الناسسقوط بشار الأسد، الرئيس الفار والمخلوع

صورتنا على فيس بوك/ حسام جزماتي

2025.05.05

أكثر من أي وقت مضى يشبه السوريون حساباتهم على وسائل التواصل الاجتماعي ولا سيما فيس بوك، أشدها شعبية وأقدمها انتشاراً. وقد ارتفعت أهمية هذا الموقع بعد سقوط النظام بسبب جو الحريات الذي ساد بعد ذلك، والحماس العارم للتعبير والمساهمة في النقاش العام حول ما يجري في البلد. وتجلى ذلك بشكل صاخب مؤخراً بالتزامن مع صدامين كبيرين في الواقع صحبتهما معركتان حاميتان على مواقع التواصل الاجتماعي؛ هما «موقعة العلويين» في الساحل في مطلع آذار الفائت، و«موقعة الدروز» في أرياف دمشق وأطراف السويداء قبل أيام.

ومن الواضح أننا فشلنا في المحافظة على صورتنا الافتراضية نقية بالتوازي مع إخفاقنا في منع تحول التوتر في المنطقتين إلى دماء ازداد تأثيرها حين سالت في مرحلة تأسيسية من عمر السلطة الجديدة ووعودها بالعدالة والمساواة بين السكان بغض النظر عن انتماءاتهم الطائفية.

وعلى خلاف جملة نمطية عن الفارق بين الواقع «على الأرض» ومراقبته «من وراء الشاشات» يبدو أن وسائل الإعلام الشعبي والشعبوي شفافة جداً في هذه المرة. فالجميع موجودون هنا؛ القتلة والضحايا، الشهود والمزورون ودعاة حقوق الإنسان. في هذا الفضاء تجد الأدلة، الفيديوهات والصور، منشورة بصلف مستهتر، وتلاقي من يوثقونها فيحفظون الوجوه ويدققون في شعارات الفصائل على الأكتاف. وإلى جانب هؤلاء وأولئك تصادف أعداداً ضخمة من المشجعين والمتفاعلين الذين تقف وراء حساباتهم شخصيات حقيقية بأسمائها الصريحة أو المستعارة، مما يبعد عنهم صفة الذباب الإلكتروني.

على رأس هؤلاء تجد عدداً من صانعي المحتوى، المعروفين أو محدثي الشهرة. ورغم ما يُفترض أن يتسموا به من حد أدنى من المصداقية والالتزام المهني والأخلاقي والمسؤولية تجد أن «محتواهم» شديد الصفار، بل يميل إلى خطاب الكراهية الأسود، وصولاً إلى الدم الأحمر.

تراكمت هذه الظاهرة خلال سنوات طويلة من الحقد والضغينة صاحبت الحرب الوحشية التي شنّها بشار الأسد على المحتجين عليه وحاضنتهم منذ اندلاع الثورة. فقد أتاح، في أرض الإفلات من العقاب التي كان يحكمها، لأشنع الأصوات أن تصرّح على وسائل الإعلام ناهيك عن مواقع التواصل الحرة. فدعوا إلى مسح مدن عن الخارطة، وتجويع بلدات محاصرة وسخروا من آلام أهاليها ومعاناة أطفالهم. وبالمقابل انساق الضحايا إلى سباق التوحش فدعوا إلى قصف المدنيين بشكل عشوائي لأنهم ينتمون، جغرافياً أو طائفياً أو بصدفة السكن، إلى أرض الخصوم. وأيضاً لم تكن هناك رقابة رسمية على هؤلاء «سوى رقابة الضمير» وفق تعبير شائع لحافظ الأسد، مؤسس الكارثة. وفي حالات عديدة صار هذا الضمير مطاطاً إلى الحد الذي تريده أهواء صاحبه من دون انضباط بمعايير قانونية أو شرعية أو قيمية.

وإذا كان من المستحيل ملاحقة مئات آلاف الحسابات الناشرة للكره فإنه من الممكن، لو صدقت النوايا، السعي في تنبيه بعض الإعلاميين والمؤثرين المعروفين. فلو التزم هؤلاء بسقف سياسي للخلاف ربما أمكن، بصعوبة وبطء، إرساء تقاليد معقولة لحدود الآراء الفردية. ولجميع كبار المحرضين هؤلاء أصدقاء من العقلاء، حقيقة أو ادعاء، لكن يبدو أن دورهم يقتصر على الابتسامة للمحافظة على العلاقة، أو عتاب خجول خفيض لا يغني ولا يُسمن من تحريض.

تؤشر فضيحتنا الافتراضية إلى مصيبتنا الواقعية فتتغذى إحداهما من الأخرى. ومن المستبعد ألا يعرف ناثرو الدم على فيس بوك والتليغرام وسواهما أن عباراتهم ستدفع الغضب في رأس بعض متابعيهم إلى القتل، طالما أنه سهل في جو «الفصائل غير المنضبطة» وغموض الحدود بين القوات الرسمية وتلك الرديفة، وصعوبة التحقق من التزام الأولى أصلاً!

بعد سنين طويلة من الفضاءات الافتراضية المتفاصلة عاد السوريون إلى الاحتكاك ببعضهم في حلبة واحدة؛ ثواراً و«مكوعين»، سنّة وعلويين ودروزاً، عرباً وأكراداً، مجرمين وجثثاً. ولعل هذا يمهّد لرجوعهم الفعلي الذي سيجعل العائدين تحت سقف قانوني واحد بعد طول شتات. وهنا يمكن تنبيه المؤثرين إلى الحدود التي يجدر ألا يتجاوزها في سعيهم الأخرق نحو زيادة المشاهدات على حساب كل شيء. ومن المرجح أن قاطرة ذلك يجب أن تكون في مكاتب الإعلام الرسمي الذي يجدر به أن يشق الخطوط العريضة لآداب الاختلاف في السياسة. ومن دون ذلك سيبقى سيل الحقد جارفاً بتضافر إهمال الرسميين وجشع المؤثرين وضغائن عامة المستخدمين. وبما أنه لا تأثير لنا على الأخيرين فما يمكننا فعله يجب أن ينصب على القطاعين الأساسيين الكبيرين؛ بضبط الإعلام الرسمي أو شبه الرسمي، والتأثير في المؤثرين.

من الضروري أن نعي أن ذلك لا يقتصر على المشاهد الدموية، فصور الإذلال كفيلة بصنع وعي جمعي غاضب وراغب في الانتقام أكثر، في بعض الأحيان، من المعارك نفسها التي قد تنتهي حين تنتهي بتشييع الذين قضوا ومحاولة نسيانهم بحثاً عن توفير السلامة للأحياء. أما الفيديوهات المهينة التي تسخر من مقدسات أو محترمات الآخرين فمن العسير غفرانها وتطويق تأثيرها المستفز والمستمر.

أخيراً فإنه من بديهيات الأمور ألا تكون المعايير المعتمدة استنسابية ومنحازة. فلا يصح أن تكون ممن دعوا إلى زراعة دوما بالبطاطا ثم تنتقل فجأة إلى تلبّس أدق متطلبات حقوق الإنسان، وتصير داعية لإيقاف القتل في بانياس وصحنايا من دون أن تعتذر عما فعلت أو تتبرأ مما أيدت!!

تلفزيون سوريا

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى