عن أشتباكات صحنايا وجرمانا تحديث 06 أيار 2025

لمتابعة تفاصيل هذا الملف اتبع الرابط التالي
—————————
السويداء.. مقاربة من زاوية مختلفة/ محمد صبرا
2025.05.05
ملأت الأخبار القادمة من السويداء ومن جرمانا وصحنايا في ريف دمشق، الفضاءات الإعلامية والشاشات، التي خصصت أوقاتاً طويلة لتغطية الحوادث اليومية التي تجري في هذه المناطق، واستضافت الكثير من المحللين والاستراتيجيين والخبراء العسكريين إلى حد الإرهاق، ورافق ذلك سعار طائفي متبادل وبغيض، على وسائل صفحات التواصل الاجتماعي، واتهامات بالخيانة والعمالة، واتهامات مقابلة بالتكفير والتطرف والإرهاب.
كل هذا المشهد ستكنسه الأيام، وستبقى الحقيقة المؤلمة أن هناك دماء سالت وأن هناك أمهات سوريات انتظرن أبناءهن الذي عادوا إليهن مضرجين بدمائهم، ولا يهم هوية هؤلاء الضحايا، لأن الألم في قلوب الأمهات والآباء والأبناء هو واحد من دون لون أو نكهة طائفية، وبعيداً عن الغرق في تفاصيل الحوادث وأسبابها وسياقها الذي تطورت فيه، فإن العودة للوراء قليلاً والابتعاد قدر المستطاع عن التفاصيل المؤلمة، ربما يسمح لنا أن نرى الأمور من زاوية مختلفة، وأن نضع ما حدث في سياقه الأكبر باعتباره جزءا من الصراع الإقليمي بين قوى متوسطة ناهضة، تريد طرح مشاريعها الخاصة، عبر استخدام أدوات “متدنية الكلفة” لتحقيق طموحاتها وإعادة تموضعها الجيوسياسي في المنطقة، ولذلك ستغفل هذه القراءة عن عمد، كل ما يتعلق بالراهن اليومي وبالمحلي السوري، لنستطيع أن نرى جزءا مختلفاً من المشهد بعيداً عن ركام الصراعات الصغيرة البائسة، لقوى محلية مرهقة وتفتقد للبصر والبصيرة في آن.
صراع القوى المتوسطة والإقليمية في إقليم مضطرب
يُستخدم مصطلحا “القوى المتوسطة” و”القوى الإقليمية” بشكل متزايد في الأوساط السياسية والأكاديمية، رغم غموض تعريفاتهما واختلاف الآراء حولهما، تشير “القوة المتوسطة” إلى دولة تحتل موقعاً بين القوى العظمى والدول الأضعف، وتمتلك نفوذاً دولياً مؤثراً، وإن لم يكن مطلقاً، تعود جذور المفهوم إلى القرن السادس عشر، لكن استخدامه الرسمي بدأ مع مؤتمر باريس عام 1815، يُعرّف هذا النوع من القوى تقليدياً بناءً على القدرات العسكرية والاقتصادية والموقع الجيوستراتيجي، بينما يركز نهج أحدث على مدى تأثير الدولة وشرعيتها القيادية.
برزت أهمية القوى المتوسطة خلال الحرب الباردة، حيث مثلت دول مثل كندا وأستراليا أطرافاً فاعلة رغم افتقارها للقوة العظمى، بعد الحرب الباردة، صعدت دول مثل البرازيل والهند والصين ضمن مجموعة “البريكس”، ما أدى إلى التمييز بين القوى المتوسطة التقليدية والناشئة.
أما “القوة الإقليمية” فهي دولة تملك تأثيراً بارزاً في منطقة معينة، وقد تصبح مهيمنة إقليمياً إذا تفوقت على جيرانها، ويشكّل التفاعل المحلي والدولي عاملاً حاسماً في تحديد النفوذ الحقيقي لكل من القوى المتوسطة والإقليمية.
تلعب القوى المتوسطة والإقليمية دوراً متزايد الأهمية في إعادة تشكيل تقسيم العمل الدولي، خاصة مع تراجع الهيمنة المطلقة للقوى العظمى وتعدد مراكز التأثير العالمي، فبفضل قدراتها الاقتصادية المتنامية ومواقعها الجيوسياسية الحيوية، أصبحت هذه القوى طرفاً فاعلاً في المبادرات العابرة للحدود، مثل مشروع “الحزام والطريق” الذي تقوده الصين، وتسهم القوى المتوسطة، كتركيا وإندونيسيا والبرازيل، في ربط الأسواق الإقليمية، وتوفير بيئات مستقرة نسبياً للنقل والتجارة، مما يمنحها نفوذاً في تصميم شبكات الإنتاج وسلاسل الإمداد العالمية، من جانب آخر، تسعى القوى الإقليمية مثل إيران وجنوب إفريقيا وإسرائيل، إلى استخدام موقعها ومكانتها لتعزيز مصالحها الاستراتيجية، سواء عبر الانخراط في هذه المشاريع أو طرح بدائل تنافسية، في هذا السياق، لم تعد القوى العظمى قادرة على تنفيذ مشاريع كبرى بمعزل عن شركاء إقليميين ومتوسطي القوة، بل أصبحت بحاجة للتنسيق معهم لضمان الاستقرار والقبول المحلي، ويعكس هذا التحول تعقيد النظام الدولي اليوم، حيث تلعب هذه القوى دوراً مزدوجاً كمساهمين في التنمية العالمية من جهة، وكحراس لمصالحهم الوطنية والإقليمية من جهة أخرى، مما يمنحهم وزناً سياسياً واقتصادياً متزايداً في رسم مستقبل النظام الدولي.
ويشهد الشرق الأوسط تنافساً محتدماً بين ثلاث قوى إقليمية رئيسية: إيران، وتركيا، وإسرائيل، حيث تسعى كل منها لتعزيز نفوذها في المجال الحيوي الإقليمي والتأثير على السياسات الدولية، والاستحواذ على دور فاعل في شبكات سلاسل التوريد وفي التقسيم الدولي للعمل، تستند هذه القوى إلى مزيج من المقومات الجيوسياسية والاقتصادية والعسكرية، وتختلف استراتيجياتها بحسب أولوياتها وأدواتها.
اعتمدت إيران على تحالفات أيديولوجية وشبكات نفوذ تمتد عبر العراق وسوريا ولبنان واليمن، مدعومة بقدرات عسكرية غير تقليدية مثل الميليشيات المسلحة، العابرة للحدود، وذلك بهدف ضمان عمق استراتيجي يربط الخليج العربي بالبحر المتوسط، ما يتيح لها الضغط في قضايا الطاقة والملاحة الدولية، ويعطيها دورا في سلاسل التوريد العابرة من آسيا إلى أوروبا، ولذلك كان مشروعها الأساسي هو خلق مجال نفوذ خالص لها في ما بات يعرف “بالهلال الشيعي”، ووضعت خططا طموحة لبناء شبكات سكك حديدية من الأراضي الإيرانية إلى المتوسط عبر العراق وسوريا، وربط إيران بالبحر الأحمر عبر سكة حديد تمتد من إيران إلى البصرة ومنها إلى ميناء العقبة عبر الأردن، فضلا عن خططها حول شبكات أنابيب الطاقة.
في مقابل المشروع الإيراني، تسعى تركيا لاستعادة دورها كقوة أوراسية من خلال تعزيز وجودها في القوقاز وشرق المتوسط وأفريقيا، وتُراهن على موقعها كممر حيوي في سلاسل التوريد بين أوروبا وآسيا، وربط شبه الجزيرة العربية بتركيا عبر شبكات سكك حديد إما من السعودية إلى الأردن وسوريا أو عبر مشروع ممر “القناة الجافة” والذي يهدف لربط ميناء الفاو على شط العرب بميناء مرسين عبر شبكة معقدة من الطرق السريعة والسكك الحديدية، ووظفت تركيا صناعاتها الدفاعية المتقدمة والدبلوماسية النشطة لتعزيز نفوذها في الإقليم.
إسرائيل، من جهتها، تعتمد على تفوقها التكنولوجي والعسكري، وتوسع علاقاتها مع دول الخليج وأفريقيا، ما يجعلها لاعبا محوريا في الأمن الإقليمي، وساعياً للاندماج في مشاريع الطاقة وسلاسل التوريد العالمية، وقد سبق أن طرح إسرائيل كاتس وزير الدفاع الإسرائيلي الحالي، عام 2017 ما يعرف بمشروع ” سكك السلام الإقليمية”، لربط السكك الحديدية في الجزيرة العربية من ميناء الدقم في بحر العرب، إلى ميناء حيفا على المتوسط، وقد عزز الطموح الإسرائيلي، المبادرة التي طرحها الرئيس الأميركي جو بايدن لإنشاء ممر اقتصادي بين الهند والشرق الأوسط وأوروبا خلال قمة مجموعة العشرين في نيودلهي في 9 سبتمبر 2023، وتهدف المبادرة إلى إنشاء ممر تجاري وسككي ضخم يربط الهند عبر الشرق الأوسط (الإمارات، السعودية، الأردن، وإسرائيل) وصولاً إلى أوروبا، تشمل المبادرة تطوير البنية التحتية، مثل السكك الحديدية والموانئ، إلى جانب خطوط الطاقة والاتصالات الرقمية.
هذا التنافس المحموم بين القوى الإقليمية الثلاث قد يكون هو العامل المؤثر الأبرز على السياسات الدولية في المنطقة، حيث تنخرط القوى الكبرى مع هذه الدول لتحقيق توازنات إقليمية تخدم مصالحها في الطاقة، والأمن، والتجارة العالمية.
أين سوريا
منذ صعود المشروع الإيراني مثّلت سوريا، حلقة أساسية في هذا المشروع، وبعيداً عن المبررات الأيديولوجية التي يتم التركيز عليها عادة، فإن تعقيد الواقع الجيوسياسي المحيط بإيران، يجعل من سوريا المنفذ الوحيد لها من مأزق الجغرافيا، فإيران محشورة بين شبه القارة الهندية في شرقها وفيها قوتان نوويتان الهند وباكستان، وفي شمالها دول آسيا الوسطى وهي الحديقة الخلفية لروسيا والتي لا تستطيع إيران اللعب بها، وفي غربها تركيا الناهضة والتي تنافس على موقع إقليمي مركزي، وبالتالي لم يبق أمام إيران إلا النفاذ عبر العراق وسوريا للوصول إلى المتوسط، ومن هنا شكلت خسارة سوريا بالنسبة لإيران كارثة جيوسياسية وأحد العوامل الأساسية لانكفاء المشروع الإيراني، ولذلك تحاول إيران استعادة هذا الدور بأي ثمن كان.
في المقابل بالنسبة للاستراتيجية الإسرائيلية فإن سوريا لا تشكل أهمية في حلقات الوصل الجيوسياسي التي تريدها، لكنها أيضا تعتبر ساحة إعاقة باقي المشاريع، فالمشروع التركي مثلاً الساعي لربط شبه الجزيرة العربية بتركيا لا بد أن يمر بسوريا، لأن العراق بات بإقرار تركيا منطقة هشة أمنيا تسيطر عليه قوى موالية لإيران، ولذلك فإن إبقاء سوريا في حالة عدم استقرار يسمح لإسرائيل بإعاقة المشروع التركي، وذلك من أجل تهيئة الظروف لتنفيذ المشروع الإسرائيلي.
متغيرات المنطقة وخلط الأوراق
في 23/سبتمبر 2023 وقف بنيامين نتنياهو في اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة، منتشياً بأوهامه، ورفع خريطتين للمنطقة واحدة خضراء تضم إسرائيل ودول مجلس التعاون الخليجي ومصر والسودان، وسماها منطقة الازدهار، والثانية سوداء تضم إيران والعراق وسوريا ولبنان، وسماها منطقة التطرف، وبشّر في هذا الخطاب أن فجر ولادة مرحلة جديدة في الشرق الأوسط قد بدأ وأن المتغيرات طوت القضية الفلسطينية، وأن السلام العربي الإسرائيلي قد أصبح حقيقة واقعية وأن إسرائيل قد استطاعت إعادة تشكيل المنطقة، وتحدث بإسهاب أيضا عن مشروع الممر الاقتصادي الرابط بين الهند وأوروبا عبر الجزيرة العربية وإسرائيل مبشرا باقتراب السلام مع السعودية، وبعد هذا الخطاب بأسبوعين وقع هجوم 7/أكتوبر ما أدى لخلط الأوراق جميعها، ودخلت إسرائيل مرحلة حرب متعددة الجبهات ضد حماس في غزة وحزب الله في لبنان والميليشيات الإيرانية في سوريا، ووصل الصراع إلى حد الصدام المباشر بين إيران وإسرائيل للمرة الأولى في تاريخهما، عبر تبادل القصف الصاروخي.
بعد هذه التطورات انهار محور المقاومة وسقط نظام بشار الأسد وسُحق حزب الله، وتراجعت إيران إلى داخل حدودها في محاولة منها لحماية ما تبقى من نفوذها الإقليمي، حيث لم يبق لها سوى الجماعات الموالية لها في العراق واليمن، ولذلك يشعر نتنياهو أن انتصاره العسكري ضمن الحرب متعددة الجبهات، وضرب استراتيجية إيران التي كانت تعتمد على مبدأ وحدة الساحات، يجب أن يقابله انتصار سياسي يحصد نتائجه بشكل مباشر عبر تحول إسرائيل إلى الدولة الإقليمية المركزية في المنطقة التي توزع الأدوار وتُقسم المنافع.
أدوات الإشغال متدنية الكلفة
إثر سقوط بشار الأسد وهروبه إلى موسكو، بدأت إسرائيل حملة جوية هي الأكبر والأعنف في تاريخها، حيث دمرت كل الأصول العسكرية للجيش السوري، وحطمت كل القواعد والمطارات والموانئ العسكرية، والمنظومات القتالية باختلاف أنواعها، وهذا لا يدل على الصدمة التي شعرت بها إسرائيل نتيجة السقوط المدوي والسريع وغير المتوقع للمجرم بشار الأسد وحسب، بل يدل أيضاً على الارتباك الاستراتيجي الذي وقعت به إسرائيل، فسقوط بشار تم على أيدي قوى حليفة لتركيا، وبالتالي فإن إسرائيل شعرت أن كل ما قامت به من حروب خلال العام ونصف الماضية، والتي أدت لإضعاف محور إيران، ومهد لسقوط بشار الأسد، قد جنت ثماره تركيا على المستوى الإقليمي، ولذلك بعد تحطيم القوة العسكرية السورية، بدأت إسرائيل التسويق لقضية حماية الأقليات، ثم اختصرتها لحماية الدروز، وهذا الاختصار له مبرراته ضمن الاستراتيجية الإسرائيلية وسنأتي على ذكرها لاحقا.
للأسف باتت التصريحات الإسرائيلية عن حماية الدروز ومنع انتشار القوات السورية في الجنوب السوري، الخبز اليومي لمسؤولي الحكومة اليمينية المتطرفة في إسرائيل، وصدق بعض الواهمين والذين لا يعرفون أنهم باتوا أداة “منخفضة الكلفة” لإبقاء الوضع الأمني مضطربا وغير مستقر في جنوبي سوريا، صدقوا أنهم قادرون على الانخراط في لعبة إقليمية ودولية أكبر وأبعد من ساحة مضافاتهم، فالهدف الإسرائيلي لم يكن في يوم من الأيام ولن يكون حماية الدروز أو سواهم، لأن المشروع الإقليمي الدولي الذي تسعى إسرائيل لتحقيقه أبعد كثيراً من حارات وشوارع الجنوب السوري وصراعاته المحلية.
السويداء وجنوبي سوريا في تقاطع المصالح
في خطبة نتنياهو في سبتمبر عام 2016 في اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة، تحدث عن أن إسرائيل تخوض صراعها مع إيران بالنيابة عن “الدول العربية السنية”، وتتالت تصريحات إسرائيل حول هذه السردية بالذات، من أن إسرائيل تواجه إيران ” الشيعية” لمصلحة الدول العربية ” السنية”، وبشر نتنياهو كثيراً في السنوات الماضية لوحدة الهدف وأن الدول العربية وإسرائيل يواجهون مخاطر واحدة تتمثل في إيران والتطرف الإسلامي وأن التحالف العربي الإسرائيلي ضروري لاستقرار المنطقة، وبعد اتفاقيات إبراهيم وتوسيع دائرة السلام الإسرائيلية العربية ظنت إسرائيل أن مشروعها الإقليمي قد انتصر، ولا سيما بعد أن تراجع المشروع التركي اعتبارا من عام 2014 وانكفأ إلى حد مواجهة الصراعات الداخلية في تركيا والتي تجلت في محاولة الانقلاب في يونيو عام 2016، ومن ثم سقوط حلب في ديسمبر من نفس العام، وما يعني ذلك من تراجع كبير للمشروع التركي، في ذلك الوقت ظنت إسرائيل أن مهمتها الوحيدة المتبقية لها تتمثل في إزاحة المشروع الإيراني حتى تخلو لها المنطقة بالكامل.
لكن تطورات الأوضاع السريعة في سوريا وسقوط بشار الأسد الذي مثل الحلقة الأهم في حلقات المشروع الإيراني، وإعادة تموضع تركيا إقليميا بعد تعزيز علاقاتها مع الدول العربية ولا سيما دول الخليج ومصر، وبعد صياغة تفاهمات جديدة بينها وبين هذه الدول، أجبرت إسرائيل على إعادة النظر في واقعية تحقيق مشروعها، ولذلك فإن مسألة إبقاء سوريا تحت وقع النيران وضمن حالة من الاضطراب هو الهدف الذي تعمل عليه إسرائيل، لأن أي مشروع إقليمي عابر للحدود يربط بين الخليج العربي وتركيا لابد أن يمر بجنوبي سوريا، ولذلك كان تركيز إسرائيل على موضوع الجنوب، وليس الساحل أو المنطقة الشرقية مثلا.
ولذلك فإن كل ما نسمعه في الإعلام وكل هذا الصخب حول موضوع الصراع في السويداء، يجب أن تتم قراءته ضمن المعطيات الحقيقية لمصالح الدول الإقليمية التي تبحث دوماً لتحقيق سياساتها على “أدوات متدنية الكلفة”، فإسرائيل تستطيع ببضع تصريحات إعلامية حول حماية الدروز، وبمساعدات لا تتجاوز كلفتها عشرات آلاف من الدولارات، أن تدفع بكثير من الحمقى للرهان على إسرائيل، أو بكثير من الحمقى للقول” “ألا ترون أن الدروز عملاء لإسرائيل”، والدليل هو تصريح نتنياهو وقوله كذا وكذا، والدليل هو تحركات الجيش الإسرائيلي، وكذا كذا….، ثم تبدأ حفلات الجنون على وسائل التواصل الاجتماعي والتي تنتهي بسقوط قتلى وجرحى في الشارع من الأمن العام أو من المجموعات الدرزية المسلحة أو من المدنيين، والعرب قديما قالت أول الحرب الكلام، وفعلا فإن إسرائيل بقدرتها التقنية وإمكانياتها على مستوى الذكاء الصناعي وإدارة منظومات التواصل الإلكتروني، قادرة على خلق حرب عاصفة في فنجان قهوة بإحدى مضافات مدينة قنوات أو في اللجاة أو سواها، وستجد للأسف الكثير من الآذان الصاغية ومن الملتاثين طائفياً الذين ينفذون سياساتها من دون أن يعلموا، وهم يظنون أنهم حملوا سلاحهم غيرة للدين أو انتصاراً للرسول الكريم.
ملاحظة منهجية: التحليل السابق يتعمد إغفال كل فواعل الصراع المحلية، وذلك لصالح إبراز العامل الإقليمي كعامل “إفضاء” وفق تعبير ابن خلدون، وهو العامل الذي يطلق مجموعة ديناميات تتفاعل مع بعضها لخلق واقع معقد وصراعات متعددة المستويات منها هوياتي ومنها ديني ومنها سياسي ومنها اقتصادي اجتماعي.
أما ما هو الحل للوضع في السويداء، فهذا ما سأفصله في مقال لاحق يتضمن رؤية متكاملة لتصور أولي لحل سياسي في السويداء وفي الجنوب السوري عموما، وفي باقي المحافظات السورية.
تلفزيون سوريا
——————————-
استنزاف الشرع أم تفكيك سوريا؟/ غسان شربل
5 مايو 2025 م
يأخذ بنيامين نتنياهو المنطقةَ نحو أخطار كبرى. يدفعها إلى أنفاق تنذر بحروبٍ لا نهاية لها في حال تمكّنه من تمرير مشروعه. يحاول استثمارَ الضربات التي وجهها جيشُه في الحروب الأخيرة لفرض وقائعَ جديدة داخل أراضي جيرانه. يحلم بإحاطة إسرائيل بدول ضعيفة أو مفككةٍ تنشغل بنزاعاتها الداخلية كي يتفرَّغَ هو لتمرير مخططات التهجير.
يتصرّف وكأنَّ لإسرائيلَ «الحقَّ» في استباحة الأجواء المجاورة لها وشنّ الغارات على «أخطار» قائمة أو يمكن أن تقوم مستقبلاً. يعتبر العالمَ غابة وأنَّ من حق القوي أن يفرضَ قانونه ويشطبَ حقوق الآخرين.
الاعتداءات الإسرائيلية الأخيرة على سوريا أشدُّ خطورة من كلّ ما سبقها. ليس بسيطاً على الإطلاق أن تتذرّع إسرائيل بحماية مكوّنٍ سوري لتبرير استباحة الأجواء والأرض. واضح أنَّها تأمل في دفع سوريا إلى حرب مكونات تضعها على طريق تفكك دائم. وتفكك سوريا سيشكّل في حال حصوله مأساةً لسوريا وجيرانها. إنَّه مشروع نارٍ جوالة وعابرة للخرائط.
وفي هذا المناخ من حقّ لبنان أن يقلقَ والأمر نفسُه بالنسبة إلى العراق والأردن، وحتى بالنسبة إلى تركيا. وفي الأيام الأخيرة بدا الرئيس أحمد الشرع مقيماً بين جروحٍ عديدة وألغامٍ كثيرة من ذيول أحداث الساحل إلى الملف الدرزي وصولاً إلى المطالب الكردية.
فاجأني سياسيٌّ قديم الصلة بسوريا وعلاقاتها بجيرانها بالقول إنَّ «المسألة تتخطَّى محاولة زعزعة حكم أحمد الشرع. إنَّها تتعلّق بزعزعة سوريا نفسِها. أغلبُ الظن أنَّنا لن نشهد عودةَ سوريا التي كنَّا نعرفها. علينا عدم الاستهانة بكلام نتنياهو عن إعادة تشكيل الشرق الأوسط خصوصاً في المنطقة المحيطة بإسرائيل. سلوك نتنياهو يوحي أنَّ مشروعه الفعلي هو تفكيكُ سوريا. وواضحٌ أنَّ ترمب أطلق يدَه مكتفياً بمطالبته بعدم الاصطدام بتركيا».
لفت المتحدث إلى ما اعتبره تطوراً خطراً على الصعيد الدولي. قال إنَّ موافقة إدارة دونالد ترمب على فوز فلاديمير بوتين – ليس بالقرم فقط بل أيضاً بخمس مساحة أوكرانيا – تشكل اعترافاً صارخاً بسقوط حصانةِ الحدود الدولية واعترافاً صريحاً بحق القوة الساحقة في التلاعب بحدود الخرائط.
هذه المسألة لا تعني أوروبا وحدَها. نتنياهو الذي يرفض وضعَ علامات نهائية لحدود بلاده سيكون في طليعة المستفيدين من سقوط حصانة الحدود الدولية. طمعُ إسرائيلَ في أراضي جيرانها قديمٌ لكن المقصود هو أنَّها قد تستفيد من نتائج الصراع الأوكراني. فإذا كانت روسيا ستغير خريطةَ أوكرانيا بسبب ادعاءات تاريخية وحسابات أمنية تتعلَّق بحلف «الناتو» فإنَّ إسرائيل لا تكفُّ عن استخدام الذرائع الأمنية لإقامة «أحزمة أمنية» داخل أراضي جيرانها.
لاحظ المتحدث أنَّ نتنياهو لم يكتفِ بمعاقبة بشار الأسد على انغماسه في البرنامج الإيراني و«محور الممانعة» بل ذهب أبعد في برنامج لإنهاك سوريا نفسِها وبهدف إصابتها بعطبٍ دائم يضمن وقوعَها في حالة من التفكك واضطراب العلاقة بين المكونات. لا يريد نتنياهو فقط منع قيام حكمٍ قوي في دمشق، بل يريد وضع الأسس لقيام سوريا ضعيفة ومنشغلة بجروحها وألغامها.
أطلق الرجلُ سلسلةً من الأسئلة؛ هل يمكن أن يتقبَّلَ الرأي العام العربي مثلاً القول إنَّنا بصدد هزيمة مدوية أخطر وبكثير من هزيمة 1967 حين قصمَ الجيش الإسرائيلي ظهرَ الجيوش العربية التي واجهها؟ هل يحتمل القول إنَّ أوضاع غزةَ عشية «طوفان الأقصى» كانت على رغم الحصار الإسرائيلي أفضلَ بكثير من وضعها الحالي الذي يمكن وصفه بالدمار الشامل للبشر والحجر؟ هل كنَّا نحتاج إلى تجربة جديدة للتأكد من وحشية الكيان الإسرائيلي وقدرته الواسعة على القتل؟ هل يحق للمراقب مثلاً أن يسأل لماذا لم ينفذ زعيم «حماس» يحيى السنوار عمليةَ لخطف جندي إسرائيلي أو ثلاثة ومبادلتهم بالسجناء الفلسطينيين وهو عاش هذه التجربة شخصياً؟ لماذا ذهب السنوار إلى عملية واسعة لا يمكن أن تردَّ إسرائيل عليها بأقل من حرب واسعة؟ هل كان «الطوفان» في النهاية جزءاً من ضربة أوسع يتقاسم الأدوار فيها حلفاء إيران ومن خرائط عدة؟ وهل هذا هو السبب الذي دفع «حزب الله» اللبناني والحوثيين إلى الانخراط في الحرب؟
لاحظ المتحدث أنَّ سوريا الأسدين تصرَّفت دائماً وكأنَّ التهديدات تأتي من الخارج. رفضت التعامل علانية مع مشكلات الداخل خصوصاً ما يتعلَّق بحقوق المكونات والعلاقات بينها. نظر الحكم السابق إلى أي تحرك يطالب بحقوق وكأنَّه عمل من صنع الخارج وأدرجه في باب التآمر الذي يستحق العقاب الشديد. وهكذا أوكلت العلاجات عملياً إلى جهاز الاستخبارات الذي عمّق المشكلات بدلاً من علاجها. هل كان الموضوع الكرديُّ ليتحول مشكلةً أمام عهد الرئيس أحمد الشرع لو عولج على قاعدة المواطنة والمساواة في عهد حافظ الأسد وبعده عهد نجله بشار؟ وهل كانت أحداث الساحل الأخيرة لتقعَ وبهذه القسوة لولا جروح الماضي وممارساته ولو كانت المكونات تلتقي طبيعياً في رحاب المؤسسات؟ وهل كانت إسرائيل تستطيع الاصطياد في ملف دروز سوريا لو كان القانون هو المظلة والحكم؟
تقيم أطرافٌ كثيرة عند مفترق خطر. هذا يصدق على غزةَ والقضيةِ الفلسطينية برمتها. يصدق على لبنانَ إذا لم يتمكن من بدء رحلة العودة في اتجاه دولة طبيعية تمتلك حكومتُها قرار الحرب والسلم. ويصدق أكثر على سوريا التي تبدو مجدداً في عين العاصفة الإسرائيلية.
الاعتداءات الإسرائيلية تتخطَّى عملية استنزاف الشرع أو ابتزازه. إنَّها تستهدف قصمَ ظهر سوريا ولعقود مقبلة. يحظَى الشرع حالياً باحتضان عربي ودعم تركي. أرسل أكثرَ من إشارة تقول إنَّه ليس في وارد الانخراط في نزاع مع إسرائيل. لكن لجم مشروع نتنياهو يحتاج إلى قرارٍ صارم من ترمب. ولهذا القرار ثمن لا بدَّ لسوريا الشرع من دفعه. وهو ثمن ليس بسيطاً على الإطلاق.
الشرق الأوسط
——————————-
هل تدعم إسرائيل سلامة الدروز أم تورطهم؟/ سميرة المسالمة
الإثنين 2025/05/05
تفترض إسرائيل، في اعتداءاتها المتوالية على سوريا، أن المسؤولين في المنطقة عموماً، يقرؤون جيداً محتوى الرسائل الموجهة إلى هذا الطرف أو ذاك، بيد أن المسألة أكبر وأهم من مجرد فهم لمحتوى التهديدات الكامنة في هذا السلوك العدواني لها إزاء محيطها، ولا سيما أنه متزامن مع اعتداءاتها على الشعب الفلسطيني واللبناني والسوري، وصولاُ لتحدياتها لإيران التي تعدها مصدر تهديد لمصالحها في المنطقة، وربما تركيا -وهي المواجهة الخفية- تبعاً لبعض الحيثيات، التي تشير إلى تضارب المصالح في سوريا، ما يؤكد أنها تحاول تمييز وضعها كقوة عظمى إقليمية في المنطقة، أو كقوة إقليمية مهيمنة في منطقة المشرق العربي.
يأتي ضمن ذلك بالطبع، سعي إسرائيل لفرض نوع من منطقة استراتيجية أمنية، كعمق حيوي لها، يمتد إلى نحو 80 كيلومتراً، يجنبها ظهور أي قوة مستقبلية معادية لها، أو يجنبها مفاجأة “طوفان” آخر، بعد ذلك الذي اختبرته في السابع من أكتوبر/تشرين أول (2023).
وفق هذا التصور، تأتي محاولة إسرائيل، عبر تلك الاعتداءات، التي وصلت إلى حد التلويح باستهداف “قصر الشعب” في جبل قاسيون، حيث مقر القيادة السورية الجديدة، لأن تفرض ذاتها كفاعل داخلي في صياغة الوضع السوري، في موازاة الفاعل التركي (الاسلامي) الذي تخشى إسرائيل من تمدده منفرداً في سوريا، سواء أتى ذلك بادعاء ما تسميه “حماية الأقليات”، أو بدعوى مواجهة إرهابيين وجهاديين قرب حدودها، أو تحت غطاء تحجيم النفوذ التركي، والذي تداعب فيه مطالب الكرد السوريين.
وفي كل الأحوال، فإن إسرائيل تجد نفسها في هذا الوقت مطلقة اليد في العدوان على أي طرف تتوخى إضعافه أو تحييده، أو فرض أجندتها عليه. وفعلياً، تنفذ ذلك في كامل المنطقة، وهذا يشمل سوريا، التي تمر بمرحلة انتقالية، يأتي ضمنها حالة ضعف الدولة والمجتمع، إضافة إلى تدهور الأحوال الاقتصادية والمعيشية، والتي يصعب معالجة الحكومة لها في ظل بقاء العقوبات الأميركية عليها، وتهالك البني التحتية، إضافة إلى فقدان القدرات العسكرية.
باختصار، إسرائيل خصوصاً في ظل حكومتها اليمينية المتطرفة، ترى في الظرف الراهن في سوريا الممزقة فرصتها السانحة. وهنا لا أعني فقط التقسيم الجغرافي الحالي الذي يدار من دول عديدة، وإنما الوضع الاجتماعي الذي تطول مخالبه الطائفية يوماً بعد يوم، فتستثمره إسرائيل للمضي في مشروع قديم يقضي بإنهاء حالة الفرادة الإسرائيلية في المنطقة، عبر تعميم نموذجها في بلدان المشرق العربي، كدولة طائفية ـ دينية.
ومن المفيد التذكير أن دولنا ليست محصنة ضد التقسيم الطائفي مهما صغرت مساحتها أو كبرت، فقد حصل ذلك فعلياً في لبنان والعراق، وإسرائيل الآن بصدد تحويل سوريا إلى النموذج ذاته. بمعنى أن الأمر لا يتعلق برغبتها أو استطاعتها دعم قيام دول مستقلة للمكونات التي تدعي دعمها، إذ الأهم بالنسبة لإسرائيل هو تقسيم الشعب السوري، أو إعاقة تمثيل الشعب أو المجتمع في سوريا، في دولة مواطنين متساوين، وذلك وحده يفسر محاولتها تشجيع وتغذية الانقسامات الهوياتية، على أسس طائفية وإثنية في المنطقة.
ولعل ما يجب إدراكه من قبل كل السوريين والمعنيين في سوريا سواء الحكوميين أو رجال الدين، أن السعي الإسرائيلي الحقيقي هو تثبيت حالة الطائفية في المنطقة، وليس إقامة السلام للطوائف. فلو كانت تريد السلام واستقرار المنطقة فقد عرضه عليها الرئيس السوري للمرحلة الانتقالية أحمد الشرع، ومصلحتها منطقياً مع النظام الحاكم أكبر من مصالحها مع المكونات. لذلك فتصديق إسرائيل أنها حريصة على أي سوري أياً كانت اللاحقة التي ينتمي لها، درزي أو علوي أو كردي أو سني، هو خطأ جسيم وحالة استثنائية، ولكن الخطيئة الكبرى هو وصولنا إلى هذا الانحدار المجتمعي الذي جعل من هوياتنا متفجرات قاتلة ودموية ومستباحة.
المدن
———————–
شكراً إسرائيل؟/ يعرب العيسى
06 مايو 2025
للعيش في الأزمنة الكبرى مئات وآلاف العيوب، فيه الألم، والقلق، واضطراب الرؤية، ضياع البوصلة، التشتت، فقدان الأحبة، والعمل ومصدر الدخل وأشياء البيت والبيت، وربما بعض الأطراف. في الأزمنة الكبرى، تتخلخل العلاقة بالأماكن والأشخاص، ستكره من كنتَ تظنّه خِلاً، وتنفر ممن كان صفيّاً، وتستغبي من كان حكيماً، ستهجر المكان الذي هيّأت فيه قبراً دون أن تلتفت للوراء.
أعيش، مثل كل السوريين أينما كانوا، زمناً كبيراً. وتجري عليّ عيوبه وآلامه، ولعل أكثرها إيلاماً اضطراب المشاعر والمواقف، والتقلّب بين اليأس والأمل، الغضب من الناس، ثم التعاطف معهم، كره الكراهية والكارهين، وهو الشعور الذي يحمل في داخله أكبر تناقضٍ عقلي.
ومع ذلك، أعود إلى رشدي بين الفينة والفينة، وأقول لنفسي: لا تيأس، أيها العجوز، هذه طبيعة الزمن، هذا ديدن أيام التحوّلات، أنت في قلب الزلزال الآن، وقريباً سيتغيّر ذلك، وتخفت أصوات الطنين.
من أكثر أصوات الطنين نقراً على منتصف الرأس تلك الأصوات التي تتناقض كلياً مع بديهياتٍ نسلّم بها، أو تربّينا على اعتبارها بديهيات، مثل أن تسمع سوريّاً راشداً يقول: شكراً إسرائيل.
تعلّمت حلال حياتي أن ألتمس عذراً لأي أحد، ولأي شيء مهما بدا فادحاً، أنجح كثيراً، وأفشل قليلاً، لكني هذه المرّة لم أعثر على عذر، لا في عيوب أزمنة التحولات الكبرى، ولا في تداعيات الزلازل الوطنية، ولا في ما التقطتُه من علم النفس، وعلوم أمراض العقل.
أعرف جيداً أنه حين تفوح رائحة الدم الساخن في الهواء، يقول الناس ما لا يعونه حقاً، وأن الناس يعودون إلى رشدهم بمجرّد أن يجفّ الدم الذي على الحجارة، ولكني كنت أعتقد أن إسرائيل لا تدخل على أيٍ من الجملتين الاسمية والفعلية، ولا في ما له معنى، ولا في ما ليس له معنى.
هذه آخر درجات اضطراب البوصلة، وهي لا تأتي، على فداحتها، إلا بعد أن تكون البوصلة قد عبرت فيافي من الضياع، فتاهت في تخوين جماعةٍ بشرية كاملة، سواءً طائفة، أو قومية، أو مدينة. وعبرت قليلاً في مفازة تكفير من يختلف عما نظنّه الصواب المطلق، أو من ينحرف مقدار شعرة عن شيء قاله رجلٌ ما قبل قرون. كائناً ما كان ذلك الرجل. تحتاج تلك البوصلة كي تخرب تماماً إلى اعتقاد أحدٍ ما أن رجلاً ما قال في زمن ما قولاً ما، وأن الحقيقة انتهت عند ذلك القول.
عملياً، ما كان بإمكان أحدٍ قول ذلك لإسرائيل، لولا أن البوصلة قد خربت تماماً، والأمثلة التي ذكرتها يمكن لها أن تحرفها قليلاً باتجاه الجنوب أو الغرب، لكن خرابها النهائي الذي يُفضي إلى هذه النتيجة يحتاج إلى تكرار ذلك مئات المرّات، وتنويعه وسحبه على كل شيء وكل أحد.
نجحتُ والتمستُ عذراً، حتى لصاحب ذاك القول، والعذر أننا خربنا جميعاً، نحن وخرائطنا ومفاهيمنا، وأن الخراب طَرَق بوصلتنا كالموج عقوداً، طرقها حتى ضيّعت الجهات، وصارت تشير إلى جهات جديدة غير التي نعرفها.
هي من عيوب الأزمنة الكبرى إذاً، بل نهاية عيوبها، وآخر مطافٍ يمكن أن تصل إليه، المحزن ليس أن يقول واحدٌ منّا ذلك، المحزن أنه دليل حيٌّ على أننا وصلنا إلى نهاية المنحدر، وجميعاً عبرنا ضفّة الوادي السحيق.
قديماً قالوا: لا يمكن أن تُصبح الخيانة وجهة نظر، إلا بعد مرور زمن كافٍ على اعتبار وجهة النظر خيانة. فالأمم لا تخسر أبناءها قبل أن يخسروها.
العربي الجديد
——————————
خطاب الكراهية.. الدوافع والمآلات/ فيصل علوش
4 مايو 2025
تتفق المراجع التي تناولت خطاب الكراهية على تعريفه بأنه؛ أيّ شكل من أشكال التعبير التي تشجّع على التمييز وتحض على الكراهية، بهدف تشويه سمعة فرد أو جماعة، (مجموعة من الأفراد)، أو مضايقتهم وإذلالهم، أو إيذائهم وترهيبهم، وصولًا إلى تجريدهم من إنسانيتهم، كتمهيد لاستخدام العنف ضدهم، وذلك على خلفية هوياتية تتصل بانتمائهم العرقي أو الديني أو الإثني أو الطائفي أو الجندري.. إلخ.
ولدى البحث في طبيعة وأبعاد وتأثيرات هذا الخطاب، يمكننا التوقف عند النقاط التالية:
– يتصف هذا الخطاب بالتعميم والتنميط السلبي، وإلقاء اللوم على جماعة بأكملها وتحميلها مسؤولية واقعة ما، أو أفعال فردية، فعلية كانت أو مفترضة ومتخيلة، مخالفًا المبدأ القانوني والأخلاقي الذي يقول بالمسؤولية الفردية. على غرار ما حصل أخيرًا، حين قام شخص محدد بالإساءة إلى النبي محمد (ص)، فتوجهت ردود الفعل الغريزية العمياء نحو أماكن معروفة يقطنها سكان من الجماعة التي ينتمي إليها ذلك الشخص، فقامت بإطلاق الرصاص وإلقاء القذائف العشوائية عليها، موقعةً عددًا من القتلى والجرحى، وتوجهت كذلك نحو طلاب أبرياء يتبعون إلى تلك الجماعة، لتصبّ جام غضبها عليهم، ملحقة الإيذاء النفسي والجسدي بهم.
– خطاب الكراهية، (أو الأفعال المستندة إليه)، لا يفصل بين الكراهية التي يفترض أن تطال فعلًا محددًا سياسيًا أو أخلاقيًا، كالظلم مثلًا، وبين الجماعة التي قد يلحق بها صفة ارتكاب هذا الفعل. فالسيد المسيح يقول، مثلًا: “أنا أكره الظلم لا الرومان”، وهو المثل الذي يشكل نموذجًا للتمييز والفصل بين كراهية الفعل المذموم، وبين الكراهية التي قد تطال جماعة أو شعبًا بأكمله (كأن نقول: أنا أكره الرومان). فخطاب الكراهية يقوم على شيطنة الجماعة ككل، وطلب العقاب الجماعي لها، دونما تمييز بين شخص ملام وآخر بريء. في حين أن القانون والأخلاق يقولان بالمسؤولية الفردية والعقاب الفردي. ولقد تكررت عبارة “وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى”، في غير موضع من القرآن الكريم، كتأكيد على المسؤولية الفردية، وعلى أنّ الله تعالى لا يظلم نفسًا، عبر تحميلها وزر ما لم ترتكب من إثم.
– خطاب الكراهية لا يقتصر علينا نحن في سوريا، بل ثمة موجة عاتية من الكراهية والعنصرية والتعصب تعصف بالعالم ككل؛ سواءً في بلدانه الديمقراطية أم الدكتاتورية، مهددة الأمن والاستقرار في غير مكان من العالم. ويتمثل ذلك في الخطاب الشعبوي المعادي للمهاجرين والمسلمين والسود، مثلًا، وفي التيارات والحركات الشعبوية النامية والمنتشرة في الغرب، وفي ظواهر النازيين الجدد، وتيارات تفوق الإنسان الأبيض، (كما في الظاهرة الترامبية)، المتعارضة مع قيم التسامح والعيش المشترك.
– ظاهرة الكراهية هذه، المنتشرة على نطاق واسع في العالم، تغذيها وسائل التواصل الاجتماعي التي تزيد في تأجيج الكراهية، على الرغم من أن مسلسل التكاره والتباغض قديم، وقصة استخدام الاختلاف والتباين الإثني أو القومي أو الديني أو المذهبي، لزرع العداء والاحتراب بين البشر، قديمة وسبقت الإنترنت بزمن طويل. بيد أن الآليات التواصلية والتفاعلية الخاصة والجاذبة التي تتيحها وسائل التواصل، (ومنها ظاهرة الحسابات المزورة والذباب الالكتروني)، تساهم أكثر في انتشار خطاب الكراهية، وخصوصًا في ظل الاستقطابات الحادة القائمة على مستوى العالم عمومًا، وداخل كلّ بلد على حدة. وهنا رب قائل يقول، ولكن وسائل التواصل متاحة للجميع، فلماذا تساهم في انتشار خطاب الكراهية دون سواه من خطابات متنورة؟ وعلى رغم مشروعية ووجاهة التساؤل هذا، إلا أنه علينا الإقرار، في الواقع، بأن الخطاب العقلاني والمنطقي غالبًا ما يخسر المعركة في مواجهة خطاب التعبئة والتجييش القومي والطائفي، مثلًا، لأنه يخفق في إقناعنا بأن “الآخر لا يختلف عنا، وبأنه من غير الصحيح أننا نحن، نحن فقط، أكثر الناس أصالة ودينًا وحكمة وأخلاقًا.. إلخ”!
– يرتبط مفهوم خطاب الكراهية بقضية الحق في التفكير وحرية التعبير والفكر والمعتقد. ولذلك ففي الدول الغربية، وفي الولايات المتحدة على وجه الخصوص، يتحفظون على تجريم خطاب الكراهية بحد ذاته، ويعدون ذلك مسًّا بحرية الرأي والتعبير، مكتفين بتجريم التحريض على الكراهية، الذي يشكل عتبة للانتقال من الفعل الكلامي إلى الفعل المادي المباشر، (العنف والقتل وارتكاب المجازر)، لأنه يستهدف صراحة وعمدًا تكريس التمييز والعداء والحض على العنف.
ويميلون في الغرب إلى استخدام مصطلحات بديلة من قبيل؛ “التعصب، التنميط السلبي، الوصم، التمييز والتحيز”. وهنا علينا أن ننتبه لضرورة التمييز بين هذين الأمرين؛ وعدم تحويل التصدي لخطاب الكراهية إلى حجة وذريعة، من قبل السلطات، لقمع حرية الفكر والتعبير والتضييق على الحريات العامة وتقييدها. فهذه الحريات هي الكفيلة، في نهاية المطاف، ومن خلال “سوق الأفكار المفتوح”، في عملية الكشف عن الحقيقة، ومنع تطور العقائد المضمرة والباطنية، أو التعصب لحقائق زائفة.
– قد يكون الدافع وراء خطاب الكراهية قوميًا أو دينيًا أو مذهبيًا أو جندريًا، ولكنه لا يتكرس، في المحصلة، إلا عبر ممارسات وسلوكيات تفضي إلى تقسيم المجتمع إلى “نحن” و”هم”. وهو ما يؤدي، بدوره، إلى تفعيل ديناميات وآليات خاصة؛ شعورية أو عقلانية، تعمّق من الانقسام الحاصل، وتزيد في الاستقطاب والكراهية والتباغض، وتاليًا، الصراع واللجوء إلى العنف وأعمال القتل، وهو ما تكفل به النظام البائد، على مدى أكثر من خمسة عقود.
وعلى الحكم الجديد، في هذه الحالة، أن يحاذر كل الحذر من أن يأتي ردّه على نحو شبيه بما كان يقوم به سلفه، أو من جنس أفعاله وممارساته ذاتها. الانزلاق إلى فعل هذا، وعدا عن أنه يفقد السلطة الجديدة إمكانية تقديم نفسها كبديل سياسي وأخلاقي عن النظام الساقط، فإنه يكون، عادةً، أشبه بشرك تقع فيه السلطة الجديدة، بما يُفسح المجال للمقارنات السلبية بين أفعال السلطتين، هذا فضلًا عن كونه وصفة أكيدة للفشل واستمرار المقتلة السورية إلى أجل مفتوح.
فخطاب الكراهية والتحريض الطائفي قد يشدّ عصب جماعة ما، ولكن ذلك لا يحصل، غالبًا، إلا لدى جماعات هشة تفتقر إلى الوحدة والتماسك الداخلي، ما يجعلها أكثر عرضة للتأثر بهذا الخطاب، على هذه الضفة أو تلك. وعندما يبدأ هذا الخطاب بالتفشي، ويبدأ معه تراكم الغبن والمظلومية، فمؤكدٌ أن ذلك سيهدد مقومات العيش المشترك، وسيشكل خطرًا على ثقافة التنوع وخطاب التآخي والتسامح، وفي النهاية، تكريس ثقافة الإقصاء وتجذير الكراهية، وتعزيز اللجوء إلى العنف، واستدعاء الخارج للتدخل أيضًا. فالطريق إلى الاقتتال والاحتراب الداخلي وارتكاب الانتهاكات والمجازر، وصولًا إلى الإبادة الجماعية، في أي مكان من العالم، غالبًا ما يكون مرصوفًا بخطاب الكراهية والتحريض عليه، مع وجود أطراف خارجية متربصة وداعمة ومستفيدة، وجاهزة للتدخل لتحقيق غاياتها الدنيئة.
أما الطريق إلى الحلول الممكنة وتجاوز ذلك في سوريا، فهو معروف أيضًا، وأدواته ووسائله الداخلية تكمن في اللجوء إلى فتح مسار “العدالة الانتقالية” والمضي فيه مهما كانت التعقيدات المحيطة به. وتعزيز دور الدولة الوطنية المحايدة تجاه مجتمعها ومكوناته، دولة القانون والمؤسسات الكفيلة بحماية مواطنيها كافة دون تمييز، واللجوء إلى الحوار وتطوير العقلية التفاوضية بدل عقلية الإلغاء والإقصاء. فأساس العنف غالباً ما ينطلق من الجهل بالآخر، ويستند إلى سرديات باطلة ومضللة عنه، وبالتالي فإن معرفته يمكن أن تقلل من التوتر وتساعد على تقبل الآخر على المستوى النفسي والاجتماعي، وتنمي ثقافة التفاهم وصولًا إلى بناء حصانة مجتمعية ضد الكراهية وخطابها.
الترا سوريا
——————————–
وأنت.. لماذا لا تدين الشيخ الهجري؟!/ عمر قدور
الثلاثاء 2025/05/06
لم يكن ينقص إلا أن يصدر الشيخ حكمت الهجري بيانه، في الأول من هذا الشهر، كي تشتد الحملة عليه من أنصار السلطة، بل صار مطلوباً أن يُدان من قبل أي شخص يدلي برأي في الأحداث المروّعة الأخيرة التي شهدتها جرمانا وأشرفية صحنايا ثم السويداء، بعد هجوم مجموعات قيل إنها فصائل غير منضبطة. الهجري وصف هجمات تلك الفصائل بـ”المجازر الداعشية التكفيرية”، وكان واضحاً في القول: “إننا لم نعد نثق بهيئة تدّعي أنها حكومة، لأن الحكومة لا تقتل شعبها بواسطة عصاباتها التكفيرية التي تنتمي إليها، وبعد المجازر تدّعي أنها عناصر منفلتة”. ليخلص أخيراً إلى طلب الحماية الدولية بشكل فوري، مع تذكيره بمجازر الساحل.
خلال المفاوضات، التي أعقبت البيان، بين السلطة ومشايخ العقل الدروز وقادة الفصائل المحلية الدرزية، راح يُشاع أن الشيخ الهجري هو الأكثر تصلّباً في مطالبه، وحُمّل مسؤولية إفشال تفاهم قيل إنه أُبرِم في ريف دمشق، إلا أن شيخي العقل (الجربوع والحناوي) لم يتبنيّا ذلك الاتهام، وهما اللذان حضرا الاجتماع المذكور. في النهاية، آلت الأوضاع فعلياً إلى اتفاق مشايخ العقل ووجهاء محليين وقادة الفصائل المحلية على لائحة المطالب، واضُطرت السلطة إلى التجاوب معها، ليس من دون خروقات كما حدث بقصف فصائل مجهولة بلدة الثعلة التابعة للسويداء ليلة الاثنين.
الحملة على الشيخ الهجري وشيطنته ليست بالجديدة، وأصحابها بدأوا بها منذ أربعة شهور عندما طالب بأن تُسند إدارة السويداء في المرحلة الانتقالية إلى أبنائها، وأن يؤجَّل تسليم سلاح الفصائل المحلية حتى إنشاء جيش وطني. وقد صار واضحاً خلال الفترة الماضية أن الموالين الجدد يستهدفون أي شخصية تنتقد السلطة الجديدة، وقد حدث هذا مؤخراً لشخصيات من منبت سُنّي أيضاً. المشكلة مع الهجري أن لمشيخته إرث يصعب تجاهله والتقليل من شأنه، كما قد يحدث مع أفراد بلا حيثيات أهلية تقليدية، لذا يُنظر إليه كعقبة أمام خضوع السويداء للمركز.
وعندما لم يكن هناك جديد يُنتقد عليه الهجري، كانت تُستحضر مطالبته بدولة علمانية ليُسخر منه بوصفه شيخاً يطالب بالعلمانية، أي كأنه يناقض نفسه. عن جهل أو خبث، أو كليهما، يخلط أصحاب هذه السخرية بين العلمانية والإلحاد، ويتجاهلون أن الأولى تعني حيادية الدولة تجاه المعتقدات وتوفير الحماية القانونية لها، وليس من التناقض أن يدعو شيخ سني مثلاً إلى العلمانية بينما يمارس معتقداته، بل ويسعى إلى نشرها سلماً وبما لا يتعدى على حريات الآخرين.
ليس الأمر طبعاً في أن الهجري لا يُنتقد، أو لا يُدان، بل في أن منتقديه لم يكن لديهم استعداد وتأهيل جادين لتفنيد أيٍّ من مطالباته أو آرائه. ومن المؤكد أن الهجري لم يكن يحظى بإجماع درزي، بل كانت قد بدأت تباشير مطالبات له بأن يبتعد عن السياسة، بعدما أدى دوره المعنوي الهام في انتفاضة السويداء أثناء حكم الأسد. بعض المتململين من حضور الهجري كانوا أكثر مرونة منه إزاء السلطة في دمشق، والبعض منهم أيضاً حاول فتح قنوات اتصال معها من دون أن يجد تجاوباً على المستوى المأمول.
الدروز، مثل أية جماعة أهلية سورية أخرى، ليسوا كتلة واحدة، وانقساماتهم عديدة ومتنوعة بين متدينين وغير متدينين، وبين أبناء مدينة وريف.. إلخ. في الأحوال العادية تبرز هذه التمايزات، فلا يكون لمشيخة الهجري الموقع الذي شغلته منذ اندلاع انتفاضة السويداء حتى الآن. المشكلة الحقيقية أن سوريا بأكملها لم تعبر بعد إلى ما يمكن اعتباره أوضاعاً طبيعية مُرضية لعموم السوريين، بل لقد تدهورت الأوضاع وتلاشى كثير من الآمال قبل شهرين مع المجازر والانتهاكات التي راح ضحيتها مدنيون في الساحل. وسيكون من الخطأ الفادح عدم الانتباه إلى تأثير ما حدث في الساحل على المزاج العام في السويداء، ولدى الدروز عموماً.
لندعْ جانباً تلك الرواية المبسّطة عن تسجيل صوتي مسيء للنبي أُلصق على صورة شيخ درزي، فأدى إلى غضب ومظاهرات في العديد من أنحاء سوريا، ثم أدّت هذه الغضبة إلى أعمال انتقام من الدروز. تسجيلات المظاهرات التي قيل إنها عفوية كانت قد ملأت السوشيال ميديا، وفيها يمكن رؤية حضور كثيف لأعلام هيئة تحرير الشام الحاكمة، ورؤية حضور بارز لمسلّحين خطب البعض منهم بالمتظاهرين، وحرّض على الدروز وتوعّدهم. وحتى قبل قصة التسجيل كانت حسابات لإعلاميين مقرَّبين من السلطة قد واظبت على شتم وتحقير الهجري، وكان البعض منها أكثر صراحة بتوعّد الدروز بأن دورهم آتٍ بعد العلويين.
هذا الضخّ (الذي لا يمكن إلا فهمه مدبَّراً) كان أفضل خدمة للهجري، وقد أتت تحديداً من قبل المواظبين على شتمه وتحقيره، وتحقير ما يرمز له دينياً، فاستفزوا لنصرته شرائح متزايدة من منبت درزي. وفي المحصلة استفاد الهجري أولاً من انتهاكات الساحل التي دفعت كثر إلى التخوّف مما سيليها، ثم أتت الهجمات على جرمانا وصولاً إلى السويداء لتدفع تيار “الاعتدال” إلى التصلب معه.
وحتى بعد التهدئة لم تخفت لدى أنصار السلطة موجة التهجّم على الهجري، من اتهامه بالعمالة لمخابرات الأسد إلى اتهامه بالعمالة لإسرائيل، مروراً بالمطالبة بمحاكمته على طلب الحماية الدولية، بموجب الإعلان الدستوري الذي جرّم في مادته السابعة “طلب التدخل الأجنبي أو الاستقواء بالخارج”. والطريف أن هؤلاء المطالبين يخالفون المادة ذاتها من الإعلان الدستوري، بإثارة النعرات والتحريض على العنف، فالمادة السابعة تنص على: “تلتزم الدولة بتحقيق التعايش والاستقرار المجتمعي وتحفظ السلم الأهلي وتمنع أشكال الفتنة والانقسام وإثارة النعرات والتحريض على العنف”.
أبعد من ذلك، السلطة نفسها هي في موقع مخالفة الإعلان الدستوري الذي اختارته لنفسها، فحتى الآن لم يُعلن عن القبض على أولئك الذين خرجوا في مظاهرات متوعّدين الدروز بالقتل، ووجوههم مكشوفة ومعروفة، وكذلك حال العناصر المسلحة الذين دخلوا أشرفية مثلاً، وهم يهتفون: سُنية سُنية.. لا درزية ولا علوية. وعلى صعيد متصل، خالفت السلطة المادة 18 من الإعلان الدستوري التي نصت على: “تصون الدولة كرامة الإنسان وحرمة الجسد وتمنع الاختفاء القسري والتعذيب المادي والمعنوي، ولا تسقط جرائم التعذيب بالتقادم”. فهناك عدد كبير من التسجيلات التي يُجبر فيه مسلّحون علويين في الساحل على العواء، وتسجيلات مماثلة يُجبر فيها دروز على قول “ماع” تقليداً للخرفان، فضلاً عن حلاقة شواربهم بهدف إذلالهم على نحو جماعي وممنهج، وهذه كلها فوق مخالفتها للإعلان الدستوري تُعدّ انتهاكات ضد الإنسانية.
بالعودة إلى موضوع طلب الحماية الخارجية، الأصل دائماً هو ألا تُضطر أية مجموعة إلى توسّل الحماية من الخارج، وأن تحمي الدولة مواطنيها، أفراداً وجماعات. أما المرجو مجتمعياً فهو التآزر ومدّ الأيدي إلى المستضعفين، كي يجد هؤلاء العزاء على الأقل عندما لا تقوم الدولة بواجبها، وكي لا يشعروا بالخذلان الذي يجعلهم يتوسّلون أي يد تمتد إليهم. الخذلان وصفة جرّبها السوريون منذ عام 2011، ومن المستحسن تعلّم الدرس وعدم تكرارها.
والأصل أيضاً أن تكون هناك دولة مواطنة حقيقية، وهي لا تكون إلا محايدة، وهذه الدولة هي التي تحدّ من العصبيات الطائفية. ومهما قلنا عن الأسباب الاجتماعية والتاريخية للمسألة الطائفية، فإن واحدة من أكبر العقبات التي تحول دون تذليلها نراها في تغييب المواطنة. ظاهرة الشيخ الهجري هي مثال على العصبية التي تنتعش بغياب الدولة المنشودة، والأسوأ أن المواظبين على شتمه يظنون أنهم هم الدولة.
المدن
——————————–
سورية بين الحالة الفصائليَّة والفخاخ الطائفية/ رانيا مصطفى
06 مايو 2025
كلُّ المشكلات معقَّدة ومركَّبة ومتداخلة في سورية، وهي تمرّ في مرحلة انتقالية شديدة الخطورة، فهناك الدمار والتقسيم الجغرافي، واستنزافٌ بشري وفقر، وملايين المهجّرين في الداخل ودول الجوار، وانقسام مجتمعي حادّ طوال سنوات الصراع وعلى أساس هُويَّاتي، إذ وصلت إلى الحكم جماعةٌ لها ماضٍ جهادي تتعثّر في خطواتها الأولى للسيطرة على الحكم، وعقوباتٌ أميركية ودولية، والأخطر، تدخَّلاتٌ خارجية بالجملة، واعتداءات إسرائيلية مستمرّة بقصف كلّ المواقع العسكرية، وتدمير ما تبقّى من عتاد، واحتلال شريط عريض في المناطق الحدودية يتجاوز خطوط فضّ الاشتباك لعام 1974، وقصف مستمرّ بحجّة حماية الدروز، شمل يوم الجمعة الماضي محيط دمشق، وبالقرب من قصر الشعب، في انتهاكٍ فاضحٍ للسيادة الوطنية.
في ظلّ هذا التعقيد، تضيع سردية التجييش الطائفي أخيراً ضدّ الدروز، والتصعيد العُنفي المرافق له، بين أن يكون المُسبّب ظهور تسجيل صوتي مجهول المصدر يسيء لمقام النبي محمد عليه الصلاة والسلام، نُسب إلى أبناء السويداء، ومطالباتٍ للدروز بتسليم سلاحهم الخارج عن القانون وتخوينهم. وجاءت الاعتداءات الإسرائيلية أخيراً بغرض تعقيد هذا المشهد الطائفي. نشرت حساباتٌ في مواقع التواصل الاجتماعي، مقرّبة من الحكومة، التسجيل الصوتي المسيء، بقصد التحريض الطائفي على الدروز، بعد الاعتداء على طلاب من السويداء في جامعة حمص وإجلائهم، ثمّ جاء الهجوم على شكل غزواتٍ وفزعاتٍ على الحواجز الأمنية في جرمانا، المؤلّفة من مقاتلين دروز منضمّين إلى جهاز الأمن العام، فسقط شهداء، وانتقل التصعيد بالطريقة نفسها إلى صحنايا ثمّ السويداء. جرت التهدئة في جرمانا وصحنايا والسويداء، وتوقّف التصعيد ضدّ الدروز في صفحات التواصل الاجتماعي بعد خسارة كبيرة ومجّانية في الأرواح. وهذا يحيل إلى التساؤل عما إذا كان المقطع الصوتي المسيء حجّة للضغط على الدروز في المناطق كلّها للخضوع الكامل وتسليم السلاح، خاصّة في السويداء، حيث ينشط حزب اللواء، وما يعرف بالمجلس العسكري، اللذان يطرحان إدارةً ذاتيةً للمحافظة، رغم أن هذه القوى لا تسيطر على المشهد المسلّح في السويداء، تُضاف إلى ذلك محاولة شيخ العقل حكمت الهجري تصدّر المشهديْن السياسي والاجتماعي، وتصعيد شروطه تجاه الحكومة، وصولاً إلى طلبه الحماية الدولية.
رغم مكانة الهجري الاجتماعية الكبيرة كأبرز شيوخ الطائفة، لا يصطفّ كلّ الدروز وراءه، ولا وراء أحدٍ آخر، كما أنّ التوجّهات الانفصالية مرفوضة عموماً، وبالتأكيد من المعيب تبنّي أيّ خطاب تخويني تجاه أبناء الطائفة، وتجاه أيّ طائفة أخرى. طوال السنة ونصف السنة من انتفاضتها ضدّ نظام الأسد، لم تنزلق السويداء إلى منزلقات طائفية أو انفصالية، ورفضت مشاريع الإدارة الذاتية، وأيّ مشاريع تدخّلات خارجية، رغم وجود تلك الطروحات كلّها، وظلّت تتظاهر ضمن خطاب وطني عام، مع وجود قوى وتوجّهات مختلفة، وهذا طبيعي، وكلّها مدنيّة الطابع، وظلّت مهمّة السلاح حماية أمن المحافظة، ولم يحصل أن استُخدم في انتهاكات فاضحة ضدّ مناطق أخرى، وهذا لا ينفي إمكانية حصول تجاوزات. وبعد سقوط نظام الأسد، كان التوجُّه العام ضمّ سلاح الفصائل إلى الدولة، وجرى اتفاقٌ بهذا الخصوص، وكانت هناك أصواتٌ وازنةٌ من المحافظة تُطالب بحصر السلاح بيد الدولة. تراجعت هذه المطالب بعد مجازر الإبادة بحقّ السوريين العلويين في بعض قرى الساحل، بعد استخدام الحلّ الأمني، بطريقة الفزعات والغزوات ذاتها، انتقاماً لحوادث التمرّد التي قام بها فلول النظام البائد.
واليوم، بعد استخدام طريقة المعالجة الأمنية الطائفية نفسها تجاه الدروز (انتهاكات لفصائل خارجة عن القانون، برّرها البيان الصحافي لوزارة الداخلية بحجّة التسجيل الصوتي المسيء)، صار تسليم السلاح يعني استباحة الدروز تحت أيّ حجّةٍ واهيةٍ، وصار من الطبيعي اللجوء إلى العصبيّات الدينية لحماية وجودهم، في غياب خطّة واضحة لضبط كلّ السلاح المنفلت، وغياب رؤية سياسية وطنية تشرك كلّ السوريات والسوريين في بناء دولتهم، وهنا بيت القصيد.
لم تتشكّل هُويَّة وطنية سورية، وما زلنا نعيش إرث النظام البائد الذي استغلّ تناقضات المجتمع لمصلحة إدامة حكمه، وكانت خلاصة 14 سنة من الثورة، التي انتهت إلى حروب، ظهور قوى أمرٍ واقعٍ متعدِّدة في كلّ مناطق النفوذ، وتتشكّل على أسس عشائرية وعائلية ومناطقية، ولها مصالح مرتبطة بالسلطة والثروة واقتصاديات النزاع، وبعضها تعمل ضمن الأجندة التركية، وأخرى تأخُذ مسافةً منها، وتتنوّع في درجة تشدّدها الديني، وكانت كثيراً ما تنشب بينها معارك على تلك المصالح في المعابر في الشمال السوري، ويقابلها مستفيدون من اقتصاد الحرب والمخدّرات في مناطق النظام البائد، ولهم ارتباطاتهم العشائرية والطائفية، فضلاً عن مشروع الإدراة الذاتية شمال شرقي سورية، حيث تستفيد منه بالآلية نفسها فئة مرتبطة بــ”قوات سوريا الديمقراطية” (قسد).
من الاستسهال بمكان القول إن سبب المشكلة الأمنية والوطنية في سورية الأقلّيات الدينية والعرقية. هي أزمة مركّبة ومعقّدة، ترتبط في جزءٍ منها بأن شرعية الرئيس الشرع جاءت عبر مؤتمرٍ ذكوريّ لفصائلَ امتهنت العنف سبيلاً للعيش، ويسعى قادتها إلى الحصول على حصصهم من الدولة السورية، وهناك فصائل متشدّدة، بعضها من الأجانب، هم ضمن وزارة الدفاع، جنّدوا آلاف المقاتلين المؤدلجين، ولهم مصالحهم، وطامحون إلى سيطرة جناحهم على القرار في السلطة، وهذه الصراعات لا تخفى على أحد، في ظلّ ميل الشرع إلى التفرّد بالحكم عبر الخطوات السياسية التي اتخذها. وربّما يأتي التجييش المدبّر ضدّ الأقليات في وسائل التواصل الاجتماعي في ظلّ تأخّر الإعلام الرسمي، بقصد خلق عدو، وتفريغ عنف تلك الفصائل بحروب الغزوات الدونكيشوتية.
بناء هُويَّة وطنية غير ممكن بالحلّ الأمني الطائفي، وقد جرّبه نظام الأسد وفشل، وحتى لو ترافق مع قنوات تواصل سياسية للتهدئة وتطبيق الاتفاقات. ما يحتاجه السوريون خطّة سياسية وطنية، وتوسيع المشاركة السياسية التي ستقوّي شرعية الرئيس الداخلية، وتحصّن الدولة السورية من تقديم تنازلات كبيرة أمام المجتمع الدولي مقابل الاعتراف بالحكم الجديد ورفع العقوبات، والتفكير جدّياً في إخراج المقاتلين من دوائر اقتصاديات العنف، عبر شعورهم بأن الدولة الجديدة ستنصفهم؛ خاصّة أن أغلب الشبّان المتطوعين في الفصائل وقوى الأمن العام هم من أبناء المخيّمات أو المناطق التي دُمّرت، وهم الأكثر تضرّراً. هذا يحتاج إلى الإسراع في تطبيق العدالة الانتقالية، وإلى أن تهدف السياسات الاقتصادية بوضوح إلى تحقيق العدالة الاجتماعية، وأن تعطى الأولوية للمتضرّرين.
العربي الجديد
——————————–
الخوف والتشاؤم وغيرُهما/ معن البياري
06 مايو 2025
لا بأس من بعض وعْظٍ مُلحٍّ في غضون ما يتتابع على سورية من وقائع مُقلقة. والعظة هنا أنّ علينا، جميعاً، يُرضينا أداء السلطة الراهنة في سورية أم يُغضبنا، أن نخافَ على سورية. هذا واجبٌ شديد الضرورة، أن يبدأ أيُّ كلامٍ عن هذا البلد، سوريين كنّا أم عرباً أشقّاء، بالخوف عليه، فالذئبُ الإسرائيلي لا يجهر برغبته في افتراس سورية فحسب، وإنما يُزاول عدواناً عليها كلّما عنّ له أن يفعل، للاستعراض وتوجيه رسائل إلى أهل القرار أحياناً ولتحطيم أي مقدّراتٍ عسكريةٍ أحياناً أكثر. وليس هذا الذئبُ وحدَه ما يوجِب الخوف المطلوب، فثمّة الشقاقُ الطائفيُّ الذي لا تُخفي نفسَها تعبيراتُه بين المجموع السوري، وكانت الخشية، لمّا انهار نظام آل الأسد، وهرب رئيسُه الساقط، قبل خمسة شهور، أن يحتدّ في مظهر احترابٍ أهليٍّ مسلّح، ولمّا لم يقع شيءٌ والحمد لله، عُدّ هذا نجاحاً للذين قادوا معركة ردع العدوان وأنجزوا النصر فيها، غير أن وقائع تتالت، موضعيةً هنا وهناك، ثم كارثة الساحل في مارس/ آذار الماضي، أشعلت غابةً من القلق الذي يسوّغ أرطالاً لازمةً من الخوف على سورية. وهذه وقائع جرمانا والسويداء وصحنايا، الأسبوع الماضي، معطوفةً على ما يسمّيها من هم أكثر درايةً من صاحب هذه المقالة “خطوط تماسّ” طائفية في حمص وريف حماة، تُنبئ أن القصّة أكبر (وأعمق؟) من تفلّت مجموعاتٍ مسلحةٍ غير منضبطة، وأكثر من جنوح زعيمٍ محليٍّ هنا أو هناك إلى استقواءٍ بخارج إسرائيلي أو غيره، وإنما هي، في الجوهر، أن ثمّة ما يُباعد سوريين عن بعضهم، أن وطنهم لا يجمع هؤلاء مع أولئك، أن تربّصاً ما يقوى في هذا ضدّ ذاك. وفي الأثناء، يُخبرنا من يُخبرنا أن سوريين، من هذه الأقلية وتلك، بمفرداتٍ ذائعة، ينشطون في تدبير أمور هجرتهم عن البلد إلى أي مطارح في العالم، فلم يعُد الميل فيهم إلى اغترابٍ من أجل عمل وتحصيل موارد العيش والرزق، وإنما ترك البلد من دون رجعة. ويتردّد أن نساءً من أولئك يتعرّضن لخطف، وأن تحريضاً طائفياً لا ينفكّ يشيع، ضدّهم وضد غيرهم.
ليس المقام أكاديمياً، ولا نقاشاً نخبوياً بين باحثين ومثقفين، لننشغل بتعيين من تسبّبوا في هذا الحال، في النظام الساقط، أو في سلطة ما بعد 8 ديسمبر، إنما هو أن نبدأ أيّ كلامٍ عن سورية، وهو كلامٌ ليس في الوسع أن نغادره لو رغبنا، بالخوف على سورية، للسببَيْن أعلاه، إسرائيل وذاك الشقاق الطائفي مجتمعيّاً، ولغيرِهما أيضاً. ولكن هذه الدعوة هنا إلى هذا الخوف لا تعني الاكتفاء بالمكوث فيه، وإنما أن يكون عتبةً أولى إلى ما بعدَه. وهنا، نجدُنا أمام خيارَيْن: التفاؤل أو التشاؤم. هذا حالنا، كلما اجتمع صحبٌ سوريٌّ، ومعهم محبّون لسورية وأهلها، يشرّق الحديث ويغرّب، في الذي يتراكم من حوادث وتلقانا تتقاطر إلينا من أرياف هذا البلد ومدنه وقراه وساحله وشرقه وغربه. نُصادف بعضَنا يتغلّف كلامُه بتفاؤلٍ بقدرة السوريين، وبقيادة سلطة الحكم الانتقالي الراهنة، على تجاوز كثيرٍ من الأوضاع والمتاعب والقلاقل والتحدّيات، سيّما إذا سوندوا عربياً وإقليمياً، وعاونهم الأقربون بما يلزمهم، وهم في شديد الحاجة إلى إغاثتهم بغير قليلٍ مما لدى العرب، في غير شأنٍ. والظاهر مما توبع في الشهور الخمسة الماضية أن ثمّة حماساً سعودياً وقَطرياً وأردنياً في هذه الوجهة. ونُصادف بعضنا الآخر في تشاؤمٍ حادّ، لا يرَوْن لدى السلطة الراهنة أيّ جدارة، ويرمونها بانعدام الكفاءة، ونُقصان الأهلية، ويحدّثونك عن أخطاءٍ وخطايا اقترفتها في هذا الأمر وغيره. وبالتالي، لا يجدون أنفسهم قادرين على التفاؤل بأن سورية في مستقبلها القريب ستَخرُج من الحطام الثقيل الذي تقيم فيه، فلا مؤشّرات، بحسبهم، تزيح عنهم التشاؤم الذي يستبدّ بهم.
ولكن، أليس ثمّة طريق ثالث غير ثنائية التشاؤم أو التفاؤل، سيّما أن لكل منهما أسانيده التي تجعلهما وجيهَيْن، ولو بحدود هنا وهناك؟. ليس سوى إجابة وحيدة، وعذراً للوعظ في الإلحاح عليها في مختتم هذه السطور، وهي أن سلطةً انتقاليةً قائمةً إذا انهارت لا سمح الله، فثمّة الفوضى والجحيم، ولا يملك أي عاقلٍ إلّا الاصطفاف في ضفّتها، بأن نكون مع نجاح تجربتها، على ما في هذه التجربة، في ظرفٍ شديد الحساسية والصعوبة، من ارتباكات وأخطاء وخطايا. وهذا اصطفاف من شروطه واستحقاقاته أن يشهر أصحابه النقد والانتقاد اللازمَيْن.
العربي الجديد
————————–
هل من مفاجأة سورية في زيارة ترامب السعودية؟/ رغيد عقلة
06 مايو 2025
مع تأكيد البيت الأبيض زيارةَ الرئيس الأميركي دونالد ترامب المنطقة (بين 13و16 مايو/ أيار)، وتشمل السعودية والإمارات وقطر، تزداد تكهّنات عديدين من المهتمّين بالشأن السوري لتصل إلى درجة الاعتقاد بأن سورية في قائمة أولويات الرئيس الأميركي، إلى حدٍّ يجعلها محور مباحثاته مع قادة هذه الدول، وتحديداً مع ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، وربّما الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في حال تأكّدت القمّة بينهما في الرياض، حتى إنّ بعض هذه التوقّعات بلغت شطط الإصرار على أن لقاءً سيجمع الرئيس ترامب برئيس المرحلة الانتقالية أحمد الشرع خلال هذه الزيارة، الأمر الذي قد يكون من الصعب تخيّل حدوثه، وإنْ عوّدنا ترامب على توقّع اللامتوقّع.
من يتحدّثون عن مثل هذا الاهتمام السعودي، حدث اللقاء أو لم يحدث، يستندون إلى رغبة سعودية واضحة في مساعدة سورية والسوريين على العبور ببلدهم إلى حالة استقرار، هي في صلب مصالح السعودية في المنطقة، وتحاول دوماً ألّا تتأثر كثيراً بشكل النظام القائم في دمشق، وأن السعودية لن تتأخّر في استثمار علاقاتها المميّزة بواشنطن، وبإدارة الرئيس ترامب لتحقيق ذلك. على أنّ هناك اعتقاداً مهمّاً لفريق آخر يرى أن احتواء النظام الرسمي العربي (والسعودية في مقدّمته) للإدارة الجديدة في دمشق، وإن كان من ضمن مجموعة مصالحه وهواجسه في سورية وحولها، إلّا أنه جاء أساساً بطلب غربي، تقف وراءه حزمةُ مصالحَ وهواجس لدول كبرى، وربّما في إطار مخطّطاتها الأوسع للمنطقة كلّها. يستطيع هذا الفريق بسهولة أن يستند في اعتقاده إلى مؤشّرات عديدة لافتة، لعلّ أهمّها جاء في حديث جون سويرز لقناة سكاي نيوز، الذي لا يستمدّ أهميته من حقيقة أن سويرز عمل مديراً للاستخبارات الخارجية البريطانية بين عامي 2009 و2014 فحسب، بل يضاف إلى ذلك أنه جاء في توقيت مبكّر جدّاً يوم 8 ديسمبر/ كانون الأول، أي مع دخول الجولاني/ الشرع إلى دمشق، ولأنّ المتحدّث ليس مستجدّاً في الشأن السوري، فقد بدأ مسيرته الاستخباراتية من دمشق في ثمانينيّات القرن الماضي، حينما عمل في السفارة البريطانية مسؤولاً في الاستخبارات تحت غطاء “ملحق سياسي”.
سأل معلّق سكاي نيوز الشهير تريفور فيليبس، ضيفَه: “غالباً ما نكون في البداية متفائلين حول مثل هذه الأمور، ثمّ نكتشف أحياناً أنّنا استبدلنا السيّئ بالأسوأ، ماهي توقّعاتك من خلال ما نعرفه عن هيئة تحرير الشام، هل تعتقد فعلاً بإمكانية تحوّلهم من رديف للقاعدة إلى ما يصفه بعضهم بـ”حركة تحرّر حقيقي”؟، ليجيبه سويرز: “من المحقّ تبنّي الحذر هنا، ولكنّني عندما كنتُ مديراً للاستخبارات البريطانية… أجرينا تقييماً شاملاً لكلّ فصائل المعارضة السورية، لنميّز الذين نستطيع دعمهم من الآخرين غير المقبولين، لقربهم من تنظيم القاعدة، وهيئة تحرير الشام كانت قطعاً في التصنيف الثاني، لكنّني أعتقد (والكلام لا يزال لسويرز) أن قائدهم أبو محمد الجولاني قد بذل في العشر سنوات الماضية جهوداً عظيمةً للبقاء على مسافة من التنظيمات الإرهابية، وبكلّ تأكيد فإن المراس الذي رأيناه من هيئة تحرير الشام، في الأسبوعَين الماضيَّين (السابقَين على سقوط النظام) كان مراس حركة تحرّر، وليس مراس منظّمات إرهابية. ومن هنا، أظنّ أن وزير الداخلية سوف يطلب من جهاز الاستخبارات الداخلي، والمركز المشترك لتقييم الإرهاب، مراجعة تقييمهم لهيئة تحرير الشام، والبتّ إن كان يجب أن تحتفظ بذاك التصنيف المبدئي، لأنه سيكون سخيفاً ألّا نستطيع الانخراط مع القيادة السورية الجديدة استناداً لتقييم مضى عليه 12 عاماً”، هنا يسأله فيليبس صراحةً ومباشرةً: “لو كنت لا تزال في رأس عملك مديراً للاستخبارات الخارجية، هل كنت ستوجّه بالانخراط مع القيادة السورية الجديدة؟”، ليجيب سويرز بلهجة حاسمة: “بكلّ تأكيد، هناك واقع جديد في سورية اليوم، لكن المهمّة الصعبة فعلاً الآن محاولة لمّ شمل بلد لم يعرف الديمقراطية، ما نراه تحالف مجموعات مسلّحة، وليس جماعات سياسية”.
المثير جداً للانتباه في كلام سويرز كان في معرض حديثه عن الموقف الإسرائيلي ممّا يجري في سورية، الذي توقّع أن يشوبه التوتّر بعد أن استمتعت إسرائيل بحدود شمالية هادئة مع سورية 50 عاماً، عزاها إلى تفاهم ضمني، روسي إسرائيلي، منع الأسد بموجبه أي عمل عدائي ضدّ إسرائيل من الجولان مقابل عدم اتخاذها أيّ إجراءات قد تُضعف نظامه، الأمر الذي وصفه سويرز بالصفقة الروسية الإسرائيلية “القذرة غير المكتوبة”، لكنّه يستدرك أن إسرائيل اليوم تتابع ما يجري في سورية بكثير من التشكّك والوجل، وربّما تتحضر لأسوأ سيناريو تخشاه في أن ينفرط عقد سورية إلى كيانات أصغر، بجماعات مسلّحة قد تعيد تصويب سلاحها يوماً ضدّها، وإنْ كان الأمر لا يبدو مرجّحاً اليوم، لكنّه بكلّ تأكيد ليس مستحيل الحدوث، وستستمرّ إسرائيل في متابعته بدقّة، ليختم: “أعتقد أن على الإسرائيليين الوصول إلى تفاهمات مع الأتراك، لأنهم سيكونون وسطاء السلطة في سورية”.
قراءة متأنية لكلام سويرز، تأخذ في الاعتبار تطوّرات المشهد السوري منذ سقوط الأسد، ستخلُص إلى مجموعة نتائج مهمّة، منها أن انفتاحاً استخباراتياً غربياً عموماً، وبريطانياً خصوصاً، وفي أعلى مستوى على السلطة القائمة اليوم في دمشق قد حصل فعلاً، لكنّه لن يكون مجّانياً ومن دون مقابل، ويفترض وجود قائمة طلبات مهمّة وأساسية، ستكون قدرة الشرع على الوفاء بها الضامن الوحيد للاستفادة منه، ولعلّ أهمها بالمطلق وردَ صراحةً في كلام سويرز عن الهاجس الذي تشكّله المجموعات المسلحة لإسرائيل خصوصاً، والغرب عموماً، بغضّ النظر عن ولاءات هذه المجموعات وتحالفاتها اليوم، لأن التجارب أثبتت أنها تتغيّر بسرعات واتجاهات لافتة ومخيفة. الأمر الآخر المهم تقييم سويرز الدور الروسي في سورية، الذي تطوّر دراماتيكياً منذ 2011، ففي ظلّ اختلاف الأجندات الإقليمية والدولية في سورية، وحولها، وعدم وجود حتى طرفَين متّفقَين على كلّ شيء فيها، أو مختلفَين على كلّ شيء، أثبتت التفاهمات الروسية الإسرائيلية أنها كانت الأهم والأقوى والأكثر فاعليةً في المشهد السوري، وفي ظلّ حالة عدم ثقة ونفور شديد بين إسرائيل نتنياهو وتركيا، هل من الممكن أن تعود روسيا إلى المشهد السوري بإلزام غربي هذه المرّة؟
من يعتقد أن روسيا فقدت بطاقاتها كلّها في سورية، ربّما عليه أن يعيد حساباته، فهي لا تزال تحتفظ بقاعدتَين عسكريّتَين مهمّتَين، تضطلع إحداهما بدور أساسيّ في عملية التحصيل الاستخباراتي للمنطقة كلّها، وقد تَأوي إحداهما، كما في روسيا وربّما في مناطق أخرى، عدداً مهمّاً من الضبّاط القادة السوريين من الطائفة العلوية، ولا تزال لهم امتداداتهم في المشهد السوري. الأمر الآخر المهم أن روسيا مقبولة عند مكوّنات سورية عدّة، والأهم من ذلك كلّه أنها أثبتت دوماً لإسرائيل أنها شريك يمكن الوثوق به. وفي المقابل، لن تسمح إسرائيل على الإطلاق بتقدّم أيّ مسار استخباري سوري غربي طويل الأمد، وهذا محسوم وغير قابل للنقاش في الذهنيّتَين الاستخباراتية والسياسية الإسرائيليّتَين، يضاف إلى ذلك حقيقة أن نتنياهو لو أُعطي الخيار فيمن يفضّل التفاهم معه في سورية، فهو من دون شكّ سيختار بوتين على أردوغان، الأمر الذي قد يفعله النظام الرسمي العربي أيضاً.
من هذه الزاوية تماماً، تجدر مراقبة زيارة الرئيس ترامب المنطقة، خصوصاً في حال تخلّلتها قمّة مع الرئيس بوتين في السعودية، فعلاقة ترامب الشخصية ببوتين ليست متأخّرةً عن علاقته بالرئيس أردوغان. رغم ذلك، لا يزال موقف بوتين من الوساطة الأميركية مع كييف متشدّداً، رغم محافظتها على المكاسب الروسية في أوكرانيا، فإذا أخذنا في الحسابات مدى أهمّية هذه الوساطة للرئيس ترامب لتداخلها مع اتفاقية التنقيب الأميركي عن المعادن الثمينة في أوكرانيا، ورغبة إسرائيلية أكيدة بوجود طرف ضامن لهواجسها الأمنية في سورية (غير تركيا)، وقدرة الرئيس ترامب على إحياء تفاهمات روسية تركية إسرائيلية في سورية، فهل نرى موقفاً أميركياً جديداً في المشهد السوري هو أقرب لإعادة دورٍ روسيٍّ ما هناك؟ وهل قرأ الشرع ذلك مبكّراً فذكّرنا بأخيه المتخرّج من روسيا، ويتقن لغتها.. ومصاهرتها؟
العربي الجديد
——————————–
تجاذبات اللامركزية وضرورة الوصول إلى صيغة وطنية شاملة لها في سوريا/ د. عبد المنعم حلبي
2025.05.04
تُطِلُّ اللامركزية من جديد على المشهد السوري المُعقد، في ظل إصرار بعض الأطراف طرح الصيغة السياسية منها، الفيدرالية أو ما يقاربها، عبر مطالب قومية ومذهبية لا تخلو من الاستقواء بالخارج. ولكن اللامركزية بشكلها الإداري والمالي، بما فيه الموسَّع، كانت مطلباً مهماً لمؤسسات المعارضة السورية وأغلب مثقفيها ومسؤوليها قبل سقوط النظام، فلماذا لا يتم طرح اللامركزية ضمن إطار وطني شامل لإنجاز صيغة منها تتناسب مع الواقع السوري، ومتطلبات حماية وحدة البلاد، وتمنح المشاركة العادلة لجميع السوريين في إدارة شؤونهم وثرواتهم وصناعة مستقبلهم؟!
وهكذا وأمام المساعي والجهود والاتفاقات المنجزة وعراقيل تطبيقاتها على الأرض، بخصوص دمج المؤسسات المدنية والقوات العسكرية التي بقيت خارج سلطة دمشق خلال اثتني عشرة سنة مضت، تثور مشكلة تطبيق اللامركزية بمستوياتها المتعددة، بدءاً من المستوى الطبيعي من الحكم المحلي، إلى نوع من اللامركزية الإدارية، أو الموسعة مالياً، وصولاً إلى طرح اللامركزية السياسية بمعنى الفيدرالية، والذي تبناه بشكل أو بآخر ما سمي بمؤتمر وحدة الصف الكردي الذي عُقد في القامشلي في 26 نيسان الماضي. ومع استمرار المطالب المشابهة في كل من الساحل والسويداء بعد أحداث العنف التي عصفت في كل منهما، تثور مخاوف العديد من الأطراف الأخرى في صفوف الأغلبية من فرض مركزية دمشق مجدداً على سوريا، بالصورة التي كانت موجودة في ظل نظام الأسد.
لقد بقيت طروحات الفيدرالية تشكل بالنسبة لغالبية السوريين ناقوس خطر، كما بقيت دعوات اللامركزية الموسعة إدارياً ومالياً تثير مخاوف تبدو حقيقية بالنسبة لتطبيقها على مناطق معينة، في ظل السيطرة العسكرية لقسد لمناطق سورية واسعة. ومن الواضح هنا أن السنوات السبع الماضية على تجربة الإدارة الذاتية في المناطق ذات أغلبية كردية، والمناطق ذات الأغلبية العربية التي استولت عليها قسد في الحرب على تنظيم الدولة، تعتبر الركيزة الأساسية التي يتم الاستناد إليها في تلك النقاشات والطروحات والمخاوف على حد سواء، ليأتي المؤتمر الكردي المشار إليه، ليجسد أول ظهور سياسي واضح لتلك المطالب، ويثير في الوقت نفسه ذروة مخاوف تبدو حقيقية هذه المرة على مستقبل النظام السياسي الدستوري ووحدة الدولة السورية.
أحداث الساحل في الأسبوع الأول من آذار كانت قد أدت إلى مطالب مماثلة بالحكم الذاتي من قبل شخصيات ومؤسسات علوية في الخارج، والتي اعتبرت أن ما جرى شكَّل حالة لا يمكن تمريرها بدون العمل على وضع إطار إداري خاص بالمنطقة التي يوجد فيها العلويون بكثافة في الساحل السوري، امتداداً إلى ريف حمص وأجزاء من الريف الحموي أيضاً.
وإذا ما أضفنا إلى المشهد محافظة السويداء، فإننا نستذكر هنا أن الحراك الذي انطلق قبل عام كامل من سقوط النظام، كانت مطالبه تتضمن شكلاً موسعاً جداً من أشكال اللامركزية. وقد استمر ممثل ذلك الحراك وهو شيخ عقل الطائفة الدرزية حكمت الهجري بتلك المطالب بصورة أكثر إلحاحاً بعد سقوط النظام، في ظل توتر مستمر في علاقته مع السلطات السورية الجديدة في دمشق، والتي زاد من حساسيتها التحركات الإسرائيلية العسكرية في الجولان، وتهديدات نتنياهو بالتدخل في الجنوب السوري، وصولاً للاشتباك العسكري والأمني الأخير، المترافق مع الضربات الجوية الإسرائيلية على قصر الشعب والعديد من الأهداف العسكرية.
ومع بقاء أغلب المعارضين السوريين للنظام ضد أي طرح حول الفيدرالية، إلا أننا كنا نجد قلة قليلة منهم فقط متمسكين بالمركزية الدمشقية، فكلنا نعرف قبل سقوط النظام، بأن نقاشات وطروحات وأبحاثاً متعددة الأطراف كانت قد تمت بالفعل خلال السنوات الماضية، عبر مثقفين وباحثين وسياسيين معارضين ومؤسسات بحثية تابعة للمعارضة، حول اللامركزية الإدارية، بل والمالية الموسّعة، والتي يمكن أن يتم منحها لجميع المحافظات والمدن والبلدات على مستوى الجغرافيا السورية في إطار أي حل سياسي، بمعنى نقل صلاحيات تنفيذية وإدارية من الوزارات دون استقلال تشريعي، بما فيها صلاحيات الجباية وتخصيص نسب من الضرائب المحلية لصالحها، تُصرف على واقعها الخدمي والمعيشي، وفق ميزانيات شفافة وخاضعة للرقابة الحكومية والمؤسسات المختصة، وتجري فيها انتخابات محلية تمثيلية تضمن دوراً سياسياً لكفاءاتها في خدمة الأهالي، بعيداً عن الحسابات المعقدة للسلطة والتي تكون مبنية –في الغالب- على الولاء. وعلى الرغم من اختفاء كل تلك المطالب المعارضة بعد سقوط النظام، إلا أن كثيراً من السوريين المنتمين للأغلبية، يُبدون خشيةً من استعادة دمشق لواقع المركزية الشديدة التي فرضها نظام الأسد على الجغرافيا السورية، في مختلف مناحي حياتهم السياسية والاقتصادية والاجتماعية وحتى الوظيفية. والتي تخللها إهمال تاريخي لمختلف المدن والمحافظات الكبرى، وعلى رأسها حلب، المدينة الصناعية والتجارية الأولى في البلاد، سواء إهمالها على مستوى البنية التحتية والخدمات، أو على مستوى التمثيل السياسي. فإذا ما وضعنا حجم الدمار وهو الأوسع الذي تعرضت له حلب خلال سنوات الحرب، وهي المدينة والمحافظة التي تمثل أكبر تجمع بشري للأغلبية، وحجم اللاجئين المرشحين للعودة إليها من تركيا ومختلف المناطق، فإننا يمكن أن نقدر ماذا يمكن أن يعنيه أي إهمال لحلب خلال المستقبل المنظور. أيضاً هناك دير الزور، المدينة والمحافظة التي تطفو على جوف ضخم من النفط والغاز، وهي بنفس الوقت المدينة التي تعاني من واقع التدمير المهول الذي تعرضت له خلال السنوات الاثنتي عشرة الماضية، ولا نعرف إذا كانت ستأخذ في إعادة إعمارها حصة من موارد النفط والغاز متناسبة مع التدمير الذي تعرضت له بسبب وجود هذه الموارد والصراع عليها.
