منوعات

الجسر المعلّق.. إعادة بناء الذاكرة/  أنس الفتيح

1/5/2025

في قلب كل مدينة حكاية.. وفي قلب دير الزور حكايةٌ انكسرت على ضفة نهر.

هل يمكن لمدينةٍ أن تُشفى إن لم تعاود قلبها الحياة؟ وهل يمكن لذاكرتنا أن تتعافى، إن لم نُعد بناء ما كُسر فينا؟

ذاكرتنا

كان الجسر المعلّق في دير الزور أكثر من مجرد هيكل حديدي يمتد فوق نهر الفرات، كان شاهدًا على الحياة، وعلى الحب، وعلى الرحيل، وعلى العودة.. كان مكان اللقاء، والانتظار! كم من مراهق أُلهم قصائده الأولى وهو يتكئ على أسواره! وكم أغنية رُنمت على صرير ألواحه!

لا نكاد نتخيل صورة لنهر الفرات يتهادى في مجراه في المدينة إلا والجسر المعلق ممتد فوقه، وقد اختارت جامعة الفرات الجسر المعلق شعارًا رسميًا لها.. تحول الجسر بمرور الزمن إلى كائنٍ حي في مخيلة أهل المدينة؛ كل ديري يحمل في قلبه قصة مع هذا الجسر، كل عائلة لديها ذكرياتٌ في جنباته

وانهار المعلق

بعض اللحظات لا تُنسى، ذلك اليوم المشؤوم في 2 مايو/ أيار عام 2013 عندما سقط المعلق!

لا، لم يسقط وحده تحت وطأة الزمن.. ولا، تدميره لم يكن من آثار الحرب كما يحب البعض أن يختصر ويزور، بل كان جيش المخلوع الفار هو من فجر دعامته الثالثة بشكل متعمد ومباشر، ما أدى إلى سقوطه. كان الهدف اغتيال هوية المدينة التي ثارت ضده، ومسحَ ذاكرتها الجمعية.

انهار الجسر وكادت أن تنهار أرواحنا معه، انهار المعلّق ليصبح ألمًا غائرًا ينزف في قلوبنا. لكن الثورة علمتنا أن الألم لا يمرّ بلا ثمن، وأن الجروح هي التي تصنع القصص الأكثر صدقًا.

آمال البناء

نحن لا نملك رفاهية النسيان، ويجب ألا نُختزل في كوننا ضحايا، نحن ناجون، نحن منتصرون، لنا الذاكرة والمستقبل، ولنا إرادة الحياة، ولنا شغف بإعادة بناء ما دمّره المغول.

كل حجر نعيده إلى مكانه، كل سارية تنصب من جديد، كل ذلك شهادة نلوح بها على أن دير الزور لا تزال هنا، تنبض بالحياة رغم أنف الطاغية وأبيه.

وفعلًا، بمجرد أن منّ الله علينا بالفتح والتحرر من مليشيا الأسد، بدأت بعض المحاولات الجادة لإعادة إحياء هذا الأثر، بعض رجال الأعمال من أبناء المدينة تعهدوا بتمويل جزءٍ كبير من عملية الإعمار، منهم من قرّر السفر إلى فرنسا بحثًا عن مخططات الشركة المنشِئة، بعض المهندسين القدماء الذين شاركوا في صيانة الجسر أيام مجده يسجلون الآن ذكرياتهم، لضمان عودته بنفس الروح.

بعض المقترحات تطرح تحويل الجسر إلى متحف مفتوح، تتشارك فيه وزارتا الثقافة والسياحة وبدعم من اليونسكو، حيث تُعرض صورٌ للدير العتيق والأسواق القديمة على جوانبه، صور لشهداء سوريا، صور لأبناء المحافظة المتفوقين، رسومات لفنانين سوريين على جانبي الجسر تحكي عن التراث، عن الثورة، عن الحياة اليومية. ويمكن تثبيت نقاط تفاعلية على طول الجسر، يفتحها الزائر بهاتفه، لتأخذه إلى صورٍ أرشيفية أو مقاطع فيديو لمعالم المحافظة التاريخية، وتشغل صوتيات تحكي ذكريات الأهالي والأغاني الفراتية.

بعض الفنانين المحليين يعملون على تصميم منحوتاتٍ تخلد تاريخ هذا الصرح؛ ليصبح الجسر أكثر من معبر، يصبح مرآةً لروح المدينة والمحافظة، واحتفاءً بحكاياتها، ودفترًا مفتوحًا لذاكرة الفرات.

جسر من الماضي إلى المستقبل

هل سيتم ذلك حقيقة؟ وهل يمكن أن يُبنى من جديد؟ والجواب دائمًا: نعم، فكل ما هُدم يمكن أن يُعاد ترميمه، لا كما كان، بل كما يجب أن يكون.

نحتاج إلى أن نبني الجسر مجددًا، لا فقط لنتمشى عليه، بل لنقول لأنفسنا إننا عبرنا الأسوأ، وإننا نستحق جسرًا جديدًا يُشبه نضجنا بعد الثورة، ويليق بأرواحنا التي لم تستسلم.

إن إعادة بناء الجسر المعلّق ليست مجرد مشروع عمراني، بل هي خطوة في رحلة استعادة سوريا روحها وهويتها وثقافتها.. سنبني سوريا المستقبل الذي نريد ونطمح.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

الجزيرة

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى