ماذا عن الإعلام الرسمي السوري؟/ سمر يزبك

06 مايو 2025
عندما تنهار الأنظمة، لا تسقط بنيتها السياسية أو الأمنية فقط، بل تنهار معها منظوماتٌ رمزيةٌ كاملة كانت تؤسّس لشرعية الخوف. والإعلام في تلك المنظومات لا يعمل مرآةً للواقع كما يُفترض، بل جهازاً دؤوباً لإنتاج المعنى وفق مقاييس مركزية صارمة: من يتكلم؟ من يُسكَت؟ ومن يُقصى بوصفه “شاهداً غير موثوق” لأنه خرج عن النصّ؟ في بدايات الثورة السورية، حين دوّى الهتاف “كاذب كاذب كاذب… الإعلام السوري كاذب”، لم يكن موجّهاً إلى شخص أو وسيلة إعلامية، بل إلى البنية ذاتها التي حوّلت الكذب ممارسةً مؤسّسية. إذ لم تكن وظيفة الإعلام حينها نقل الوقائع أو مساءلة السلطة، بل حماية مركزها الرمزي؛ تمحورت رسالتُه حول تبرئة الرئيس المجرم من كلّ ما يقع، وعزل شخصه عن السياق العام، باعتباره فوق المساءلة ومحصّناً من الخطأ. حتى حين كانت البلاد تغرق في الدم، ظلّ الخطاب يُدار كما لو أنه ضحيّة سوء فهم جماعي، أو سوء نيّة كونية، لا قائداً مسؤولاً عن قراراتٍ سياسيةٍ وأمنيةٍ مدمّرة.
لم يكن الإعلام سلطةً رابعةً زمن “البعث” والأسديْن (الأب والابن)، بل سلطةً فوقيةً تصنع الرواية الوحيدة الممكنة، وتُطوّع الأحداث في قالب يبرّر القمع ويُخفي المأساة. كان يُحوّل القتلى أرقاماً، والمآسي فقراتٍ عابرةً، والمظالم “شائعاتٍ مغرضةً”، ويُبقي صورة السلطة نقيّةً ومحصّنةً من كلّ مساس أو شبهة أو خطأ بشري. اليوم، وبعد سقوط النظام الذي أمسك بهذا الجهاز عقوداً، تعود قناة الإخبارية السورية بهُويَّة بصرية جديدة. لكن هذه العودة ليست مجرّد حدث شكلي، بل لحظة اختبار حقيقي. هل نحن أمام مشروع إعلام جديد فعلاً؟ هل نحن قادرون، أخيراً، على تحرير الخطاب من بنيته السلطوية؟ هل يمكن أن يصبح الإعلام في سورية منبراً يعكس ما يقال في البيوت والشوارع، لا ما يُملى من فوق؟.
لم ترث السلطة الجديدة جهازاً إعلامياً بالمعنى المؤسّساتي، بل ورثت فراغاً تتقاطع فيه الأصوات المرتجلة والتصريحات المتناقضة. لأشهر، سُجّل غيابٌ واضحٌ لصوت رسمي متماسك، خاصّة في لحظات مفصلية (من مجازر الساحل إلى أحداث جرمانا وأشرفية صحنايا)، إذ جاءت الخطابات مبهمةً، والبيانات متعثّرةً، وبعضها (كبيان وزارة الصحّة)، أعاد إنتاج خطاب طائفي بثوب ما بعد طائفي، في تناقض صارخ مع أبسط مقوّمات الدولة المدنية. من الواجب أن نتذكّر أن بعض الإعلاميين الشجعان الذين رافقوا مسيرة الثورة، ووقفوا في جانب الناس في أصعب اللحظات، عادوا الآن لا بشجاعتهم الأولى، بل بنزعة إلى التبرير، والتوسّط، وتدوير الزوايا باسم “المصلحة العليا”، العبارة التي كان يُفترض أننا دفنّاها مع خطابات النظام الساقط. لكن السؤال الأهم الآن، ليس ما إذا كان الإعلام الجديد سيكذب، بل ما إذا كان يمكنه قول الحقيقة من دون إذن.
هل هناك مكان لأسئلة لا تطلب الإجماع؟ لخطاباتٍ تُقلق ولا تُطمئن؟ وهل ثمّة نيّة حقيقية لبناء إعلام يحمي الصوت بدل أن يراقبه ويطوّقه؟ ما نحتاجه ليس إعلاماً بطولياً، بل فضاءً مرناً يتّسع للتعدّد والاختلاف، إعلاماً لا يُصنّف الآراء الخارجة عن الإجماع بأنها تخريب أو “قلّة وعي وطني”، بل يعترف بها أصواتاً ضروريةً لفهم ما يجري. لا نريد سجناً قديماً بديكور جديد، بل منبراً صادقاً، يحتمل حتى الأصوات الأكثر إزعاجاً. وربّما، على من يديرون الإعلام الرسمي اليوم أن يعلّقوا على جدران التحرير ذلك الهتاف: “كاذب كاذب كاذب… الإعلام السوري كاذب”، لا تهمةً، بل وصيةً. أن يكون الصدق هو ما يحرجهم، لا ما يراوغونه. وأن يتذكّروا أن الثورة لم تندلع بسبب مؤامرة، بل لأن أحدهم قال ما لا يُقال، ولم يجد منبراً إلا الشارع.
العربي الجديد