وفي الواقع، إن الوقت لن يطول حتى تجد الحكومة الانتقالية والسلطة في دمشق نفسها أمام تدفق اللاجئين السوريين القادمين من الخارج إلى مدنهم وقراهم، والذي يُتوقع أن يكون كبيراً، بما سيحمل معه من استحقاقات ضخمة متعلقة بالواقع الخدمي وتلبية الاحتياجات الأكثر إلحاحاً، المرتبطة بترميم المنازل والبنية التحتية من الطرق والمدارس والكهرباء والمياه والصرف الصحي، ولا يُعقل هنا، أن تكون الدورة الإدارية والمالية لمواجهة الواقع القادم منوطة بآليات اتخاذ قرار وعمل مركزية، مشهود لها بالروتين البطيء والبيروقراطية المطوَّلة. لذلك فمن البديهي هنا أن تعمل السلطة السورية الانتقالية على أخذ زمام المبادرة في ملف اللامركزية الإدارية والمالية، وبشكل يمكنها من طرح رؤيتها بخصوص الحكم المحلي، والأطر التنظيمية التي يمكن أن تعمل من خلالها لتوسيع نطاقه بما يلبي احتياجات السكان، ويفضي إلى فرصٍ متكافئة في إشراك جميع السوريين في بناء مستقبلهم وإدارة شؤونهم وتحقيق العدالة في توزيع الثروة وجهود التنمية في ظل ضمانات دستورية وقانونية ومؤسساتية، وبيان مراحل وآليات التطبيق بصورة شاملة على الجغرافيا السورية كاملة، ضمن حقوق المواطنة، وانطلاقاً من التقسيمات الإدارية والتنظيمية الموجودة فعلاً، في إطار أربع عشرة محافظة أو تعديلها بما لا يؤثر على التنوع المجتمعي، وفي إطار منظورَي: المرحلة الانتقالية وفق الإعلان الدستوري وصولاً إلى الحالة الدستورية الدائمة، ودون أي اعتبار آخر محدود بالخصوصيات العرقية والمذهبية التي تستقوي بالخارج، أو أي تهديد أو تلاعب بوحدة البلاد وسيادتها، وبما يضمن إمساكاً مُحكماً للدولة المركزية بالملفات السيادية المرتبطة بقضايا الدفاع والتعليم والأمن والعلاقات الخارجية بصورة أساسية.
تلفزيون سوريا
———————————————-
الشرع… تغيير المقاربة مع إسرائيل/ محمد أبو رمان
04 مايو 2025
إلى أيّ مدىً تشكل الضربة الإسرائيلية لمحيط القصر الجمهوري في دمشق، فجر أول من أمس الجمعة، رسالة حقيقية تشير إلى إمكانية وجود اجتياح أو تدخل عسكري إسرائيلي أشدّ، ربما اغتيال الرئيس أحمد الشرع أو دعم أكبر لتشكيل قوات مسلحة في جنوب سورية من الدروز، مدعومة من إسرائيل، أم كان المقصود تهديداً وتخويفاً للشرع ودعماً رمزياً لبعض الفصائل الدرزية المتمرّدة؟
لا يخفي قادة إسرائيل، من بنيامين نتنياهو إلى وزيري الخارجية والدفاع وقادة الجيش وغيرهم من مسؤولين، أنّ هنالك أجندة إسرائيلية تقوم على تقسيم سورية وإضعاف الحكم المركزي، لا تقف فقط عند حدود التواصل مع الدروز ودعم الانفصال، بل مع الأكراد، وأخيراً مع العلويين في منطقة الساحل، وهي أجندة مرتبطة بترتيبات في السرّ والعلن، وتحرّكات عسكرية وسياسية وحتى مالية في سورية، وما لم تنهض استراتيجية واضحة وصلبة من الحكم الجديد والدول العربية الداعمة له وتركيا لوضع حد نهائي لتلك الأجندة، فإن الأمور مستمرة في التدهور والتدحرج نحو تحقيق أهداف إسرائيل في سورية.
العامل الأكثر خطورة في ما يجري في سورية اليوم، دور إسرائيل في محاولة التلاعب واللعب بورقة الدروز، وحتى العلويين، وتشجيع بعض شخصياتهم المعروفة على التمرّد على الحكم الجديد، وعلى الانفصال. وتتحدث أوساط دبلوماسية أردنية رفيعة عن تدفق أموال هائلة من إسرائيل إلى السويداء لبعض الشخصيات لشراء الولاءات والمواقف. وبالرغم من ذلك، لا تزال نسبة كبيرة من الدروز يرفضون هذا الانجرار، لكنهم يشعرون بالعزلة والضعف، في ضوء خطابٍ يمينيٍّ يدغدغ مشاعر الشباب الدروز، واستثمار للأوضاع الاقتصادية المتردية هناك، من بطالة وفقر وشعور بالحرمان الاجتماعي، من عملاء إسرائيل، الذين يروّجون لتحسين كبير في أوضاع الدروز، إن بنوا علاقات عضوية أو موالية لإسرائيل، عبر بعض الشخصيات الدرزية في الجولان، التي تجمّل لهم الانضمام والتعاون مع إسرائيل.
المشكلة الكبرى أنّ الموقف الأميركي، بدرجة أوضح خلال مرحلة الرئيس دونالد ترامب، مرتبط بصورة كبيرة أولاً بمصالح إسرائيل ومنظور زعمائها، وثانياً بدور كبير يقوم به اللوبي الصهيوني في رفض رفع العقوبات أو تعليقها، والاستمرار في الضغط الاقتصادي والسياسي على حكومة أحمد الشرع. وفي المقابل، ثمّة انقسام عربي ملحوظ من النظام الجديد، ما يضعف أي موقف عربي مضاد للموقف الإسرائيلي، دولياً أو حتى إقليمياً.
لا يمكن إنكار حجم التحديات التي تواجه الحكم الجديد، داخلياً وخارجياً، ويبدي الرئيس الشرع ومطبخ القرار حوله ذكاءً وواقعية شديدة في التعامل مع هذه التعقيدات الكبيرة، ويسيرون بخطواتٍ حذرة وذكية نحو تجاوز حقول المتفجرات التي في طريقهم، ومن ذلك محاولة مواجهة الخطة الإسرائيلية بقدر كبير من الصبر وهدوء الأعصاب وإرسال رسائل عبر الوسطاء بعدم وجود نياتٍ لدى النظام الجديد بالدخول في صراع مع إسرائيل، وبأولوية بناء سورية، بل يتعمّد الشرع نفسه إرسال رسائل مثيرة وملتبسة عبر وسطاء وأجانب بعدم ممانعته السلام مع إسرائيل، وقد ذكر على مسمع أحد السياسيين العرب الكبار الذين زاروا دمشق أنّه يعتبر أنور السادات بطلاً قومياً. ولاحقاً، أرسل برقيات غزل إلى الحكومات العربية عندما رفض افتتاح مقرّات لجماعة الإخوان المسلمين في سورية.
ليس المجال هنا لمحاكمة هذا السلوك البراغماتي وتفسيره أو الحكم عليه، لكن الأقرب إلى ذلك كله أنّه يعمل على شراء الوقت وتفويت المجال على أجندة إسرائيل وحلفائها بتقسيم سورية، ومحاولة كسب دعم إقليمي ودولي لمحاولة فك الحصار على النظام الجديد، بخاصة العقوبات الاقتصادية، وتحسين الظروف الداخلية، لأنّ أي انخراطٍ في مواجهة إسرائيل، دون القدرة على توحيد البلاد وتحسين الخدمات والاستثمار والأمور الاقتصادية، وفق هذا المنطق، يعدّ انتحاراً، فضلاً عن أنّه يتعامل، في الوقت نفسه، مع المجموعات المسلحة الإسلامية التي دعمته وما زالت تشكّل قوته العسكرية، ولها أيديولوجيا ومواقف في مسألة الداخل، وحالة طائفية هشّة في داخل البلاد برزت خلال ما سُمي بأحداث الساحل.
من الواضح أنّ هذه السياسات لا تجدي نفعاً مع إسرائيل، ولم تفلح في تغيير أجندتها في سورية؛ وإذا كان الرئيس السوري يبحث عن حلول، فإنّ المطلوب هو الانتقال إلى خطواتٍ جديدةٍ أكثر فعالية، كأن يستعين بقوات عربية (الأردن، السعودية، مصر وقطر والإمارات) لنشرها في الجنوب السوري، بطلب من الحكومة السورية، وهو أمر طبيعي ومنطقي، وقد حدث في الأردن خلال مراحل سابقة ومع دول كثيرة، وهي الطريقة الوحيدة لقطع الطريق على نتنياهو ومشروعه في سورية وتعزيز الصوت الدرزي المعتدل. كذلك على الشرع الانفتاح أكثر في خطابه ولقاءاته على الدروز والعلويين والأكراد، وإيجاد تحالفاتٍ وثيقةً مع قياداتها الوطنية، وأن يأخذ بالاعتبار أنّه أمام مهمّة تاريخيّة تتمثّل بوحدة سورية، وأنّه رئيس لكل المواطنين وليس لشريحة واحدة فقط.
العربي الجديد
—————————
كيف سيردّ الشرع على الاعتداءات الإسرائيلية؟/ عمر كوش
05 مايو 2025
تمادت إسرائيل كثيراً في اعتداءاتها على سورية الجديدة هذه المرّة، إذ قصفت مقاتلاتها محيط القصر الرئاسي في دمشق، واعتبر رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، في بيان مشترك مع وزير الأمن يسرائيل كاتس، أن القصف “رسالة واضحة إلى النظام السوري. لن نسمح بنشر قوات (سورية) جنوب دمشق أو بتهديد الطائفة الدرزية بأيّ شكل”.
لم يتوقّف الأمر عند هذا الحدّ من الصلف والغطرسة، بل استمرّ التصعيد الإسرائيلي عبر قصفت المقاتلات الإسرائيلية سبعة مواقع عسكرية في ثلاث محافظات سورية، في اعتداء هو الأوسع منذ بداية إبريل/نيسان الماضي. ولعلّ السؤال الذي يُطرح هنا: إلى متى ستستمرّ الاعتداءات الإسرائيلية على سورية، وما الرسائل التي تريد إرسالها إسرائيل من ورائها؟ والأهم: ماذا في وسع الرئيس السوري أحمد الشرع فعله حيال تكرار هذه الاعتداءات؟
بداية، استهدفت إسرائيل منذ إسقاط نظام الأسد الأصول العسكرية للجيش السوري السابق، وكانت تتذرّع بأن اعتداءاتها بمثابة عمليات استباقية، كي لا تقع الأسلحة بيد السلطات الجديدة التي تعتبرها “مجموعاتٍ إرهابيةً”. ولم تكتفِ بذلك، بل توغّلت في المنطقة العازلة، لاغيةً من طرف واحد اتفاق فضّ الاشتباك الموقّع في 1974، وأنشأت منطقةً عازلةً واسعةً شملت معظم مناطق محافظة القنيطرة، ثم امتدّت إلى مناطقَ في محافظة درعا، وبعدها وصلت إلى محافظة السويداء، إذ حاول الخطاب الإسرائيلي تأسيس سردية جديدة تنهض على حجّة واهية وزائفة، تتمثّل في حماية دروز سورية، منصّبةً نفسها محامياً للأقليات فيها، ومهدّدةً باستهداف أيّ قوات سورية تدخل المحافظة. وبلغ التمادي الإسرائيلي نقطةً قصوى باستهداف رتل لقوى الأمن العام كان متّجهاً إلى بلدة أشرفية صحنايا، ثمّ باستهداف محيط القصر الرئاسي، بعد أن تمكّنت السلطات السورية الجديدة من احتواء المواجهات الدامية التي شهدتها بلدتَا جرمانا وأشرفية صحنايا، وامتدّت إلى مناطقَ في محافظة السويداء، ووقّعت مع الفعّاليات الروحية والاجتماعية فيهما اتفاقاً، يقضي بتسليم الأسلحة للسلطات المختصّة، وانتشار قوى الأمن العام فيهما.
تريد إسرائيل توجيه رسائل عديدة، أهمّها أنها تريد أن تُبقي السلطات السورية الجديدة تحت الضغط والابتزاز، مستغلّةً الوضع الكارثي على جميع الصعد، الذي خلّفه نظام الأسد، وبالتالي، تريد منعها من استعادة عافيتها، ومن بسط سيادتها في كامل التراب السوري، خاصّة المنطقة الجنوبية في سورية، لأنها لا تخفي مساعيها الرامية إلى فصل الجنوب عن الجسم السوري الجديد، على الرغم من أن الغالبية الساحقة من السوريين في الجنوب يعتبرون أنفسهم جزءاً أصيلاً من الوطن السوري، ويعتزّون بالهُويَّة السورية، ويقفون ضدّ أيّ تدخّل إسرائيلي، ما عدا قلّة من الأصوات في السويداء، ممثلةً بالشيخ حكمت الهجري وأتباعه، إذ تعارض توجّهاتهم غالبية أبناء المحافظة. وقد قدّم اجتماع الفعاليات والزعامات الروحية والعسكرية في السويداء أخيراً رسالةً مناهضةً المسعى الإسرائيلي، من خلال “رفض التقسيم أو الانسلاخ أو الانفصال”، وتأكيد أن أبناء السويداء سوريون بالأصالة والهُويَّة، والتمسّك “بوحدة السوريين تحت راية وطن واحد”.
على المستويين الإقليمي والدولي، تريد حكومة اليمين المتطرّف الإسرائيلية توجيه رسالة إلى الولايات المتحدة وتركيا ودول الإقليم، أن لمصالح إسرائيل وأمنها الأولوية القصوى، ولا يمكن تجاهلها أو التغاضي عنها، على الرغم من الموقف المساند لتركيا الذي أبداه الرئيس الأميركي دونالد ترامب، أخيراً، بحضور نتنياهو في البيت الأبيض، وطالب فيه الأخير بضرورة أن يكون منطقياً.
يكمن الهدف الأساس للمشروع الإسرائيلي في سورية، ليس في تفتيتها وتقسيمها جغرافياً فقط، بل أيضاً تفتيتها اجتماعياً وسياسياً، إذ أراد مسؤولو حكومة دولة الاحتلال الإيحاء أن اعتداءاتهم جاءت تلبيةً لدعوات بعض الأصوات لحماية الدروز، وبالتالي، تأليب باقي المكوّنات الاجتماعية السورية عليهم، لكن الأمر لن ينطلي على غالبية السوريين، الذين تستحضر ذاكرتهم نضالات سلطان باشا الأطرش وسواه من المناضلين في سبيل تحرّر سورية ووحدتها.
