العار والثقافة: هل توجد حقاً «أغلبيّة صامتة»؟/ محمد سامي الكيال

6 – مايو – 2025
يتصاعد الحديث عادةً عن «الأغلبية الصامتة»، إبان الاضطرابات والنزاعات الاجتماعية الشديدة، وانتشار ظواهر التطرف والعنف، وسيادة خطابات الكراهية. إذ يفترض بعض المعلّقين على الأحداث أن ما يجري مسؤولية قوى منظّمة من المتطرفين، أو مجموعات من الغوغاء، فيما المتن الاجتماعي أكثر اعتدالاً وميلاً للتعايش السلمي، ولكنه، بطبيعته، أقل تسيّساً ونشاطاً وقدرة على التعبير واتخاذ المواقف، ولذلك يجب تحفيزه على كل ذلك، ليقول كلمته، ويمنع انحدار الأمور نحو الأسوأ، ويطوّق التطرف.
تتشابه مقولة «الأغلبية الصامتة»، وتتناقض في الوقت نفسه، مع مقولات أقدم، ارتبطت عادة بحركات التحرر الوطني واليسار الراديكالي، ركزت على «تثوير المجتمع»، خاصة «طبقاته الشعبية»، من عاملين بأجر وفلاحين ومستثمرين صغار، إذ رأى «التحرريون» أن «الشعب» صامت أكثر من اللازم، ولا بد من تسييسه، وتنظيمه لأداء مهمة وطنية أو تاريخية ما، إلا أن الهدف لم يكن نزع فتيل التطرّف والاضطراب، بل جعل المتن الاجتماعي يعيد اكتشاف نفسه سياسياً، لتعبئته في نضال أو معركة ما. وبالتالي تهيئته لخوض نوع من الحراك المنظّم، وواضح الأفق، لتغيير وضع معيّن، سواء كان الاحتلال أو الاستغلال أو التخلّف. فيما تركز مناشدة «الأغلبية الصامتة» على الحفاظ على تقليد، يُفترض أنه أكثر سلميّة واستقراراً مما يريد الراديكاليون. ومن الملحوظ أن أحد أهم مراحل ذكر «الأغلبية الصامتة» ومناشدتها، بل العمل عليها سياسياً وثقافياً في منطقتنا، كان بعد أحداث الحادي عشر من أيلول/سبتمبر، حينما تحدّث عدد من المسؤولين الأمريكيين والغربيين عن «الأغلبية الصامتة» بين المسلمين، التي يجب أن تتكلّم، لرفض التطرّف والإرهاب. تبعت هذا محاولات دعم لما سُمّي «الإسلام المعتدل». إلا أن الفرق بين مقولتي «الأغلبية الصامتة» و»تثوير المجتمع»، قد لا يكون كبيراً للغاية، ففي الحالتين نحن أمام افتراض وجود جوهر ما، حول ثقافة المجتمع أو مصالحه أو هويته، تعمل مجموعة من الفاعلين على استثارته أو تحفيزه، لكي يُعبّر عن نفسه بالشكل الصحيح. وسواء كان الحديث عن «الأغلبية الصامتة من المسلمين الوسطيين»، أو «الطبقات الشعبية المسحوقة من الاستعمار والإمبريالية»، فيجب على الناس أن يلعبوا الدور الذي يفترضه صاحب المقولة، لأنهم إن تكلموا وتحركوا فسيعبّرون عن حقيقتهم، بوصفهم وسطيين أو مُستَغَلّين أو وطنيين بالفطرة.
بالطبع، يتعلّق الموضوع بآلية معيّنة للتعبئة، وإعادة صياغة الهوية والأهداف، تقوم بها مجموعات منظّمة، تبني التنظيمات، أو تصدر البيانات، أو تنظّم التحركات في الشارع، أي أن «الأقليات الثرثارة» إن صح التعبير، هي التي تنتج خطاب «الأغلبية الصامتة»، إن تكلّمت في نهاية المطاف. يصبح السؤال إذن هل «الأغلبية» صامتة حقاً؟ أم أنها مجرّد مقولة سياسية، تتنازع عليها قوى متعددة، يعمل كل منها على حشد ما يعتبره «أغلبيته» الخاصة؟ وإذا كان الجواب هو الثاني، فما هو موقف الناس الفعلي قبل حشدهم وتعبئتهم؟ ربما تتطلب الإجابة على هذه الأسئلة بعض التفكير بالآليات السياسية والثقافية لصياغة ما يسمّى «الأغلبية»، وبالتالي «الأقليات»، إذ أن كثيراً مما نعتبره موجودات بديهية و»طبيعية» قد يكون جانباً من خطاب، أو بناءً تاريخياً وسياسياً يستحسن التنقيب في أصوله، بدلاً من اعتباره حقائق ثابتة لا يمكن مناقشتها. وقد يقودنا السؤال عن سبب صمت «الأغلبية»، عن التطرّف وخطابات الكراهية والانتهاكات الجسيمة في بلداننا، إلى نتائج مهمة حول تلك «الأغلبية» نفسها.
مَنْ هم «الناس»؟
يستسهل كثير من المتداخلين في الشأن العام، من الناطقين بالعربية، الحديث عن «الناس»، وعن ثقافتهم وآرائهم وهمومهم ومعاناتهم، لدرجة أن هناك ميلاً لاعتبار أي تحليل أو طرح، مجرد ترف أمام رأي ومعاناة «الناس»، بل إن أي نقد لأي ظاهرة قد يصير غير مشروع، وتعالياً مذموماً، إذا اصطدم بـ»الناس»، الذين يبدو أن معاناتهم، أو فقرهم، أو تهميشهم من طرف جهة شريرة ما (الاستعمار، الاستبداد، إلخ) يمنحهم نوعاً من القداسة.
لا جدوى من سؤال أنصار مقولة «الناس» عن كيفية معرفتهم لآراء ذلك الكيان الذي يحتمون به، إذ أنهم في الأساس قد يرفضون أي آلية معرفية أو نقدية، باسم «الناس»، الذين يبدو أنهم وصلوا لمعرفة حسّهم العام بنوع من القفزة العرفانية. ولكن ما قد يكون أكثر إثارة للاستغراب والتهكّم، هو اعتبار «الناس» مجموعة أحادية التوجه، وهذا في مجتمعات غارقة بالانقسامات الحادة والصراعات الدموية.
من الواضح أن مفردة «الناس» هنا نوع من الهراء Nonsense، الذي لا جدوى كثيراً من نقاشه، إلا إذا كان القصد منه «الأغلبية» إياها، هذا يعني أن ما يُشار إليه اليوم باسم «الناس» هو أثر باهت، ورَثّ، للكلام عن ذاك المتن الاجتماعي، الذي من المفترض أن يُثوَّر، أو يُدفَع للكلام، ليفرض جوهره، إلا أنه بات مُعرَّفاً الآن بالمسكنة والمعاناة، وكذلك بـ»ردات الفعل» الهوجاء والقاتلة. ما نتكلّم عنه إذن هو مقولات سلطوية، عن كتلة أحادية، ذات روح واحدة، تُستعمل غالباً لإقصاء أي فرد، أو فئة، ذات موقع ومصلحة وتعبير مغاير لما يُعتبر أنه الكل الاجتماعي. وهي بالتالي إنشاء سياسي/أيديولوجي، قد يرتبط بدول، ومشاريع قومية، أو حتى بميليشيات، كما في حالة كثير من دول المنطقة. كل هذه القوى تنشئ «ناسها» الخاصين، وقد تنجح أحياناً في صياغة ثقافة عامة لـ»شعب»، عبر قدرتها على بناء ائتلاف من فئات متعددة، وباستخدام آليات مثل التعليم العمومي، والإعلام الجماهيري، وإنتاج لغة أو لغات معيارية للحيز العام، فضلاً عن المؤسسات القانونية والدينية.
