل شخصيات ومؤسسات علوية في الخارج، والتي اعتبرت أن ما جرى شكَّل حالة لا يمكن تمريرها بدون العمل على وضع إطار إداري خاص بالمنطقة التي يوجد فيها العلويون بكثافة في الساحل السوري، امتداداً إلى ريف حمص وأجزاء من الريف الحموي أيضاً.
وإذا ما أضفنا إلى المشهد محافظة السويداء، فإننا نستذكر هنا أن الحراك الذي انطلق قبل عام كامل من سقوط النظام، كانت مطالبه تتضمن شكلاً موسعاً جداً من أشكال اللامركزية. وقد استمر ممثل ذلك الحراك وهو شيخ عقل الطائفة الدرزية حكمت الهجري بتلك المطالب بصورة أكثر إلحاحاً بعد سقوط النظام، في ظل توتر مستمر في علاقته مع السلطات السورية الجديدة في دمشق، والتي زاد من حساسيتها التحركات الإسرائيلية العسكرية في الجولان، وتهديدات نتنياهو بالتدخل في الجنوب السوري، وصولاً للاشتباك العسكري والأمني الأخير، المترافق مع الضربات الجوية الإسرائيلية على قصر الشعب والعديد من الأهداف العسكرية.
ومع بقاء أغلب المعارضين السوريين للنظام ضد أي طرح حول الفيدرالية، إلا أننا كنا نجد قلة قليلة منهم فقط متمسكين بالمركزية الدمشقية، فكلنا نعرف قبل سقوط النظام، بأن نقاشات وطروحات وأبحاثاً متعددة الأطراف كانت قد تمت بالفعل خلال السنوات الماضية، عبر مثقفين وباحثين وسياسيين معارضين ومؤسسات بحثية تابعة للمعارضة، حول اللامركزية الإدارية، بل والمالية الموسّعة، والتي يمكن أن يتم منحها لجميع المحافظات والمدن والبلدات على مستوى الجغرافيا السورية في إطار أي حل سياسي، بمعنى نقل صلاحيات تنفيذية وإدارية من الوزارات دون استقلال تشريعي، بما فيها صلاحيات الجباية وتخصيص نسب من الضرائب المحلية لصالحها، تُصرف على واقعها الخدمي والمعيشي، وفق ميزانيات شفافة وخاضعة للرقابة الحكومية والمؤسسات المختصة، وتجري فيها انتخابات محلية تمثيلية تضمن دوراً سياسياً لكفاءاتها في خدمة الأهالي، بعيداً عن الحسابات المعقدة للسلطة والتي تكون مبنية –في الغالب- على الولاء. وعلى الرغم من اختفاء كل تلك المطالب المعارضة بعد سقوط النظام، إلا أن كثيراً من السوريين المنتمين للأغلبية، يُبدون خشيةً من استعادة دمشق لواقع المركزية الشديدة التي فرضها نظام الأسد على الجغرافيا السورية، في مختلف مناحي حياتهم السياسية والاقتصادية والاجتماعية وحتى الوظيفية. والتي تخللها إهمال تاريخي لمختلف المدن والمحافظات الكبرى، وعلى رأسها حلب، المدينة الصناعية والتجارية الأولى في البلاد، سواء إهمالها على مستوى البنية التحتية والخدمات، أو على مستوى التمثيل السياسي. فإذا ما وضعنا حجم الدمار وهو الأوسع الذي تعرضت له حلب خلال سنوات الحرب، وهي المدينة والمحافظة التي تمثل أكبر تجمع بشري للأغلبية، وحجم اللاجئين المرشحين للعودة إليها من تركيا ومختلف المناطق، فإننا يمكن أن نقدر ماذا يمكن أن يعنيه أي إهمال لحلب خلال المستقبل المنظور. أيضاً هناك دير الزور، المدينة والمحافظة التي تطفو على جوف ضخم من النفط والغاز، وهي بنفس الوقت المدينة التي تعاني من واقع التدمير المهول الذي تعرضت له خلال السنوات الاثنتي عشرة الماضية، ولا نعرف إذا كانت ستأخذ في إعادة إعمارها حصة من موارد النفط والغاز متناسبة مع التدمير الذي تعرضت له بسبب وجود هذه الموارد والصراع عليها.
وفي الواقع، إن الوقت لن يطول حتى تجد الحكومة الانتقالية والسلطة في دمشق نفسها أمام تدفق اللاجئين السوريين القادمين من الخارج إلى مدنهم وقراهم، والذي يُتوقع أن يكون كبيراً، بما سيحمل معه من استحقاقات ضخمة متعلقة بالواقع الخدمي وتلبية الاحتياجات الأكثر إلحاحاً، المرتبطة بترميم المنازل والبنية التحتية من الطرق والمدارس والكهرباء والمياه والصرف الصحي، ولا يُعقل هنا، أن تكون الدورة الإدارية والمالية لمواجهة الواقع القادم منوطة بآليات اتخاذ قرار وعمل مركزية، مشهود لها بالروتين البطيء والبيروقراطية المطوَّلة. لذلك فمن البديهي هنا أن تعمل السلطة السورية الانتقالية على أخذ زمام المبادرة في ملف اللامركزية الإدارية والمالية، وبشكل يمكنها من طرح رؤيتها بخصوص الحكم المحلي، والأطر التنظيمية التي يمكن أن تعمل من خلالها لتوسيع نطاقه بما يلبي احتياجات السكان، ويفضي إلى فرصٍ متكافئة في إشراك جميع السوريين في بناء مستقبلهم وإدارة شؤونهم وتحقيق العدالة في توزيع الثروة وجهود التنمية في ظل ضمانات دستورية وقانونية ومؤسساتية، وبيان مراحل وآليات التطبيق بصورة شاملة على الجغرافيا السورية كاملة، ضمن حقوق المواطنة، وانطلاقاً من التقسيمات الإدارية والتنظيمية الموجودة فعلاً، في إطار أربع عشرة محافظة أو تعديلها بما لا يؤثر على التنوع المجتمعي، وفي إطار منظورَي: المرحلة الانتقالية وفق الإعلان الدستوري وصولاً إلى الحالة الدستورية الدائمة، ودون أي اعتبار آخر محدود بالخصوصيات العرقية والمذهبية التي تستقوي بالخارج، أو أي تهديد أو تلاعب بوحدة البلاد وسيادتها، وبما يضمن إمساكاً مُحكماً للدولة المركزية بالملفات السيادية المرتبطة بقضايا الدفاع والتعليم والأمن والعلاقات الخارجية بصورة أساسية.
تلفزيون سوريا
———————————————-
الشرع… تغيير المقاربة مع إسرائيل/ محمد أبو رمان
04 مايو 2025
إلى أيّ مدىً تشكل الضربة الإسرائيلية لمحيط القصر الجمهوري في دمشق، فجر أول من أمس الجمعة، رسالة حقيقية تشير إلى إمكانية وجود اجتياح أو تدخل عسكري إسرائيلي أشدّ، ربما اغتيال الرئيس أحمد الشرع أو دعم أكبر لتشكيل قوات مسلحة في جنوب سورية من الدروز، مدعومة من إسرائيل، أم كان المقصود تهديداً وتخويفاً للشرع ودعماً رمزياً لبعض الفصائل الدرزية المتمرّدة؟
لا يخفي قادة إسرائيل، من بنيامين نتنياهو إلى وزيري الخارجية والدفاع وقادة الجيش وغيرهم من مسؤولين، أنّ هنالك أجندة إسرائيلية تقوم على تقسيم سورية وإضعاف الحكم المركزي، لا تقف فقط عند حدود التواصل مع الدروز ودعم الانفصال، بل مع الأكراد، وأخيراً مع العلويين في منطقة الساحل، وهي أجندة مرتبطة بترتيبات في السرّ والعلن، وتحرّكات عسكرية وسياسية وحتى مالية في سورية، وما لم تنهض استراتيجية واضحة وصلبة من الحكم الجديد والدول العربية الداعمة له وتركيا لوضع حد نهائي لتلك الأجندة، فإن الأمور مستمرة في التدهور والتدحرج نحو تحقيق أهداف إسرائيل في سورية.
العامل الأكثر خطورة في ما يجري في سورية اليوم، دور إسرائيل في محاولة التلاعب واللعب بورقة الدروز، وحتى العلويين، وتشجيع بعض شخصياتهم المعروفة على التمرّد على الحكم الجديد، وعلى الانفصال. وتتحدث أوساط دبلوماسية أردنية رفيعة عن تدفق أموال هائلة من إسرائيل إلى السويداء لبعض الشخصيات لشراء الولاءات والمواقف. وبالرغم من ذلك، لا تزال نسبة كبيرة من الدروز يرفضون هذا الانجرار، لكنهم يشعرون بالعزلة والضعف، في ضوء خطابٍ يمينيٍّ يدغدغ مشاعر الشباب الدروز، واستثمار للأوضاع الاقتصادية المتردية هناك، من بطالة وفقر وشعور بالحرمان الاجتماعي، من عملاء إسرائيل، الذين يروّجون لتحسين كبير في أوضاع الدروز، إن بنوا علاقات عضوية أو موالية لإسرائيل، عبر بعض الشخصيات الدرزية في الجولان، التي تجمّل لهم الانضمام والتعاون مع إسرائيل.
المشكلة الكبرى أنّ الموقف الأميركي، بدرجة أوضح خلال مرحلة الرئيس دونالد ترامب، مرتبط بصورة كبيرة أولاً بمصالح إسرائيل ومنظور زعمائها، وثانياً بدور كبير يقوم به اللوبي الصهيوني في رفض رفع العقوبات أو تعليقها، والاستمرار في الضغط الاقتصادي والسياسي على حكومة أحمد الشرع. وفي المقابل، ثمّة انقسام عربي ملحوظ من النظام الجديد، ما يضعف أي موقف عربي مضاد للموقف الإسرائيلي، دولياً أو حتى إقليمياً.
لا يمكن إنكار حجم التحديات التي تواجه الحكم الجديد، داخلياً وخارجياً، ويبدي الرئيس الشرع ومطبخ القرار حوله ذكاءً وواقعية شديدة في التعامل مع هذه التعقيدات الكبيرة، ويسيرون بخطواتٍ حذرة وذكية نحو تجاوز حقول المتفجرات التي في طريقهم، ومن ذلك محاولة مواجهة الخطة الإسرائيلية بقدر كبير من الصبر وهدوء الأعصاب وإرسال رسائل عبر الوسطاء بعدم وجود نياتٍ لدى النظام الجديد بالدخول في صراع مع إسرائيل، وبأولوية بناء سورية، بل يتعمّد الشرع نفسه إرسال رسائل مثيرة وملتبسة عبر وسطاء وأجانب بعدم ممانعته السلام مع إسرائيل، وقد ذكر على مسمع أحد السياسيين العرب الكبار الذين زاروا دمشق أنّه يعتبر أنور السادات بطلاً قومياً. ولاحقاً، أرسل برقيات غزل إلى الحكومات العربية عندما رفض افتتاح مقرّات لجماعة الإخوان المسلمين في سورية.
ليس المجال هنا لمحاكمة هذا السلوك البراغماتي وتفسيره أو الحكم عليه، لكن الأقرب إلى ذلك كله أنّه يعمل على شراء الوقت وتفويت المجال على أجندة إسرائيل وحلفائها بتقسيم سورية، ومحاولة كسب دعم إقليمي ودولي لمحاولة فك الحصار على النظام الجديد، بخاصة العقوبات الاقتصادية، وتحسين الظروف الداخلية، لأنّ أي انخراطٍ في مواجهة إسرائيل، دون القدرة على توحيد البلاد وتحسين الخدمات والاستثمار والأمور الاقتصادية، وفق هذا المنطق، يعدّ انتحاراً، فضلاً عن أنّه يتعامل، في الوقت نفسه، مع المجموعات المسلحة الإسلامية التي دعمته وما زالت تشكّل قوته العسكرية، ولها أيديولوجيا ومواقف في مسألة الداخل، وحالة طائفية هشّة في داخل البلاد برزت خلال ما سُمي بأحداث الساحل.
من الواضح أنّ هذه السياسات لا تجدي نفعاً مع إسرائيل، ولم تفلح في تغيير أجندتها في سورية؛ وإذا كان الرئيس السوري يبحث عن حلول، فإنّ المطلوب هو الانتقال إلى خطواتٍ جديدةٍ أكثر فعالية، كأن يستعين بقوات عربية (الأردن، السعودية، مصر وقطر والإمارات) لنشرها في الجنوب السوري، بطلب من الحكومة السورية، وهو أمر طبيعي ومنطقي، وقد حدث في الأردن خلال مراحل سابقة ومع دول كثيرة، وهي الطريقة الوحيدة لقطع الطريق على نتنياهو ومشروعه في سورية وتعزيز الصوت الدرزي المعتدل. كذلك على الشرع الانفتاح أكثر في خطابه ولقاءاته على الدروز والعلويين والأكراد، وإيجاد تحالفاتٍ وثيقةً مع قياداتها الوطنية، وأن يأخذ بالاعتبار أنّه أمام مهمّة تاريخيّة تتمثّل بوحدة سورية، وأنّه رئيس لكل المواطنين وليس لشريحة واحدة فقط.
العربي الجديد
—————————
كيف سيردّ الشرع على الاعتداءات الإسرائيلية؟/ عمر كوش
05 مايو 2025
تمادت إسرائيل كثيراً في اعتداءاتها على سورية الجديدة هذه المرّة، إذ قصفت مقاتلاتها محيط القصر الرئاسي في دمشق، واعتبر رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، في بيان مشترك مع وزير الأمن يسرائيل كاتس، أن القصف “رسالة واضحة إلى النظام السوري. لن نسمح بنشر قوات (سورية) جنوب دمشق أو بتهديد الطائفة الدرزية بأيّ شكل”.
لم يتوقّف الأمر عند هذا الحدّ من الصلف والغطرسة، بل استمرّ التصعيد الإسرائيلي عبر قصفت المقاتلات الإسرائيلية سبعة مواقع عسكرية في ثلاث محافظات سورية، في اعتداء هو الأوسع منذ بداية إبريل/نيسان الماضي. ولعلّ السؤال الذي يُطرح هنا: إلى متى ستستمرّ الاعتداءات الإسرائيلية على سورية، وما الرسائل التي تريد إرسالها إسرائيل من ورائها؟ والأهم: ماذا في وسع الرئيس السوري أحمد الشرع فعله حيال تكرار هذه الاعتداءات؟
بداية، استهدفت إسرائيل منذ إسقاط نظام الأسد الأصول العسكرية للجيش السوري السابق، وكانت تتذرّع بأن اعتداءاتها بمثابة عمليات استباقية، كي لا تقع الأسلحة بيد السلطات الجديدة التي تعتبرها “مجموعاتٍ إرهابيةً”. ولم تكتفِ بذلك، بل توغّلت في المنطقة العازلة، لاغيةً من طرف واحد اتفاق فضّ الاشتباك الموقّع في 1974، وأنشأت منطقةً عازلةً واسعةً شملت معظم مناطق محافظة القنيطرة، ثم امتدّت إلى مناطقَ في محافظة درعا، وبعدها وصلت إلى محافظة السويداء، إذ حاول الخطاب الإسرائيلي تأسيس سردية جديدة تنهض على حجّة واهية وزائفة، تتمثّل في حماية دروز سورية، منصّبةً نفسها محامياً للأقليات فيها، ومهدّدةً باستهداف أيّ قوات سورية تدخل المحافظة. وبلغ التمادي الإسرائيلي نقطةً قصوى باستهداف رتل لقوى الأمن العام كان متّجهاً إلى بلدة أشرفية صحنايا، ثمّ باستهداف محيط القصر الرئاسي، بعد أن تمكّنت السلطات السورية الجديدة من احتواء المواجهات الدامية التي شهدتها بلدتَا جرمانا وأشرفية صحنايا، وامتدّت إلى مناطقَ في محافظة السويداء، ووقّعت مع الفعّاليات الروحية والاجتماعية فيهما اتفاقاً، يقضي بتسليم الأسلحة للسلطات المختصّة، وانتشار قوى الأمن العام فيهما.
تريد إسرائيل توجيه رسائل عديدة، أهمّها أنها تريد أن تُبقي السلطات السورية الجديدة تحت الضغط والابتزاز، مستغلّةً الوضع الكارثي على جميع الصعد، الذي خلّفه نظام الأسد، وبالتالي، تريد منعها من استعادة عافيتها، ومن بسط سيادتها في كامل التراب السوري، خاصّة المنطقة الجنوبية في سورية، لأنها لا تخفي مساعيها الرامية إلى فصل الجنوب عن الجسم السوري الجديد، على الرغم من أن الغالبية الساحقة من السوريين في الجنوب يعتبرون أنفسهم جزءاً أصيلاً من الوطن السوري، ويعتزّون بالهُويَّة السورية، ويقفون ضدّ أيّ تدخّل إسرائيلي، ما عدا قلّة من الأصوات في السويداء، ممثلةً بالشيخ حكمت الهجري وأتباعه، إذ تعارض توجّهاتهم غالبية أبناء المحافظة. وقد قدّم اجتماع الفعاليات والزعامات الروحية والعسكرية في السويداء أخيراً رسالةً مناهضةً المسعى الإسرائيلي، من خلال “رفض التقسيم أو الانسلاخ أو الانفصال”، وتأكيد أن أبناء السويداء سوريون بالأصالة والهُويَّة، والتمسّك “بوحدة السوريين تحت راية وطن واحد”.
على المستويين الإقليمي والدولي، تريد حكومة اليمين المتطرّف الإسرائيلية توجيه رسالة إلى الولايات المتحدة وتركيا ودول الإقليم، أن لمصالح إسرائيل وأمنها الأولوية القصوى، ولا يمكن تجاهلها أو التغاضي عنها، على الرغم من الموقف المساند لتركيا الذي أبداه الرئيس الأميركي دونالد ترامب، أخيراً، بحضور نتنياهو في البيت الأبيض، وطالب فيه الأخير بضرورة أن يكون منطقياً.
يكمن الهدف الأساس للمشروع الإسرائيلي في سورية، ليس في تفتيتها وتقسيمها جغرافياً فقط، بل أيضاً تفتيتها اجتماعياً وسياسياً، إذ أراد مسؤولو حكومة دولة الاحتلال الإيحاء أن اعتداءاتهم جاءت تلبيةً لدعوات بعض الأصوات لحماية الدروز، وبالتالي، تأليب باقي المكوّنات الاجتماعية السورية عليهم، لكن الأمر لن ينطلي على غالبية السوريين، الذين تستحضر ذاكرتهم نضالات سلطان باشا الأطرش وسواه من المناضلين في سبيل تحرّر سورية ووحدتها.
لا تملك السلطات السورية خياراتٍ كثيرة للردّ على التصعيد الإسرائيلي، بالنظر إلى التحدّيات الكثيرة التي تواجهها، والتركة الثقيلة التي خلفها نظام الأسد البائد، وحوّلها كومةً من الركام والدمار. وعليه، جاء الردّ الأولي في بيان الرئاسة ليؤكّد سعيها الحازم إلى “منع أيّ تهديدات قد تستهدف أمن الوطن والمواطنين”، معتبراً أن الهجمات الإسرائيلية “استهداف لمؤسّسات الدولة وسيادتها وللأمن الوطني ووحدة الشعب السوري”، لكنّ ذلك لا يكفي، بل يستلزم الردّ على الصَلَف الإسرائيلي العمل في عدّة مستويات، من بينهما مطالبة الدول العربية والصديقة باتخاذ موقف ضدّ الصلف الإسرائيلي، وتشكيل موقف دولي عام ضدّه في المؤسّسات الأممية، لكن الأكثر أهمية المستوى الداخلي، الذي يتطلّب من السلطات الجديدة العمل لتحصين الداخل السوري، وتمتين اللحمة الوطنية، من خلال تعميق الحوار مع الفعاليات المدنية والسياسية في كافّة أنحاء سورية، وعدم الركون فقط إلى التفاهم مع الزعامات الدينية والعسكرية، إذ لم تنجح السلطات الجديدة في فرض الاستقرار وصون السلم الأهلي، لأنها لم تلجأ إلى الأدوات السياسية، بل اعتمدت على حلول عسكرية موضعية، الأمر الذي زاد من حدّة القلق والاستياء بين فئات واسعة من السوريين، وأضعف قدرة القيادة السورية على تحقيق التوافق الوطني، في ظلّ الانقسامات الاجتماعية الموروثة، والصراعات التي تضعف محاولة المصالحة الوطنية. ولعلّ المطلوب داخلياً تأسيس أحزاب سياسية من أجل إيجاد مخارج للنزاعات والاختلافات، لأنها تؤمّن فضاءً عامّاً يمكن للسوريين التعبير من خلاله عن آرائهم وتطلّعاتهم المحقّة، بصرف النظر عن انتماءاتهم الدينية والإثنية. وليس جديداً القول إن التعدّدية السياسية مفتاح الحوار بين الناس، لأنها تمنحهم فرصة للمشاركة الفعلية في صنع القرار، والمساهمة في بناء بلدهم، بدلاً من البقاء في هامش المشهد السياسي.
يأمل غالبية السوريين في أن يتّخذ الرئيس الانتقالي أحمد الشرع حلولاً سياسية للإشكالات القائمة، بغية تحصين الداخل، وإكسابه مناعةً مطلوبةً لمواجهة تدخّلات إسرائيل، وسواها من القوى الرافضة للتحوّل السوري الجديد. ولعلّ المسؤولية التاريخية يتحمّلها هو بدرجة كبيرة، خاصّة حيال الشعب، إذ يتوجّب الاعتماد عليه لمواجهة التحديات الداخلية كلها، والتصدّي للمخطّطات الإسرائيلية، وسواها.
العربي الجديد
————————
تركيا وإسرائيل على المذبح السوري/ عدنان عبد الرزاق
05 مايو 2025
يطل الاقتصاد والمصالح حائلاً حتمياً، حتى الآن، دون اندلاع حرب مباشرة أو قصف جوي متبادل، بين تركيا وإسرائيل، إثر استفزازات وحرب كلامية، كادت مراراً أن تشعل منطقة الشرق الأوسط بحرب، قد لا يكون خلالها وما بعدها كما قبلها، لأن أهداف تل أبيب، المدعومة أميركياً وبعض أوروبياً، تتمثل بإعادة رسم المنطقة. والتطلع التركي إلى قوة عالمية ولتكون أنقرة عراب المنطقة برمتها، سيحيل المواجهة إلى حرب واسعة إن لم نقل بملامح عالمية.
وحتى اليوم ورغم التفكير في آثار تلك المواجهة، المرشحة للتوسع، على اقتصاد البلدين وبُناهما، مشفوعة بالتبريد الأميركي والأذربيجاني، لم يزل التوتر سيد الموقف، والتحشيد لفرض الهيمنة على سورية، كأنه صاعق أزمة تلوح بالأفق مرة وتخبو مرات.
ولكن، يخطئ من يرجّح بالمطلق نشوب حرب تقليدية ومباشرة، بين تركيا وإسرائيل على الأرض السورية، رغم التوترات الأخيرة على خلفية أحداث جنوبي سورية، وادعاء تل أبيب حماية مكوّن سوري (الدروز) وقصف مواقع سورية، في أربع محافظات منها دمشق وغير بعيد عن القصر الرئاسي الذي يقيم فيه أحمد الشرع. بعد قصف، الشهر الماضي، ثلاثة مواقع (قاعدة تي فور وتدمر ومطار حماة)، والتي تفقدتها تركيا لنشر قوات تابعة لها، بهدف تأهيل القوات السورية وحماية الجو، فسبقها سلاح الجو الإسرائيلي ليفشل الخطة ويحرج أنقرة، معلناً أنها “رسالة واضحة وتحذير للمستقبل”، متذرعاً أن الوجود التركي سيمس أمن إسرائيل، لأن نية أنقرة هي أن تكون سورية محمية تركية.
لأن تلك الحرب، إنْ نشبت، فستطاول آثارها استقرار المنطقة برمتها واقتصادها، ولن تسلم حتى واشنطن من شررها، وهي بتوقيت غير مناسب البتة لمشاريع دونالد ترامب المتضاربة وحروبه الاقتصادية على الصين والاتحاد الأوروبي ودول العالم، هذا إن لم نذكر أن تركيا عضو بحلف “ناتو” أو نزج بعلاقة الرئيس الأميركي بالرئيس التركي رجب طيب أردوغان.
كما يخطئ من يستبعد وبالمطلق، الاصطدام التركي الإسرائيلي، حتى العسكري، على الأرض السورية، بحال استمرت تل أبيب بتحديها تركيا وضرب مصالحها وتطلعاتها بسورية، أو تمادت بانتهاك سيادة سورية، ونزلت من الجو إلى الأرض، لتزيد قضم جغرافيا جنوبي سورية، لتنفذ ما يقال عن مشروع “ممر داوود”.
وذلك فضلاً على أن توقع تصرفات رئيس الوزراء الإسرائيلي مستحيلة، بواقع الدعم الدولي المطلق والتمادي غير المسقّف أولاً، ولبحثه عن إطالة عمر حكومته واستبعاد محاكمته ولو أشعل المنطقة أو أحرج واشنطن ثانياً، ولأن، وربما هذا الأهم، أن وجود تركيا بسورية وتنفيذ اتفاق “دفاع عسكري” سيجعل تركيا مكان الولايات المتحدة، بعد خروج روسيا وإيران، وسيحول دون خطة إسرائيل إرساء معادلة عسكرية جديدة في سورية بوصفها أمراً واقعاً، تتسيّد خلالها الجو وتمنع تشكيل قوة عسكرية سورية، تهدد أمنها المستقبلي.
التقاط اللحظة السورية
ورغم أن حرباً بهذا الخطر والحجم، تحتاج إلى قرار واصطفاف دولي لتنشب، إلا أن قصفاً إسرائيلياً مفاجئاً، لتمثيل تركي على الأرض السورية، أو للأراضي التركية ذاتها، قد يشعلها لتكون نهاية ملامح المنطقة وتوزع نفوذها وحتى تفتيت جغرافيتها.
قصارى القول: ربما بيضة القبان، بنشوب الحرب من عدمها هو الاقتصاد. ودور الاقتصاد هنا، لا يقتصر على استمرار القطيعة أو رفع تركيا قيود التجارة عن إسرائيل أو عودة العلاقات التي قطعتها في مارس/ آذار 2024، بوصفها أول دولة في المنطقة تفعل ذلك بعد الحرب على غزة، فحجم التبادل التجاري كان يزيد عن 10 مليارات دولار، إنما يمتد إلى ما في سورية من ثروات، فوق الأرض وتحتها، على اليابسة وتحت مياه المتوسط. وعلى الفرص الاستثمارية وعقود إعادة الإعمار ببلد مهدم، يعتبر النفوذ عليه، فرصة لن تتكرر لكلا الطرفين اللذين يجد كل منهما بنفسه عراباً لواشنطن أو وكيلاً حصرياً لها في المنطقة.
إن الاقتصاد وبوجهيه، عامل حرب أو منعها، عنصر فاعل لتركيا التي سعت ودفعت تكاليف باهظة، حتى توسع نفوذها في ثماني دول بالمنطقة، لتتحكم في خطوط الطاقة والغاز شرقي المتوسط، أو لإعاقة مشاريع إسرائيل من مد خط أنابيب غاز تحت الماء، على الأقل، ضمن أمانيها بالسيطرة على تجارة الغاز ونقله مع أوروبا.
وأيضاً الاقتصاد بيضة القبان لتعدّ أنقرة وتل أبيب للعشرة، قبل التهور بمواجهة عسكرية، لأن كلا البلدين يبتعدان عن كل ما فيه خسائر وزيادة نفقات يمكن إرجاؤها.
فإسرائيل التي كبدتها الحرب على غزة، أكثر من 41 مليار دولار وزادت العجز بموازنتها عن 7%، تحرص كل الحرص على الحيلولة دون مزيد من الاستنزاف وهروب الاستثمارات والسياح، وحتى المهاجرين للكيان المصطنع، لأن الحرب مع ثاني أكبر جيش بالناتو وما تملكه تركيا من أسلحة، ليست نزهة وقد لا تبقي، من منشآت وبنى واستقواء، ولا تذر.
في المقابل، تركيا التي تسعى لاستعادة نسب النمو المتراجعة وتحسين بيانات التضخم والبطالة وتطبيق برنامجها الاقتصادي الطموح على الأرض، تستبعد المجازفة، ما أمكن، بحرب ستخلط جميع أوراقها وتحالفاتها ووعود واشنطن لها، وستؤجل، إن لم نقل تلغي، أحلامها بدخول نادي العشرة الكبار وتعيدها إلى ما قبل 2002 من استهداف وفقر وديون، وهي التي عادت لـ”صفر مشاكل” ونسفت لاءات الماضي، بما فيها الفائدة المرتفعة وعدم مد اليد إلى المؤسسات المالية الدولية.
أردوغان يتحدث في منتدى أنطاليا الدبلوماسي، 11 إبريل 2025 (الأناضول)
موقف
تبدل النهج الأردوغاني
نهاية القول: الخلاف في سورية وحولها، بين تركيا وإسرائيل، شاسع ولن تحله لقاءات أمنية لتفاهمات فنية في أذربيجان أو حتى “نصح دبلوماسي” أسداه الرئيس الأميركي، خلال زيارة رئيس الوزراء الإسرائيلي واشنطن الشهر الماضي.
فالقصة للأسف والوجع أن النظرة الإسرائيلية إلى سورية المريضة تأتي كأنها مغنم وسيطرة، أو أن تبقى هشة ممزقة بين دويلات طائفية وكانتونات حكم ذاتي، وليس تقاسم نفوذ مع تركيا، والتي بدورها، تسعى وتؤكد حرصها على سورية الواحدة الموحدة والمساهمة بنهضتها، لأن الاستقرار فيها سيكون مفتاحاً للاستقرار في المنطقة برمتها، ويفتح فرصاً وآفاقاً جديدة للتعاون الإقليمي.
ذلك يبقي ملامح المواجهة مفتوحة، وعلى سيناريوهات عدة، بما فيها حرب عبر وكلاء تدعمهم أنقرة، إن لم تخرج واشنطن عن النصح والحياد، وتتدخل مع أذربيجان التي لها علاقة طيبة بالطرفين، لحل بين أنقرة وتل أبيب، ربما يكون حلاً شاملاً لسورية أيضاً، منطلقه المصالح المتبادلة وربما منتهاه “تجرّع سم التطبيع” الذي يبعد سورية عن التقسيم والحرب الأهلية التي تتزايد ملامحها تباعاً، ريثما تستعيد دمشق، ولو بعض ملامح القوة، الاقتصادية وغير الاقتصادية، والتي بددها نظام الأسد المخلوع، وأجهزت إسرائيل، بعد هروبه، على ما تبقّى منها.
العربي الجديد
——————————-
قراءات إسرائيلية في الحدث الدرزي السوري/ بسام مقداد
الثلاثاء 2025/05/06
بعد أيام من الإطاحة بنظام الأسد، نقل موقع الخدمة الروسية في “الحرة” الأميركية، طلب ست قرى درزية جنوب سوريا الانضمام إلى إسرائيل. لم يذكر الموقع في 13 كانون الأول/ديسمبر المنصرم أسماء القرى المعنية، لكنه أشار إلى أنها طلبت من إسرائيل ضمها إلى أراضيها وبسط سيادتها عليها. وأضاف، أن الدروز يخشون ملاحقتهم من قبل الإسلاميين الذين سيطروا على السلطة في دمشق. وطالب سكان تلك القرى، في اجتماع لهم، إسرائيل باحتلال المنطقة المحايدة.
يطالب الغرب حكام سوريا الجدد باتخاذ خطوات تطمئنه إلى انفصالهم التام عن الفصائل الإرهابية التي كانوا ينتمون إليها، وذلك كشرط للاعتراف بشرعيتهم وإقامة علاقات طبيعية مع سوريا. لكن إسرائيل ناصبت هذه السلطة العداء منذ البداية، بذريعة الخوف على أمنها من إسلامية سلطة دمشق. وتستخدم هذه الذريعة لتبرير توسيع احتلال الأراضي السورية والغارات العدوانية الجوية، حتى على الأهداف المحيطة بالقصر الجمهوري السوري. ولم تتوانَ عن استخدام العلاقة القلقة والمرتبكة لدروز سوريا بالسلطة الجديدة، وتستغل الأحداث الدموية الأخيرة في ضواحي دمشق ذات الأغلبية الدرزية، لشن حرب جديدة على سوريا، وفتح جبهة أخرى تضاف إلى جبهة غزة، كما يشير الإعلام الإسرائيلي.
موقع detaly الإسرائيلي الناطق بالروسية نقل في 4 الجاري عن صحيفة هآرتس نصاً بعنوان “إسرائيل تسير نحو التصعيد في غزة وسوريا”. كاتب المقال، المعلق السياسي في الصحيفة، Amos Harel، استهل نصه بالإشارة إلى أن الإعلام ينشر كل بضعة أيام تقارير عن هجوم إسرائيلي مزعوم على المنشآت النووية الإيرانية. ومع تقدم المفاوضات بين إيران والولايات المتحدة، تزايدت التهديدات الإسرائيلية المبطنة بتنفيذ مخططاتها، حتى من دون الحصول على الضوء الأخضر من الرئيس دونالد ترامب.
يقول المحلل إنه، وعلى الرغم من بعض الاستعدادات العملية، فإن احتمال توجيه ضربة إسرائيلية إلى المواقع النووية الإيرانية، هو عند أدنى مستوى له. وفي هذا الوقت ينشغل ترامب بالمبادلات في إدارته، وتتوالى تصريحاته بالأمل في توقيع صفقة جديدة مع إيران، لا تختلف كثيراً عن السابقة. وينقل المعلق عن “واشنطن بوست” قولها السبت المنصرم، إن من بين أسباب إقالة ترامب لمستشاره للأمن القومي مايكل والتز، محادثاته السرية مع نتنياهو حول إمكانية توجيه ضربة لإيران.
يرى الكاتب أن نتنياهو لا يستطيع أن يتخلى علناً عن راية ضرب المشروع النووي الإيراني التي يحملها منذ 30 عاماً، حتى لو كان موقف ترامب الحالي يتناقض بشكل مباشر مع فكرة الهجوم الإسرائيلي. ولكن نظراً للوضع الهش داخل الائتلاف الحاكم والشعبية الشخصية المنخفضة للغاية، فمن الأهمية بمكان أن يحافظ نتنياهو على أجواء الحرب على أكبر عدد ممكن من الجبهات، سوريا إضافة إلى غزة.
يقول الكاتب إن نتنياهو نشر صورة من الأرشيف تجمعه مع شيخ عقل الطائفة الدرزية في إسرائيل موفق طريف، حين وعده بدعم دروز سوريا. ويشير إلى أنه بعد سقوط الأسد تعززت العلاقات بين الدروز الإسرائيليين والسوريين. وفي تأكيد لهذا التوجه بين دروز البلدين، يعدد الكاتب الخطوات التي قام بها الطرفان لتعزيز هذا التوجه. لكنه يشير إلى أن دروز إسرائيل منقسمون بين مؤيد للشيخ طريف، وبين من يرى أنه بالغ في تعزيز هذه العلاقات، ما أثار حفيظة النظام في دمشق.
يرى الكاتب أن الحكومة الإسرائيلية تعاني من صعوبات جديدة في رسم سياسة واضحة بشأن سوريا. ويقول إن نتنياهو عقد سلسلة اجتماعات في الأيام الأخيرة حول الوضع في سوريا وغزة. ويتصاعد قلق الأركان العامة الإسرائيلية حيال خطوات نتنياهو في الاتجاه السوري، والتي يمكن أن تجر إسرائيل إلى صراع جديد يعقد العلاقات مع تركيا أكثر مما هي معقدة.
يشير الكاتب إلى أن الاتجاه السوري تعمل عليه الآن عدة مؤسسات: الاستخبارات العسكرية، وقيادة المنطقة الشمالية في الجيش، والأركان العامة للإدارة المدنية، وكذلك الموساد والشاباك.
ينهي الكاتب نصه بالإشارة إلى خروج دروز إسرائيل إلى الشارع مطالبين الحكومة بمساعدة أشقائهم في سوريا، وتوقفت احتجاجاتهم بمجرد أن أصدر نتنياهو أوامره بالرد العسكري.
موقع ZAHAV الإسرائيلي الناطق بالروسية، وينقل إليها مدونات ونصوص مواقع الإعلام الإسرائيلي والعالمي، نشر في 3 الجاري نص مدونة الشاعر والإثنوغراف والناقد الأدبي الإسرائيلي المقيم في مستوطنة بالضفة الغربية Velvl Chernin. عنون المدون نصه بالقول “عن الحرب الجديدة في الشمال”، وأرفقه بآخر ثانوي مطول ” لقد وعد رئيس وزرائنا بحماية الطائفة الدرزية في سوريا، وإذا لم نحمهم فإن الإسلاميين سوف يعتقدون أن تهديداتنا لا قيمة لها. لذلك ليس لدينا الحق في التراجع”.
يشير المدون في مطلع نصه إلى أن حزب الله قد هُزم، ولم تعد الجبهة اللبنانية تمثل مشكلة خطيرة في الوقت الراهن، ولكن مع سوريا، “ربما يكون كل شيء قد بدأ للتو”. ويقول إن ساسة إسرائيل يعلنون بصوت مرتفع عن استعدادهم لحماية الأقلية الدرزية التي تعيش في سوريا، والتي، مثل غيرها من الأقليات العرقية والدينية، تتعرض لهجمات من قبل “الإسلاميين السنة الذين استولوا على دمشق ومعظم أنحاء البلاد”.
يشير المدون إلى أن وسائل الإعلام ذكرت أن الجيش الإسرائيلي أقام نقاط تفتيش على مداخل قرية حضر الدرزية الكبيرة التي تبعد كيلومترات عن الحدود، “ولن يسمح للإسلاميين بالدخول”. ويؤكد أن إسرائيل بإمكانها ضم حضر بحكم الأمر الواقع، “ولن يستطيع أحد أن يوقفنا”. ويشير إلى أن ما يحول دون إقامة نقاط تفتيش على حدود السويداء، كما على مداخل حضر، هو وجود درعا التي “يتعين السيطرة عليها”.
يرى المدون أنه إذا لم تقدم إسرائيل مساعدة حقيقية للدروز السوريين، فسوف يشعر الإسلاميون بالضعف الإسرائيلي، ويدخلون قواتهم إلى السويداء. وتقديم مساعدة فعلية، سوف يؤدي إلى نشوب حرب حقيقية. لقد وعد “رئيس وزرائنا” بتقديم المساعدة للطائفة الدرزية السورية، وإذا لم تحمها إسرائيل، فسوف يعتقد الإسلاميون أن “تهديداتنا” لا قيمة لها. “لذلك ليس لدينا الحق بالتراجع”.
يقول المدون إن البعض سيعترض، ويقول إن هذا ليس من “شأننا”، وليعمل السوريون من كافة الطوائف على تسوية الأمور فيما بينهم. وقد يعترض آخرون ويقولون إن نتنياهو مهتم بعدم انتهاء الحرب مما يضمن احتفاظه بالسلطة. ويقول إنه سيرد على هذه الاعتراضات بالقول إن دوافع نتنياهو ليست مهمة، كما ليس مهماً موقفه أو موقف أي إسرائيلي آخر من نتنياهو، “نحن جميعا يهود وإسرائيليون”. فإذا “تركنا” الآن الدروز السوريين تحت رحمة الإسلاميين، “فإننا جميعاً سنكون مذنبين، سواء أولئك الذين يؤيدون بيبي أو أولئك الذين يعارضونه”.
وفي هذا السياق، يقول المدون إنه لم يصوّت لنتنياهو في الانتخابات الماضية، ولن يصوت له في المقبلة. لكنه يقول إنه انتخبه في العام 1999 ضد إيهود باراك الذي فاز حينها، وسحب القوات الإسرائيلية من المنطقة الأمنية في جنوب لبنان، وخان “حلفاءنا”، جيش لبنان الجنوبي، الذي قاتل جنباً إلى جنب مع الجيش الإسرائيلي. ولم يكن عديد الجيش الجنوبي يتشكل من الموارنة فحسب، بل ومن بعض الدروز والشيعة اللبنانيين. ولقد تبع ذلك على الفور تقريباً الانتقام من هذه الخيانة في شكل الانتفاضة الثانية. “وأنا شخصياً، اعتبرته عقاباً من الله، وهو ما نستحقه جميعاً”.
المدن
—————————-
دروز سوريا… تاريخ لا يمكن تجاوزه/ خيرالله خيرالله
الاثنين 2025/05/05
لدروز سوريا ثقل كبير في ضوء الدور التاريخي الذي لعبوه في مجال قيام الكيان السوري الموحد من جهة والموقع الجغرافي لمحافظة السويداء في الجنوب السوري من جهة أخرى.
لدروز سوريا تاريخ لا يمكن تجاهله
ليس الموضوع موضوع وضع الأقلية الدرزية في سوريا ومستقبلها وما إذا كانت لقسم من دروز سوريا علاقة بإسرائيل أم لا. تجاوزت الأحداث التي تمرّ بها المنطقة كلّ هذه الاعتبارات، خصوصا مع التغيير الكبير الذي حدث في سوريا وفرار بشّار الأسد إلى موسكو أواخر العام 2024، وهو فرار يعني بين ما يعنيه، نهاية الحكم العلوي في سوريا الذي استمر 59 عاما.
الموضوع بكل بساطة مرتبط بالنظام الجديد القائم في سوريا وقدرته على أن يكون نظاما مقبولا من جميع السوريين وضمانة لكل الطوائف والمذاهب والمناطق… نظاما يمثل نقلة نوعية في سوريا ويسمح بحياة سياسية طبيعية فيها في ظلّ دولة القانون وليست دولة الأجهزة الأمنيّة التي تأسست مع قيام الوحدة المصرية – السوريّة.
لم يتخلّص دروز سوريا من نظام آل الأسد من أجل السقوط في ظلم وظلام وظلامية من نوع مختلف يقودها تيّار سنّي لا يؤمن بالتنوع السوري وباستعادة البلد لحيويته السياسية التي قادت في الماضي إلى تحقيق إنجازات كبيرة على كل صعيد، بما في ذلك الصعيد الاقتصادي… وإلى كوارث من نوع الوحدة مع مصر بين 1958 و1961. شهدت تلك الوحدة تأسيس النظام الأمني الذي تحكم بسوريا طوال عقود عدّة بعدما تحّكم بالبلد الضابط عبدالحميد السرّاج الذي كان موضع إعجاب لدى جمال عبدالناصر، الضابط الريفي الذي أخذ مصر وسوريا والأردن إلى هزيمة 1967.
ليس الوجود الدرزي في سوريا وجودا عاديا على الرغم من قلة عدد أبناء الطائفة. لدروز سوريا ثقل كبير في ضوء الدور التاريخي الذي لعبوه في مجال قيام الكيان السوري الموحد من جهة والموقع الجغرافي لمحافظة السويداء في الجنوب السوري من جهة أخرى. هذا الجنوب السوري على تماس مع إسرائيل والأردن وقد عملت إيران طوال سنوات من أجل السيطرة عليه لسببين على الأقل. السبب الأوّل الرغبة الإيرانيّة في أن تكون “الجمهوريّة الإسلاميّة” على خط تماس مع إسرائيل والتأكيد لها أنّها دولة شرق أوسطية أيضا ولاعب محوري في المنطقة. أمّا السبب الثاني فيعود إلى أن الجنوب نقطة انطلاق لتهريب أسلحة إلى الأردن ومخدرات، مثل الكبتاغون، إلى دول الخليج العربي عبر الأردن أيضا. إلى ما قبل فترة قصيرة، كان على دروز سوريا، مثلهم مثل أكثرية الشعب السوري مقاومة الاحتلال الإيراني للبلد، وهو احتلال عمل على تغيير طبيعة سوريا من كل النواحي، بما في ذلك الناحية الديموغرافية.
أكثر من ذلك، لعب دروز سوريا عبر التاريخ، خصوصا منذ استقلالها دورا كبيرا على الصعيد الوطني. إنّه تاريخ لا يمكن تجاهله أو تجاوزه. لم يكن ذلك من داخل حزب البعث الذي لا يمكن الفصل بينه وبين المحطات الأساسية التي مرت بها سوريا في مرحلة ما بعد الاستقلال في العام 1946 فحسب، بل من خلال المؤسسة العسكرية السورية أيضا. في أربعينات وخمسينات وستينات القرن الماضي، كان هناك وجود درزي متميّز ووازن في المؤسسة العسكرية السوريّة…
قلب قيام النظام العلوي في سوريا الوضع السوري ابتداء من انقلاب الثالث والعشرين من فبرابر – شباط 1966. من المفيد هنا الإشارة إلى أنّ هذا الانقلاب الذي قاده الضابطان العلويان صلاح جديد وحافظ الأسد، كان بالتفاهم والتعاون مع ضابط ثالث هو الدرزي سليم حاطوم. ما لبث صلاح جديد وحافظ الأسد أن تخلصا من سليم حاطوم الذي اضطر إلى اللجوء إلى الأردن حيث بقي حتّى العام 1967. وقتذاك، عاد الضابط الدرزي من منفاه الأردني بهدف المشاركة في حرب 1967، لكنّ حكما بالإعدام نُفّذ به. كانت نهاية سليم حاطوم، بالطريقة التي انتهى بها، نهاية للوجود الدرزي في المؤسسة العسكرية السورية. في مرحلة النظام العلوي، لم يعد لأي ضابط درزي يريد الحصول على ترقية سوى أخذ العلم بالتركيبة الجديدة للجيش السوري بقيادة ضباط علويين!
شارك دروز سوريا في الثورة الشعبية التي اندلعت من درعا في آذار – مارس 2011. رفض الدروز الانضمام إلى الجيش العلوي وقتل مواطنين سوريين آخرين، معظمهم من السنّة. تعرّض الدروز لكل أنواع الابتزاز بعدما اعتقد النظام أنّه استطاع السيطرة عليهم بكلّ الوسائل المتاحة بدءا بمنعهم من أخذ مواقع حساسة في الجيش وصولا إلى إفهامهم أنّ هناك “معلّما واحدا وحيدا” في سوريا هو حافظ الأسد الذي خلفه بشّار الأسد. لم يتردّد الأسد الأب في إصدار أمر باغتيال الزعيم الدرزي اللبناني كمال جنبلاط في آذار – مارس من العام 1977. أراد توجيه رسالة واضحة إلى دروز لبنان، إضافة إلى دروز سوريا. فحوى الرسالة أن الدروز، في سوريا ولبنان، يعملون عند النظام العلوي وليسوا شركاء في حكم سوريا. تبيّن لاحقا من خلال نقاط التفاهم التي توصل إليها حافظ الأسد مع إسرائيل في 1974، بواسطة هنري كيسينجر أن حافظ الأسد ضمن حماية إسرائيلية لنظامه قبل بدء عملية تدجين الدروز في سوريا ولبنان حيث ارتكب كمال جنبلاط كمية لا تحصى من الأخطاء لا مجال لتعدادها الآن.
من الواضح أنّ الحاجة في المرحلة الراهنة إلى تعاط مختلف مع الدروز السوريين وليس إلى تكرار تجربة حافظ وبشّار الأسد مع هؤلاء. هل يستطيع الرئيس أحمد الشرع القيام بمثل هذه النقلة النوعيّة؟ ذلك هو السؤال الكبير الذي يفرض نفسه بدل الدخول في متاهات لا فائدة منها، خصوصا أنّ إسرائيل مستعدة للاستفادة من أي خلل داخلي للظهور في مظهر المدافع عن الأقليات من خلال اختراقها للجنوب السوري.
الأكيد أنّ في استطاعة أحمد الشرع التوصّل إلى تفاهمات مع دروز سوريا. يتطلب ذلك إثبات أنّه تغيّر كلّيا وأن لديه القدرة على أن يكون سياسيا عصريا يعرف أن سوريا بلد مركّب وأن لكل طائفة خصوصيتها وأن لدروز سوريا تاريخا لا يمكن لأي حاكم في دمشق تجاهله… أو تجاوزه.
إعلامي لبناني
العرب
——————————-
النفوذ الإسرائيلي وبوابة الأقليات السورية/ صادق الطائي
4 – مايو – 2025
كانت إحدى أدوات إسرائيل الرئيسية في استراتيجيتها السياسية في الشرق الأوسط تتمثل في ما عرف بسياسة: «التحالف مع الأقليات»، إذ شهد الشرق الأوسط محاولات إسرائيلية عديدة لإقامة تحالفات مع الأقليات في الشرق الأوسط للعمل على تقويض الأنظمة العربية. وتمتد جذور هذه الاستراتيجية إلى ما قبل قيام دولة إسرائيل. إذ نظر الآباء المؤسسون لإسرائيل حولهم ورأوا أنفسهم جزيرة في بحر من الأعداء، فتواصلوا مع أقليات، أو دول أخرى في المنطقة لم تكن عربية، لكن لها أجنداتها وأطماعها في المنطقة.
في مقال بعنوان «شعب يسكن وحيدا، أهذا صحيح؟ إسرائيل وتحالف الأقليات»، وصف الباحث الإسرائيلي الدرزي يسري خيزران، كيف وضع رؤوفين شيلواه الأب المؤسس للموساد، أسس مشروعي «حلف المحيط» و»تحالف الأقليات» المترابطين. وحسب شيلواه، «كان العالم العربي محاصرا بحلقتين، أو دائرتين. الأولى خارجية وتشمل الدول غير العربية، والثانية داخلية وتضم أقليات دينية وعرقية تعيش في الدول العربية، لذا، فإن القاسم المشترك الذي جمع بين الصهيونية ولاحقا دولة إسرائيل، وكلا الدائرتين هو العداء للحركة القومية العربية الراديكالية، والتأكيد على استثمار هذا العداء في الصراع العربي الصهيوني». يرتكز التحالف بين إسرائيل وهاتين الدائرتين على مبدأ العداء المشترك تجاه الآخر المختلف، وتطبيق مبدأ «عدو عدوي صديقي».
ومن الأمثلة المبكرة على ذلك، العلاقة التي بدأت في ثلاثينيات القرن الماضي مع أكراد العراق، وابتداءً من الستينيات، دعمت إسرائيل الأكراد عسكريا ولوجستيا في تمردهم المسلح ضد الدولة العراقية، ما ألحق ضررا بالغا بالعراق، الذي كان أحد أخطر أعداء إسرائيل في ذلك الوقت. كما كان أهم تحالفات تل أبيب مع دوائر الأقليات هو تحالفها مع المسيحيين الموارنة في لبنان، الذي يعود تاريخه أيضا إلى حقبة الانتداب البريطاني والفرنسي في عشرينيات القرن الماضي، وقد بلغت عقود من الاتصالات ذروتها خلال الحرب الأهلية اللبنانية في ثمانينيات القرن الماضي، عندما قدمت إسرائيل دعما عسكريا علنيا للمشروع الماروني، المتمثل في إنشاء دولة مسيحية، تصورتها إسرائيل كمنطقة عازلة صديقة في الشمال. أما في الدائرة الخارجية، على أطراف العالم العربي، فقد كان النفوذ الإسرائيلي يزداد في افريقيا، وفي كل من تركيا وإيران اللتين تُعتبران اليوم من أشد أعداء إسرائيل. وكان أقرب حلفائها في الحرب ضد الأنظمة العربية، نظام الشاه محمد رضا بهلوي في إيران، الذي حظي بعلاقات اقتصادية وسياسية وعسكرية مميزة مثلت أقوى العلاقات بين إسرائيل وأي دولة في المنطقة.
تمثل الطائفة الدرزية أقلية دينية تعيش في سوريا ولبنان وإسرائيل، وهي تاريخيا طائفة دينية منسلخة عن الطائفة الإسماعيلية الشيعية، ويبلغ تعدادها اليوم حوالي مليون نسمة يعيش نصفها في سوريا ويشكلون 3% من السكان، بينما يعيش في إسرائيل قرابة 140 ألف نسمة من الدروز ويشكلون 1.6% من السكان، ويعيش بقية الدروز في لبنان والمهاجر المختلفة في العالم. وقد منحهم الوجود في الدولة العبرية علاقة فريدة ومتميزة داخل إسرائيل. فعلى عكس المواطنين الإسرائيليين المسلمين والمسيحيين، يُجند الدروز الإسرائيليون للخدمة العسكرية الإلزامية في جيش الدفاع الإسرائيلي إلى جانب اليهود الإسرائيليين. يقول ديفيد ريغوليه روز، الباحث المشارك في مركز أبحاث العلاقات الدولية الفرنسي IRIS: «يثق الإسرائيليون تقليديا بالدروز. الدروز مندمجون في الدولة العبرية، التي تعهد أعضاؤها المقيمون في إسرائيل بولائهم لها، لدرجة أن هناك ضباطا من الدروز الإسرائيليين شغلوا مناصب مرموقة، مثل غسان عليان أول قائد غير يهودي للواء غولاني، أو الجنرال عماد فارس، الذي كان قائدا للواء جفعاتي من عام 2001 إلى عام 2003». خلال الحرب الاهلية السورية التي اندلعت عام 2011، استُهدف الدروز مرارا وتكرارا من قبل الجماعات الجهادية. إذ هاجم مقاتلو جبهة النصرة قرية قلب اللوزة الشمالية في يونيو 2015، ما أسفر عن مقتل 20 قرويا على الأقل، كما اختُطف الكثير من الدروز، وأُطلق سراحهم مقابل فدية، أو قُتلوا، لذلك كان لدى الدروز اتفاق ضمني مع نظام الأسد، حيث عززوا استقلاليتهم في معاقلهم مع قبول حماية النظام من عدوان الجهاديين. يقول فابريس بالانش، المتخصص في الشؤون السورية والمحاضر في جامعة لوميير ليون: «في مدن مثل السويداء، قبل الدروز الذين تظاهروا سلميا ضد الأسد في عامي 2011 و2012 أسلحة النظام وشكلوا ميليشيات بعد أن تعرضوا لتهديدات الجهاديين المتطرفين. وعلى هذا النحو، بقي الدروز أقل ارتباطًا بالنظام القديم من العلويين، لكنهم احتفظوا بهامش استقلال، حين أداروا مدنهم خارج سيطرة النظام، أو سيطرة تنظيمات المعارضة مثل الجيش الحر وتنظيم الدولة (داعش) والقاعدة». لقد دمر سقوط نظام الأسد في سوريا نظاما معاديا وقف على أعتاب إسرائيل. وفتح سقوط النظام الباب أمام إمكانية تغيير الوضع الأمني بشكل دائم على الجبهة الشمالية بالنسبة لإسرائيل، لذلك ردت تل أبيب بتحركات مكثفة ضد النظام السوري الجديد، الذي يهيمن عليه الإسلاميون، عبر التواصل مع الأقليات في البلاد، وعندما تفكك نظام الأسد في ديسمبر 2024، سارعت إسرائيل إلى اتخاذ احتياطات أمنية بالاستيلاء على المنطقة العازلة في الأراضي السورية وتدمير كل المعدات العسكرية الثقيلة المتبقية في البلاد. في شهري مارس وأبريل الماضيين، سُمح لوفود كبيرة من رجال الدين الدروز السوريين بالسفر إلى إسرائيل لأداء فريضة زيارة دينية لضريح شيخ درزي في الجولان المحتلة، على الرغم من أن البلدين في حالة حرب رسمية. وفي الاسبوع الماضي صرحت مصادر رسمية في إسرائيل بإن الجيش الإسرائيلي نفذ ضربات تحذيرية في سوريا لحماية الدروز، إذ تم تنفيذ ضربات ضد «جماعة متطرفة»، حسب الوصف الإسرائيلي، قيل إنها هاجمت أفرادا من الطائفة الدرزية، وإن الرد الإسرائيلي جاء وفاءً بوعدها بالدفاع عن الأقلية الدرزية مع انتشار العنف الطائفي الدامي قرب دمشق.
وجاءت الخطوة التصعيدية الجديدة في الاول من أيار الجاري، إذ صرّح بيان عسكري إسرائيلي بقصف الطائرات الإسرائيلية المقاتلة لمنطقة مجاورة للقصر الرئاسي في العاصمة السورية دمشق، في الوقت الذي تعهد فيه رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو بحماية الأقلية الدرزية، بعد أيام من العنف الطائفي الدامي. وقال نتنياهو إن الغارة كانت «رسالة واضحة للنظام السوري مفادها أن إسرائيل لن تسمح بنشر قوات جنوب دمشق، أو بأي تهديد للدروز». كما صرح نتنياهو ووزير دفاعه كاتس بالقول: «لن تسمح إسرائيل بإلحاق الأذى بالدروز في سوريا، انطلاقا من التزامنا العميق تجاه إخواننا الدروز في إسرائيل، الذين تربطهم علاقات عائلية وتاريخية بإخوانهم الدروز في سوريا». جاء هذا البيان في الوقت الذي أغلق فيه عشرات الدروز الطرق في شمال إسرائيل، مطالبين القدس بالتدخل في دمشق وسط الاشتباكات الطائفية. من جانبها أصدرت وزارة الخارجية السورية بيانا رسميا رفضت فيه «جميع أشكال التدخل الأجنبي» في الشؤون الداخلية السورية، دون ذكر إسرائيل، وأعلن البيان التزام سوريا بحماية جميع الفئات السورية «بما في ذلك الطائفة الدرزية النبيلة». وتُعد هذه المرة الأولى التي تُعلن فيها إسرائيل عن ضربة عسكرية دعماً للدروز السوريين، منذ الإطاحة بنظام بشار الأسد، ما يعكس انعدام ثقتها العميق بالإسلاميين السنة الذين حلوا محله، ويشكل تحدياً إضافياً لجهود الرئيس المؤقت أحمد الشرع لبسط سيطرته على البلاد الممزقة.
ووفقاً للمرصد السوري لحقوق الإنسان، وهو منظمة رصد مقرها المملكة المتحدة، قُتل ما لا يقل عن 100 شخص هذا الأسبوع في أشرفية صحنايا، وهي بلدة تقع في الضواحي الجنوبية لدمشق، وفي ضاحية جرمانا ذات الأغلبية الدرزية، وفي محافظة السويداء الجنوبية ذات الأغلبية الدرزية. ويقول المرصد إن من بين القتلى 10 مدنيين دروز و21 مقاتلاً درزياً، بالإضافة إلى 35 مقاتلاً درزياً آخرين قُتلوا بالرصاص في «كمين» نصبته قوات الأمن أثناء توجههم من السويداء إلى دمشق يوم الأربعاء. وأضاف المرصد أن 30 عنصراً من جهاز الأمن العام والمقاتلين المتحالفين معه قُتلوا أيضاً.
منذ سقوط نظام الأسد، سعت إسرائيل إلى ملء الفراغ بإرسال قوات إلى ما يُفترض أنه منطقة منزوعة السلاح في مرتفعات الجولان، على الحدود الجنوبية الغربية لسوريا مع إسرائيل. كانت هذه المنطقة من الأرض قد احتلتها إسرائيل سابقًا في عامي 1967 و1981. وإذا كانت إسرائيل تسعى إلى مزيد من السيطرة الإقليمية في هذه المنطقة الاستراتيجية، فمن المرجح أن يُشكل الدروز قطعة مهمة على رقعة الشطرنج الجيوسياسية الإقليمية للإسرائيليين، نظرا لوجودهم المجتمعي عبر الحدود، وخاصة في سوريا.
كاتب عراقي
القدس العربي
————————–
لماذا لم يقصف الاحتلال قصر الشعب ويغتال الشرع؟/ إحسان الفقيه
4 – مايو – 2025
منذ أن تولت إدارة أحمد الشرع مقاليد الحكم في سوريا، لم يكف الاحتلال عن القصف الهمجي المتكرر على الأراضي السورية، على الرغم من أنه لا يوجد مبرر حقيقي للعدوان، فالقيادة السورية تصرح في عدة مناسبات بأنها لن تقوم بأية أعمال عدائية مع الكيان الإسرائيلي، بل تلتفت فحسب للبناء الداخلي.
الكيان الإسرائيلي لا يكف عن العربدة في الأراضي السورية، والقصف المتكرر، تارة بدعوى حماية حدوده من تقدم قوات سورية إلى الجنوب، وتارة تحت ستار التخلص من الأسلحة الموروثة عن النظام السابق، التي تمثل خطورة على دولة الاحتلال في ظل حكم المتطرفين ـ حسب التوصيف الإسرائيلي- وتارة بزعم حماية الطائفة الدرزية.
آخر تطورات العربدة الإسرائيلية هو، إقدام جيش الاحتلال على قصف محيط القصر الجمهوري، وهو قطعا أمر خطير، لأنه يتعلق بالاقتراب من اغتيال رأس النظام، وهذا بدوره يقودنا إلى سؤال مهم: إذا كانت صواريخ الاحتلال قد وصلت إلى محيط القصر الجمهوري، في ظل غياب الدفاعات الأرضية في الدولة الوليدة، فلماذا لم يقصف الاحتلال القصر نفسه ويغتال الرئيس أحمد الشرع؟ اختلف في الرأي مع من يقول إن ذلك مردّه إلى عدم وجود غطاء دولي يمكّن الاحتلال من ضرب مقر قيادة دولة معترف بها دوليا دون مبرر مقبول، بمعنى إذا كان الغرب قد أعطى المبرر للكيان الإسرائيلي في ضرب غزة بذريعة قيام حماس بهجوم السابع من أكتوبر، فكيف يتم تكييف وشرعنة العدوان على سوريا، وضرب مؤسساتها الصلبة، في الوقت الذي لم تطلق القوات السورية رصاصة على الجانب الإسرائيلي، وفقا لأصحاب هذا الرأي.
ومعارضتي لهذا القول مبنية على تداعيات طوفان الأقصى، والعدوان الوحشي الذي يستمر حتى اللحظة على قطاع غزة، فالاحتلال الذي ضرب بالقوانين والأعراف الدولية والإنسانية عرض الحائط، والاحتلال الذي نسف اتفاق وقف إطلاق النار ورفض الدخول إلى المرحلة الثانية عنوة وبلطجة، لن يتورع عن قصف القصر الجمهوري واغتيال الرئيس، تحت أي مبرر واهٍ، طالما أنه يلقى الدعم الأمريكي المفتوح. ولو تم قصف القصر واغتيال الشرع، ما الذي يمكن أن يحدث للكيان الإسرائيلي؟ هل ستملك الدول العربية أن تزيد على الاستنكار والشجب والإدانة؟ وهل ستردعه أمريكا بقرارات صارمة وهو، طفلها المدلل الذي هو مادة بقائها في سدة الحكم في الوقت نفسه، بسبب اللوبي الصهيوني والدولة العميقة؟ وهل ستفعل الأمم المتحدة ومجلس الأمن شيئا، وهي المنظمات الورقية التي لا تستطيع الخروج عن الوصاية الأمريكية؟ إذن لا شيء يردع الكيان الإسرائيلي، فلماذا لا يقصف القصر ويغتال الشرع؟ السبب الأقرب لعدم إقدام الاحتلال على ذلك، هو القانون الطبيعي للأحياء، الذي يجعل الأضعف ـ مهما كانت درجة ضعفه – يقاتل بشراسة إذا تم حصره في الزاوية من قبل الأقوى، مهما كانت درجة قوته، لأن الأمر صار متعلقا بفكرة البقاء. إذا أقدم الاحتلال على تدمير مؤسسات الدولة في مهدها، فهذا ينزع عنها صفة الدولة، ويضع السوريين أمام خيار واحد، وهو المواجهة حتى الموت، لأن اليأس من قيام دولتهم سوف يحرك الجماعات المسلحة التي قاتلت نظام بشار على مدى سنوات، والتي تم تذويبها للمصلحة العامة للدولة، وتتشكل صيغة جديدة للمقاومة تشمل الشعب بأكمله، لأنه يتعرض لتهديد وجودي من قبل كيان خارج عن الدولة، وليس حتى نظاما داخليا قمعيا. سوف يترتب على ذلك فوضى تسرب أعداد غفيرة من خارج سوريا تحت راية الجهاد المقدس، لتلتحق بمن في الداخل، وتحدث فوضى عارمة على حدود دولة الاحتلال، وهو ما يضع دول الطوق في موقف لا تُحسد عليه، أمام جماهير كفرت بكل شعارات الدبلوماسية والسلمية والمسار السياسي، فلا الاحتلال ولا الراعي الأمريكي لديهم الاستعداد لتحمل تبعات هذه الفوضى.
في حقبة النظام البائد، كان الاحتلال يقصف بعض أماكن تمركز قوات الحرس الثوري الإيراني، أو يضرب خطوط الإمداد الإيراني لحزب الله المارة عبر الأراضي السورية، لكنه كان يرى بقاء بشار الأسد يصب في صالحه، فلم يكن النظام في حالة عدائية مع الاحتلال، كما صرح نتنياهو، على الرغم من أن نظام بشار كان يمتلك ترسانة أسلحة ضخمة، بما فيها الأسلحة الكيميائية، لكن الأخير لا يمثل خطرا على الكيان الإسرائيلي.
لكن في الوقت الراهن، وفي ظل وجود قيادة ذات جذور إسلامية، فإن الاحتلال يسعى للتوتير المضبوط، فهو من ناحية لا يريد تدمير مؤسسات الدولة بما فيها مؤسسة الرئاسة، للأسباب سالفة الذكر. ولكنه من ناحية أخرى، يهدف إلى عدم وصول القيادة السورية إلى تسليح قوي يهدد أمنه، كما يسعى إلى وجود دولة مفككة إلى دويلات مستقلة، فهو يدعم المساعي الكردية لإقامة نظام فيدرالي، ويعمل على إقامة دولة للطائفة الدرزية في الجنوب، مستغلا الدروز في الداخل الإسرائيلي لفتح قنوات اتصال مباشرة مع الدروز في سوريا، واستمالة الطائفة من خلال ادعاءات حمايتها مما سماه النظام السوري الطائفي. يضاف إلى هذا السبب المانع من قصف القصر واغتيال الشرع، أن تركيا التي تدعم سوريا الجديدة انطلاقا من الحفاظ على الأمن القومي التركي، ومنع قيام كيان كردي على الحدود، لن تقف مكتوفة الأيدي، فهي وإن كانت تعمل على عدم التصعيد مع الكيان الإسرائيلي، وتُولي البناء الداخلي والنهضة الاقتصادية في سوريا الأولوية في هذا الملف، إلا أن الأمر حينئذ سيعتبر تهديدا مباشرا لأمنها، والاحتلال يدرك ذلك جيدا، لذلك هو لن يسعى حاليا لهدم الدولة السورية، بل يكتفي كما قلنا بسوريا ضعيفة مفككة. بلا شك، دولة أو دويلات ذات مؤسسات واهنة في سوريا، هي الخيار الأفضل للكيان الإسرائيلي. القيادة السورية تواجه تحديات ضخمة، ففي الوقت الذي تعمل على النهوض بالاقتصاد والبناء الداخلي ووحدة الأراضي السورية، والتصدي لمحاولات التقسيم والانفصال، تمتص الضربات الاستفزازية دون تصعيد، لأنها تعلم يقينا أنها ليست مؤهلة للدخول في حرب مع الكيان، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
كاتبة أردنية
القدس العربي
———————————-
رياض نعسان آغا يكشف بالأسماء: هؤلاء الدروز باعوا قرارهم إلى إسرائيل والفيدرالية الكردية فاشلة
—————————-
تحدّيات أمنية وسياسية أمام الشرع/ فاطمة ياسين
04 مايو 2025
تلتفّ حول سورية ظلال سوداء بعد خمسة أشهر من سقوط نظام الأسد، ونتابع اليوم مشهداً شديد الغموض، فما يحدُث يثير عواصف من الريبة والشك. كانت تركة الأسد ثقيلة بشكل هائل وتستلزم ورشات وتفاهمات لتباشر في حلحلة التعقيد الناجم عما خلفه بعد عقود طويلة، وعلى وجه الخصوص، خلال الأربعة عشر عاماً الأخيرة من سنوات حكمه.
ما زال عدم الوضوح يحيط بوضع قوات سوريا الديمقراطية (قسد) في الشمال السوري، وبعد توقيع اتفاق الشرع – مظلوم عبدي قبل شهر، ارتفع مستوى التفاؤل وغمرت البشرى الشوارع السورية على ضفتي الفرات، وتعزّزت تلك البشرى بعد الخطوات التي أنجزت في أحياء حلب. لكن الأمور فجأة تعقّدت، وصدر بيانٌ عن مجموعات كردية تتراجع فيه عن الاتفاق السابق، وترفع سقف مطالباتها بما يخالف الإعلان الدستوري الذي صدر قبل اتفاق الشرع – عبدي، وهذا ما عرقل الاتفاق عند خطوة سد تشرين، وجعل حالة من اللايقين تطفو مرّة أخرى على السطح، ووضعت السياسي في قصر الشعب في مأزق يستلزم إيجاد حلول جديدة.
على الجانب الآخر من سورية، وفي ضواحي العاصمة دمشق، تتحرّك مجموعات مسلحة تحاول إثارة الوضع، وهي ليست المرّة الأولى، وتضع الدولة السورية الوليدة أمام اختبار هام للغاية، وقياساً لمدى قدرتها على مواجهة وضع أمني غير مستقر، وأصبحت الدولة مطالبة بإعادة الهدوء إلى الشوارع وتنظيف المنطقة من السلاح وفرض الأمن، وإيقاف المجموعات التي تحمله وتستعمله لإثارة الفوضى. استغلّت المجموعات ما تعتقد أنه خاصرة رخوة للدولة، فتحرّكت في أطراف دمشق، لكن قوى الأمن استطاعت أن تسيطر على الشارع، وتعتقل من كان يحمل السلاح ضدّها، مثيراً فتنة وفوضى. وقد يمكننا حساب نقطة لصالح الدولة لسرعة تعاملها في حسم المسألة. ولكن لتكمل صورة الوضع الأمني المستقر، عليها بناء مظلّة أمنية واسعة الطيف تلفّ العاصمة وما حولها وتمتدّ إلى الجنوب، إلى حيث انتقلت الإضرابات في محافظة السويداء، بحيث تقطع الحكومة الطريقَ أمام إسرائيل التي تحاول النفاذ من فراغ أمني تحاول أن تُحدثه بعض المجموعات، تمهيداً لتداخل إسرائيلي. وقد حاولت إسرائيل بالفعل أن تتدخّل، فأرسلت مسيّراتٍ ضربت على مقربة من الحوادث المشتعلة، وفي دمشق وصلت إلى محيط قصر الرئيس نفسه، وهو تحدٍّ أمني آخر ذو مفاعيل خطيرة، يضع نفسه أمام الحكومة الجديدة.
ما زالت حكومة الشرع تتعاطى سياسياً مع مشكلة “قسد” في الشمال السوري، وتعطي أفضلية للمحادثات مهما طالت للوصول إلى حل من دون توريط يضع السوري أمام السوري في مواجهات عسكرية، فقد استُوعِبَت دروس الأربع عشرة سنة الماضية التي استنفدت من السوريين الكثير مادّياً ونفسياً. ومن المفيد التفكير مليّاً قبل القيام بخطوة إلى الأمام، بوجود كل هذا الشحن والتداخل الخارجي والتهديدات الكبيرة الماثلة على الأرض، وقد بدأ تنظيم الدولة الإسلامية يظهر ويختفي، وهو مستعد مرّة أخرى ليشغل أي فراغ يمكن أن يحدُث، والفراغات لا تأتي إلا بعد المعارك الكبيرة والسجالات العسكرية، وما زال الوقت متاحاً أمام السياسة لتأخذ دورها كاملاً، ولا بأس بمزيدٍ من الوقت لتجنّب المواجهات بالسلاح.
الاتفاق على ضم مزيدٍ من أبناء السويداء لجهاز الأمن العام خطوة جيدة، فمكوّنات سورية كلها ضرورية مهما كانت نسبتها داخل المجتمع، ومشاركتها بجدّية حاسمة. ومن أولويات الإنجاز السياسي الصحيح، ومن المهم التفريق بين مكوّن سوري أصيل (وكامل) ومجموعة عسكرية متمرّدة أو خارجة عن القانون. ولا بد من الاعتراف بالثقافة الخاصة للجميع من دون انتقاص أو تضييق، فلا يشعر مكوّنٌ بغضاضة أو بغُبن يجرّه إلى التمرّد أو طلب المساعدة من الخارج، وقد توجد جهات خارجية تنتظر “بشوق” أن توجّه إليها دعوة بالتدخل، وهناك تجربة مع وجود إيران ومليشياتها التي أذاقت السوريين الأمرّين، ولا يريدون بغالبيتهم تكرارها مع أي تدخّل خارجي جديد.
العربي الجديد
———————————-
جذور الانفجار في السويداء.. من التوتر المحلي إلى الاستثمار الإسرائيلي
2025.05.05
منذ اندلاع التوترات الأمنية في ريف دمشق بتاريخ 29 نيسان الماضي، وامتدادها إلى أطراف محافظة السويداء، نتيجة اشتباكات بين مجموعات مسلحة وصفتها وزارة الداخلية بـ”جماعات غير منضبطة” وفصائل محلية من تلك المناطق، أُرجعت الأسباب الظاهرة لتفجر الأحداث إلى تسجيل صوتي تضمن إساءة للنبي الكريم ﷺ. إلا أن جذور الأزمة تعود إلى ما هو أعمق من ذلك، إذ ترتبط ببدايات تحرير دمشق، وتحديداً بعد نحو ثلاثة أسابيع من دخول العاصمة، حين منعت فصائل من السويداء رتلاً تابعاً للأمن العام وقوات الشرطة من دخول المحافظة، بذريعة “غياب التنسيق المسبق”، ومنذ ذلك الحين، دخل الجانبان في سلسلة من الاتفاقيات التي سرعان ما انهارت واحدة تلو الأخرى، بفعل انعدام الثقة وتصاعد التوترات بين الطرفين.
وقد اعتبر الشيخ حكمت الهجري، أحد مشايخ العقل الثلاثة لدى طائفة الموحدين الدروز، في حينها، إرسال الرتل إلى السويداء محاولة لفرض “سياسة الأمر الواقع”، معبّراً عن استيائه من “المماطلة في تنفيذ التسويات” الخاصة بأبناء المحافظة ممن سبق أن خدموا في صفوف نظام بشار الأسد المخلوع، ومؤكداً في الوقت ذاته رفضه تسليم السلاح قبل تشكيل “جيش وطني حقيقي”.
من أين بدأت شرارة التوترات الأخيرة؟
ظهرت أولى بوادر التوتر يوم 28 نيسان داخل السكن الجامعي في محافظتي حمص ودمشق، إثر مشاجرات بين طلاب على خلفية المقطع المسيء. وبحلول فجر اليوم التالي، تحولت الأحداث إلى اشتباكات مسلحة في مدينة جرمانا بريف دمشق، أسفرت عن سقوط قتلى وجرحى.
تدخلت القوى الأمنية سريعاً، وتمكنت من بسط سيطرتها على المنطقة، أعقب ذلك اتفاق يقضي بتسليم السلاح الثقيل على الفور، مع تعزيز انتشار قوات الأمن العام داخل المدينة. كما تم تحديد مهلة زمنية لتسليم الأسلحة الفردية غير المرخصة، على أن يُحصر السلاح بيد مؤسسات الدولة، وتنتشر وحدات تابعة لوزارة الدفاع على أطراف جرمانا لتأمينها.
وبهدف حفظ الاستقرار، انتشرت قوات الأمن في محيط مدينتي صحنايا وأشرفية صحنايا، لتأمين المنطقة ومنع وقوع أي اعتداءات، لا سيما أنها تخضع لسيطرة فصائل من الطائفة الدرزية. غير أن مجموعات وصفتها وزارة الداخلية بأنها “خارجة عن القانون” تسللت من أشرفية صحنايا إلى الأراضي الزراعية المحيطة، ونفذت هجمات استهدفت التحركات الأمنية، مما أدى إلى سقوط ضحايا مدنيين ومقتل 16 عنصراً من قوات الأمن، وفقاً لبيان الوزارة. وقد بدأت القوات لاحقاً بفرض سيطرتها على المنطقة بالتنسيق مع وجهاء محليين.
تمدد الاشتباكات نحو السويداء
امتدت المواجهات من ريف دمشق إلى محافظة السويداء، إثر محاولة فصائل محلية إرسال تعزيزات إلى صحنايا لدعم الفصائل المتمركزة هناك، لكن مسلحين “مجهولي الانتماء” اعترضوا طريقهم على أوتوستراد دمشق، ما أسفر عن سقوط قتلى ودفع الفصائل إلى التراجع نحو السويداء.
في أعقاب ذلك، اندلعت اشتباكات جديدة في الريف الغربي للمحافظة، تركزت في قرى عرى، كناكر، الصورة الكبرى، رساس، القريا، والثعلة. تمكن الأمن العام من السيطرة على قرية الصورة الكبرى، قبل أن يُعاد تسليمها إلى وحدات شرطة محلية من أبناء المحافظة، بعد التوصل إلى تفاهمات مع مشايخ العقل.
التوصل إلى اتفاق مع تمسك برفض تسليم السلاح
على خلفية التصعيد، عقدت مشيخة عقل طائفة الموحدين الدروز اجتماعاً يوم الخميس الماضي، بمشاركة مرجعيات دينية ووجهاء وممثلين عن أبناء الطائفة، وجرى الاتفاق على تهدئة الأوضاع واحتواء التوتر، مع تأكيد الالتزام بالثوابت الوطنية ووحدة الأراضي السورية.
وجاء في بيان الاجتماع أن أبناء الطائفة يشكّلون جزءاً أصيلاً من الوطن السوري، مع رفض قاطع لأي دعوات تقسيم أو انفصال. وطالب البيان بتفعيل دور وزارة الداخلية والضابطة العدلية من أبناء المحافظة، كما دعا الدولة إلى تحمل مسؤولية تأمين طريق السويداء – دمشق وترسيخ الأمن في مختلف المناطق.
وفي مساء السبت، أصدرت مشيخة العقل بياناً ثانياً أكدت فيه التزامها بمخرجات اجتماع الخميس، ونفت صدور أي قرار يتعلق بتسليم السلاح، معتبرة أن السلاح “رمز للكرامة”، وأن المجتمعين أجمعوا على الاحتفاظ به. وجاء هذا التوضيح رداً على أنباء تم تداولها حول إخراج السلاح الثقيل من المحافظة، والإبقاء على السلاح المتوسط في مخازن تحت إشراف شيخي العقل حمود الحناوي ويوسف جربوع.
من جانبه، أعلن محافظ السويداء مصطفى البكور، يوم الأحد، بدء تنفيذ بنود الاتفاق على الفور، مؤكداً أن المحافظة ستعمل على معالجة النقص في المواد الأساسية الناجم عن إغلاق طريق دمشق – السويداء. وأضاف أن الأمن العام سيتولى مسؤولية تأمين الطريق وتسيير دوريات بشكل مستمر لطمأنة الأهالي.
وأشار البكور إلى التحاق عدد من أبناء السويداء بجهاز الأمن العام للمساهمة في تنظيم الأمن الداخلي وتفعيل المؤسسات، لافتاً إلى أن ما يُعرف بـ”المجلس العسكري” في السويداء رفض الاتفاق من دون طرح بدائل واقعية.
كما شدد على أن انتشار السلاح لا يعزز الاستقرار، وأنه “لا مبرر لوجود سلاح ثقيل أو متوسط بيد المدنيين، ويجب حصره بيد الدولة”.
تصعيد إسرائيلي خطير تحت ذريعة “حماية الدروز”
كثّف الاحتلال الإسرائيلي عملياته العسكرية في سوريا بذريعة “حماية الدروز”. فقد شهد الجنوب السوري منذ بداية التوترات تحليقاً مكثفاً للطيران الاستطلاعي، أعقبه تنفيذ “غارة تحذيرية” قرب دمشق، في 1 أيار الجاري، ضد مجموعة وصفها بـ”المتطرفة”. وفي فجر الجمعة، نفذت طائرات إسرائيلية غارة استهدفت موقعاً قرب القصر الرئاسي في العاصمة دمشق، فيما وصفته حكومة الاحتلال بأنه “رسالة واضحة” للإدارة السورية.
بالتزامن مع ذلك، أفادت صحيفة “جيروزاليم بوست” أن مقاتلات تركية حلّقت في الأجواء ذاتها، وأرسلت إشارات تحذيرية للطائرات الإسرائيلية عبر أنظمة الحرب الإلكترونية، ما حال دون حدوث مواجهة مباشرة. وفي اليوم نفسه، ارتقى أربعة من أبناء السويداء من جراء غارة إسرائيلية غربي المحافظة دون معرفة الدوافع والأسباب.
كما حطّت مروحية إسرائيلية في السويداء، مساء الجمعة، محملة بـ”مساعدات ومعدات”، قالت إسرائيل إنها مخصصة لدعم الدروز في مواجهة “تحديات إنسانية”. وتبعتها سلسلة غارات هي الأعنف منذ بداية العام، استهدفت مناطق بريف دمشق ودرعا وحماة.
وفي تطور لافت، أعلن جيش الاحتلال يوم الأحد إجلاء خمسة جرحى سوريين من أبناء الطائفة الدرزية للعلاج داخل إسرائيل، وأكد دخول اللواء غسان عليان، منسق حكومة الاحتلال في الضفة الغربية، إلى سوريا ولقاءه بزعماء دروز من دون الكشف عن تفاصيل إضافية.
إسرائيل تُوظف ملف الدروز لأهداف توسعية
بحسب صحيفتي “هآرتس” و”يديعوت أحرونوت”، تستخدم حكومة نتنياهو ملف الدروز لتبرير تصعيد عسكري يهدف إلى توسيع الحرب خارج غزة وبسط النفوذ في الجنوب السوري. واعتبرت “هآرتس” أن الغارات قرب القصر الرئاسي رسالة موجهة للإدارة السورية، لكنها في جوهرها تُعرّض حياة المحتجزين الإسرائيليين للخطر في غزة وتخدم أجندة توسعية.
كما انتقدت الصحيفة تصريحات وزير الدفاع يسرائيل كاتس، ووصفتها بأنها غطاء سياسي للتدخل في شؤون سوريا بذريعة “حماية الأقليات”. أما “يديعوت أحرونوت”، فرأت في تصريحات نتنياهو وكاتس محاولة لكسب الداخل الإسرائيلي، وكشفت عن انقسام داخل القيادة الإسرائيلية بشأن جدوى هذا النهج، وسط مخاوف من التورط في مواجهة مباشرة مع دمشق.
واتفقت الصحيفتان على أن القيادة الدرزية في سوريا ترفض الانفصال وتتمسك بالهوية الوطنية، في حين تؤكد دمشق أن إسرائيل تستخدم ملف الدروز لتبرير تدخلها، مشددة على أنها تحمي جميع مواطنيها من دون تمييز.
ما آخر تطورات الوضع في ريف السويداء؟
يسود هدوء حذر في الريف الغربي لمحافظة السويداء، يتخلله اشتباك متقطع وقصف متبادل بقذائف الهاون والأسلحة الثقيلة بين مجموعات مسلحة محلية.
وشهدت قريتا الدارة والثعلة، مساء الأحد، مواجهات عنيفة بين مجموعة مسلحة من عشائر البدو من جهة، والمجلس العسكري المتمركز في مطار الثعلة من جهة أخرى، ما أدى إلى تصاعد التوتر في المنطقة.
وأدت هذه التطورات إلى حركة نزوح واسعة من عدد من بلدات الريف الغربي باتجاه مناطق أكثر أماناً داخل محافظة السويداء، في حين فرّت عشرات العائلات من قرية الدارة باتجاه بلدات المليحة الشرقية والكرك وناحتة في ريف درعا الشرقي.
كما أسفرت الاشتباكات عن تدمير وحرق عدد من المنازل في قرى الريف الغربي، وسط مخاوف الأهالي من تجدد المواجهات وتوسع رقعتها في الساعات المقبلة.
جهود وساطة لاحتواء التصعيد
تزامناً مع التصعيد الميداني، انطلقت جهود وساطة مكثفة بقيادة شخصيات سياسية ودينية عربية. فقد زار وليد جنبلاط، الرئيس السابق للحزب التقدمي الاشتراكي في لبنان، العاصمة السورية، والتقى الرئيس أحمد الشرع، وأعلن عن اتصالات مع دول إقليمية شملت تركيا، السعودية، قطر، والأردن، بهدف التوصل إلى تهدئة ووقف لإطلاق النار.
من جهته، أعلن شيخ عقل طائفة الدروز في لبنان، سامي أبو المنى، عن إجراء اتصالات رفيعة المستوى مع قيادات محلية ودولية لاحتواء ما وصفها بـ”الأحداث الدامية”.
كما شدد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان على ضرورة أن تتضافر الجهود لبناء سوريا موحدة، محذّراً من أن الاستفزازات الإسرائيلية لن تؤدي إلا إلى مزيد من الدماء والمعاناة.
نداءات دينية للتهدئة ونبذ الفتنة
منذ اللحظات الأولى للتوتر، ظهر الشيخ سليمان الهوارين، إمام مسجد شهبا، في مقطع مصور ناشد فيه العقلاء من رجال الدين ومشايخ العقل وشيوخ العشائر اتخاذ موقف موحد لوقف تصرفات الخارجين عن القانون، محذراً من الانزلاق إلى العنف، ومؤكداً أن “السلم الأهلي خط أحمر”.
بدوره، حذر الشيخ حمود الحناوي من الفتنة الطائفية وخطر المندسين الذين يسعون لاستغلال الفوضى، مطالباً بمحاسبتهم.
كما رفض المتروبوليت أنطونيوس سعد، مطران بصرى حوران وجبل العرب والجولان للروم الأرثوذكس، “خطاب التحريض والعنصرية”.
أما مفتي الجمهورية الشيخ أسامة الرفاعي، فقد وجّه نداءً للسوريين دعا فيه إلى التكاتف ونبذ دعوات الثأر، قائلاً إن “كل دم سوري محرّم، وكل قطرة دم من أبناء هذا الوطن غالية ولا يجوز التفريط بها”.
—————————-
انفجارات الجغرافيا الطائفية في سوريا والحلول المطلوبة/ د. مثنى عبدالله
بالأمس كان الساحل واليوم أطراف دمشق في جرمانا وصحنايا، حيث الاشتباكات الطائفية، والدعوات المفاجئة بتدخل قوات دولية، حسب تصريحات الشيخ حكمت الهجري زعيم طائفة الدروز في سوريا، مُدعيا أن طائفته تتعرض لهجمة إبادة غير مُبررة، على حد تعبيره. بينما تُحاول السلطات الجديدة إرسال رسائل طمأنة للجميع، ودمج الجماعات المسلحة في الأجهزة الأمنية، والتحرك على كل الأصعدة للنهوض بالبلاد والعباد من الواقع المرير الذي خلفه نظام بشار الأسد. فما الذي يحدث في سوريا بعد التغيير؟ ومن المستفيد؟ وما تداعيات الأحداث على وحدة وسلامة البلاد؟
إن في كل مرحلة انتقالية هناك توترات، وفي كل مرحلة انتقالية هنالك صعوبات جمّة، ولا يمكن أن يُطلب من السلطات الجديدة مُعجزات، والواقع السوري يقول إن هناك عصابات من كل المكونات وليست محصورة في مكون واحد. وأيضا هنالك السلاح المنفلت في كل مكان، والأخطر من كل ذلك هي عصابات إلغاء الآخر، التي تتسلل في الظلام وتقوم عمليات قتل وانتهاك، ما بعد كل اتفاق يحصل بين السلطة وأطياف المجتمع. وفي كل مرة تُلام الحكومة لأنها لا تسيطر بالشكل الكافي على المجموعات المُسلحة، في حين، على مستوى القُدرة، الدولة السورية تبذل كل جهد منذ مؤتمر النقب، ثم مؤتمر الحوار الوطني فالإعلان الدستوري، وأخيرا إعلان الحكومة المؤقتة، رغم تحديات فلول النظام السابق في الساحل السوري، وما ارتكبته من مجازر بحق جهاز الأمن العام، وضربت السلم والوفاق الوطني. وقد تحقق مستوى جيد من الأمن والسلام، على الرغم من التحديات والعقوبات الدولية. ولكن هناك أيضا حاجة لأن تتعاون الفصائل المكوناتية في السويداء وصحنايا وجرمانا، مع قوات الأمن العام لضبط الأوضاع، وهو ما يمكن أن يُطلق عليه الأمن المُشترك ما بين الدولة والشعب. لكن في المقابل هناك فصائل مكوناتية أخرى، كانت متورطة في تجارة المخدرات والخطف والابتزاز، وقد وجدت نفسها في حالة فراغ بعد تغيير النظام، وأنها سوف تواجه الدولة، لذلك ذهبت إلى تدريع نفسها بحجة مطالب لمكوّن معين أو مذهب.
أما الدعوات التي انطلقت مطالبة بالحماية الدولية، فعلى الرغم من أنها لا تُعبّر عن رغبة كل الدروز، فهي دعوات مؤسفة ومُحبطة، لأنها تُدمّر النسيج الوطني، وتُعرقل أهداف الدولة السورية في الحفاظ على السلم والأمن الأهلي والنسيج المجتمعي. كما أنها تشكل فرصة ثمينة تستثمر فيها إسرائيل، لذلك وجدنا تصريحات وزيري الخارجية والدفاع الإسرائيليين يعزفان على النغمة نفسها، ففي حين دعا الأول إلى التدخل الدولي لحماية الدروز، قال الثاني إن إسرائيل سترد بقوة لحماية الأقلية الدرزية. ومهما كانت التبريرات التي قيل إنها تقف خلف هذه الدعوات فهو خطأ فادح ووهم كبير، فالتدخل الدولي لن يحصل والدليل أن الشعب السوري بقي يطلب الحماية الدولية لمدة 14 عاما ولم يحمه أحد. وإذا كان البعض يُغازل إسرائيل لغرض التدخل، فهي لن تأتي، لأنه منذ عام 2017 حصل اتفاق بين ترامب وبوتين ونتنياهو حول حزام أمني لإسرائيل وهذا كل الموضوع، ولن يعنيها هذا أو ذاك بعد ذلك الاتفاق. صحيح إنها بدأت بقصف قرب المواقع السيادية السورية والمواقع العسكرية، لكنها لن تدخل بقواتها لحماية أحد، ولن تُكرر تجربتها المُرة في لبنان، عندما دخلت بحجة حماية المسيحيين في ثمانينيات القرن المنصرم، وهنا يجب التذكير بأن التدخل الغربي في منطقتنا العربية، منذ أواخر القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر وإلى اليوم، لم يأتِ على هذه البلاد إلا بالويلات.
إن الوضع السوري الحالي يتطلب من جميع المواطنين في مختلف المحافظات ومن جميع الانتماءات، أن يعلموا بأنهم مثل بقية المواطنين في أي مكان من الجغرافيا السورية، لهم ما لهم من حقوق وعليهم ما عليهم من واجبات. وفي المقام الأول يجب على الجميع رفض أية محاصصة طائفية أو عرقية في الدولة السورية الجديدة. فكون هذا سُني وهذا دُرزي وذاك علوي وذاك إسماعيلي، لن يستتبع هذه الأوصاف أي امتياز سياسي، أو اجتماعي، أو اقتصادي، أو حكومي، إنما هو اعتزاز ثقافي مُعين لا أكثر، وفي الوقت نفسه، فإن هذه التوصيفات، أو الهويات الفرعية، لا تحرم حاملها من أي حق من حقوق المُواطنة، ولا تسمح بالتعامل معه على أنه مواطن من الدرجة الثانية، وهذا كله يجب أن يكون له تطبيق على أرض الواقع، وليس كلاما وحسب. كما أن هناك حاجة إلى إرادة قوية من الفصائل المكوناتية التي تعتقد إنها ستحمي نفسها بسلاحها، بأن لا حماية لأي مواطن سوري إلا بحماية الدولة السورية لهم، أما حمل أعلام مُختلفة دون العلم الوطني للدولة، وحمل أسلحة خارج إطار الدولة، والخروج عن مؤسسات الدولة، فإن هذه كلها ستؤدي الى تفتيت البلاد ووحدتها وسيادتها.
إن أسباب ما يحدث في سوريا يجب أن يُقال بصدق وبلا مُجامله وهو على مستويين. المستوى الأول هو حالة الاحتماء غير المُبرر للبعض بالطائفة، الذي شهدته سوريا منذ سقوط الأسد في 8 سبتمبر/ أيلول الماضي وحتى الآن. والسبب في ذلك هو الخلفية الأيديولوجية للسلطة الجديدة، وهذه الخلفية لا تُرضي البعض من الأقليات السورية، وترى فيها حالة من التشدد تُهددها، على الرغم من أن هذا الذي يسمونه تشددا لم يظهر إلى السطح بإجراءات تمس هذه الأقليات. أما المستوى الثاني فهو عدم قدرة الإدارة الجديدة على حصر السلاح بيد الدولة، لدوافع معينة ذاتية وموضوعية، بعضها نزولا عند رغبة بعض شيوخ الدين، وكذلك رغبة بعض الفصائل، لذلك لم تتخذ الدولة أية إجراءات، حين مُنعت أرتال الأمن العام لأكثر من مرة، من دخول بعض المناطق التي تقطنها غالبية طائفية، وفضلّت الدولة الدبلوماسية والسياسة والتفاهم مع الوجهاء، ورجال الدين في تلك المناطق، لذلك بقي السلاح منتشر وبكثافة بالغة لدى مجموعات مسلحة كثيرة والبعض منها ذو خلفية طائفية.
يقينا أن هناك من الأقليات من لديها فكرة، عن أن هناك إمكانية لتدخل دولي لإحباط السلطة القائمة وإزالتها ووضع سلطة تتوافق مع الأقليات، أو في أقل الاعتبارات، منحها استقلالية والعودة مرة أخرى إلى الدويلات، التي شهدتها سوريا خلال العشرينيات والثلاثينيات من القرن المنصرم، مع وجود الاحتلال الفرنسي. وهذه فكرة واهمة جدا بل ساذجة، لان تغيير الحدود القائمة حاليا إمكانية صعبة إن لم تكن مستحيلة. ويبدو أن هذا هو السبب الذي يجعل البعض يرفض شرعية السلطة السورية الحالية، ولا يصغي إلى المنطق العقلاني والواقعي الذي تتبناه منذ وصولها للحكم وحتى اليوم.
كاتب عراقي
القدس العربي
——————————
تفكيك سورية ولبنان/ غازي العريضي
06 مايو 2025
لم يخطئ كمال جنبلاط عندما حذّر (مع بدايات الحرب الأهلية عام 1975) من مشروع إسرائيل الهادف إلى تقسيم لبنان، نقطةَ انطلاق للمشروع الأكبر؛ تفتيت المنطقة إلى دويلاتٍ مذهبيةٍ وطائفية. تلمّس هذا الأمر قبل أشهُرٍ من اندلاع الحرب، إذ كانت مؤشّراتٌ تأتي من مصادر دولية وعربية تنبّه إلى حدوث تطوّرات أمنية خطيرة في لبنان. ومشروع التقسيم يعرفه كمال جنبلاط منذ عقود في سياق قراءته أطماع إسرائيل، ومن خلال ما عُرض عليه (وعلى غيره سابقاً) من اقتراحات لإقامة دولة درزية، وكان رفضه قاطعاً. في الداخل، حاول مع الخصوم تجنّب الحرب والسقوط في هذا المشروع وفشل. كان كلامه مع القيادة السورية واضحاً في الاتجاه ذاته، فكانت أطماعٌ سوريةٌ في المقابل، وأوهامٌ بإمكانية المحافظة على الوحدة الوطنية من خلال الإمساك بلبنان كلّه. سقط لبنان، وسقطت سورية في أتون الحروب المفتوحة، وإسرائيل هي هي، ومشروعها هو هو؛ تفتيت المنطقة.
نشرت صحيفة جيروزاليم بوست قبل أيام تقريراً عنوانه “تفكيك لبنان وسورية”، جاء فيه: “الوضع الحالي في السيادة المتصدّعة في لبنان وسورية يعطي لمحةً عمّا يمكن اعتباره حلّاً رسمياً، وهو تفكيك لبنان وسورية إلى دول أصغر ذات سيادة”، “إن منطقة الشرق الأوسط تعاني باستمرار من الصراعات والتشابكات الجيوسياسية، وصلت إلى ذروة غير مسبوقة من الفوضى في أعقاب الهجمات الشنيعة التي وقعت في 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023”. وتساءلت: “هل ستحقّق الحكومتان الجديدتان في كلا البلدين التحوّل الذي تتوقّعه المنطقة والعالم؟ يمكن القول، إن هذه الهياكل الحكومية الجديدة غير مستدامة، لأنها لا تعالج المشكلة الأساسية المتمثّلة في الجمود الطائفي المتجذّر في البلدين”. كيف يمكن حلّ المشكلة؟… يجيب التقرير: “يتطلّب مستقبل مستدام للشرق الأوسط إعادة تطوير هيكلية جريئة تقدم على تفكيك الدول القومية وظهور كيانات سياسية أصغر تعكس الهُويَّات المذهبية والطائفية المتنوّعة في المنطقة. هذا المفهوم المقترح للبنان يجد القدر نفسه من الأهمية إن لم يكن أكبر في حالة سورية”. “إن نظام الدولة الحديثة في الشرق الأوسط هو نتاج عمليات تاريخية تأثّرت بشكل كبير بالتدخّلات والمؤامرات الإمبريالية. في عام 1916 تجاهلت سايكس بيكو، التي تُعدّ رمزاً للتقسيم الاستعماري، التركيبة العرقية والطائفية للمنطقة، ممّا أجبر الجماعات المتباينة على التعايش المضطرب. والتوسيع الكبير لحدود لبنان الذي قام به الموارنة في مؤتمر باريس في أكتوبر 1919، وإعلان استقلال لبنان مع بقاء النفوذ الفرنسي في نوفمبر/ تشرين الثاني 1941، ثمّ الاستقلال التام عام 1943، لم تسهم إلا في ترسيخ البنية والنظام الجيوسياسي المصطنع. كان لبنان مزيجاً من المسيحيين الموارنة والمسلمين السُّنة والشيعة والدروز وطوائف أخرى تفكّكت تحالفاتها الهشّة خلال الحرب الأهلية وحتى اليوم. سورية كما لبنان، مزيج من السُّنة والشيعة والعلويين والأكراد والمسيحيين والدروز، ثبت استحالة تعايشهم في إطار وطني واحد”. “دعوة الشرع إلى سورية موحّدة تستند إلى ركائز واهية. الحالة الراهنة من السيادة المكسورة والتقسيم الفعلي في كلّ شيء ما عدا الاسم، تقدّم لمحة عمّا يمكن إضفاء الطابع الرسمي عليه؛ تقسيم لبنان بين كيانات ودويلات، وتقسيم سورية بين اتحاد من الدول والمدن على أساس الحقائق العرقية والطائفية، فضلاً عن الهُويَّات المجتمعية”. “هذا الأمر سيسمح بإنشاء كيانات أكثر تجانساً واستقراراً. ستكون له تداعيات على الصراع الدائم بين اسرائيل والدول المجاورة. وجود اتحاد من المناطق المستقلّة في لبنان، إلى جانب منطقة عازلة منزوعة السلاح في جنوبه، من شأنه أن يحيّد الهيمنة العسكرية لحزب الله، ويقلّص النفوذ الإيراني”.
تقول الحقيقة إن هذا المشروع قديم لدى إسرائيل، ولم يظهر مع حزب الله وإيران الخميني. وقد قدّمنا دماءً في مواجهة إسقاطه، ونجحنا في بدايات الحرب (1975)، ثمّ لاحقاً في حرب الجبل، لكنّ إسرائيل لم تغيّر أهدافها وسياساتها. وهل ثمّة أوضح من الكلام الذي أورده التقرير، والممارسات الإسرائيلية في الأرض في لبنان من جنوبه إلى شماله، وفي سورية لإقامة مناطق عازلة تحت سيطرتها، من دون أن ننسى أن ثمّة دولاً عربية تقسّمت فعلياً حتى الآن: السودان وليبيا والعراق، بطريقة أو بأخرى، والباقي في الطريق، خصوصاً عندما يُشار إلى سقوط صيغة سايكس بيكو؟ وهذا ما أثرناه أكثر من مرّة في قراءتنا المشهد العربي عندما أكّدنا أن “ثلاث دول غير عربية تقرّر مصير المنطقة العربية: تركيا وإيران وإسرائيل، والعرب غير موجودين”. وعندما يشار إلى فشل تجربة “لبنان الكبير”، التي خرج بعض المغالين بمزايداتهم بأهميتها في لبنان، يعبّرون أخيراً وعلناً أن “البطريرك الحويك ارتكب خطيئة في هذا الأمر”، وهؤلاء معروفون بقناعاتهم التقسيمية. وعندما يتحدّث التقرير عن تقسيم الكيان بين كيانات تعكس الهُويَّات المذهبية والطائفية، ألا يشعر العرب والمسلمون أنهم معنيون بهذا الأمر في كلّ دولة فيها تنوّع إسلامي مسيحي وكردي، أو تنوّع مذهبي سنّي شيعي مثلاً، ممّا يعني أن الدور سيأتي إليهم؟
إن قصر نظر بعضهم، وهروب بعضهم الآخر من مواجهة الحقائق والوقائع بالارتماء في أحضان إسرائيل أو أميركا، وتمزيق “الحضن العربي” أكثر، وهو الذي يتغنّى به كثيرون متجاوزين الوقائع والحقائق، يشكّل خطراً في حدّ ذاته على المنطقة كلّها من دون استثناء. ومن هنا، تبدأ المعالجة إذا كان ثمّة قناعة بذلك.
لن يتوقف المشروع الإسرائيلي عند حدود دولة ما. وجرف فلسطين يستمرّ لتهجير أهلها
العربي الجديد
————————
سوريا وتحديات نجاح المسار الانتقالي/ د. ناصيف حتي
6 مايو 2025 م
أشهرٌ خمسةٌ مرَّت على السقوط المدوي للنظام في سوريا. السقوط الذي شكَّل مفاجأة كبيرة للعديد من المراقبين، أياً كان موقف بعضهم من النظام، معارضةً، أو دعماً، أو قبولاً، وذلك بالسُّرعة والشكل اللذين اتخذهما ذلك السقوط. القيادة التي قامت بإسقاط النظام بالدعم الواسع الذي كان متوفراً لها من الخارج، وبالأخص من تركيا، منعت عبر هذا الدعم من أن يتحول «اليوم التالي» في سوريا إلى حالة شبيهة بما صار يعرف بـ«النموذج الليبي». انطلق المسار التغييري، وما زال الاتفاق مفقوداً، ولو في ملامحه العامة بين مختلف المكونات والقوى السورية الفاعلة والمؤثرة والمعنية، حول طبيعة ونموذج التغيير المطلوب، وبالتالي طبيعة النظام الذي سيستقر لاحقاً في سوريا. الخوف من السقوط في الفوضى تعززه الأحداث التي حصلت في الساحل السوري، وبالأخص أعمال القتل التي طالت مدنيين تحت عناوين الثأر، والانتقام، وضمن منطق التعميم، والتي كانت في حقيقة الأمر عدواناً على أبناء فئة محددة. ونشهد انتقال حرب الهويات التي تقوم بها هذه القوى، أو تلك التي تنتمي إلى ذات المدرسة المتشددة، والأصولية والإلغائية ضد الآخر المختلف في المذهب الديني، أو غيره، إلى الجنوب السوري. كل ذلك يؤجج المخاوف، ويزيد من حدة التوتر بين المكونات المجتمعية، أو بعض أبنائها، تجاه الآخر الشريك في الوطن.
ورغم قيام السلطة الانتقالية بإدانة هذه الممارسات، وبذل كافة الجهود للعمل على احتوائها، ووقفها، والعمل على اتخاذ الإجراءات الضرورية لمنع تكرارها، فإن مخاطر الانزلاق نحو صدامات هوياتية، أياً كان شكلها، تبقى قائمة. المسبب الأساسي لذلك كما أشرنا يكمن في عقائد إلغائية تتغذى من مشاعر الانتصار، والانتقام، ومتأصلة في أفعال من يعتنقها. المطلوب، وهو تحدٍ ليس بالسهل، أن تكون المعالجة الشاملة لهذا الفكر، في جذوره، ومنطلقاته، بشكل حازم، وواضح، وكلي، على جدول أولويات العملية الانتقالية في سوريا. سوريا التي يشكل التنوع في «الهويات ما دون الوطنية» في المجتمع السوري مصدرَ غنى، وتعزيزاً للهوية الوطنية الجامعة. وتاريخ سوريا في مراحل عديدة منذ ما قبل الاستقلال يقدم خير دليل على ما ذكر.
الجغرافيا السياسية لسوريا في المشرق العربي بشكل خاص، وفي الإقليم الشرق أوسطي بشكل عام، جعلتها جاذبة لـ«لعبة الأمم»، تعاوناً، وصراعاً، وتقاسماً، حول مد النفوذ في دمشق. الأمر الذي يزداد قوة في فترات التحول، أو الفترات الانتقالية، كما هو الوضع حالياً. كذلك الأمر، فإن إحياء الصراعات باسم الهويات ما دون الوطنية، وبعض العقائد «العابرة للوطنية»، خطاباً وممارسة، كما أشرنا سابقاً، يعزز المخاوف من «الآخر» الشريك في الوطن، ويساهم في فتح الأبواب أمام كافة أشكال التدخل الخارجي المباشر، وغير المباشر. التضامن والدعم العربي بشكل خاص، والدولي المطلوب، هما أمران أكثر من ضروري لينجح المسار الانتقالي في سوريا. وللتذكير بشأن الوضع الإنساني الصعب والمأساوي، وبالتالي القابل للاستغلال من أطراف لها أجنداتها الخاصة، فقد أشارت المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين إلى أن 90 في المائة من السكان يعيشون تحت خط الفقر، وأن نحو 12.9 مليون مواطن يعانون من فقدان الأمن الغذائي. لذلك يبقى المطلوب الإسراع، وبالطبع ليس التسرع، في العمل على إنجاح المسار الانتقالي نحو بناء النظام الجديد، والذي هو مسؤولية سورية أساساً، ولو أن من الأكثر من ضروري وجود مواكبة عربية لدعم هذا المسار.
إن استقرار سوريا مصلحة عربية أساسية، ومصلحة لكل من يريد الاستقرار في المنطقة. نظام جديد يقوم على التشاركية السياسية لجميع المكونات الهوياتية السورية. النظام الذي يعزز مفهوم المساواة في المواطنة تحت سقف الدولة الواحدة، بحيث يصبح التنوع مصدرَ غنى للوحدة الوطنية الفعلية، لا مصدر انقسام لفتح أبواب مشرعة لكافة أشكال التدخل الخارجي، أياً كانت عناوين هذا التدخل.
الشرق الأوسط
————————–
زيارة إلى باتريك سيل/ جمال الكشكي
6 مايو 2025 م
لا يمكن فهم الأحداث الجارية الآن في سوريا، من دون العودة إلى الكاتب البريطاني باتريك سيل، الذي تخصص في سوريا، وألّف عنها عدة كتب مهمة، منها: «الأسد: الصراع على الشرق الأوسط»، و«الصراع على سوريا»، وأخيراً «الرئيس»، بالاشتراك مع فيرجينيا سيل.
في كتابه الأول، يتناول سيل كيف صعد الأسد الأب إلى السلطة، وكيف بنى دولة أمنية محكمة، وكيف تعامل مع الصراعات الإقليمية والدولية، وكيف لعب دوراً في الحرب الأهلية اللبنانية الطويلة، وأخيراً، الصراع مع إسرائيل، وكيف نظر إلى التحالفات الإقليمية مع سوريا.
أما في كتابه الثاني «الصراع على سوريا»، فقد عاد سيل إلى ما قبل الأسد بعقود، وغاص في الحالة السورية، وتناول المؤلف رحلة سوريا ما بعد الاستقلال، بدءاً من عام 1945، إلى عام 1958، حيث كانت سوريا مسرحاً، وساحة صراع بين القوى الكبرى «الولايات المتحدة الأميركية – بريطانيا»، إضافة إلى الدول العربية الكبرى.
وفي الكتاب ذاته، يحلل سيل لماذا كانت الانقلابات المتكررة، ولماذا كانت حالة عدم الاستقرار السياسي، ولماذا كانت التدخلات الغربية في الشأن السوري لا تتوقف، ولماذا قامت الوحدة المصرية – السورية، وكيف انتهت.
يمكننا الآن أن نفهم، لماذا جرى ما جرى في عام 2011، واستمر إلى عام 2024، عندما تغير النظام السوري بعد 55 عاماً من حكم الأسدين، ولعل ما شرحه سيل يكشف لنا الجوانب الأخرى في كتابه الثالث «الرئيس»، الذي قدم فيه سرداً مكثفاً لبعض الجوانب الشخصية للأسد الأب، وربطه بالأحداث الداخلية والإقليمية والدولية، وربطه أيضاً بالمواقف الاجتماعية والسياسية الداخلية.
فسوريا كما يقول سيل: دولة محورية، تؤثر وتتأثر بمحيطها العربي وغير العربي، فمن يسيطر عليها يؤثر في لبنان وفلسطين والأردن والعراق وتركيا، وعادة ما تتداخل فيها الألعاب السياسية الدولية.
عدت إلى كتابات باتريك سيل حول سوريا، لنفهم تأثير المعادلات القديمة في المشهد الجديد، فسوريا مجتمع متعدد الأعراق والإثنيات، والملل والنحل، ففيها السنة وهم أغلبية، والدروز، والعلويون، والمسيحيون، والكرد، وفيها الإسماعيليون.
كان يجب أن يكون هذا مصدر غنى، لكن القوى الدولية والإقليمية، رأت فيه أنه يمكن أن يكون مصدر شقاق، وأضيفت لهم الحالة الطارئة على الشرق الأوسط، منذ ثمانين عاماً، والتي تمثلت في النشأة الإسرائيلية التي لا تزال تشكل الهاجس الأكبر للأمن الإقليمي العربي، خصوصاً مع سوريا، التي تواجهت معها منذ عام 1948، ضمن دول عربية أخرى، وحتى الآن.
كان لافتاً، أن تستغل إسرائيل حالة السيولة، التي أعقبت الثامن من ديسمبر (كانون الأول) عام 2024، وتهاجم القوات السورية، التي لم تكن مستعدة، ولا تزال، للاشتباك معها، ولم تفكر في الهجوم على إسرائيل.
ببساطة كانت مشغولة في محاولة لمّ الشمل السوري، بعد نهاية حكم الأسد الابن، لكن الهجوم الإسرائيلي لم ينتظر، وجاء مباغتاً، ليدمر إمكانات القوات المسلحة السورية، أو ما تبقى منها، في رسالة سيطرة على سوريا الجديدة.
وهذا يذكرنا بما قاله باتريك سيل، عن أن من يسيطر على سوريا، يستطيع أن يؤثر في جزء واسع من الإقليم العربي، وإسرائيل هنا تريد أن توسع من خريطتها، وقد يذكرنا هذا بما قاله الرئيس الأميركي دونالد ترمب مرة، بأن مساحة إسرائيل صغيرة جداً، ولا بد من توسيعها.
إسرائيل التقطت الخيط من تصريح ترمب، وتوسعت في جنوب سوريا، وكسرت معاهدة فض الاشتباك الموقعة عام 1974، ودخلت على خط ما يحصل في محافظة السويداء، ووصلت إلى ريف دمشق. كما أنها لم تتوقف عن القصف، كما جرى في حماة، وحمص، واللاذقية، والساحل السوري عموماً، والمركز العلمي في دمشق. وأخيراً، استغلت الاشتباكات التي وقعت الأسبوع الماضي، بين الدروز في صحنايا وقوات الأمن، وقصفت محيط القصر الرئاسي بدمشق في كسر لكل أعراف الدبلوماسية العالمية، والقواعد المستقرة.
وقد عبرت جامعة الدول العربية عن الرفض التام للسلوك الإسرائيلي ببيان واضح، بأن على إسرائيل أن تعود إلى ما بعد اتفاق «فض الاشتباك»، وتنسحب من الأراضي السورية. وأشار البيان أيضاً إلى ضرورة عدم تدخل القوى الإقليمية والدولية في الأراضي السورية، والتأثير على مستقبل الدول العربية، العضو المؤسس للجامعة.
سوريا خريطة عربية تخص الإقليم العربي من دون سواه، أهمية موقعها – كما قال باتريك سيل – يجعل استقلالها واستقرارها رقماً مهماً في منظومة الأمن القوى العربي؛ بل يقطع الطريق أمام مطامح ومطامع إقليمية ودولية.
جربنا خلال الخمسة وخمسين عاماً الماضية، حالة الاستقطاب في سوريا، التي جعلت الإقليم العربي عرضة للخطر.
والشاهد أن الاعتداءات الإسرائيلية على سوريا، ليست موجهة إلى دمشق فقط، بل إلى قوى أخرى، ترى إسرائيل أن وجودها الفاعل على الأراضي السورية، يشكل خطراً على مستقبل مشروعها، هذه الذريعة استخدمتها إسرائيل في السابق تجاه قوى أخرى، كان لديها نفوذ في سوريا، لكن في الحالتين، فإن الواجب أن تكون سوريا للسوريين وحدهم، بجميع طوائفهم وثقافاتهم، وليست ساحة لتصفية الحسابات، أو مضمار سباق على النفوذ، وتكوين الإمبراطوريات.
أخيراً، أقول إن أي محاولة لتفتيت سوريا إلى كيانات صغيرة، سيكون وباء على الخرائط العربية والإقليمية، والحقيقة أن الزيارة إلى باتريك سيل في هذا التوقيت، مهمة وواجبة، لفهم ما الذي يجرى في عاصمة الأمويين.
الشرق الأوسط
————————
ثلج الحكمة ونار الفتنة… عبد القادر وابن رزيك/ مشاري الذايدي
5 مايو 2025 م
حصلت الفِتن المُحرقة في بلاد الشام (سوريا ولبنان وفلسطين والأردن) مِراراً في التاريخ، بسبب التهييج الديني أو السياسي أو العِراك على المنافع، أو بسبب هذا كلّه.
في العصور القريبة، وعلى ذكر الفتنة الحالية -مايو (أيار) 2025 بين الدروز وسلطات دمشق ومن يلوذ بها- فإن هناك فتنة عُظمى حصلت عام 1860م بدايتها كانت بين دروز جبل لبنان والمسيحيين الموارنة في الجبل، وقعت فيها معارك ومقاتل فاجعة، وانتقلت نار الفتنة إلى دمشق وما حولها؛ غوطتها وريفها وقراها، وقلب دمشق نفسها.
حين وصلت الفتنة إلى دمشق، حاول الأمير عبد القادر الجزائري، وهو رجل وجيه وزعيم سنّي كبير، له حاشيته وجنوده ووزنه، أن يطفئ نار الفتنة ويحمي ضعفاء المسيحيين من النساء والشيوخ والأطفال من الدروز ونصرائهم. ونجح، ومعه بعض أعيان دمشق، في إنقاذ آلاف الأرواح، وحفظ له التاريخ هذه المأثرة.
لدينا نماذج نيّرة أخرى من التسامي والتعايش قبل ذلك، كما يذكر المؤرخ النسّابة الحمداني، الملقب بالمهمندار، وكان يعمل في بلاط المماليك لضيافة الوفود السلطانية، وهذا جعله خبيراً في الناس والقبائل.
ينقل عنه كثيرٌ من المصادر معلومات نادرة عن الأسر والقبائل في القرنين السابع والثامن. يقول هذا الحمداني (توفي عام 700هـ): «وبالصعيد جماعة من بني أمية بناحية (تندة) وما حولها من الأشمونيين بالديار المصرية من بني أبان بن عثمان، رضى الله عنه، وبني خالد بن يزيد بن معاوية، وبنى مسلمة بن عبد الملك، وبني حبيب بن الوليد بن عبد الملك، ومن بني مروان بن الحكم، وهم المروانية، ولهم قرابات بالأندلس ومنهم أشتات في بلاد المغرب».
قال الحمداني: «ومرّت الدولة الفاطمية وهم بأماكنهم من الديار المصرية؛ لم يُرّوع لهم سِرب، ولم يُكدّر لهم شِرب».
ينقل القلقشندي عن ابن فضل الله العمري، صاحب «مسالك الأبصار»، وهو من سلالة العُمريين، كما يذكر، قوله عن وجود الأُسر العُمرية في مصر: «وفد منهم طائفة على الفائز الفاطمي (خليفة فاطمي) بالديار المصرية في وزارة الصالح (طلائع بن رزيك) في طائفة من قومهم من بني عدي، ومُقدّمهم (خلف بن نصر) وهو شمس الدولة أبو علي، ومنهم طائفة من بني كنانة بن خزيمة، وإنهم وجدوا من ابن رزيك ما أربى على الأمل، وحلّوا محلّ التكرمة عنده على مباينة الرأي ومُخالفة المعتقد».
الغرض من إيراد هذه الأمثلة الوجيزة، هو تأكيد هذه الومضات المنيرة في التعايش والتسامح وعفوية القبول، مع علمنا بوجود عشرات الأمثلة السيئة الأخرى عبر التاريخ، من التحريض والفِتن الطائفية والدينية والقبلية (القيسية اليمانية)، تحصل بتدبير من السياسي أو رغماً عنه.
لكن لا نريد هذه في حياتنا اليوم، بل نريد مثال عبد القادر الجزائري، وسماحة الوزير الفاطمي طلائع بن رزيك.
الشرق الأوسط
————————————————-
صحيفة فرنسية: الدروز في سوريا بين نتنياهو والشرع
تحت عنوان: “مصير الدروز في سوريا بين نتنياهو والشرع”، قالت صحيفة لوبينيون الفرنسية، إن المجتمع الذي يخشى على بقائه منقسم بشأن الطريق الواجب اتباعها: التفاوض مع الدولة المركزية والانضمام إلى القوات الموالية للرئيس الجديد أحمد الشرع، أم الحفاظ على الاستقلالية مع الاستفادة من الحماية الإسرائيلية؟
بعد الأكراد والعلويين، يشعر الدروز بالخطر في سوريا الجديدة، توضّح الصحيفة الفرنسية، مُشيرة إلى الاشتباكات الأسبوع الماضي في ضواحي دمشق بين جماعات مسلحة موالية للنظام مع ميليشيات درزية. والسبب هو مزاعم بأن أحد رجال الدين من الطائفة الدرزية أدلى بتصريحات مسيئة للنبي محمد. وقد نفى كيوان مسؤوليته عن هذه التصريحات. وكانت الحصيلة مقتل حوالي مئة شخص.
وتشير صحيفة “لوبينيون” إلى تصريح الجغرافي فابريس بالانش، لمجلة “ليكسبريس”، أن هذا الحادث “يعكس المناخ المشحون السائد في سوريا، والذي يتميز بالهيمنة الإسلامية والتبشير الديني والرغبة في إقامة جمهورية إسلامية لصالح السنة”.
وقد أعادت هذه الاشتباكات إلى أذهان الدروز ذكريات أليمة، عندما ذبح مقاتلو أحمد الشرع، وكان حينها زعيم جبهة النصرة، أكثر من 20 درزياً، في 10 يونيو/ حزيران عام 2015 بمحافظة إدلب، كما تقول الصحيفة الفرنسية.
وقصفت إسرائيل الأسبوع الماضي محيط القصر الرئاسي في دمشق كرسالة تحذيرية، حيث تتقمص دور الحامي للطائفة الدرزية لأسباب استراتيجية. ففي إسرائيل، أقام الدروز ”تحالف دم” مع اليهود ودعموا الدولة منذ إنشائها عام 1948. ويقول الخبير في الجيوسياسة إيمانويل ماجد: “إسرائيل فتحت أبواب السياسة والإدارة والجيش أمام هذه الطائفة العربية. وهم يشكلون عنصراً مهماً في منظومة الاستخبارات”.
وقد هدد بنيامين نتنياهو الشرع بالقتل في حال استهدف هذه الطائفة. وأكد موفق طريف، الزعيم الروحي للدروز في إسرائيل، دعم الدولة العبرية لهم.
يتابع إيمانويل ماجد: “تشجع إسرائيل الدروز على التصرف كأقلية تطالب باستقلالها من أجل تبرير استمرار وجود جنودها في سوريا”. وأضاف أن مشروع تل أبيب يتمثل في إظهار نفسها كحامية للأقليات في بلد منقسم، من خلال إذكاء نيران هذه الانقسامات لإضعاف السلطة المركزية. وتاريخياً، كان للدروز علاقة معقدة مع نظام الأسد، تراوحت بين فترات من المطالبات، وفترات من الولاء، وانتهى بهم المطاف بقبول دولة غير ديمقراطية مقابل الحصول على قدر من الحكم الذاتي بعد انتفاضة 2011، تُشير صحيفة “لوبينيون”.
ولا يرغب الدروز في نزع سلاحهم، ولا في الانضمام إلى الجيش الجديد دون ضمانات جدية. لكن هذا الشرط قد يبدو مبالغاً فيه في ظل مرحلة انتقالية غير واضحة. فبعد الثورة، بدأ قادة الدروز مفاوضات لدمج مقاتليهم في قوات الأمن. غير أن المجزرة الأخيرة بحق العلويين أضعفت الحماس لهذه الخطوة.
ويقول حسني عبيدي، مدير مركز الدراسات والأبحاث حول العالم العربي والمتوسطي للصحيفة الفرنسية: “الدروز منقسمون بشأن الموقف الواجب اتخاذه. إنهم لا يريدون نزع سلاحهم، ولا يريدون الانضمام إلى الجيش الجديد من دون ضمانات قوية. لكن هذا المطلب قد يبدو مبالغاً فيه في ظل انتقال سياسي غير مستقر”.
وتُجسّد هذه الشكوك في تصريحات الشيخ حكمت الهجري، البالغ من العمر 69 عاماً، وهو من أبرز الشخصيات الدينية في الطائفة. فبعد الثورة، استقبل مبعوثي السلطة الجديدة، ودعا السوريين إلى الوحدة من أجل بناء دولة شاملة تحتضن جميع مكوناتها. لكنه اليوم يتهم قوات الشرع بشن حملة إبادة جماعية، ووصفها بأنها “مجزرة جماعية منهجية، واضحة، مرئية، وموثقة”.
يقول حسني عبيدي أيضا: “موقع الدروز، البالغ عددهم بين 500 ألف إلى 600 ألف شخص، قد يحدد تحالفاتهم. فمن هم بالقرب من الحدود مع إسرائيل قد يسعون إلى حماية الدولة العبرية، بينما الآخرون في الجنوب، على الحدود مع الأردن، قد يتفاوضون مع الدولة المركزية ضمن إطار المصالحة الوطنية وإعادة الإعمار”.
وتحمل المسألة الدرزية أبعاداً إقليمية. فإلى جانب إسرائيل، حيث يشكلون 1.5% من السكان، يتواجدون أيضاً في لبنان (4%). وقد توجه وليد جنبلاط، الزعيم السياسي لدروز لبنان، إلى دمشق للدفاع عن قضيّة طائفته أمام أحمد الشرع، ويوصي باندماجهم في قوات الأمن الجديدة.
حتى الآن، لم تنضم سوى أقلية صغيرة من الدروز المقيمين في العاصمة إلى النظام الجديد، ويقومون بدوريات في ضواحي دمشق، توضح صحيفة “لوبينيون”.
ويضيف وليد جنبلاط في حديث لصحيفة ”لوموند” الفرنسية: “هناك خطر من الفوضى إذا لم يتم التوصل إلى تسوية سياسية تشمل الفصائل الدرزية ضمن قوات الأمن الجديدة. ومن الصعب أن نجد ممثلاً واحداً للدروز في سوريا. لكن المشكلة الأساسية تكمن في منع إسرائيل من التدخل في سوريا بحجة حمايتهم. فهذه الضربات، وما يرافقها من دعاية، لا يمكن إلا أن تزيد من العداء تجاه الدروز”.
—————————-
الرئيس الروحي للطائفة الدرزية في لبنان: نظام الحكم في سوريا يجب أن يكون تشاركيًا
5 مايو 2025
أكد الرئيس الروحي لطائفة الموحدين الدروز في لبنان، سامي أبي المنى، أن السلاح في سوريا يجب أن يكون محصورًا بيد الدولة، مشددًا على ضرورة أن يكون الحكم تشاركيًا يُمثل جميع السوريين، وذلك في سلسلة تصريحات نقلتها وسائل إعلام لبنانية.
وبحسب ما نقلت الوكالة الوطنية للإعلام اللبنانية، فإن أبي المنى شدد على أن “الدروز في لبنان يقفون إلى جانب أهلهم في سوريا، لكنهم يحذرون من اللجوء إلى الهلاك والانتحار”.
وأضاف أن ذلك “لا يعني تركهم لمصيرهم دون مساعدتهم على إيجاد حلٍ يحفظ وجودهم ويصون كرامتهم”، كما أعاد التأكيد على رفض الدروز “الحماية من العدو الإسرائيلي، التي يعمل لها وربما يطلبها البعض، وهذا ما لا نقبله”.
وأوضح أبي المنى في تصريحاته أن “الدعوة لتدخل دولي في سوريا غير مرحّب بها، وأن الحل يبقى بين السوريين بالحوار والتسليم للدولة التي وحدها من يملك السلاح، كما في لبنان”.
وشدد أبي المنى في حديثه على أن “تكون السلطة في سوريا تشاركية وتضم كل مكونات المجتمع السوري”، وأضاف أن هذه “مسؤولية تقع على الرئيس (السوري أحمد) الشرع، بالانفتاح على الجميع، فيشعر المواطنون بأنهم مشاركون وفاعلون في السلطة”.
وأعرب أبي المنى في تصريحاته، التي جاءت على هامش الانتخابات البلدية في لبنان، عن آماله بـ”انتقال العملية الديمقراطية التي يشهدها لبنان إلى سوريا لطمأنة الناس بقيام دولة العدالة والمساواة، خاصة بعد ما شهده هذا الأسبوع من أعمال تحريضية ومواجهات”، مؤكدًا أن “الدولة السورية مسؤولة عن طمأنة الناس، كما أن القيادات في المناطق مسؤولة كذلك”.
وأشار أبي المنى إلى أن “هناك بعض التجاوزات حصلت في سوريا، ولكن لا بد من إعطاء الفرصة للدولة كي تبني مؤسساتها الأمنية والعسكرية”، لافتًا إلى أنه سيلتقي اليوم الإثنين بعدد من سفراء الدول الغربية في لبنان “للضغط وطمأنة الدروز في سوريا”، داعيًا العائلات المُهجّرة إلى العودة إلى منازلها.
واختتم أبي المنى حديثه بالإشارة إلى أنه “لدى إسرائيل أطماعها التوسعيّة، وهذا ما يتعارض مع حقوق الشعوب، التي يجب أن تتحقق مع الأمن والسلام للجميع”، مضيفًا “أما أهلنا في سوريا فثابتون في قراهم ومناطقهم ولن يتخلّوا عنها، والتواصل مع الإدارة السورية ومع الدول العربية والصديقة المؤثرة في سوريا متواصل على أعلى المستويات”.
وجاءت تصريحات أبي المنى على خلفية التوترات الأمنية المتصاعدة التي تشهدها المنطقة الجنوبية، في أعقاب أعمال العنف التي شهدها ريف دمشق مؤخرًا، وما أسفر عنها من هجمات طائفية استهدفت مناطق جرمانا وصحنايا وأشرفية صحنايا، شنّها مسلحون ينتمون إلى فصائل متشددة، مما أدى إلى سقوط عشرات القتلى والجرحى.
————————————–
لوفيغارو: العنف الطائفي يهدد مستقبل سوريا
5 مايو 2025
سلطت صحيفة “لوفيغارو” الفرنسية، في تقرير لها، الضوء على تصاعد موجة العنف الطائفي في سوريا، مشيرةً إلى الاشتباكات الدامية التي شهدتها بلدة أشرفية صحنايا جنوبي دمشق نهاية الشهر الماضي، مشيرةً إلى أنه يمكن مشاهدة واجهات المحال المثقوبة نتيجة إطلاق الرصاص، فيما تظهر بعض السيارات المحترقة جراء الاشتباكات التي شهدتها البلدة.
ونقلت “لوفيغارو” عن الطالب الجامعي فادي أن “الميليشيات كانت تطلق النار عشوائيًا، بالإضافة إلى قذائف الهاون” عند اقتحامهم البلدة، مشيرًا إلى أنهم تلقوا “أمرًا بالبقاء في البيوت”، لافتًا إلى أنه لجأ مع والدته وشقيقه إلى إحدى المناطق المجاورة، وأردف قائلًا: “اقتربت الاشتباكات من منزلنا، وظننت أنني سأموت. كانت البلدة تحت الحصار”.
وكانت الاشتباكات قد توقفت بين الفصائل الدرزية والمجموعات المسلحة المتشددة بعد توقيع اتفاق بين السلطات السورية وشيوخ الطائفة الدرزية، بالإضافة إلى وجهاء محليين، نصّ على تسليم سلاح الدروز إلى السلطات السورية. ووفقًا لـ”لوفيغارو”، فإن أحداث العنف كانت قد امتدت إلى مدينة جرمانا في ضواحي دمشق، وكذلك إلى السويداء جنوب البلاد.
وتشير الصحيفة الفرنسية إلى أن التقارير الحقوقية وثقت مقتل 102 شخصًا في الاشتباكات الأخيرة، لافتةً إلى هذه المواجهات تأتي في ظل التوترات الطائفية التي تشهدها البلاد منذ الإطاحة بالرئيس المخلوع بشار الأسد في الثامن من كانون الأول/ديسمبر الماضي.
وأوضحت “لوفيغارو” أن الانتهاكات التي ترتكبها الفصائل الإسلامية المتطرفة، منذ سقوط الأسد، أصبحت شبه يومية، مضيفةً أنها تستهدف بشكل أساسي الطائفة العلوية، والتي بلغت ذروتها مطلع آذار/مارس، حينما شن عناصر من النظام السابق هجومًا منسقًا على القوات الحكومية، مما أدى إلى وقوع مجازر بحق الطائفة العلوية راح ضحيته أكثر من 1300 شخص.
يصف فادي مقاطع الفيديو التي تصل إلى هاتفه الذكي، والتي يظهر في أحدها رجل ملثم يزعم أنه في أشرفية صحنايا يُجبر شخصًا يتعرض للضرب الشديد على “العواء من كل قلبه”، بأنه يعيد التذكير بالمجازر التي ارتكبت بحق العلويين في الساحل، وأضاف أن كل هذه الجرائم تتسم بطابع واحد، لخصه بـ”الإذلال والوصم الجماعي”.
وبحسب “لوفيغارو”، فقد تكررت هذه الحوادث وأعمال العنف خلال الأسابيع الماضية، مشيرةً إلى أن عمليات القتل والاعتداء على المدنيين وحالات الخطف لا تزال مستمرة في مدينة حمص، وسط صمت من السلطات الرسمية.
وأضافت أن منظمة “مجموعة السلام المدني” وثقت 72 حالة اختطاف للنساء العلويات منذ كانون الثاني/يناير في منطقتي حمص والساحل، في الوقت الذي قالت تقارير حقوقية إن أكثر من ربع جرائم القتل التي تم توثيقها في نيسان/ أبريل وقعت في حمص.
وقالت ناديا للصحيفة الفرنسية: “إنهم يفعلون هنا ما فعلوه على الساحل خلال المجازر، لكن هذه المرة يفعلونه بالتدريج، كي لا يلفتوا أنظار المجتمع الدولي”.
كما أكد كريم في حديثه لـ”لوفيغارو” أنه “بلا شك، نحن أمام جريمة طائفية”، وأضاف “صحيح أن بشار الأسد كان علويًا، لكن الكثير من قادة النظام السابق كانوا سنة”، مشيرًا إلى أن “العلويين سلموا سلاحهم بعد سقوط النظام لأنهم وعدوا بالسلام والاندماج في الدولة الجديدة. لكنهم الآن يُطعنون من الخلف”.
واختتمت الصحيفة الفرنسية تقريرها معيدةً التذكير بأن السلطات السورية الجديدة كانت قد تعهدت بملاحقة مرتكبي الجرائم، فضلًا عن إعلان الرئاسة السورية تشكيل لجنة لتقصي الحقائق. وفي هذا السياق نقلت عن مصادر غربية قولها إن الحكومة السوري “تخشى من فقدان السيطرة على بعض المناطق، وتواجه ضغطًا من قاعدتها الراديكالية، لذلك تلتزم بمنهج أمني خاص”.
———————–
المسيّرات الإسرائيلية في سوريا: مهام تتجاوز الرصد والاستطلاع
4 مايو 2025
اعتاد السوريون على الطائرات المسيرة تحلق في أجوائهم لساعات طويلة وعلى مدار أيام. واقترن سماع صوتها بتنفيذ غارات جوية إسرائيلية على الأراضي السورية، مثل الذي حدث قبيل تنفيذ الغارات في منطقة صحنايا وبالقرب من قصر الشعب في دمشق، حيث سبقها تحليق مكثف للمسيرات.
يشير المفهوم العام للطائرات المسيرة، خاصة التي تحركها إسرائيل فوق الأراضي السورية، إلى عمليات الاستطلاع والمسح الطبوغرافي، إضافة إلى الرصد المرئي للأهداف المطلوب مراقبتها، وإرسال ما يتم تصويره إلى مراكز القيادة الإسرائيلية، والتي تتخذ بدورها القرارات العسكرية سواء بعملية الرصد، أو تنفيذ هجمات صاروخية على الهدف، إلا أن الخبراء العسكريين والتقنيين يشيرون إلى أهداف لإسرائيل، أشمل وأوسع، تقف وراء استخدامها للمسيرات.
بنوك أهداف محتملة
يشير الخبير والأكاديمي في الهندسة الالكترونية، سامر العلي، إلى أن الطائرات الاستطلاعية الإسرائيلية تختلف استخداماتها باختلاف أنواعها، سواء كانت طائرات من نوع “إيتان” والتي تحمل رؤوسًا صاروخية متفجرة تصل إلى 1000 كغ، أو طائرات “نحشون” ذات الأغراض التجسسية، وفي كلتا الحالتين تنفذ هذه الطائرات مهمات مزدوجة في الرصد والتدمير تبعًا لأهداف استطلعتها سابقًا.
وفي هذا السياق، يؤكد العلي أن ثمة عمليات تصوير مسحية تنفذها الطائرات المسيرة أفضل بكثير مما تؤمنه الرادارات الإلكترونية كالمراصد والأقمار الصناعية، إذ تكون قادرة على الحصول على صور بمختلف الأبعاد للأهداف التي تريد ضربها، وتؤمن ضربات بدقة عالية دون أي خطأ، وعليه تعمل المسيرات على تحضير وتجهيز “بنك أهداف” للقيادة الإسرائيلية لتنفيذ الاستهداف وقتما تشاء، عدا عن عوامل الضغط النفسي الناتج عن التحليق المكثف.
وفي هذا السياق يرى رئيس مركز الشرق الأوسط للدراسات والعلاقات العامة، العميد هشام جابر، أن الاستطلاع ليس هدفًا للطيران الإسرائيلي، كونه يمكن الحصول عليه عبر الأقمار الصناعية، إلا أن الهدف الحقيقي هو الحصول على مسح مصور لنقاط استراتيجية خاصة بالقيادة السورية، تكون هدفًا لها، وعليه من المتوقع أن تزداد وتيرة الغارات الإسرائيلية على سوريا في الأيام المقبلة، والتي تلي عمليات المسح الاستطلاعي المكثف.
التعرف على الوجه
يشير الخبراء التقنيون إلى أن الساعات الطويلة التي يحلق فيها الطيران المسير فوق الأراضي السوري، مستغلًا غياب الدفاعات الجوية، تؤدي أهدافًا تقنية إسرائيلية متعلقة بالمسح البصري للوجوه، وذلك في إطار تجهيز بنك أهداف بشرية معدة للاستهداف عندما يغدو ذلك مطلوبًا.
يؤكد الأكاديمي في الهندسة الالكترونية، سامر العلي، أن المسيرات الإسرائيلية جرى استخدامها مسبقًا في مراقبة الشخصيات، تتبع حركتهم، ووضع تصور واضح للوجه، ليكون هدفًا جاهزًا لحظة الاغتيال، حتى ولو كان ضمن المئات من الحشود البشرية، خاصة وأن هذه الطائرات تتحول بحد ذاتها إلى صواريخ موجهة في حال أعطيت لها الأوامر العسكرية بالاستهداف.
فيما يرى العميد هشام جابر أن هذه الطائرات تراقب أيضًا التحركات البشرية المتعلقة بالأماكن الحساسة، والسيادية، والوزارات، كأماكن الحراسات والمناوبة بين الحرس، وعليه يشكل الطيران الاستطلاعي في سماء سوريا خطرًا كبيرًا على الشخصيات الرسمية والعسكرية في سوريا.
اتصالات مراقبة
يعتقد العلي أن مراقبة الاتصالات في سوريا هي إحدى أبرز المهام التي توفرها الطائرات المسيرة لمركز القيادة الإسرائيلي، سواء كانت الاتصالات سلكية أو لا سلكية، إذ يؤمن تحلقيها المستمر الحصول على كافة التسجيلات الصوتية من مراكز القيادة السورية، ويمكنها استيعاب كميات ضخمة من المعلومات ومعالجتها بشكل فوري، وبالتالي من المؤكد أن جميع أنواع الاتصالات في سوريا مراقبة بشكل كامل من الجانب الإسرائيلي.
وفي هذا الإطار يضيف العميد جابر بأن هذه الطائرات قادرة على التعرف على البصمة الصوتية للعديد من الشخصيات، ومراقبة مكالماتهم، واجتماعاتهم، وهو ما جرى في العديد من بؤر التوتر التي استخدمت فيها اسرائيل طائراتها المسيرة.
حلول محتملة
على الرغم من تدمير العدو الإسرائيلي كافة المقدرات العسكرية السورية بما في ذلك الدفاعات الجوية، ومنظومة الحرب الإلكترونية، إلا أن ذلك لا يمنع من الاستعانة بالخبرات من الدول الجارة، وهو ما أشار إليه سامر العلي في حديثه، مشيرًا إلى وجود بعض الحلول مثل استخدام البنادق الليزرية، كبديل رئيسي للصواريخ التي تستهدف المسيرات خاصة عندما تكون مرئية، إضافةً إلى استخدام الطائرات المسيرة ذات التقنية العالية لمجابهة الطيران المسير للعدو، عدا عن ترميم منظومة الحرب الإلكترونية للجيش السوري عبر الاستعانة بالخبرات العسكرية من الدول الجارة.
—————————-
هآرتس: إسرائيل توظف قضية دروز سوريا لتوسيع الحرب على حساب الرهائن
2025.05.04
حذّرت صحيفة هآرتس الإسرائيلية من مغبّة التصعيد العسكري في سوريا، معتبرة أن الحكومة الإسرائيلية بقيادة بنيامين نتنياهو تستخدم قضية دروز سوريا كغطاء لتوسيع نطاق الحرب خارج قطاع غزة، في خطوة وصفتها بأنها “مغامرة عسكرية غير ضرورية” تهدد أرواح الرهائن الإسرائيليين المحتجزين لدى حركة حماس.
وفي افتتاحيتها الصادرة يوم أمس الجمعة (3 أيار 2025)، كشفت الصحيفة
أن الغارات الجوية الإسرائيلية التي استهدفت مواقع قرب القصر الرئاسي في دمشق، وأخرى في أنحاء متفرقة من سوريا، تأتي في سياق سياسة متعمدة لتوجيه “رسائل للنظام السوري الجديد”، لكنها تمثل في الواقع توجهاً لتوسيع دائرة الحرب الإقليمية على حساب أولويات أكثر إلحاحاً، كتحرير الرهائن.
ووجّه وزير الدفاع الإسرائيلي، يسرائيل كاتس، تهديداً مباشراً للرئيس السوري أحمد الشرع، محذّراً من المساس بجماعة الدروز، ومؤكداً أن إسرائيل “سترد بشدة” إذا استمرت الهجمات ضدهم. إلا أن الصحيفة رأت في هذا الخطاب محاولة لفرض نفوذ سياسي وأمني على جنوب سوريا، تحت ذريعة “حماية الأقليات”.
“الدروز جزء لا يتجزأ من النسيج السوري”
وأشارت هآرتس إلى أن القيادة الدرزية في سوريا ترفض الانفصال عن البلاد، وتؤكد أن الدروز يشكّلون جزءاً لا يتجزأ من النسيج الوطني السوري، كما أن النظام الجديد في دمشق بات يحظى بشرعية دولية وعربية، وأبرم تفاهمات مع الدروز لضمان حقوقهم.
وردّ حسين الشرع، والد الرئيس السوري، على التصريحات الإسرائيلية باتهام تل أبيب بأنها تستغل القضية الدرزية لـ “إسكات سوريا”، محذراً من أن “الرد سيأتي من مكان لا تتوقعونه”.
وختمت الصحيفة العبرية افتتاحيتها بدعوة الحكومة الإسرائيلية إلى التوقف عن فتح جبهات جديدة في سوريا ولبنان، والتركيز بدلاً من ذلك على إبرام صفقة لإعادة الرهائن الإسرائيليين من غزة، مشيرة إلى أن استمرار الحرب دون أفق واضح يلحق أضراراً كبيرة بالمدنيين في القطاع ويقوّض فرص إنهاء الأزمة.
—————————-
جيش الاحتلال يعلن عن دخول أحد قادته إلى سوريا ولقائه بزعماء دروز
2025.05.04
أعلن جيش الاحتلال الإسرائيلي عن دخول أحد قادته إلى سوريا ولقائه بزعماء دروز، وذلك في وقت تتصاعد فيه الحملات الإسرائيلية ضد الإدارة السورية بذريعة حماية الدروز.
وذكرت إذاعة جيش الاحتلال أن منسق الحكومة الإسرائيلية في الضفة الغربية، اللواء غسان عليان، دخل سوريا مؤخراً والتقى زعماء دروزاً، من دون أن تحدد المناطق التي دخلها أو الشخصيات التي التقاها.
وفي أواخر شهر شباط الماضي، نقلت صحيفة “إسرائيل اليوم” عن مصدر مطلع قوله إن عليان التقى قيادات درزية سورية لتعزيز العلاقات، من دون ذكر مزيد من التفاصيل.
وكان عليان قد كُلّف بوضع خطة لمنح السوريين المنتمين إلى الطائفة الدرزية تصاريح عمل للدخول إلى الأراضي المحتلة للعمل صباحاً والعودة إلى سوريا مساءً.
غسان عليان في قلب سياسات الاحتلال
وُلد عليان في قرية شفا عمرو الواقعة في منطقة الجليل عام 1972، وينتمي إلى الطائفة الدرزية، ويحمل رتبة لواء (جنرال).
بدأ مسيرته العسكرية في لواء “غولاني”، أحد ألوية النخبة في الجيش الإسرائيلي، وتمكن لاحقاً من قيادة هذا اللواء خلال الحرب على قطاع غزة عام 2014، حيث أُصيب بجروح بالغة ونُقل على إثرها إلى مستشفى “سوروكا” لتلقي العلاج.
تدرّج عليان في عدة مناصب عسكرية بارزة، إذ شغل منصب قائد لواء “غولاني”، ثم عُيّن رئيساً لمديرية التنسيق والارتباط، قبل أن يتسلم القيادة الحالية لوحدة “كوغات”.
وفي عام 2021، تولى منصب قائد وحدة تنسيق أعمال الحكومة الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية المحتلة، المعروفة اختصاراً بـ”كوغات”، وهي الجهة المسؤولة عن إدارة الشؤون المدنية في الضفة الغربية وقطاع غزة، وتتبع لوزارة الدفاع الإسرائيلية.
ويُشرف عليان حالياً، بصفته قائد “كوغات”، على عمليات التنسيق مع السلطة الفلسطينية، إلى جانب منح تصاريح العمل للفلسطينيين، وتنفيذ مشاريع بنية تحتية وإنسانية بالتعاون مع منظمات دولية.
وقد أثار عليان جدلاً واسعاً في الأوساط الفلسطينية، إذ يُنظر إليه كأداة في يد الاحتلال للتحكم في تفاصيل الحياة اليومية للفلسطينيين، لا سيما في ظل تصريحاته التي تبرر الإجراءات العقابية بحق سكان قطاع غزة.
مزاعم إسرائيل بحماية الدروز في سوريا
كرّر رئيس وزراء الاحتلال، بنيامين نتنياهو، ووزير دفاعه، يوآف كاتس، خلال الفترة الماضية، المزاعم التي تتحدث عن حماية الدروز في سوريا، مستغلا الأحداث الميدانية لترويج هذه الادعاءات.
ومؤخراً، شنّت طائرات الاحتلال غارات على مواقع في سوريا بذريعة “الدفاع عن الدروز”، وذلك على خلفية التوترات التي شهدتها منطقتا جرمانا وصحنايا بريف دمشق، إلا أن صحيفة “يديعوت أحرونوت” أكدت أن المواقع المستهدفة تقع ضمن “بنك أهداف” معدّ مسبقاً لضرب البنية التحتية للجيش السوري.
وأكدت الصحيفة أن السبب الأول للغارات هو تدمير الأسلحة الاستراتيجية السورية المتبقية من جيش النظام المخلوع، والتي قد تُستخدم ضد إسرائيل، أما السبب الثاني فهو الادعاء بحماية الدروز.
يُشار إلى أن الحكومة السورية تؤكد حرصها على حماية جميع السوريين من دون تمييز، وتندد بتدخل الاحتلال في الشؤون الداخلية للبلاد.
————————————-
هل توجد مسألة درزية في سورية؟/ فايز نايف القنطار
06 مايو 2025
كثر الحديث أخيراً عن الدروز وعن السويداء وموقفها من السلطة الجديدة، ويتصاعد خطاب كراهية يوحي بالتحضيرلشيء ما، يستخدم الدروز شمّاعة فيه. ويجري القفز فوق تاريخ طويل من التضحيات من أجل الوطن السوري وبناء الهوية السورية. مما يطرح سؤال: هل توجد مسألة درزية في سورية؟
دروز حوران شديدو الاعتزاز بديرتهم (منطقتهم) لأنهم تنشقوا فيها نسائم الحرية، وزاد في اعتزازهم بها عجز السلطات والقبائل المختلفة عن دكّ هذا الحصن الذي ظل وحده بين المناطق حراً، وملجأ لكل مظلوم أو طريد. يعشقون الحرية ويتمسكون بها، فلم تستطع الدولة العثمانية، على اختلاف ولاتها، ولا حملة إبراهيم باشا، ولا الدولة الفرنسية خنقها واستئصال جذوة الحرية من صدورهم.
اضطر الدروز لخوض معارك دموية غير متكافئة، للدفاع عن وطنهم والمحافظة على حريتهم. برز اسم اللجاة (Trachonitis) في بلاد الشام وكان الحدث الأكبر هو ثورة الدروز ضد إبراهيم باشا، الذي طلب تجنيد 300 درزي فقط.
ولكي نتمكن من الإجابة على السؤال الأساسي، لا بد من التعرف على أهم المحطات التاريخية التي عرفها الدروز منذ وصولهم إلى جبل حوران، منذ منتصف القرن السابع عشر، ومعرفة الأحداث التي أثرت بعمق في ثقافتهم وفي حياتهم الاجتماعية.
ردّ إبراهيم باشا على أعقابه
في عام 1831 أرسل محمد علي باشا ابنه إبراهيم على رأس جيش جرّار إلى بلاد الشام، بهدف تقليص النفوذ العثماني على المنطقة، وتوسيع نفوذه في عموم المنطقة، وكان الجيش المصري مزوداً بالأسلحة الحديثة، ومنظماً وفق أسس عصرية، ونجح إبراهيم باشا في تحقيق انتصارات عسكرية في المدن الرئيسية مثل عكّا التي أخذها بعد حصار طويل، ودمشق وحلب اللتين أحدث فيهما تغييرات تنظيمية وإدارية كبيرة، قبل أن يواجه صخرة كأداء في جبل العرب. حيث تعرضت جيوش إبراهيم باشا لهزائم متتالية عند محاولاته المتتالية لاقتحام جبل جوران، هزائم لأقوى جيش في الشرق من جيش محلي صغير، والغريب أن جيش إبراهيم باشا الذي نتحدث عنه هو الجيش الذي اجتاح الجزيرة العربية وبلاد الشام ودفع بالعثمانيين خارج بلاد الشام. أدت هزائم هذا الجيش أمام عدد غير متكافئ عدداً وعدة، إلى حالة من الذعر في الأوساط العليا للنظام. وأحدث هذا الانتصار الدرزي ضجة غير مسبوقة في المشرق، اقتربت بطولات هؤلاء الثوار من الأساطير، تروي بطولاتهم ودفاعهم عن حريتهم، مما ترك تأثيرا معنويا استثنائيا، ساهم في رفع معنويات الدروز وجعل أعدائهم في وضع مستحيل، يهربون ويولون الأدبار قبل أن تبدأ المعركة فعلا.
بعد هذه الانتصارات، أسس الدروز لمجدهم الحربي الأسطوري ورفضوا طلبات الدولة من مجتمعهم، وترسخ وجودهم في الوطن الجديد، في جبل حوران. لا تزال تعرض حتى اليوم، بفخر واعتزاز، الأدوات الفضية الخاصة بتحضير القهوة التي اغتنمها عز الدين الحلبي من خيمة إبراهيم باشا في معارك اللجاة.
بددت حرب الجبل أحلام إبراهيم باشا وأنهكته وأجبرته على مغادرة المنطقة، وترك الساحة للأتراك العثمانيين لاستعادة المواقع المفقودة. ولكن يبدو أن العثمانيين لم يدركوا أسباب هزيمة السلف إبراهيم باشا، فبعد اثني عشر عاما من الهدوء، قرروا احتلال جبل الدروز من جديد، والقضاء على استقلاله الذاتي. يشكل هذا الاحتلال القضية المعنوية الأولى للسلطنة العثمانية، لاستعادة سلطتها وهيبتها.
نشأ لآل الحمدان كيان حقيقي راسخ، وتزعموا الجبل (فعلياً) من 1711 حتى 1860 تقريباً، وقادوا القوم في معارك مهولة، خاصة ضد حملات إبراهيم باشا، بين عامي 1837- 1838 التي فشلت في دخول الجبل وتحقيق شروطها في التجنيد وغيره، وكان تعداد سكان الجبل نحو5 آلاف، منهم 1500 من المسيحيين ومن البدو. بعد ازدياد مظالم آل الحمدان وتجاوزاتهم، قام الدروز بطردهم ومبايعة أل الأطرش.
ثورة العامية والطرشان (1889-1891)
ما إن استقرت الزعامة لإبراهيم الأطرش، حتى استولى على كل أملاك وامتيازات آل الحمدان، ومارس أقسى ما كان يمارسه شيوخ الحمدان، بعد أن وزع أقرباءه شيوخاً على 25 قرية في المقرن القبلي، وكان للشيخ وحده ربع الأرض في القرية.