وهكذا عموماً تنشأ «الأغلبية»، أي المتن البشري الحامل لـ»الأمة»، والمتمتع من خلالها بنوع من السيادة والمساواة النظرية، وإلى جانبه «الأقليات»، ممن لا تنطبق عليهم الشروط المعيارية للأمة، ولا ينالون المساواة، إلا إذا نجحوا في الاندماج بها. في حالات كثيرة يكون الاندماج شبه مستحيل، فتبقى «الأقليات» مهمّشة، أو مهددة بالاستئصال، بوصفها من «أعداء الداخل» المتآمرين.
الطريف أن مقولة «الناس» المعاصرة، رغم أنها أثر خطابي من المفاهيم المذكورة أعلاه، لا تُستخدم للحديث عن أمة ذات سيادة، إذ كثيراً ما يعتبر مستخدمو المقولة أن «ناسهم» لا يهتمون بسياسة، ولا ديمقراطية، ولا عمل ثقافي، وإنما فقط بحدود دنيا من الحاجات الضرورية، إضافة لانتماء هوياتي ما، تعبّر عنه ميليشيا أو متغلّب. تحافظ المقولة هنا على وظيفتها الاستئصالية، وتحيل إلى الهوية، إلا أنها لا توفّر أي حقوق لأي فئة، مهما كانت من قلب «الأغلبية»، بل فقط تفوّض كل السلطات لمجموعات أيديولوجية مسلّحة، تعبّر عن روح «الناس»، من دون أن تؤمّن لهم المشاركة، حتى الشكلية، في القرار. في حالة بعض الجماعات الجهادية، تعتبر السيادة الشعبية شُركاً، رغم ذلك تشير تلك الجماعات إلى «الأكثرية»، وكأنها تستمد شرعيتها منها، وليس من شرع الله؛ أو لعلها تطابق بين الأكثرية وشرع الله، وهذا بالغ الخطورة، إذ يعني أنها مستعدة لبتر أطراف من الأكثرية نفسها، لكي تجعلها مطابقة للصورة الشرعية المتخيّلة.
ربما لا تكون «الأغلبية» صامتة، بل المتكلّم الأساسي، ولكن عبر وصي ما. وفي حالة الاضطرابات الاجتماعية، وانبعاث خطابات الكراهية، فهي لا تمتلك أي إمكانية للقول، إلا الأساسيات الخطابية والأيديولوجية، التي انبنت عليها أصلاً، بوصفها «أغلبية»، والتي يوصلها المتطرفون إلى ذراها. أي أن التعويل على «الأغلبية الصامتة» قد يكون ضرباً من الوهم. بالتأكيد لن يُسرَّ كثير من الأفراد برؤية القتل والهتافات الدموية في الشوارع، ولكنهم غير قادرين على مواجهة كل هذا، إلا إذا حققوا نوعاً من القطيعة مع فهمهم لأنفسهم، بوصفهم أغلبية، أو على الأقل حاولوا بناء ذاتهم السياسية والاجتماعية على أسس جديدة. هنا يحتاج الأمر، مجدداً، إلى أقليّة أو أقليات ثرثارة، ونشيطة، تعمل على إعادة إنتاج صورة «الأغلبية» وتوجهاتها. ثمّة استحالة ما في التعبير ضمن وضع الأغلبية، فإما تكرار السائد، الذي قيل كما هو، قبل أن يفتح أي متكلّم فمه، والتسليم بنتائجه؛ أو التحوّل لأقلية. سبق للفيلسوف الفرنسي جيل دولوز الحديث عن «الصيرورة أقليّة»، و»لغة الأقليات»، بوصفها طريقة للإفلات من المعيار الأكثري، المُعطّل للفعالية.
التفكير في «العار»
رغم هذا، فإن الأوضاع قد تصل إلى درجة الفضيحة في بعض الأحيان، كأن ترتكب مجازر إبادة جماعية، أو يتم اختطاف وانتهاك النساء، أو يصبح الجميع تحت سلطة مراهقين مسلحين متعطشين للدماء، وكل هذا باسم «الأكثرية». حتى لو اعتبرنا أن «الأغلبية الصامتة» قابلة للتعايش مع ذلك، فإن هذا لن يمحو ما يمكن تسميته «عارها»، في مثل هذه الأوضاع. لا يعني «العار» هنا المفاهيم التقليدية والمتأصلة عن انتهاك الشرف، التي تضع المفردة ضمن شبكة مفهومية مترسّخة وواضحة، وتُؤمّن بالتالي أساليب وأداءات اجتماعية واضحة لغسل العار، وإنما بروز ما هو غير مفهوم، وغير متوقّع، ومثير للاشمئزاز، وصادم، بما لا يمكن للشبكة المفهومية للبشر تأطيره واستيعابه. هنا قد يكون الشعور اللاواعي بالعار غير قابل للغسل، ومثيراً لاضطراب شديد، يجعل أي تعبير ممكن أقرب للهلوسة. لا يمكن التعويل على الشعور اللاواعي بالعار وحده، فقد سبق لمجتمعات المنطقة التعرّض لصدمة من هذا النوع، مع بروز تنظيم «داعش»، والفظائع والأهوال التي ارتكبها باسم الدين. رغم هذا مرّ ذلك «العار» دون أن يؤدي لتغيير يُذكر، إذ كرر كثيرون عبارات مثل «لا يمثل الإسلام»، «مؤامرة خارجية»، «خوارج عن الدين»، «ردة فعل على الاستعمار»، إلخ. وعلى مستويات أكثر ثقافة وتخصصية، تبنّى البعض أطروحة أوليفييه روا، الباحث الفرنسي في الإسلام السياسي، عن «أسلمة الراديكالية»، أي اكتساب نوازع التطرف العنيف في المجتمعات المعاصرة، شرقاً وغرباً، صبغة إسلامية، بعد انهيار كثير من الأيديولوجيات الراديكالية الأخرى. وهكذا تم التستّر على المسألة، وإدراجها ضمن الشبكات المفاهيمية القائمة، بشكل تلفيقي، دون الاهتمام بتقديم أي نقد جدّي، تجاه الادعاءات الدينية والثقافية للتنظيم المتطرّف، وطرح أسئلة أكثر عمقاً عن الجذور الاجتماعية والثقافية والسياسية، التي أنتجت تنظيماً كهذا بين سوريا والعراق، وجّه أبشع ممارساته للمجموعات الأضعف والأفقر، والتي لا علاقة لها لا باستعمار، ولا باستبداد، مثل بنات وأبناء الديانة الإيزيدية.
ربما يجب الإلحاح أكثر على «فضح العار»، ليس مناكفةً لأي «أغلبية صامتة»، أو تعويلاً عليها، وإنما كي لا يبتلع «العار» الجميع، لدرجة أن يصبح استمرار الحياة نفسه متعذّراً، وعندها لن ينفع المرء أن يكون ابن «الأمة» البار. التفكير بالعار، وإبرازه، ومناقشته بالحدة التي تناسب طبيعته، قد يسرّع بإنهاء «الأغلبية» نفسها، التي لا يسعها إلا أن تصمت، حتى عندما يكون ضجيجها شديد العلو. نقول «يسرّع» لأن تلك «الأغلبية» تتفكك بطبيعة الحال، وتتحوّل إلى مجموعة أقليات معزولة وخائفة، لا يمكنها مطابقة الصور التي يفرضها المسلحون المنفلتون، والحشود العدوانية، في شروط انهيار المدنيّة، واضمحلال الدول. وربما من الأفضل أن نواجه هذا ببعض الوعي، بدلاً من الاستجابات الأقرب للفصام.
كاتب سوري
القدس العربي