شعر الناس بخيبة الأمل والخذلان مجددا وبدأ التململ في عدة قرى، وكان الحدث الذي فجر ثورة الغضب، أن فلاحاً في عرمان تجرأ وحصد في أرضه ليسد جوع أسرته، قبل أن يأذن الشيخ، فكان ممنوعا على الفلاحين حصاد حقولهم قبل إنهاء حصاد حقول الشيخ، وعندما وصل جمل الفلاح محملاً بالقمح إلى بيادر القرية، أرسل الشيخ نجم الأطرش رجاله فحرقوا الجمل بما حمل.
انطلقت ثورة العامية (العوام) وطردت شيوخ أل الأطرش، الذين استعانوا بالجيش التركي للعودة إلى مشيختهم، ووقعت المعركة في الشقراوية، في مدخل مدينة السويداء، عام 1891، معركة غير متكافئة، حيث لم تتعدّ قوات الثوار الـ1000 فارس، خسروا 400 قتيل، وتم تدمير السويداء، واستطاع العثمانيون دخول الجبل لأول مرة، بعد أن كان عصياً عليهم وعلى إبراهيم باشا خلال قرنين، وهكذا تم التفريط باستقلال الجبل وحرية أبنائه، إذ سرعان ما فرض العثمانيون التجنيد الإجباري، وعززوا وجودهم العسكري في الجبل، بعد أن تمتع بالاستقلال الذاتي منذ بداية الاحتلال العثماني.
عرفت هذه الأحداث بـ انتفاضة العامية، أو “ثورة العامية على الطرشان”، وتعتبر لدى أبناء الجبل حركة ضد الظلم، استطاعت التبلور رغم تحالف مشايخ العائلات المالكة مع آل الأطرش. هي ثورة الفلاحين في 1889ـ 1891 ضد الإفظاع وهي الأولى، والوحيدة من نوعها في بلاد الشام خارج جبل لبنان، جاءت اقتفاء لتراث ثورة كسروان في 1858. هزت هذه الثورة جبل الدروز وتركت أثرا عميقا في المجتمع، بالرغم من هزيمتها على يد الجيش التركي، إلا أنها أدت إلى إعادة توزيع الأرض، بحيث يكون نصيب الشيوخ نصف ربع أرض البلدة، بدلا من الربع، ومنعوا من ترحيل الفلاحين.
سرعان ما اكتشف الجميع عودة العثمانيين إلى أساليب القمع والقهر ضد الجميع، الشيوخ والفلاحين، مما حمل الدروز على التواصل مع الأمير فيصل لمواجهة الاضطهاد العثماني والتمييز ضد العرب.
عندما وصل فرسان جبل الدروز في ذلك الزمن إلى مقر الأمير فيصل في العقبة، استبشر خيرا وتفاءل بالنصر ودخول دمشق، حيث تابعت قوات الثورة العربية الكبرى وفي مقدمتهم فرسان بني معروف بالزحف شمالا حتى سقطت بصرى الشام بأيديهم وتابعوا المسير إلى الشيخ مسكين وإلى الكسوة، وأصبحوا على مشارف تلول المانع، وهنا حصلت اشرس المعارك مع القوات الألمانية والعثمانيين، وغادر القائد الألماني الجنرال فولكن أرض المعركة، وتم أسر اللواء رضا الركابي من قبل فرسان قرية الغارية، وفي اليوم الثاني اندفعت هذه الجموع إلى دمشق عن طريق البوابة، وكانت أهازيجهم الجبلية المعروفية تشق عنان السماء، في خضم الأجواء الترحيبية من قبل السكان، لم يتوقفوا إلا عند القصر البلدي أو دار الحكومة وصعدت مجموعة من الثوار، على راسهم صالح طربية وعلي الأطرش، ونزعت العلم العثماني ووضعت مكانه الراية العربية، إيذانا بانتهاء السيطرة العثمانية التي استمرت 400 سنة، وذلك في أيلول عام 1918. ضجت ساحة المرجة بالنخوات والأهازيج والأغاني الجبلية: (عرش المظالم انهدم) (وسعوا المرجة).
وفي 1916 في ذروة الحرب العالمية الأولى، أبرمت إنكلترا وفرنسا اتفاقاً سرياً عرف باسم اتفاق (سايكس – بيكو)، ينص على اقتسام العالم العربي واستعماره بعد تحريره من الأتراك العثمانيين. ينص الاتفاق المذكور على وضع فلسطين والأردن والعراق في عهدة الإدارة الإنكليزية في حين أن سورية ً ولبنان، تحت الوصاية الفرنسية. عندها ظهرت النوايا الحقيقية للغرب نحو العرب والعروبة. وكذلك خيبة أمل الوطنيين العرب وفي طليعتهم الدروز، الذين قاتلوا ضد الاستعمار التركي العثماني، والآن عليهم العودة للقتال ضد المستعمرين الجدد. وقد شهدت سورية ثورة عارمة زعزعت مكانتها وهيبتها كقوة عظمى، وكان من أشهر المقاتلين وأعظمهم سلطان باشا الأطرش، الذي اختاره السوريون قائداً لثورتهم، وقد خاص أقوى المعارك وأشرسها، وكبّد الفرنسيين خسائر كبيرة بدأت بأولى معارك الثورة السورية في 23 يوليو 1925 في الكفر، ثم تبعتها معركة المزرعة والمسيفرة ومعارك حوران التي عرفت باسم معارك الإقليم الأولى، ثم تعاون مع ثوار ريف دمشق في معارك الغوطة، ومع ثوار القلمون وحمص وحماة في معارك الشمال، وكذلك معارك اللوى والمقرن الشرقي، ومعارك اللجاة في المسمية والخالدية وداما. كانت فرنسا تعي قوة المقاومة الدرزية ومناعتها، وأدركت أن السيطرة على سورية، تستوجب أولاً إخضاع الجبل.
سلسلة المعارك الطويلة التي خاضها الموحدون في مواجهة قوى كبرى، والانتصار عليها، صنعت مجدهم وخلدت بطولاتهم وأدت إلى بلورة ما يسمى بأرستقراطية “الفروسية الدرزية”، وجعلت منها أقلية مرهوبة الجانب فرضت هيبتها واحترامها على الصديق وعلى العدو. وكان التعبير عن ذلك في العصر الحديث، مساهمة الموحدين الدروز في التحرر وبناء الوطنية السورية الحديثة، عبر المشاركة الأساسية في الثورة العربية الكبرى التي تمخضت عن طرد العثمانيين، وفي الثورة السورية الكبرى التي أدت إلى طرد الفرنسيين. ثم في إصرارهم على الوحدة السورية، والتأسيس للوطنية السورية، هذا هو الإرث الذي أسسه الدروز منذ قدومهم إلى الجبل.
هذا السياق التاريخي وهذه التجربة المشحونة بالمواجهات، من أجل المحافظة على الاستقلالية وحماية الخصوصية، في وسط لا يقبل الاختلاف، لقد عاش أبناء جبل العرب منذ تأسيسه حالة من الاستقلال الذاتي، وشكل ملجأ لكل الباحثين عن الحرية والهاربين من قمع السلطات، استمر هذا الوضع حتى عام 1936، حيث بدأ أبناء الجبل رحلة الاندماج التام في الكيان السوري ورفض الدولة الدرزية التي أسسها الانتداب الفرنسي.
بدأت هذه الرحلة في الاندماج في الوطن السوري عبر مشاركة الجبل الفاعلة في الثورة العربية الكبرى التي أدت إلى طرد السلطنة العثمانية من المنطقة. المشاركة في هذه الثورة أدى إلى خروج أبناء الجبل من القوقعة المذهبية إلى الفضاء الوطني العروبي وساهموا بقوة في بناء الوطنية السورية بعد انخراطهم في الثورة السورية الكبرى التي أفضت إلى فتح الطريق نحو استقلال سورية ولبنان، عبر التضحيات الكبيرة التي دفعها “الدروز” (65% من شهداء الثورة). أدركت سلطة الاحتلال عدم قدرتها على دفع أثمان المواجهة المسلحة ففتحت الأبواب للعمل السياسي وتنظيم انتخابات وتشكيل حكومات تتمتع ببعض الاستقلالية تحت سلطة الانتداب، وكذلك مشاركتهم في كل المشاريع السياسية الوطنية كفاعلين ومؤسسين.
تاريخياً لا يوجد في سورية مشكلة درزية، فالدروز مندمجون مع بيئتهم المحيطة وبحاضنتهم العربية الإسلامية ومتصالحون مع جميع السوريين، يتميز مجتمعهم المحلي بخصائص تساعدهم على كسب العقول والقلوب لكل من يقترب منهم ويطلب مساعدتهم أو يقيم بينهم، فالانفتاح وقبول الآخر المختلف الذي ميز تاريخهم منذ تأسيس دولة المواطنة والمساواة فلي القرن السابع عشر، (في زمن فخر الدين المعني الثاني)، عندما تمتع الجميع بالمساواة وحرية المعتقد ومكن الكثير من المسيحيين السوريين من الهجرة الى لبنان هربا من التمييز العثماني. وعرف لبنان ازدهارا وتقدما نتيجة هذا النظام العلماني المنفتح.
يتعرض الدروز أحيانا لحملات طائفية لأسباب سياسية. بعد الاستقلال، قام الشيشكلي بحملة عسكرية لتأديب الدروز لأنهم رفضوا نظامه الدكتاتوري، لم يتأخر السوريون في إسقاط الشيشكلي، ورفض سلوكه في استخدام القوة ضد محافظة السويداء.
كما يتعرض الدروز لاتهامات ظالمة كررها نظام الأسد البائد باتهام الدروز بالتواطؤ مع إسرائيل، لتبرير هزائمه أمامها وحرف الأنظار عن تخاذل جيشه في حماية الحدود، جاحدين تضحيات الدروز من أجل فلسطين منذ المشاركة في جيش الإنقاذ إلى جميع الحروب، حيث كانت نسبة شهداء السويداء 11% من شهداء سورية، في حين أن نسبة عدد سكانها لا تتجاوز 3%. هذه الاتهامات يتم تكرارها ونبنيها من قبل فصائل التطرف، لأنها تدغدغ مشاعرهم وأحقادهم الطائفية، وتساعدهم على تجييش مشاعر السذج من الجمهور.
في حال قبلنا باستخدام مصطلح مشكلة، عند الحديث عن المسألة الدرزية في سورية، فإن مشكلة الدروز في مجتمعهم، كما كل مكونات المجتمع السوري، تجد حلّها الطبعي في ظل نظام دولة المواطنة والمساواة، دولة الحريات، وقبول الآخر المختلف، أي في ظل دستور وطني جامع تعددي تشاركي. فهم ثقافياً ينتمون إلى أصول عربية ولهجتهم أقرب اللهجات إلى اللغة العربية الفصحى، وعاداتهم وتقاليدهم تضرب جذورها في عمق الثقافة العربية في بلاد الشام، لا توجد لديهم مطالب خاصة في هذا المجال.
في السنوات الأخيرة، حاولت بعض التيارات الكردية إقامة جسور التحالف مع بعض أبناء السويداء، على أمل التأثير بهم في مطالب الحكم الذاتي أو الفيدرالي، لكن هذه التحالفات لم تثمر، نظرا للتباين الجوهري في الغايات والأهداف وفي الظروف الخاصة لكلا المجتمعين، فالدروز ليس لديهم مطالب ثقافية لغوية كالأخوة الكرد، ولا يوجد من حولهم ملايين الأكراد كفضاء قومي، ولا يمتلكون موارد مادية تمكنهم من التفكير في ذلك.
خلاصة القول: لا توجد مسألة درزية في سورية، فمطالب الدروز يمكن تحقيقها في أطار دولة المواطنة في ظل نظام ديمقراطي يضمن الحريات والمساواة ويقوم على الاختيار الحر مستندا إلى مبدأ الدين لله والوطن للجميع.
العربي الجديد
—————————-
أبي المنى: على الدولة السورية تقديم ضمانات… والدروز لا يريدون الانفصال
دعا شيخ العقل لطائفة الموحدين الدروز الشيخ سامي أبي المنى الدولة السورية «لتقديم ضمانات للموحدين المسلمين فيها، تؤمن الاستقرار وسلامة أمنهم وعيشهم الكريم، للوصول إلى الحل المنشود على مستوى جرمانا وصحنايا والأشرفية، كمقدمة لمحافظة السويداء أيضاً»
وقال شيخ العقل في مقابلة تلفزيونية «نقرأ المشهد بتمعن والأمور ليست واضحة تماماً، هناك مبادرات ولكن هناك حذر، ونتمنى أن نصل إلى مرحلة عدم وجود هذا الحذر والتخوّف، وتلك مسؤولية الدولة ومسؤولية الأمن العام وهي أيضاً مسؤولية الوجهاء والعقّال والأهالي، لكنها مسؤولية الدولة بالدرجة الأولى».
لسنا بحاجة إلى السلاح الثقيل
وعن السلاح قال أبي المنى «ربما حصلت بعض الأمور التي أدّت إلى التخوف وأدّت إلى التمسّك بالسلاح، على الأقل السلاح الفردي، إذ لا حاجة لسلاح ثقيل. فلسنا في معركة مع الدولة»، معتبراً أن «السلاح الخفيف هو لحماية البيوت من السرقات والتعدّيات والانتهاكات، ويجب أن تأخذ الدولة هذا الأمر بعين الاعتبار، ولا يكون الأمر بنوع من التشفّي والتشنج أو القسوة وكأنهم تحت المقصلة، وعليها أن تبرهن هذا الأمر».
وتابع شيخ العقل «يجب أن يكون هناك حوار وتفاهم وتسوية… نحن نتكلم هنا مع المعنيين بالأمر مع الدول العربية ومع سفراء الدول العربية ومع سفير تركيا، ومع الأمم المتحدة ومع الجامعة العربية»، مؤكداً «نحن لا نطالب بتدخل دولي اطلاقاً، يجب على سوريا أن ترعى شأنها وأن تنهض بدولتها، ولكن الدول الشقيقة والمعنية بالموضوع والأمم المتحدة والجامعة العربية يجب أن تساهم جميعها في تقديم ضمانات».
الدور الإسرئيلي في سوريا
وفي ما يتعلق بالدور الإسرائيلي، قال أبي المنى «علينا أن نتمعّن في الأمر فنرى أن لإسرائيل أطماعها، لذلك يجب أن نكون متيقظين وحذرين لأنه يمكن أن يكون مخططات توسعية أو نوع من الإغراء أو الإيحاء بحماية ما، كما حصل، فتثير القلق والبلبلة وتخلط الأوراق».
وتابع «علينا أن نقطع الطريق على أي تدخل خارجي بتفاهم داخلي، وهذا ما نأمله».
الوساطة مع دمشق
ورداً على سؤال حول ثمار ونتائج الجهود المبذولة، قال الشيخ أبي المنى «هناك جهود إن كان من الأستاذ وليد جنبلاط أو من الشخصيات السورية ومن أبناء الجبل، أو من قبلنا في مشيخة العقل، فنحن على تواصل دائم مع شيوخ العقل، سماحة الشيخ الهجري، سماحة الشيخ الحناوي، سماحة الشيخ جربوع…»، مضيفاً «نحن على تواصل معهم وهم مقتنعون بأنه لا بد من تسوية ومن اتفاق يريح الجانبين ويريح الدولة». واستدرك بالقول «ولكن أنا أحمّل الدولة المسؤولية لكي تطمئن الناس ولكي تجذب الناس الى هكذا تسوية وهكذا تفاهم لا أن تخيفهم بتصرفات يمكن أن تدفعهم إلى المواجهة لا سمح الله».
الدروز «لا يريدون الانفصال»
وعن تدارك ما هو اسوأ، قال أبي المنى «لقد ألمحت إلى تلك اليد الخفية التي يمكن أن تغري الدروز، الذين يعيشون منذ سنوات حالة الفقر والحاجة للعيش الكريم والكثير من مقومات الحياة».
ورأى أن «المساعدة الإنسانية لا تُرفض ولكن الحماية التي تهدف إلى ما تهدف إليه من سيطرة ومن اجتذاب مكون من مكونات الشعب السوري فهذا أمر خطير. هم لا يريدون الانفصال إطلاقاً وهذا ما قاله كل من تكلمت معه من أصحاب السماحة ومن العقلاء ومن أبناء الجبل».
وأكد أنهم «لا يريدون الانفصال ولا يريدون أن تكون لهم منطقة خاصة بهم وكأنها مستقلة عن سوريا أبداً، هم يريدون سوريا وطناً واحداً، وهم مع وحدة سوريا أرضاً وشعباً».
————————-
الطائفة الدرزية.. “بنو معروف” المؤمنون بـ”ميثاق ولي الزمان“
إجماع لرفض قانون “يهودية الدولة” وتعالي الأصوات المناهضة للقانون في صفوف أبناء الطائفة المعروفية التوحيدية الدرزية الذي فرض عليها التجنيد الإجباري بالجيش الإسرائيلي، الصور التقطت في شهر أغسطس-آب 2014، خلال تشيع جنازة الشاعر الراحل سميح القاسم في بلدة الرامة بالجليل شمال فلسطين.
طائفة دينية عربية معروفة بتماسكها الداخلي، تعيش في سوريا بنواحي دمشق وجبل حوران، وفي لبنان وفلسطين المحتلة، ويقال أسسها محمد بن إسماعيل الدَرَزي -المعروف بأنوشتكين- في القرن الـ11 ميلادي، لكن بعض أتباعها ينفون ذلك، ولها راية خاصة بها. ويقدر عدد أفرادها بمن فيهم أولئك الذين هاجروا إلى أوروبا أو أميركا أو غرب أفريقيا، بنحو مليون ونصف مليون شخص.
التأسيس والنشأة
تعود الأصول التاريخية للطائفة الدرزية إلى عهد الخليفة السادس للدولة الفاطمية الحاكم بأمر الله -الذي امتدت فترة حكمه من عام 996 ميلادي إلى 1021 ميلادي- على يد محمد بن إسماعيل الدَرَزي (نسبة إلى أولاد درزة أي صانعي الثياب) الذي هاجر إلى الشام، واشتهرت الطائفة باسمه.
وينفي دروز نسبتهم إلى الدَرَزي، قائلين إنهم لو نسبوا له لسميوا بـ”الدَّرَزيون” وليس “الدُروز”، وأن أصل تسمية الطائفة يعود إلى مبدأ “دَرْز الدماغ” لاعتمادهم على العقل.
لكن مراجع أخرى تذكر أن المؤسس الفعلي للطائفة هو حمزة بن علي بن محمد الزوزني، الذي يعتبر أحد مؤسسي مذهب الموحدين الدروز، والمؤلف الرئيسي للنصوص الدرزية.
وبدأ الدروز الدعوة لمذهبهم في الفترة ما بين عامي 1017-1020 ميلادي، وامتدت حتى سنة 1043 ميلادي، ليقفل بابه بعد ذلك، ويقتصر على معتنقي المذهب الأوائل وأبنائهم ومن يولد منهم، وصار ممنوعا انضمام أي شخص للطائفة الدرزية إذا لم يولد في الأصل درزيا.
ومن الشخصيات التاريخية المعروفة في الطائفة -بالإضافة إلى المؤسسين- الحسين بن حيدرة الفرغاني المعروف بالأجدع، وبهاء الدين السموقي المعروف بالضيف.
وعلى المستوى السياسي، اشتهر في الطائفة سلطان باشا الأطرش، قائد الثورة على الفرنسيين بسوريا في عشرينيات القرن الماضي، والأمير شكيب أرسلان، والزعيم السياسي اللبناني كمال جنبلاط مؤسس الحزب التقدمي الاشتراكي، وابنه وليد جنبلاط، وطلال أرسلان رئيس الحزب الديمقراطي اللبناني.
عقيدة الطائفة الدرزية
يحيط عقيدة الطائفة ومذهبها كثير من الغموض، لأن مؤسسيها اختاروا عدم البوح بها وحصر معرفتها على دائرة ضيقة، وقيل “عدم تعليمها إلا لمن بلغ الأربعين سنة من أبناء الطائفة” رغم نفيّ بعضهم لها، ويقول البعض إن الدروز نشروا هذه الفكرة من أجل إثناء الناس عن سؤالهم عن دينهم، وهي فكرة مبنية على الاعتقاد بالتكتم.
ويعرّف الدروز أنفسهم باسم الموحدين، أو “بنو معروف”، وهو اسم لقبيلة عربية اعتنقت الدرزية في بداياتها.
ويؤمنون بميثاق أو عهد ولي الزمان، وهو قَسم يصبح به الشخص درزيا، ويعدونه ميثاقا أزليا. وعُرف الدروز بالانغلاق على أنفسهم وتماسكهم الاجتماعي والثقافي والسياسي، واشتهر رجالهم بشوارب كبيرة لها مدلول ديني.
تدين الطائفة الدرزية بمذهب التوحيد، وكل عقائدها مأخوذة عن الطائفة الإسماعيلية، وقد تأثرت العقيدة الدرزية بتيارات فلسفية ودينية متعددة ومن أصول مختلفة، ومن مبادئها السرية في نشر أفكارها.
يؤمن أبناء الطائفة بوحدانية الله المطلقة، وأن الله هو الخالق والمتحكم الأزلي في الكون، وأن العقل البشري غير قادر على استيعاب عظمته.
كما يؤمنون بالقرآن الكريم، لكنهم يفسرونه تفسيرا باطنيا خاصا بهم، بعيدا عن المعاني الواضحة في النص، كما أن لهم كتابا يسمى “رسائل الحكمة” ألفه حمزة بن علي بن أحمد، وهو “تفسير للقرآن”، ويمنعون الاطلاع عليه من طرف أي كان، ما عدا شيوخ الطائفة الدرزية.
وعلى الرغم من أن العقيدة الدرزية تطورت في الأصل من الإسماعيلية، لكنهم لا يعرفون أنفسهم كمسلمين، ويدعي بعضهم ذلك لأسباب سياسية بحتة، كشكل من أشكال التقية، حفاظا على دينهم وسلامتهم، وتجنبا لأي خلاف مع المسلمين.
ومن بين المعتقدات التي يتميز بها أهل الطائفة الدرزية، هي إيمانهم بتناسخ الأرواح، أي رجوع الروح البشرية إلى الحياة بمجرد وفاة صاحبها، وذلك عن طريق انتقالها إلى جسد مولود آخر.
المجتمع الدرزي هو مجتمع متماسك ومنغلق عن نفسه، ومن النادر أن تجد درزيا متزوجا من خارج الطائفة، أو العكس، كما لا يجوز عندهم تعدد الزوجات، لذلك يمنع رجال الدين أو “العقّال” التعدد لأن ذلك في نظرهم يضرب في مبدأ الإنصاف بين الجنسين.
وتقول بعض المصادر إن أصل نشأة العقيدة الدرزية يعود إلى شهر فبراير/شباط عام 1021 ميلادي، حينما خرج الخليفة الفاطمي الحاكم بأمر الله ذات ليلة بدون حراسة ولم يعد، فاضطر القائمون على الأمر إلى إعلان وفاة الحاكم بأمر الله وخلافة ابنه الظاهر لإعزاز دين الله، إماما وحاكما لهم زمن الدولة الفاطمية.
رفض حمزة بن علي مبعوث الحاكم إلى الشام التسليم بموت الحاكم، ورفض الاعتراف بإمامة ابنه الظاهر، وقال إن الخليفة اختفى فقط وسيعود في وقت لاحق ليملأ الأرض عدلا، معلنا هو ومن معه انشقاقهم عن الدولة الفاطمية، لتكون بداية ولادة الفكر الدرزي.
درجات الطائفة
وينقسم الدروز إلى درجات ثلاث:
الأولى طبقة رجال الدين: الدارسين له والمحافظين عليه، وتعرف بالعُقّل. وتنقسم بدورها إلى ثلاثة أقسام: رؤساء أو عقلاء أو أجاويد، ويدعى رئيسهم شيخ العُقّل.
الثانية الأجاويد، وهم المطلعون على تعاليم الدين والملتزمون بها.
الثالثة فهم عامة الناس و”الجاهلون بالدين” والمنغمسون في الأمور الدنيوية لا الدينية.
ويفرق الدروز -بشكل عام- بين “الشخص الروحاني” و”الشخص الجثماني”؛ فالأول بيده أسرار الطائفة (رؤساء، وعقلاء، وأجاويد)، أما الثاني فلا يبحث في الروحانيات، ولكنه منغمس في الدنيويات (يسمونهم الجهال).
وتعرف أماكن العبادة لدى الدروز بالخلوات، يسمعون فيها ما يتلى عليهم، ولا يسمح “للجهال” بحضورها أو سماع الكتب المقدسة إلا في عيدهم الوحيد، الذي يوافق عيد الأضحى عند المسلمين.
وحول حقيقة اسم الطائفة قال الباحث والأكاديمي اللبناني محمد شية إن الموحدين دفعوا ثمنا غاليا لتسميتهم بـ”الدروز”، وقال إن هذا الاسم ألصق بهم “زورا وبهتانا”، وأكد أن الواقع والوقائع تثبت أنهم مسلمون وموحدون.
وذكر بأن خصوصية المشرق تكمن في كونه أرضا للأقليات، و”منها طائفة الموحدين، الذين ظلت سمتهم الغالبة هي العروبة منذ نشأتهم وقبولهم للمعتقد الإسلامي، وأرسلوا إلى ساحل الدولة الإسلامية ليدافعوا عنها ضد الروم والبيزنطيين”.
التاريخ
فرّ كثير من الدروز من ملاحقة الخليفة الفاطمي السابع علي الظاهر قبل عام 1026 ميلادي، وسكنوا في جبال لبنان وسوريا وفلسطين، ودفعتهم تلك الملاحقة إلى الانغلاق على أنفسهم.
ورغم قلة عددهم كانت لهم مشاركات سياسية وعسكرية تاريخيا، فقد ساعدوا الأيوبيين ومن بعدهم المماليك على مقاومة تقدم الصليبيين على الساحل اللبناني خلال الحروب الصليبية.
ودخلوا في فترات معينة في صراعات، مثل ما حصل لهم مع المسيحيين (الموارنة) في لبنان عام 1841م وعام 1860م، وشاركوا في مقاومة الاستعمار الفرنسي.
وتمتع الدروز بقدر كبير من الحكم الذاتي في ظل الدولة العثمانية، وكثيرا ما تمردوا ضدها، وساعدتهم في ذلك التضاريس الجبلية للمناطق التي سكنوها.
وهيمنت سلسلة من الإقطاعيين على الحياة السياسية الدرزية ما بين القرن الـ16 والقرن الـ19، وكان أحد أشهر هؤلاء حاكم القرن الـ17 فخر الدين المعني الثاني (من آل معن)، الذي شكل تحالفا مع المسيحيين الموارنة من جبال لبنان، وتحدى السلطة العثمانية في التحالف مع توسكانا، إضافة إلى عائلات إقطاعية أخرى كبيرة كعائلة الشهاب وعائلة أصلان وعائلة جنبلاط.
وحافظوا في البداية على علاقات حسن الجوار مع الموارنة (نسبة إلى الكنيسة المارونية، وهم مجموعة دينية تتواجد في بلاد الشام، خاصة في لبنان، ويتبعون الكنيسة المارونية)، حتى إنهم ساعدوهم على تحرير أنفسهم، لكن في القرن التاسع عشر، اشتدت الخلافات بين زعماء العشائر وبين الطائفتين وأدت التوترات المتصاعدة بينهم إلى مذابح عام 1860، التي عجلت في النهاية بدخول القوى الأوروبية إلى لبنان.
ويعتقد بعض الباحثين بأن عدد المنتمين للطائفية الدرزية يتجاوز المليون، وأن 80% منهم استقروا في سوريا بمدينة السويداء ومرتفعات الجولان وبنواحي دمشق، وفي مدينة الأزرق الأردنية، وفي جنوب لبنان، وشمال ووسط فلسطين.
كما يقطن بعض أبنائها في فلسطين المحتلة ويحملون الجنسية الإسرائيلية. ويقدر عدد الدروز في المهجر بالولايات المتحدة وكندا وأستراليا وغيرها بنحو مئة ألف، وشاركوا في الحرب الأهلية اللبنانية (1975-1990) ضمن الجيش الشعبي بقيادة وليد جنبلاط.
الطائفة والسياسة
تسبب الخلاف اللبناني السوري في أزمة وخلافات داخل الطائفة الدرزية، وسعت إلى فصل موضوع سوريا عن لبنان، لكن دون جدوى، وبات الوضع أصعب بعد اندلاع الثورة السورية، حيث انقسم الزعيمان السياسيان للطائفة وليد جنبلاط الذي وقف ضد نظام بشار الأسد، وطلال أرسلان رئيس الحزب الديمقراطي اللبناني الذي ساند النظام، وازداد وضع الطائفة سوءا عندما وصلت الحرب بين النظام والمعارضة المسلحة لمحافظة السويداء.
وحصل الانقسام بين من يدعو لضرورة تسليحها لمواجهة المعارضة المسلحة وتنظيم الدولة الإسلامية، كرئيس حزب التوحيد العربي وئام وهاب، وبين من يرى ذلك مجرد ورقة لجرّ أبناء الطائفة للفتنة -التي وإن كانت بشكل عام تؤيد بشار الأسد فإنها بقيت محايدة ولم تنخرط في القتال إلى جانبه- لصالح نظام يجب أن يسقط، ويدعو تنظيم الدولة والمعارضة السورية المسلحة لتفهم وضع الدروز وإبقائهم محايدين كوليد جنبلاط.
قتل عدد من أبناء الطائفة على يد جبهة النصرة في قرية قلب لوزة بمحافظة إدلب (شمال غرب سوريا)، لكن المساعي السياسية حاولت احتواء ما حصل لإبقاء الدروز خارج دائرة الصراع والقتال، حيث دعا وليد جنبلاط إلى تهدئة الخطاب وتجنب ما يعرّض الدروز للخطر، وقال “حادثة قلب لوزة فردية وسأعالجها بالسياسة”.
من جهتها، اعترفت جبهة النصرة بتورط أفراد منها في قتل قرويين دروز في القرية المذكورة، وقالت إنهم خالفوا التوجيهات وقدمتهم للمحاكمة.
لكن مقتل 26 شخصا -من بينهم الشيخ الدرزي (المعروف بمناهضته لنظام بشار الأسد والجماعات الدينية المسلحة كجبهة النصرة وتنظيم الدولة)- في انفجار بسيارة مفخخة في الرابع من سبتمبر/أيلول 2015 في ضواحي السويداء (جنوب سوريا)، كشف -بحسب محللين- أن النظام السوري سعى بوضوح لجرّ الطائفة للصراع وقتال المعارضة المسلحة، خاصة جبهة النصرة.
ورغم أن الحكومة السورية سارعت إلى إدانة التفجيرات بمدينة السويداء، وتحدثت عن التصدي للإرهاب، فإن معارضة الشيخ البلعوس لقيام الدروز بالخدمة العسكرية الإلزامية التي يفرضها النظام على المواطنين السوريين خارج مناطقهم، ورعاية احتجاجات وتظاهرات بالسويداء تطالب بالماء والكهرباء وتحسين المستوى المعيشي، طرحت علامات استفهام عديدة.
واتهم وليد جنبلاط نظام بشار الأسد باغتيال البلعوس زعيم مجموعة “مشايخ الكرامة” التي عملت على حماية المناطق الدرزية وإبقائها خارج الصراع بسوريا، واعتبره “قائد انتفاضة ترفض الخدمة العسكرية في جيش النظام”.
وبينما اتهم شيخ عُقّل الدروز في سوريا يوسف جربوع من وصفهم “بأعداء الوطن والدولة والإنسانية”، في إشارة إلى جبهة النصرة وتنظيم الدولة، رد مسلحون من تجمع “مشايخ الكرامة” على مقتل البلعوس بالسيطرة بشكل كامل على فرع الأمن العسكري بمدينة السويداء.
وقتلوا أكثر من ستة جنود، منهم نائب رئيس الفرع وعدد من العناصر، بينما أسقط آخرون تمثال حافظ الأسد بالساحة المركزية لمدينة السويداء، وطالبوا بالانتقام من قتلة الشيخ البلعوس، الذي طالب أبناء الطائفة بحماية منطقتهم، أي حدود الجبل، وعدم تجاوزها.
وشهدت المحافظة السورية ذات الأغلبية الدرزية في الأول من سبتمبر/أيلول 2023، احتشاد مئات المحتجين جنوب سوريا مطالبين بتنحي الرئيس بشار الأسد بعد ما يقرب من أسبوعين من المظاهرات احتجاجا على سوء الأحوال المعيشية، لكنها تحولت مجددا إلى دعوات للتغيير السياسي.
الدروز عبر العالم
الدروز هم مجتمع عربي، عاشوا لقرون طويلة بمنطقة الشرق الأوسط، وبفعل الأحداث السياسية التي عاشتها المنطقة العربية مع توالي السنين، تم تقسيمها إلى دول متعددة تفصل بينها حدود جغرافية، الأمر الذي أدى إلى تقسيم الطائفة الدرزية أيضا، خاصة في أوائل القرن العشرين، وأصبحوا منتشرين بشكل أساسي بين ثلاث دول رئيسية، هي سوريا ولبنان وفلسطين.
ونتيجة للصراعات والأحداث السياسية التي عاشها الدروز على مدى عقود، هاجر بعضهم إلى دول أخرى خارج المنطقة العربية، وأصبحوا يتواجدون في دول عديدة، ويقدر عددهم بحوالي 1.5 مليون درزي عبر العالم.
الطائفة الدرزية في لبنان
يتمركز أبناء الطائفة الدرزية في لبنان بشكل أساسي على طول الجهة الغربية لجبال لبنان، وكذلك في الجزء الجنوبي الشرقي من البلاد، ويبلغ عددهم هناك أكثر من 300 ألف شخص.
وقد تولى الدروز السلطة السياسية بشكل كبير في لبنان الحديث منذ استقلاله. ومن أبرز الشخصيات السياسية الدرزية في البلاد كمال جنبلاط، الزعيم الدرزي الذي شغل خلال مسيرته السياسية عدة مناصب من أبرزها وزير الداخلية.
كما أن معارضته للرئيس كميل شمعون، بما في ذلك التحريض على الانتفاضة ضده عام 1958، أكسبته أيضا احترام القوميين العرب.
وبعد اغتيال كمال جنبلاط عام 1977، تولى ابنه وليد القيادة السياسية للطائفة الدرزية في لبنان. وقد عارض التدخل السوري في لبنان عام 1976، مما جعل البعض يصف توجهه بالمؤيد لتوجهات الغرب، لكنه في عام 2011، دعم حزب الله الموالي لسوريا في الأزمة السياسية اللبنانية، مما جعل البعض الآخر يقول إنه يفضل الوحدة العربية على التوجهات الموالية للغرب أو الموالية لسوريا.
وتنافس عائلة جنبلاط عائلة أرسلان على زعامة الدروز في لبنان، التي غالبا ما تكون على خلاف مع السياسة اللبنانية، وكان ماجد أرسلان، الذي شغل منصب وزير الدفاع في عهد كميل شمعون، منافسا لكمال جنبلاط. علاوة على ذلك، وعلى عكس آل جنبلاط، حافظ آل أرسلان على علاقات وثيقة مع سوريا.
الطائفة الدرزية في سوريا
يوجد في سوريا، بحكم مساحتها الكبيرة مقارنة بلبنان، أكبر كثافة سكانية درزية، بعدد يزيد عن 600 ألف شخص. وصل الجزء الأكبر منهم إلى هناك، من لبنان في القرن الثامن عشر. وتم توطينهم في السويداء في منطقة جبل الدروز (الجبال الدرزية).
وفي عام 1925، ثار القائد الدرزي سلطان الأطرش ضد الهيمنة الفرنسية. وبعد نجاح هذه الثورة، انضم القوميون السوريون في صفوف الطائفة الدرزية إلى الثورة، التي امتدت إلى جميع أنحاء المنطقة ووصلت إلى دمشق قبل أن يتم قمعها في عام 1927.
ويتذكر السوريون هذه الثورة باعتبارها أول انتفاضة قومية في البلاد، وقد ظل عدد من المسؤولين الدروز على إثرها يعتبرون شخصيات سياسية ذات أهمية كبرى في البلاد لعقود من الزمن.
وأدت ثورة درزية أخرى إلى انتفاضة وطنية أطاحت بحكومة الرئيس أديب الشيشكلي عام 1954. بالإضافة إلى ذلك، أصبح نجل سلطان الأطرش، منصور الأطرش، أحد الأعضاء المؤسسين لحزب البعث السوري. ثم شغل منصب رئيس البرلمان لفترة وجيزة عام 1965، قبل أن يتم اعتقاله عام 1966.
الطائفة الدرزية في فلسطين
يوجد في بعض الأراضي الفلسطينية المحتلة عدد كبير من الطائفة الدرزية يقدر بحوالي 150 ألف شخص، يتواجدون بالكامل في الشمال. تعرف الطائفة بولائها لإسرائيل، إذ إنه بعد ما هدد حكام القدس عام 1942 بالسيطرة على قبر يثرون (الذي يطلق عليه الدروز شعيب) في طبريا، وقف الدروز إلى جانب القوات اليهودية في حرب عام 1948.
إصافة إلى ذلك، قاتل الجنود الدروز مع إسرائيل في كل الحروب العربية الإسرائيلية. وهم المجموعة العربية الوحيدة المجندة في قوات الدفاع الإسرائيلية، ويشاركون في أمن الحدود الإسرائيلية والسلك الدبلوماسي.
وفي يوليو/تموز 2018، عندما سن الكنيست الإسرائيلي قانونا له ثقل دستوري يكرس إسرائيل كدولة يهودية، انتفض الدروز ضده، معتبرين أن القانون جعلهم مواطنين من الدرجة الثانية، ورأوا فيه خيانة لتفانيهم وخدمتهم لإسرائيل.
المصدر : الجزيرة + مواقع إلكترونية
الجزيرة
————————————
سوريا والتطبيع مع إسرائيل بين تحقيق المصالح والتفريط بالثوابت/ باسل المحمد
5/5/2025
لم تهدأ وتيرة الغارات والاعتداءات الإسرائيلية على مواقع داخل الأراضي السورية منذ الساعات الأولى لسقوط نظام الرئيس المخلوع بشار الأسد في ديسمبر/كانون الأول 2024، خاصة في الجنوب ومحيط العاصمة دمشق، حيث استهدف عشرات المواقع العسكرية ودمر طائرات ومقدرات عسكرية هائلة بدعوى المخاوف من وقوعها في أيدي “جهات معادية”.
كما نفذ جيش الاحتلال الإسرائيلي توغلات برية متكررة في المنطقة العازلة والقنيطرة وجبل الشيخ، بذريعة إنشاء منطقة عازلة بين الأراضي السورية وهضبة الجولان، ملغيا بذلك اتفاق فض الاشتباك الموقع بين الجانبين عام 1974.
ومؤخرا، شنت طائرات الاحتلال سلسلة غارات جوية استهدفت مواقع متفرقة في ريف دمشق ودرعا وحماة، وأعلن جيش الاحتلال الإسرائيلي أن مقاتلاته “شنت غارات على موقع عسكري ومدافع مضادة للطائرات وبنية تحتية لصواريخ أرض-جو في سوريا”، مشددا على أنه “سيواصل العمل كلما دعت الحاجة من أجل حماية مواطني دولة إسرائيل”.
ورغم أن الاحتلال يبرر ضرباته بأنها “إجراءات وقائية” ضد تهديدات أمنية محتملة، فإن مراقبين يرون أن هذا التصعيد يندرج ضمن إستراتيجية أوسع هدفها دفع الإدارة الجديدة في دمشق إلى الانخراط في مسار تطبيعي قسري عنوانه “سلام بالقوة”.
أدوات متعددة لفرض مسار تطبيعي
وتبرز إسرائيل كقوة احتلال تحاول استغلال المرحلة الانتقالية الحساسة في سوريا لإعادة تشكيل المشهد بما ينسجم مع أطماعها ومصالحها الأمنية والسياسية، وطموحاتها الإستراتيجية في المنطقة بشكل عام.
وفي ظل التحديات السياسية والاقتصادية التي تمر بها سوريا بعد سقوط النظام المخلوع، تسعى إسرائيل إلى استخدام أدوات متعددة، عسكرية وسياسية، وصولا إلى تحركات دبلوماسية متسارعة لإضعاف موقف دمشق، في محاولة منها لفرض مسار تطبيعي بالقوة على الحكومة الجديدة.
ويأتي هذا التحرك الإسرائيلي في سياق إقليمي متغير تعمل فيه تل أبيب على توسيع دائرة الدول العربية المُطبعة، مستغلة حاجة سوريا الجديدة إلى مختلف أنواع الدعم بعد سنوات من الحرب.
أمام هذا الواقع يبرز السؤال التالي: هل تستطيع دمشق مقاومة هذه الضغوط الإسرائيلية، أم أنها ستضطر إلى تقديم تنازلات “للعدو التاريخي” تحت وطأة الحاجة إلى الدعم والاعتراف الدولي؟
استغلال المرحلة الانتقالية
وفي هذا السياق، يوضح الباحث في العلوم السياسية بجامعة “إكستر” البريطانية سامر بكور أن إسرائيل تعمل على صياغة علاقتها مع سوريا بعد سقوط النظام بشكل عدواني يخدم مصالحها الإستراتيجية والأمنية، من خلال وسائل ضغط تتعارض مع القانون الدولي.
ويتجلى الهدف الأبعد لسياسة الضغط الإسرائيلية، التي لم تعد تقتصر على الأهداف العسكرية بل توسعت لتطال البنية التحتية ومناطق مدنية في سوريا أيضا، بفرض “التطبيع” من موقع القوة، وإجبارها على تقديم مزيد من التنازلات، حسب حديث الباحث بكور للجزيرة نت.
ولم ينفصل هذا التصعيد الميداني عن رسائل سياسية صريحة صدرت عن مسؤولين إسرائيليين، عكست بوضوح الرغبة في استخدام اللحظة الانتقالية في سوريا لفرض مسار تطبيع معها.
فقد صرح رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو -في أكثر من مناسبة- بأن “الشرق الأوسط يتغير، وعلى كل الدول أن تعيد التفكير في علاقاتها مع إسرائيل، ومن بينها سوريا ما بعد الأسد”.
من جانبها، تتسم سياسة دمشق بضبط النفس أمام هذا التصعيد، والتأكيد على أن سوريا ترغب في علاقات طبيعية مع الجميع، وأنها “لن تكون مصدرا لعدم الاستقرار لأي طرف في المنطقة، بما في ذلك إسرائيل”.
الأقليات ورقة ضغط
من بين أوراق الضغط التي توظفها إسرائيل في تعاطيها مع الوضع السوري ما بعد الأسد، تبرز “ورقة الأقليات” والتظاهر بالدفاع عنها كأداة مزدوجة، تستخدم -حسب مراقبين- لتبرير التدخلات الأمنية والعسكرية من جهة، ولابتزاز دمشق سياسيا ودفعها باتجاه خيارات لم تكن مطروحة سابقا، وعلى رأسها “التطبيع” من جهة أخرى.
وكانت وتيرة التدخلات الإسرائيلية قد ازدادت على إثر التطورات الأخيرة التي شهدتها منطقتا جرمانا وصحنايا في ريف دمشق، حيث تقطن تجمعات درزية، وتعرض محيط قصر الشعب في العاصمة دمشق فجر الثاني من مايو/أيار الجاري لغارة إسرائيلية، قال عنها بيان مشترك لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير الدفاع يسرائيل كاتس إنها “تحمل رسالة واضحة إلى الحكومة السورية”، مشددا على أن إسرائيل “لن تسمح بأي تهديد للدروز”.
وكانت الداخلية السورية أعلنت يوم 30 أبريل/نيسان الماضي أن غارات للاحتلال الإسرائيلي وقعت على محيط منطقة أشرفية صحنايا أسفرت عن مقتل عنصر في الأمن العام.
في هذا السياق، يرى الباحث بالشؤون الإسرائيلية محمد هلسة أن إسرائيل تدعي حماية مصالح الدروز في جنوب سوريا، لكنها في الحقيقة تسعى بذلك لتقسيم النسيج المجتمعي السوري، وهذا يعكس الاستخدام الإسرائيلي للمكونات السورية كأدوات ضغط وإضعاف مركزية القرار السياسي في دمشق.
وتسعى إسرائيل، حسب حديث هلسة للجزيرة نت، إلى استغلال بعض الأطراف الدرزية لخلق نوع من “الحكم الذاتي”، وبذلك تتحول السويداء إلى قاعدة متقدمة، تحميها إسرائيل وتتدخل عبرها بشكل أو آخر في بقية الأراضي السورية.
وبالتوازي مع ذلك، لا تخفي تل أبيب اهتمامها بفتح خطوط اتصال جغرافي مع الأكراد في شمال شرقي سوريا، مع التأكيد على ضرورة دعمهم في إقامة كيان مستقل. أما بالنسبة للعلويين، فلا معلومات مؤكدة عن تنسيق واسع النطاق.
وتتحدث وسائل إعلام إسرائيلية عن وجود اتصالات ومناشدات من بعض الأفراد أو المجموعات العلوية التي تنشد الدعم والحماية من إسرائيل، ووفقا للمصادر نفسها، هناك اقتراحات لدعم العلويين بشكل سري، بهدف تمكينهم من الدفاع عن مناطقهم واستنزاف “خصوم مشتركين”.
إسرائيل تفضل الفوضى على التطبيع
رغم الضغوط الإسرائيلية المتزايدة على دمشق في الفترة الأخيرة للدفع بمسار التطبيع، فإن خبراء بالشأن الإسرائيلي يرون أن تل أبيب تبدو أكثر ميلا للاستثمار في الواقع الهش بسوريا، حيث تمنحها الفوضى والاضطرابات الداخلية حرية الحركة و”شرعية ميدانية” في نظر حلفائها الغربيين تفوق ما قد تجنيه من تطبيع غير مضمون، يقيدها بالتزامات سياسية وأمنية مع سلطة وليدة.
وتعليقا على هذا الجانب، يرى الباحث في معهد كارنيغي للدراسات مهند الحاج علي أنه خلافا لما يتم تداوله في وسائل الإعلام حول سعي تل أبيب لتوسيع الاتفاقيات “الإبراهيمية” في المنطقة، فإن “التطبيع” مع سوريا ليس هدفا لإسرائيل، التي تنطلق في تعاملها مع الوضع السوري الجديد من مقاربة أمنية بحتة.
ويتابع الحاج علي حديثه للجزيرة نت بالقول إن “إسرائيل تستثمر في التوترات الداخلية في سوريا من خلال دعم بعض الأطراف كالدروز أو قوات قسد، لأن التعامل مع دولة ضعيفة ومفككة، مع وجود أتباع لإسرائيل على الأرض، أفضل من التطبيع مع نظام قد يكون معاديا لها في المستقبل”.
أما الناحية الأكثر حساسية لإسرائيل تجاه سوريا، كما يقول الحاج علي، فهي طبيعة السلطة التي تحكم في دمشق، والتي تعتبرها تل أبيب “جماعة إسلامية جهادية لا يمكن التعامل معها إلا بطرق أمنية وعسكرية، بعيدا عن التواصل السياسي والدبلوماسي”.
ولطالما حذر مسؤولون إسرائيليون من التعامل مع القيادة الجديدة في سوريا متهمينها بالإرهاب، ففي مارس/آذار الماضي، وصف وزير الدفاع الإسرائيلي كاتس الرئيس السوري أحمد الشرع بأنه “إرهابي جهادي من مدرسة القاعدة”، متهما إياه بارتكاب فظائع ضد المدنيين من الطائفة العلوية.
وأضاف كاتس أن الشرع “خلع عباءة الجهاد وارتدى بدلة ليظهر وجها معتدلا، لكنه الآن كشف عن وجهه الحقيقي”.
التطبيع وخيارات دمشق المحدودة
حملت الأشهر الماضية عديدا من الإشارات حول احتمالية استعداد الإدارة في دمشق للتطبيع مع إسرائيل.
أوضح المبعوث الخاص للرئيس الأميركي إلى الشرق الأوسط، ستيفن ويتكوف، يوم 22 مارس/آذار الماضي، أن تطبيع إسرائيل مع سوريا ولبنان أصبح احتمالا حقيقيا، بعد أن خرجت سوريا من دائرة النفوذ الإيراني.
من جهته، قال النائب الجمهوري مارلين ستوتزمان -في مقابلة مع صحيفة جيروزاليم بوست- بعد زيارته دمشق “إن الشرع أعرب عن انفتاحه على الانضمام إلى اتفاقيات أبراهام”، وذلك بشرط الحفاظ على وحدة سوريا وسيادتها.
وطرحت هذه التصريحات بشأن اختبار “فرص التطبيع” مع دمشق تساؤلات جدية حول موقف القيادة السورية الجديدة واستعدادها للمضي في هذا من هذا المسار.
وأمام هذه التلميحات الأميركية، نفى وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني أن تكون الولايات المتحدة قد طلبت من دمشق الانضمام إلى “اتفاقيات أبراهام” أو الدخول في أي مسار تطبيع مع الاحتلال الإسرائيلي، مؤكدا أن رسالة الحكومة السورية إلى واشنطن لم تتطرق إطلاقا لهذا الملف.
لكن الشيباني أكد في جلسة لمجلس الأمن الدولي في 25 أبريل/نيسان الماضي أن بلاده لن تشكل تهديدا لأي من دول المنطقة، ومن بينها إسرائيل، مطالبا مجلس الأمن الدولي بالضغط على تل أبيب لسحب قواتها من الأراضي السورية.
في المقابل، يرى مراقبون أنه رغم الضغوط الإقليمية والدولية التي قد تدفع باتجاه انفتاح سوري على إسرائيل، فإن الواقع الداخلي في سوريا يطرح علامات استفهام كبيرة حول قدرة الإدارة الجديدة على تحمل كلفة سياسية وشعبية لمثل هذا التحول.
ورغم نفي الموقف السوري الرسمي لأي تقارب مع إسرائيل حتى الآن، فإن الباحث هلسة يرى أن المسألة ليست مسألة رفاهية الاختيار، وإنما محدودية الخيارات بالنسبة للإدارة السورية الجديدة بخصوص “التطبيع” مع إسرائيل، التي تمثل مفتاحا لعلاقات سوريا الجديدة مع أوروبا والولايات المتحدة.
وينوه هلسة إلى أن هذه الخطوة، وإن كانت تفتح المجال لتمكين بناء دولة متماسكة واقتصاد قوي، فإن ذلك سيكلف القيادة في دمشق -القادمة من خلفية جهادية- كثيرا من صورتها على المستوى الشعبي في كيفية تبرير التطبيع من جهة، إضافة إلى التأثير على حضورها على المستوى العربي والإسلامي من جهة أخرى.
الجزيرة
————————-
العنف الطائفي ضد الدروز: تحذير لا يمكن لسوريا تجاهله/ حايد حايد
على دمشق أن تتحرك بسرعة وبحزم
آخر تحديث 05 مايو 2025
شهدت سوريا مؤخرا فصلا جديدا ومقلقا من فصول العنف، تمثل هذه المرة في بلدتي صحنايا وجرمانا، ذات الغالبية الدرزية في ريف دمشق. وقد فجّرت التوترات الطائفية مقطع صوتي منسوب إلى شيخ درزي، يتضمن إساءة للنبي محمد، مما أجّج مشاعر الغضب، وأثار موجة من الاحتقان.
ورغم احتواء الأزمة الفورية، فإن احتمالات تجدّد العنف الطائفي لا تزال مرتفعة بشكل خطير، في ظل غياب معالجة جذرية للأسباب الكامنة وراء هذه التوترات. ويزيد الوضع هشاشة افتقار السلطات الانتقالية، إلى آليات فعّالة لرصد الإنذارات المبكرة للعنف ذي الدوافع الطائفية، فضلا عن غياب ردود سريعة، تحول دون التصعيد وتحمي المدنيين من تداعياته.
وفي حال لم تبادر السلطة إلى سدّ هذه الثغرات من خلال اعتماد استراتيجيات شاملة للوقاية من النزاعات، وسنّ تشريعات صارمة، لمكافحة خطاب الكراهية والتحريض على العنف، إلى جانب تدابير أمنية قوية، فإن البلاد تُواجه خطر الانزلاق نحو مسار شديد الخطورة، ستكون عواقبه كارثية على سوريا، وعلى مستقبل انتقالها السياسي الهش.
تسجيل ملفق.. لكن العنف حقيقي
اندلعت التوترات للمرة الأولى خلال عطلة نهاية الأسبوع التى صادفت 25 أبريل/نيسان، عقب انتشار تسجيل صوتي على نطاق واسع عبر وسائل التواصل الاجتماعي، يتضمن إساءات للنبي محمد. وسرعان ما تحولت ردود الفعل الغاضبة إلى أعمال عنف، حيث تعرّض طلاب دروز يقيمون في السكن الجامعي بمدينة حمص، لهجمات وضرب من قبل طلاب آخرين.
سارعت السلطات في دمشق إلى الإعلان عن اعتقال المتورطين في هذه الاعتداءات، معتقدة أن الأزمة باتت تحت السيطرة. غير أن الواقع كان مخالفا تماما، إذ لم يكن ما جرى سوى البداية. فخلال ساعات قليلة، امتد الغضب حتى طال بلدتي جرمانا وصحنايا في ريف دمشق، حيث شنّت مجموعات مسلحة مجهولة، هجمات على المنطقتين، لتندلع اشتباكات بينها وبين مقاتلين دروز محليين، وقوات الأمن التابعة للحكومة.
وعلى الرغم من أن كلّا من المتهمين والسلطات الانتقالية، أنكروا علنا صحة التسجيل، ووعدوا بمحاسبة المسؤولين عنه، فإن العنف استمر وامتد إلى مناطق أخرى في محافظة السويداء. ورغم غياب أرقام رسمية عن عدد الضحايا، تفيد تقارير محلية بمقتل عدد من المقاتلين الدروز، وأفراد من جهاز الأمن العام التابع لحكومة دمشق.
جمر تحت الرماد
رغم أن وتيرة العنف قد تراجعت بفضل تفاهمات عُقدت مع وجهاء المناطق ذات الغالبية الدرزية، فإن ما جرى يكشف عن مخاطر، تتجاوز بكثير أحداث الأسبوع الماضي. فالحقيقة المقلقة تكمن في أن تسجيلا صوتيا، يبدو أنه مفبرك، كان كفيلا بإشعال موجة عنف بهذه السرعة والدموية، ما يسلّط الضوء على مدى هشاشة الوضع الراهن في سوريا.
تُظهر هذه الحادثة مدى سهولة زعزعة استقرار مجتمعات بأكملها بفعل شرارة واحدة، وتفضح عمق التوترات الطائفية غير المعالَجة التي راكمتها سنوات الحرب، وأسهمت في تغذيتها حملات الشيطنة الممنهجة ودوامات الانتقام المتكررة. كما تشير إلى أن الانتهاكات الأخيرة التي استهدفت مجتمعات علوية، رغم اختلاف دوافعها المباشرة، نابعة من الجذر الطائفي نفسه الذي لا يزال يشعل فتيل عدم الاستقرار في البلاد.
وتُبرز الحادثة أيضا أن الإيماءات الرمزية نحو الشمولية والوحدة، والمشاركة الشكلية للمجتمعات، لا يمكن أن تُثمر عن استقرار حقيقي، ما لم تُعالج الانقسامات العميقة والمتجذرة التي تعصف بالنسيج الاجتماعي السوري.
الوقت ينفد
رغم أهمية الاعتراف بجسامة التحديات وتضارب الأولويات التي تواجهها السلطات الانتقالية في سوريا، فإن معالجة التوترات الطائفية الكامنة تظل مهمة ملحّة لا تقبل التأجيل. غير أن هذه المسؤولية تتجاوز إمكانيات لجنة السلم الأهلي، التي شُكّلت مؤخرا وتضم ثلاثة أعضاء فقط، إذ تفتقر اللجنة إلى الخبرة والموارد اللازمة للتعامل مع أزمة بهذا الحجم والتعقيد.
ومن الحكمة أن تدرك السلطات الانتقالية، عاجلا لا آجلا، الحاجة إلى دعم خارجي فني ومؤسساتي لوضع استراتيجية شاملة وموثوقة لمجابهة هذه الأزمة متعددة الأبعاد.
وعلاوة على ضرورة صياغة استراتيجية متكاملة، تحتاج السلطات بشكل عاجل إلى دعم لإرساء آليات واضحة ومنهجية، لرصد خطاب الكراهية والتحريض الطائفي، وتحديد المسؤولين عنه ومحاسبتهم. كما يجب أن تُستكمَل هذه الجهود، بمنظومة إنذار مبكر قادرة على رصد المخاطر قبل أن تتفاقم إلى مستويات عنف، بما يمنح السلطات وقتا كافيا للتدخل والاحتواء.
الاحتواء وحده لا يكفي
إلى جانب الإصلاحات القانونية، يُعد تطوير بروتوكولات أمنية قوية واستباقية أمرا بالغ الأهمية لتمكين السلطات من الاستجابة السريعة للتهديدات الناشئة، وحماية المجتمعات المعرّضة للخطر. فالتدابير الوقائية الظاهرة والفعالة، ترسل رسالة حاسمة إلى الفئات المهددة مفادها أن الدولة جادة في ضمان أمنهم- وهي خطوة ضرورية للحد من الانتشار غير المنضبط للأسلحة، وإعادة بناء الثقة العامة بالمؤسسات الوطنية.
ولا بد أن تكون المساءلة ركيزة أساسية لهذا النهج. يجب أن يُحاسب كل من حرّض على العنف عبر الإنترنت، إلى جانب من نفّذوا الهجمات، وأن يواجهوا عواقب حقيقية. فهذا لا يعزز فقط ثقة الجمهور بالسلطات الانتقالية والتزامها بسيادة القانون، بل يبعث أيضا برسالة واضحة مفادها أن العنف والتحريض الطائفي لن يُسمح بهما بعد اليوم.
ثمن التقاعس
في غياب هذه الإجراءات، سيبقى مسار الانتقال الهش في سوريا عرضة للخطر، تنهشه الانقسامات الطائفية ذاتها، التي تستمر الدولة في تجاهلها. وقد يُسهم الاحتواء السريع لأحداث العنف في كبح التصعيد الفوري، لكنه يترك الجروح العميقة دون علاج، ما يفاقم من تآكل التماسك الاجتماعي، ويزيد منسوب الشك ويُمهّد لمواجهات قادمة ستكون بلا شك أكثر عنفا وزعزعة للاستقرار.
إن كانت دمشق تأمل فعلا في رأب هذه الانقسامات، ومنع موجات الاضطراب المقبلة، فعليها أن تتحرك بسرعة وبحزم. فالأمر لا يقتصر على ضمان التعايش، بل يشكل ركيزة أساسية لبقاء عملية الانتقال السياسي الهشة، ولإمكانية تحقيق تعاف مستدام وشامل. أما التقاعس، فسيؤدي لا محالة إلى دوامة مستمرة من العنف والتفكك، تُهدَر فيها فرص السلام الدائم واحدة تلو الأخرى.
المجلة
—————————————–
إسرائيل تتذرع بحماية الدروز في سوريا.. فماذا تفعل معهم بالداخل المحتل؟
عربي بوست
2025/05/06
تهدد إسرائيل بضرب سوريا واحتلال أراضيها بذريعة حماية الطائفة الدرزية، لكنها، كعادتها، تسوق ذرائع استعمارية تجاوزها الزمن، لتواصل عدوانها ووحشيتها في المنطقة بلا رادع.
تماماً كما فعلت ألمانيا النازية عام 1938، حين ادّعت تدخلها في تشيكوسلوفاكيا لحماية الأقلية الألمانية آنذاك، زعم أدولف هتلر أن الحكومة التشيكية ترهب وتقتل العديد من الألمان السوديت، مبرراً بذلك اجتياح جيشه النازي للبلاد. وفي رسالة إلى الرئيس الأمريكي روزفلت، صوّر هتلر الألمان السوديت كضحايا “اضطهاد سياسي واقتصادي” و”نظام رعب دموي”، مؤكداً أن الرايخ الألماني سيتدخل لنجدتهم إذا عجزوا عن نيل حقوقهم بأنفسهم.
اليوم، يحاول نتنياهو، المطلوب دولياً بتهم جرائم حرب، وحكومته التي تضم متطرفين، استغلال الدروز لخدمة مصالح إسرائيل التوسعية، تماماً كما فعل النازيون مع السوديت.
لكن ما يزيد عبثية الأمر حالياً، أن إسرائيل تتعامل مع الطائفة الدرزية داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة بازدراء، إذ تشير تقارير عديدة إلى أنهم لا يُعاملون كمواطنين من الدرجة الثانية فحسب، بل إن حتى تضحياتهم في سبيل خدمة الاحتلال الإسرائيلي لم تجلب لهم المساواة، بل أبقتهم محل شك، وكأنهم يُستخدمون كدروع بشرية في حروبها الاستعمارية.
إذ أشارت بعض التقارير إلى أن الدروز في جيش الاحتلال الإسرائيلي غالباً ما يُزج بهم في خطوط النار الأولى. ففي غزة تحديداً، وعلى سبيل المثال، وفي واحدة من أقوى الضربات التي تلقاها جيش الاحتلال منذ بدء عمليات “طوفان الأقصى”، قُتل العقيد إحسان دقسة، قائد لواء 401 المدرع، والذي كان يُعد من أبرز القادة العسكريين في قوات الاحتلال التي ترتكب المجازر داخل غزة منذ أكثر من عام.
اقرأ أيضاً
إسرائيل “النووية” عاجزة أمام الكوارث الطبيعية.. الحرائق تكشف نقص المعدّات وعدم جاهزية تل أبيب
إسرائيل “النووية” عاجزة أمام الكوارث الطبيعية.. الحرائق تكشف نقص المعدّات وعدم جاهزية تل أبيب
الشركات الصينية “تغزو” مصر هرباً من تضييقات ترامب.. كيف تُهدد استثمارات بكين الصناعات المحلية؟
الشركات الصينية “تغزو” مصر هرباً من تضييقات ترامب.. كيف تُهدد استثمارات بكين الصناعات المحلية؟
فكيف يعامل الاحتلال الإسرائيلي الدروز؟
يبلغ عدد أفراد الطائفة الدرزية في الأراضي المحتلة اليوم حوالي 143 ألف نسمة، أي ما يشكل نحو 1.6% من إجمالي السكان، وتفيد معطيات متنوعة بأنهم يشكلون ما نسبته 10% من فلسطينيي الداخل (فلسطينيي 48)، ويعيش معظمهم في الشمال، خاصة في منطقة الجليل وجبال الكرمل، وهناك العديد من القرى والبلدات الدرزية المعروفة، مثل بيت جن، ودالية الكرمل، وعسفيا، ويركا، وجولس، والرامة، وحرفيش، والمغار، والبقيعة، وشفاعمرو، ومجدل شمس، وغيرها.
على عكس غالبية العرب في داخل الأراضي المحتلة، يُجبر الدروز على الخدمة العسكرية في جيش الاحتلال الإسرائيلي، حيث تُعد هذه الخدمة إلزامية لهم تماماً كما هي لليهود. نتيجة لهذا التجنيد الإجباري، يشغل العديد من أفراد الطائفة الدرزية مناصب عسكرية رفيعة في جيش الاحتلال. وتشير العديد من التقارير إلى أن 85% من أبناء الطائفة الدرزية يؤدون الخدمة العسكرية في الجيش الإسرائيلي، وهي نسبة تفوق نسبة اليهود المنخرطين في جيش الاحتلال، حيث انخرط هؤلاء الجنود في وحدات متنوعة، كان أبرزها ألوية المشاة المختارة، إلى جانب وحدات الشرطة وحرس الحدود.
ومن بين أبرز الشخصيات الدرزية في جيش الاحتلال الإسرائيلي، يبرز الجنرال غسان عليان، الذي قاد لواء “غولاني”، أحد أشهر ألوية المشاة النخبوية في جيش الاحتلال، وقد أُصيب بجروح خطيرة خلال حرب غزة عام 2014 بنيران المقاومة الفلسطينية، ويشغل منصب منسق شؤون الأراضي الفلسطينية في وزارة أمن الاحتلال.
متى بدأ انخراط الدروز في جيش الاحتلال الإسرائيلي؟
تختلف التقديرات الإسرائيلية حول التاريخ الدقيق لانخراط الدروز في جيش الاحتلال، ولكن بعض التقارير تشير إلى أن مشاركة الدروز بدأت منذ إنشاء دولة الاحتلال عام 1948.
ومنذ بداية الاحتلال، عملت الحكومة الإسرائيلية على عزل الدروز عن محيطهم العربي، عبر تصنيفهم كـ”عرب غير مسلمين”، والترويج لفكرة أن الدرزية تشكل قومية مستقلة بذاتها، في محاولة لتفكيك الهوية العربية داخل الأراضي المحتلة، وفتح الباب أمام ممارسات التمييز والتهميش بحقهم في القضايا الوطنية.
ودفعت سلطات الاحتلال نحو ترسيخ هوية مفصولة تحت اسم “الهوية الدرزية الإسرائيلية”، وسعت لتكريسها رسمياً. ففي عام 1957، اعترف القانون الإسرائيلي بالديانة الدرزية كديانة مستقلة، وفصل الطائفة الدرزية عن المجتمع الإسلامي والديانة الإسلامية. وفي عام 1959، فصلت حكومة الاحتلال الإسرائيلية المحاكم الدرزية عن المحاكم الشرعية الإسلامية، في خطوة مدروسة لتعزيز العزلة الثقافية والدينية، وتكريس الانفصال عن الهوية العربية الجامعة.
وخلال تلك الفترة، تطوّع أفراد من الطائفة الدرزية للانضمام إلى جيش الاحتلال ضمن كتيبة خاصة ضمّت الدروز والبدو والشركس، وذلك في إطار ما أُطلق عليه “حلف الدم”، الذي شرعنه ديفيد بن غوريون، أول رئيس وزراء لحكومة الاحتلال، إذ يعطي الدروز لدولة الاحتلال دمهم ويحصلون على الأمان.
وقد واجه قرار التجنيد الإجباري في حينه مقاومة من جزء كبير من الدروز، لكن تذكر المصادر أيضاً أنه، على الرغم من هذه المقاومة، فقد تمكنت بعض القيادات الدرزية المتنفذة من فرضه بالقوة في عام 1959، وحينها تم سن قانون يفرض الخدمة العسكرية الإلزامية على الدروز في إسرائيل. وفي عام 1974، تم تشكيل الكتيبة الدرزية المعروفة باسم “حيرف”، وهي وحدة برية نظامية في جيش الاحتلال تتكون في معظمها من الجنود الدروز. ومنذ بدء التجنيد الإجباري للدروز في صفوف جيش الاحتلال الإسرائيلي وحتى نهاية عام 2022، بلغ عدد قتلى جيش الاحتلال من أبناء الطائفة الدرزية 429 جندياً. وهذا العدد لا يشمل عدد القتلى الدروز المجندين في جيش الاحتلال خلال الحرب الحالية على غزة.
وقد اعترف رئيس وزراء الاحتلال نتنياهو بدورهم في حفظ أمن الاحتلال، كما أكد يعكوف شيمعوني، وهو دبلوماسي إسرائيلي، على أن تجنيد الدروز هو حربة يُطعن بها القومية العربية ويؤثّر بها على دروز سوريا ولبنان.
الدروز: مواطنون عند الحاجة فقط
رغم هذا “الولاء” للاحتلال وآلته العسكرية، لم يعترف الاحتلال بالدروز كمواطنين متساوين مع اليهود. فمنذ عام 1948، يمارس الاحتلال بشكل ممنهج سياسات تمييزية طالت جميع الجوانب: الأرض، والسكن، والتعليم، والاقتصاد، وحتى المؤسسة العسكرية نفسها.
جندي درزي في جيش الاحتلال – shutterstock
فمصادرة الأراضي مستمرة إلى اليوم، وقرى الدروز لم تُستثنَ من سياسات الاحتلال التوسعية منذ عام 1948، بل جُرّدت من مساحات كبيرة لصالح المستوطنات اليهودية.
لذلك، يعاني الدروز من ضائقة سكن متفاقمة تعود إلى رفض الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة توسيع مسطحات البناء منذ عام 1987، بعد مصادرة ما يزيد على 85% من أراضي القرى الدرزية، ما حوّلها إلى بيئات خانقة شبيهة بمخيمات اللاجئين. وحتى “دائرة شؤون الدروز”، التي أُنشئت عام 1970، لم تنجح في وقف شُحّ الميزانيات أو تنظيم البناء، ما اضطر الدروز إلى البناء دون تراخيص في أراضيهم، فواجهوا أوامر الهدم من سلطة الاحتلال. وفي عام 2016، احتج زعماء الطائفة على هدم منازل في قرى مثل حرفيش، والمغار، ويركا، وعسفيا، وطالبوا بتجميد الأوامر، لكن دون جدوى.
وقد وثّق تقرير صادر عن مركز “Crown Center” في جامعة برانديس الأميركية هذا التمييز العنصري المتزايد، حيث أشار إلى أن جنوداً دروزاً، بينما كانوا يشاركون في إبادة الفلسطينيين في غزة، كانوا يواجهون غرامات وأوامر هدم لمنازلهم وهم في الخدمة، كنتيجة طبيعية لسياسات البناء العنصرية التي يفرضها الاحتلال، والتي لا تمنح تراخيص لغير اليهود، حتى وإن شاركوهم في سفك دماء الفلسطينيين. وأوضح التقرير أن المادة 7 من “قانون الدولة القومية” الإسرائيلي تُشكل حاجزاً قانونياً فعلياً أمام العرب لبناء مساكن قانونية.
ولا يتوقف الأمر على ذلك، بل طال حتى الجنود داخل المؤسسة العسكرية. فعلى سبيل المثال، شهدت نهاية عام 2013 حادثة إهانة مجموعة من الجنود الدروز بمنعهم من دخول موقع ديمونة النووي أثناء تدريب. وفي الوقت الذي يُمنح فيه الجنود اليهود امتيازات واضحة بعد تسريحهم، خاصة في مجالي السكن والعمل، يُحرَم الجنود الدروز المسرّحون من هذه الحقوق، رغم أدائهم نفس الخدمة للاحتلال.
بل ويتعرضون لإهانات عنصرية، تصل أحياناً إلى الإذلال الجسدي والمعنوي. وتنقل وسائل الإعلام بين الحين والآخر شهادات لجنود دروز تعرضوا لسوء معاملة من زملائهم اليهود، وصلت حد المقاطعة، والنعوت المهينة مثل “كلب” و”إرهابي فلسطيني”.
فعلى سبيل المثال، أحد الجنود الدروز رُفض التحدث معه تماماً من قبل زملائه، فيما رُوي عن آخر أن ضابطاً يهودياً أمره بتنظيف المرحاض، وعندما رفض، مُنع من دخول غرفة الطعام، وبقي دون طعام لثلاثة أيام. وعندما حاول تقديم شكوى، قوبل بالتجاهل، بل زجره أحد القادة قائلاً: “ليس لدي وقت الآن، انصرف من هنا أيها العربي”.
إلى جانب ذلك، لا تخلو العنصرية الصريحة في المجتمع الإسرائيلي من دعوات علنية لطرد الدروز من الجيش، حيث عبّر الحاخام المتطرف مائير كاهانا – زعيم حركة “كاخ” – عن موقفه العنصري قائلاً بسخرية: “يجب أن نوفر لهم حافلات مكيّفة لنقلهم”.
اللافت أن هذا التمييز لا يقتصر على الجنود أو صغار الموظفين، بل يطال الدروز حتى وهم في مناصب عليا. ففي عام 2019، صرّح رضا منصور، سفير الاحتلال لدى بنما – وهو من أبناء الطائفة الدرزية – بأنه تعرض لـ”تمييز عنصري” ومعاملة مهينة من قبل حارسة أمن عند مدخل مطار “بن غوريون” في تل أبيب.
وفيما يخص التعليم، فوفقاً للتقارير، الدروز هم الأقل تحصيلًا بين العرب في الداخل. فقط 44.4% من أبنائهم حاصلون على البجروت (الثانوية العامة الإسرائيلية)، وغالبيتهم لا يكملون التعليم الجامعي، نتيجة عوامل اجتماعية وأخرى تتعلق بغياب سياسات. التمييز البنيوي: تخصيص الميزانيات للخدمات المحلية أدنى مما هو عليه في البلدات اليهودية؛ فرص التشغيل في القطاع العام محدودة؛ والبنى التحتية في القرى الدرزية متأخرة نسبيًا.
رغم تقديم الدروز أجسادهم وأرواحهم على مذبح الاحتلال لعقود من خلال خدمتهم في الجيش، لم يشفع لهم هذا “الولاء الدموي” لنيل المساواة. فبدل أن يُكافأوا بحقوق كاملة، تلقوا سلسلة من الضربات المتتالية من المؤسسة السياسية الإسرائيلية، خاصة في ظل تصاعد اليمين المتطرف خلال السنوات الأخيرة. تشير تقارير متعددة إلى أن لحظة الانفجار الشعبي تعود إلى عام 2018، عندما بلغت مشاعر السخط الدرزي ذروتها إثر إقرار “قانون الدولة القومية”.
هذا القانون الأساسي عرّف إسرائيل رسميًا كـ”دولة قومية للشعب اليهودي فقط”، ومنح حق تقرير المصير القومي لليهود دون غيرهم، مستبعدًا بذلك العرب، بمن فيهم الدروز، من دائرة الانتماء القومي. ورغم محاولات حكومة الاحتلال التخفيف من أثر القانون عبر وصفه بأنه “تكريس للطابع القائم”، إلا أن أبناء الطائفة شعروا أنه إعلان واضح وصريح لتهميشهم المتعمد.
وصفت قيادات درزية ونواب في الكنيست القانون بأنه “قانون متطرف يميز ضد الأقليات”. خرجت احتجاجات غاضبة في مختلف المدن، طالبت بإلغاء التجنيد الإجباري الذي بات لا يعكس إلا واقعًا يفتقر للمساواة. قابلت الشرطة الإسرائيلية هذه التظاهرات بالقمع، واستخدمت الرصاص واعتقلت المئات من المتظاهرين، رغم أن غالبهم خدم في جيش الاحتلال ذاته.
مع تمرير القانون في الكنيست، تصاعدت الأصوات الرافضة للتجنيد الإجباري، وخرجت مظاهرات ضخمة بتاريخ 4 أغسطس عام 2018، وامتلأ ميدان رابين في تل أبيب بما يُقدَّر بين 90 إلى 150 ألف متظاهر، رفعوا أعلام الطائفة الدرزية إلى جانب الأعلام الإسرائيلية، تعبيرًا عن غضبهم ورفضهم للتمييز. على المنصة، لخص الإعلامي الدرزي رفيق حلبي – رئيس مجلس دالية الكرمل – الموقف بقوله: “يجب أن يكون التحالف مع اليهود تحالفًا بين متساوين. نريد أن يكون لمواطنتنا معنى. نحن إسرائيليون حقيقيون – وقانون الدولة القومية يُفرغ الهوية الإسرائيلية من معناها. من اليوم فصاعدًا، لا عهد دم، لا تحالف حياة، بل تحالف مساواة”.
وطالب المحتجون من الدروز حينها بإبطال قانون القومية الجديد وتعديله. وكان من الشخصيات الدرزية البارزة التي شاركت في بعض تلك الاحتجاجات الزعيم الروحي الشيخ موفق طريف، الذي قال مخاطباً الجموع: “رغم ولائنا المطلق، إلا أن إسرائيل لا تعتبرنا مواطنين متساوين.” فما كان من الجمهور إلا أن هتف قائلاً: “المساواة! المساواة!” ورفع المشاركون يافطات كتب عليها: “إذا كنا إخوة فيجب أن نكون متساوين.”
توجه قادة الطائفة – بينهم ثلاثة أعضاء كنيست – إلى محكمة العدل العليا مطالبين بإلغاء القانون، بحجة أنه تمييزي. بيد أن المحكمة العليا الإسرائيلية في 2021 ردّت الالتماسات وارتأت بأغلبية قضاتها أن القانون لا ينتقص من حقوق الفرد للمواطنين غير اليهود، بل هو “إعلان لحقوق اليهود” وأنه يعلن فقط حقوق المواطنين اليهود، وبالتالي فهو دستوري. هذا الحكم شكّل صفعة إضافية للدروز وتثبيتًا رسميًا لمخاوفهم. فشعر كثيرون أن الميزان اختل نهائيًا: الدولة التي حموا حدودها تتنكر لمبدأ المساواة معهم. ومنذ ذلك الحين، فترت الحماسة التجنيدية لدى بعض الشبان الدروز وارتفعت أصوات تدعو لإعادة النظر في أداء الخدمة الإلزامية طالما ظلت المواطنة منقوصة – رغم أن الأغلبية ما تزال تلتحق بالجيش بحكم العادة والبيئة الاجتماعية.
أحد الأمثلة البارزة على ذلك هو انسحاب النقيب أمير جمال من الخدمة في جيش الاحتلال في عام 2018، حيث دعا الشباب إلى رفض سياسة التجنيد الإلزامي والعمل على إنهائها، احتجاجًا على القانون.
دروز الجولان المحتل
في عام 2023، برزت موجة جديدة من الغضب الدرزي، تمثلت في احتجاجات حاشدة واشتباكات جماهيرية في قرى الجولان السوري المحتل، رفضًا لمشروع إسرائيلي لبناء 23 توربينًا هوائيًا لتوليد الطاقة، اعتبره سكان المنطقة اعتداءً سافرًا على أراضيهم وتهديدًا مباشرًا لزراعتهم واقتصادهم المحلي. المشروع الذي صادقت عليه الحكومة الإسرائيلية وكُلّفت بتنفيذه شركة “إنرجيكس”، يتضمن إقامة 24 مروحة عملاقة يزيد ارتفاع كل واحدة منها على 200 متر، وتُقام كل واحدة منها على مساحة تقارب 100 دونم، ما يُهدد أكثر من 3 آلاف دونم من الأراضي الزراعية التي يعتمد عليها السكان في معيشتهم.
سكان الجولان أكدوا أن المشروع لا يشكل خطرًا بيئيًا وصحيًا فحسب، بل إنه يُناقض بشكل صارخ القانون الدولي، كون الجولان أرضًا سورية محتلة لا يجوز لقوة الاحتلال أن تتصرف بها.
على خلاف أقرانهم من الطائفة الدرزية داخل الأراضي المحتلة الذين يحاولون أن ينتزعوا الاعتراف الكامل بمواطنتهم داخل دولة الاحتلال، فإن إخوتهم في الجولان السوري المحتل رفضوا منذ البداية هذا المسار. فهم يعيشون على أرضهم، لكن تحت علم لا يعترفون به، ولا يحملون جنسيته، ولا يمنحهم الاحتلال أي حقوق كاملة كمواطنين. في الوقت نفسه، لا يعاملهم كجزء من شعب خاضع للاحتلال له صفة قانونية أو حماية دولية.
ما هي قرية مجدل شمس السورية المحتلة٬ ولماذا يرفض أهلها حكم الاحتلال الإسرائيلي/ أرشيفية (رويترز)
وتشير التقديرات إلى أن الجولان اليوم يعيش فيه أكثر من 20 ألف درزي، معظمهم يعرّفون أنفسهم كسوريين، وقد رفضوا منذ احتلال المنطقة عام 1967 عرض الحصول على الجنسية الإسرائيلية، رغم محاولات الأسرلة المتكررة. في المقابل، زرع الاحتلال أكثر من 25 ألف مستوطن يهودي في الجولان، موزعين على أكثر من 30 مستوطنة، في محاولة لفرض وقائع ديموغرافية جديدة.
بخلاف الزعيم الروحي للطائفة الدرزية داخل فلسطين المحتلة، الشيخ موفق طريف، الذي يتخذ موقفًا مندمجًا مع الاحتلال، يبرز في الجولان صوت ديني مستقل يتمثل في مشايخ رافضين تمامًا للاندماج أو قبول “الاحتلال الإسرائيلي”. هذا الرفض ظل ثابتًا ومُعلنًا رغم كلفته الثقيلة، وتم التعبير عنه مرارًا في المحافل والمناسبات الدينية والوطنية داخل القرى الجولانية.
حين فشلت سلطات الاحتلال في إقناع أهالي الجولان بقبول الجنسية طوعًا، أقر الكنيست قانونًا يفرض الجنسية الإسرائيلية بالقوة، ما فجّر ما عُرف لاحقًا بـ”انتفاضة الهوية”. قُوبل القرار بإضرابات واسعة واحتجاجات حاشدة، بلغت حد الاشتباك المباشر بين الأهالي وقوات الاحتلال، التي استخدمت الأسلحة لقمع المتظاهرين.
ورغم ادعاء بعض وسائل الإعلام الإسرائيلية – مثل “تايمز أوف إسرائيل” – بوجود تغير محدود في مواقف بعض شباب الجولان تجاه قبول الجنسية، فإن تلك التحركات، وفق تحليلات الخبراء، ترتبط باعتبارات براغماتية تتعلق بالواقع المعيشي الصعب، وليس تقبّلًا حقيقيًا لـ”الهوية الإسرائيلية”.
فالواقع أن الأغلبية من دروز الجولان ما زالت متمسكة بهويتها السورية، رافضة لمحاولات الأسرلة، ومصممة على البقاء على أرضها بوصفها جزءًا من وطن محتل، لا تابعًا لدولة تحتلهم.
مستندًا إلى نفس الأساليب الاستعمارية القديمة، يعاود الاحتلال الإسرائيلي استخدام أدواته في تفكيك المجتمعات العربية، وهذه المرة من بوابة دروز سوريا. ففي أعقاب محاولات الدولة السورية، بعد مرحلة ما بعد الأسد، إعادة توحيد أراضيها وبسط سيادتها على كامل الجغرافيا السورية، تنظر تل أبيب إلى هذه التحركات كتهديد استراتيجي مباشر لوجودها.
في هذا السياق، يسعى الاحتلال لاستغلال ورقة الطائفة الدرزية، عبر حملة استقطاب موجهة تهدف إلى فك ارتباط دروز سوريا بالحكومة المركزية في دمشق. ووفقًا لما نشرته صحيفة وول ستريت جورنال، تخطط “إسرائيل” لإنفاق أكثر من مليار دولار على برامج دعم ومساعدات تستهدف الدروز المقيمين شمالي فلسطين المحتلة، بهدف التأثير على مواقفهم، ودفعهم للضغط على دروز سوريا لرفض الاعتراف بشرعية الحكومة السورية الجديدة.
ويُعدّ تصاعد التهديدات الإسرائيلية ضد الإدارة السورية الجديدة والقصف المتتالي للأراضي السورية، إلى جانب التهديدات بمواجهة أي وجود لمسلحين أو قوات تابعة للدمشق في المناطق التي يسكنها الدروز جنوب سوريا، امتدادًا لهذه الاستراتيجية الأوسع.
عربي بوست
—————————————
القصف الإسرائيلي وردود دمشق: هل تجرّ إسرائيل الشرع إلى تغيير قواعد الصراع؟/ منهل عروب
2025.05.06
تحاول الإدارة السورية الجديدة تجنب أي صدامات خارجية، وبالطبع إسرائيل من ضمنها. منها أسباب واضحة أهمها عدم وجود جيش وطني مزود بأسلحة نوعية قادرة على الردع. ومنها أسباب غير مباشرة من تكوين تحالفات استراتيجية، وحلفاء قادرين على الوقوف معها، إضافة إلى افتقارها إلى الأوراق السياسية “الواضحة” التي يمكن أن تمارس من خلالها الضغط على إسرائيل أو حلفائها. يشكل وضوح الأوراق وليس فقط وجودها العنصر الأهم لأي دولة تخوض صراعاً ما؛ لأن معرفة الحدود والضوابط والإمكانيات تصوغ إلى حدّ كبير طبيعة الرد، والمكاسب والخسائر وأيضاً المقايضات التي ستحصل في نهاية المطاف.
سوريا ليست استثناء في هذا السياق فالحكومة السورية الجديدة لا تفتقد إلى الأوراق: فالموقف الأوروبي الداعم للاستقرار السوري له سبب واضح وهو ورقة اللاجئين. والاعتراض السعودي القوي واللافت على الاعتداء الإسرائيلي بسبب الرغبة بوجود حكومة سورية قوية معادية لإيران وقادرة على وقف تمدّدها والتصدي لأذرعها في المنطقة، يؤيدها الأميركان في ذلك، وورقة حزب الله وملاحقة طرق تهريب السلاح إليه. إضافة إلى مراقبة العمل “الفصائلي” الفلسطيني على الأراضي السورية أيضاً هي ورقة فاعلة على الصعيد الإقليمي والدولي. وأخيراً صياغة العلاقة السورية ـ الروسية وحدودها تشكل أحد هواجس الأوروبيين أيضاً. لكن التغيرات التي حصلت، وانهيار القوى القديمة، شكّل دينامية جديدة، تحتاج إلى وقت لترسيخ قواعد صراع جديدة (مكتوبة وغير مكتوبة)، تحكم القوى المتصارعة مع وحول سوريا.
الاعتراض السوري الشكلي أو لنقل البائس على الاعتداءات الإسرائيلية ليس جديداً، فقد مارسه النظام البائد لعشرات السنين، ولكن الفرق أن هناك ترتيبات واتفاقيات غير مكتوبة حكمت العلاقة بينهما، واستمرت فاعليتها سنوات طويلة. بل إن دولة الاحتلال وثقت بسلوكيات الأسد أكثر من النظام الأردني على سبيل المثال، والذي تحكمه اتفاقيات دولية مكتوبة! في حين لا تثق إسرائيل بـ”النظام السوري الجديد”، لأن الأوراق وقواعد اللعبة التي تحكمها غير واضحة بعد، ناهيك عن رغبة إسرائيلية بتغييرها، لأنها تعتقد أن موازين القوى والظروف الدولية تغيرت بانهيار المشروع الإيراني وأذرعه، وتمتلك فائض قوة يمكنها من إنجاز سريع وقوي ودائم.
عدم الثقة هذا جعل إسرائيل تصرّ (رغم عدم الرضا الأميركي) على حرمان النظام الجديد من الاستقرار ريثما تتوضح عدد من الأمور، منها رؤية النظام الجديد لقضية الجولان، وخريطة تحالفاته خصوصاً العسكرية منها، وطبيعة العلاقة السورية التركية وغيرها من الملفات، والتي تحتاج إلى وقت ليس بالقصير. ورغم أن دولة الاحتلال تعرف أن الطبيعة العقائدية للنظام الجديد توجهه نحو السعودية أكثر من تركيا، ولكن غرور القوة ـ ربما ـ إضافةً إلى مصالح نتنياهو السياسية، يجعلها تمارس أقصى درجات الضغط، مما يجرّ دمشق لاحقاً إلى تحالفات أو إجراءات لم تكن ترغب بها. كما أن التصريح الإسرائيلي غير المسؤول في دعم طائفة دينية سورية هو تجاوز للخط الأحمر السوري؛ لأنه يشكل خطراً وجودياً على دمشق؛ فهو من ناحية يحاول إظهار الرئيس الشرع بمظهر الضعيف، ومن ناحية أخرى أنه غير قادر على طرح خطاب وطني يوحد القوى والكيانات السورية تحت سلطة الحكومة المركزية، ويفرض السيادة على أراضيه.
على الطرف الآخر يمكن لتلك الاعتداءات الإسرائيلية أن تشكل فرصة كبيرة للشرع لبناء سردية وطنية تُوحد الداخل السوري، وتُظهره كـ”مدافع عن السيادة” وليس كـ”رئيس مرحلة انتقالية ضعيف”، ولكن ماذا لو تجاوزت إسرائيل الخطوط الحمراء وسلّحت ميليشيات درزية تقبل التعاون معها، على غرار التجربة المارونية في لبنان، أو فصائل الصحوة في العراق التي تعاونت مع الأميركان؟
حتى اللحظة ورغم محاولات كبيرة لترسيخ موقف وطني للقيادات الدرزية، إلا أن هناك فئة يتناغم موقفها مع دروز إسرائيل مدفوعة بثلاثة اعتبارات: ضعف الموقف الوطني العام، والخوف من أسلمة الحكومة المركزية والرغبة في تحقيق مكاسب سياسية ومصلحية إضافية لا تتناسب مع حجمها في الوضع الطبيعي. ومهما كانت هذه الفئة قليلة إلا أنها تستطيع أن تشوّش على الموقف الدرزي العام. وإذا تعاونت مع إسرائيل يمكن لها أن تستجر دعماً أميركياً في حال الصدام السوري الإسرائيلي الصريح.
يدرك الشرع جيداً أنه ورغم ضعف الإمكانيات بحاجة إلى تفعيل بعض الأوراق التي يمكن من خلالها أن يحدّ من الغطرسة الإسرائيلية، ويستطيع إرباكها ويجبرها على أن تعيد حساباتها، خصوصاً في محاولاتها لاستثمار الأقليات في تفجير الوضع السوري. تشكل الشراكة الاستراتيجية مع تركيا أحد الحلول، لكنها محفوفة بمخاطر كثيرة أهمها عدم وضوح النوايا التركية تجاه الصراع السوري الإسرائيلي وكيفية التعامل معه. كما أنه في حال التوصل إلى توافق على إدارة الصراع في سوريا، يمكن أن يحول الأراضي السورية إلى ساحة حرب بالوكالة، وهذا ليس جديداً لا على السوريين ولا على الأتراك. وسيجرّ دمشق في حال الانضواء تحت المظلّة التركية إلى تقييد دبلوماسيتها الدولية ورهنها بالتفاهمات التركية ـ الأميركية والتركية ـ الإسرائيلية.
في خطابه الأخير ردّ الرئيس الشرع بشكل غير مباشر على الاعتداءات الإسرائيلية، وألمح إلى خطورة نتائجها؛ حيث إن عدم استقرار حكومة دمشق أو ضعفها سيقود إلى الفوضى. الجميع يعلم أن الفوضى ستتيح لكثير من التنظيمات المتطرفة بالظهور، حيث انعدام الحلول السياسية سيؤدي حتماً إلى ظهور الحلول العسكرية. أو ظهور مقاومة شعبية وحالة فصائلية تقود مقاومة مسلحة مضبوطة، تجرّ إسرائيل إلى حالة استنزاف طويلة الأمد، تجبرها على تفاهمات ما خلف الكواليس، وتحدّ من عربدتها. هذا ما لم يقله الشرع، ولكن ـ غالباً ـ في أثناء توجيه الرسائل الدبلوماسية يكون ما لم يقله أحد أطراف الصراع أبلغ بكثير مما قاله!
تلفزيون سوريا
———————————–
=========================