لا تملك السلطات السورية خياراتٍ كثيرة للردّ على التصعيد الإسرائيلي، بالنظر إلى التحدّيات الكثيرة التي تواجهها، والتركة الثقيلة التي خلفها نظام الأسد البائد، وحوّلها كومةً من الركام والدمار. وعليه، جاء الردّ الأولي في بيان الرئاسة ليؤكّد سعيها الحازم إلى “منع أيّ تهديدات قد تستهدف أمن الوطن والمواطنين”، معتبراً أن الهجمات الإسرائيلية “استهداف لمؤسّسات الدولة وسيادتها وللأمن الوطني ووحدة الشعب السوري”، لكنّ ذلك لا يكفي، بل يستلزم الردّ على الصَلَف الإسرائيلي العمل في عدّة مستويات، من بينهما مطالبة الدول العربية والصديقة باتخاذ موقف ضدّ الصلف الإسرائيلي، وتشكيل موقف دولي عام ضدّه في المؤسّسات الأممية، لكن الأكثر أهمية المستوى الداخلي، الذي يتطلّب من السلطات الجديدة العمل لتحصين الداخل السوري، وتمتين اللحمة الوطنية، من خلال تعميق الحوار مع الفعاليات المدنية والسياسية في كافّة أنحاء سورية، وعدم الركون فقط إلى التفاهم مع الزعامات الدينية والعسكرية، إذ لم تنجح السلطات الجديدة في فرض الاستقرار وصون السلم الأهلي، لأنها لم تلجأ إلى الأدوات السياسية، بل اعتمدت على حلول عسكرية موضعية، الأمر الذي زاد من حدّة القلق والاستياء بين فئات واسعة من السوريين، وأضعف قدرة القيادة السورية على تحقيق التوافق الوطني، في ظلّ الانقسامات الاجتماعية الموروثة، والصراعات التي تضعف محاولة المصالحة الوطنية. ولعلّ المطلوب داخلياً تأسيس أحزاب سياسية من أجل إيجاد مخارج للنزاعات والاختلافات، لأنها تؤمّن فضاءً عامّاً يمكن للسوريين التعبير من خلاله عن آرائهم وتطلّعاتهم المحقّة، بصرف النظر عن انتماءاتهم الدينية والإثنية. وليس جديداً القول إن التعدّدية السياسية مفتاح الحوار بين الناس، لأنها تمنحهم فرصة للمشاركة الفعلية في صنع القرار، والمساهمة في بناء بلدهم، بدلاً من البقاء في هامش المشهد السياسي.
يأمل غالبية السوريين في أن يتّخذ الرئيس الانتقالي أحمد الشرع حلولاً سياسية للإشكالات القائمة، بغية تحصين الداخل، وإكسابه مناعةً مطلوبةً لمواجهة تدخّلات إسرائيل، وسواها من القوى الرافضة للتحوّل السوري الجديد. ولعلّ المسؤولية التاريخية يتحمّلها هو بدرجة كبيرة، خاصّة حيال الشعب، إذ يتوجّب الاعتماد عليه لمواجهة التحديات الداخلية كلها، والتصدّي للمخطّطات الإسرائيلية، وسواها.
العربي الجديد
————————
تركيا وإسرائيل على المذبح السوري/ عدنان عبد الرزاق
05 مايو 2025
يطل الاقتصاد والمصالح حائلاً حتمياً، حتى الآن، دون اندلاع حرب مباشرة أو قصف جوي متبادل، بين تركيا وإسرائيل، إثر استفزازات وحرب كلامية، كادت مراراً أن تشعل منطقة الشرق الأوسط بحرب، قد لا يكون خلالها وما بعدها كما قبلها، لأن أهداف تل أبيب، المدعومة أميركياً وبعض أوروبياً، تتمثل بإعادة رسم المنطقة. والتطلع التركي إلى قوة عالمية ولتكون أنقرة عراب المنطقة برمتها، سيحيل المواجهة إلى حرب واسعة إن لم نقل بملامح عالمية.
وحتى اليوم ورغم التفكير في آثار تلك المواجهة، المرشحة للتوسع، على اقتصاد البلدين وبُناهما، مشفوعة بالتبريد الأميركي والأذربيجاني، لم يزل التوتر سيد الموقف، والتحشيد لفرض الهيمنة على سورية، كأنه صاعق أزمة تلوح بالأفق مرة وتخبو مرات.
ولكن، يخطئ من يرجّح بالمطلق نشوب حرب تقليدية ومباشرة، بين تركيا وإسرائيل على الأرض السورية، رغم التوترات الأخيرة على خلفية أحداث جنوبي سورية، وادعاء تل أبيب حماية مكوّن سوري (الدروز) وقصف مواقع سورية، في أربع محافظات منها دمشق وغير بعيد عن القصر الرئاسي الذي يقيم فيه أحمد الشرع. بعد قصف، الشهر الماضي، ثلاثة مواقع (قاعدة تي فور وتدمر ومطار حماة)، والتي تفقدتها تركيا لنشر قوات تابعة لها، بهدف تأهيل القوات السورية وحماية الجو، فسبقها سلاح الجو الإسرائيلي ليفشل الخطة ويحرج أنقرة، معلناً أنها “رسالة واضحة وتحذير للمستقبل”، متذرعاً أن الوجود التركي سيمس أمن إسرائيل، لأن نية أنقرة هي أن تكون سورية محمية تركية.
لأن تلك الحرب، إنْ نشبت، فستطاول آثارها استقرار المنطقة برمتها واقتصادها، ولن تسلم حتى واشنطن من شررها، وهي بتوقيت غير مناسب البتة لمشاريع دونالد ترامب المتضاربة وحروبه الاقتصادية على الصين والاتحاد الأوروبي ودول العالم، هذا إن لم نذكر أن تركيا عضو بحلف “ناتو” أو نزج بعلاقة الرئيس الأميركي بالرئيس التركي رجب طيب أردوغان.
كما يخطئ من يستبعد وبالمطلق، الاصطدام التركي الإسرائيلي، حتى العسكري، على الأرض السورية، بحال استمرت تل أبيب بتحديها تركيا وضرب مصالحها وتطلعاتها بسورية، أو تمادت بانتهاك سيادة سورية، ونزلت من الجو إلى الأرض، لتزيد قضم جغرافيا جنوبي سورية، لتنفذ ما يقال عن مشروع “ممر داوود”.
وذلك فضلاً على أن توقع تصرفات رئيس الوزراء الإسرائيلي مستحيلة، بواقع الدعم الدولي المطلق والتمادي غير المسقّف أولاً، ولبحثه عن إطالة عمر حكومته واستبعاد محاكمته ولو أشعل المنطقة أو أحرج واشنطن ثانياً، ولأن، وربما هذا الأهم، أن وجود تركيا بسورية وتنفيذ اتفاق “دفاع عسكري” سيجعل تركيا مكان الولايات المتحدة، بعد خروج روسيا وإيران، وسيحول دون خطة إسرائيل إرساء معادلة عسكرية جديدة في سورية بوصفها أمراً واقعاً، تتسيّد خلالها الجو وتمنع تشكيل قوة عسكرية سورية، تهدد أمنها المستقبلي.
التقاط اللحظة السورية
ورغم أن حرباً بهذا الخطر والحجم، تحتاج إلى قرار واصطفاف دولي لتنشب، إلا أن قصفاً إسرائيلياً مفاجئاً، لتمثيل تركي على الأرض السورية، أو للأراضي التركية ذاتها، قد يشعلها لتكون نهاية ملامح المنطقة وتوزع نفوذها وحتى تفتيت جغرافيتها.
قصارى القول: ربما بيضة القبان، بنشوب الحرب من عدمها هو الاقتصاد. ودور الاقتصاد هنا، لا يقتصر على استمرار القطيعة أو رفع تركيا قيود التجارة عن إسرائيل أو عودة العلاقات التي قطعتها في مارس/ آذار 2024، بوصفها أول دولة في المنطقة تفعل ذلك بعد الحرب على غزة، فحجم التبادل التجاري كان يزيد عن 10 مليارات دولار، إنما يمتد إلى ما في سورية من ثروات، فوق الأرض وتحتها، على اليابسة وتحت مياه المتوسط. وعلى الفرص الاستثمارية وعقود إعادة الإعمار ببلد مهدم، يعتبر النفوذ عليه، فرصة لن تتكرر لكلا الطرفين اللذين يجد كل منهما بنفسه عراباً لواشنطن أو وكيلاً حصرياً لها في المنطقة.
إن الاقتصاد وبوجهيه، عامل حرب أو منعها، عنصر فاعل لتركيا التي سعت ودفعت تكاليف باهظة، حتى توسع نفوذها في ثماني دول بالمنطقة، لتتحكم في خطوط الطاقة والغاز شرقي المتوسط، أو لإعاقة مشاريع إسرائيل من مد خط أنابيب غاز تحت الماء، على الأقل، ضمن أمانيها بالسيطرة على تجارة الغاز ونقله مع أوروبا.
وأيضاً الاقتصاد بيضة القبان لتعدّ أنقرة وتل أبيب للعشرة، قبل التهور بمواجهة عسكرية، لأن كلا البلدين يبتعدان عن كل ما فيه خسائر وزيادة نفقات يمكن إرجاؤها.
فإسرائيل التي كبدتها الحرب على غزة، أكثر من 41 مليار دولار وزادت العجز بموازنتها عن 7%، تحرص كل الحرص على الحيلولة دون مزيد من الاستنزاف وهروب الاستثمارات والسياح، وحتى المهاجرين للكيان المصطنع، لأن الحرب مع ثاني أكبر جيش بالناتو وما تملكه تركيا من أسلحة، ليست نزهة وقد لا تبقي، من منشآت وبنى واستقواء، ولا تذر.
في المقابل، تركيا التي تسعى لاستعادة نسب النمو المتراجعة وتحسين بيانات التضخم والبطالة وتطبيق برنامجها الاقتصادي الطموح على الأرض، تستبعد المجازفة، ما أمكن، بحرب ستخلط جميع أوراقها وتحالفاتها ووعود واشنطن لها، وستؤجل، إن لم نقل تلغي، أحلامها بدخول نادي العشرة الكبار وتعيدها إلى ما قبل 2002 من استهداف وفقر وديون، وهي التي عادت لـ”صفر مشاكل” ونسفت لاءات الماضي، بما فيها الفائدة المرتفعة وعدم مد اليد إلى المؤسسات المالية الدولية.
أردوغان يتحدث في منتدى أنطاليا الدبلوماسي، 11 إبريل 2025 (الأناضول)
موقف
تبدل النهج الأردوغاني
نهاية القول: الخلاف في سورية وحولها، بين تركيا وإسرائيل، شاسع ولن تحله لقاءات أمنية لتفاهمات فنية في أذربيجان أو حتى “نصح دبلوماسي” أسداه الرئيس الأميركي، خلال زيارة رئيس الوزراء الإسرائيلي واشنطن الشهر الماضي.
فالقصة للأسف والوجع أن النظرة الإسرائيلية إلى سورية المريضة تأتي كأنها مغنم وسيطرة، أو أن تبقى هشة ممزقة بين دويلات طائفية وكانتونات حكم ذاتي، وليس تقاسم نفوذ مع تركيا، والتي بدورها، تسعى وتؤكد حرصها على سورية الواحدة الموحدة والمساهمة بنهضتها، لأن الاستقرار فيها سيكون مفتاحاً للاستقرار في المنطقة برمتها، ويفتح فرصاً وآفاقاً جديدة للتعاون الإقليمي.
ذلك يبقي ملامح المواجهة مفتوحة، وعلى سيناريوهات عدة، بما فيها حرب عبر وكلاء تدعمهم أنقرة، إن لم تخرج واشنطن عن النصح والحياد، وتتدخل مع أذربيجان التي لها علاقة طيبة بالطرفين، لحل بين أنقرة وتل أبيب، ربما يكون حلاً شاملاً لسورية أيضاً، منطلقه المصالح المتبادلة وربما منتهاه “تجرّع سم التطبيع” الذي يبعد سورية عن التقسيم والحرب الأهلية التي تتزايد ملامحها تباعاً، ريثما تستعيد دمشق، ولو بعض ملامح القوة، الاقتصادية وغير الاقتصادية، والتي بددها نظام الأسد المخلوع، وأجهزت إسرائيل، بعد هروبه، على ما تبقّى منها.
العربي الجديد
——————————-
قراءات إسرائيلية في الحدث الدرزي السوري/ بسام مقداد
الثلاثاء 2025/05/06
بعد أيام من الإطاحة بنظام الأسد، نقل موقع الخدمة الروسية في “الحرة” الأميركية، طلب ست قرى درزية جنوب سوريا الانضمام إلى إسرائيل. لم يذكر الموقع في 13 كانون الأول/ديسمبر المنصرم أسماء القرى المعنية، لكنه أشار إلى أنها طلبت من إسرائيل ضمها إلى أراضيها وبسط سيادتها عليها. وأضاف، أن الدروز يخشون ملاحقتهم من قبل الإسلاميين الذين سيطروا على السلطة في دمشق. وطالب سكان تلك القرى، في اجتماع لهم، إسرائيل باحتلال المنطقة المحايدة.
يطالب الغرب حكام سوريا الجدد باتخاذ خطوات تطمئنه إلى انفصالهم التام عن الفصائل الإرهابية التي كانوا ينتمون إليها، وذلك كشرط للاعتراف بشرعيتهم وإقامة علاقات طبيعية مع سوريا. لكن إسرائيل ناصبت هذه السلطة العداء منذ البداية، بذريعة الخوف على أمنها من إسلامية سلطة دمشق. وتستخدم هذه الذريعة لتبرير توسيع احتلال الأراضي السورية والغارات العدوانية الجوية، حتى على الأهداف المحيطة بالقصر الجمهوري السوري. ولم تتوانَ عن استخدام العلاقة القلقة والمرتبكة لدروز سوريا بالسلطة الجديدة، وتستغل الأحداث الدموية الأخيرة في ضواحي دمشق ذات الأغلبية الدرزية، لشن حرب جديدة على سوريا، وفتح جبهة أخرى تضاف إلى جبهة غزة، كما يشير الإعلام الإسرائيلي.
موقع detaly الإسرائيلي الناطق بالروسية نقل في 4 الجاري عن صحيفة هآرتس نصاً بعنوان “إسرائيل تسير نحو التصعيد في غزة وسوريا”. كاتب المقال، المعلق السياسي في الصحيفة، Amos Harel، استهل نصه بالإشارة إلى أن الإعلام ينشر كل بضعة أيام تقارير عن هجوم إسرائيلي مزعوم على المنشآت النووية الإيرانية. ومع تقدم المفاوضات بين إيران والولايات المتحدة، تزايدت التهديدات الإسرائيلية المبطنة بتنفيذ مخططاتها، حتى من دون الحصول على الضوء الأخضر من الرئيس دونالد ترامب.
يقول المحلل إنه، وعلى الرغم من بعض الاستعدادات العملية، فإن احتمال توجيه ضربة إسرائيلية إلى المواقع النووية الإيرانية، هو عند أدنى مستوى له. وفي هذا الوقت ينشغل ترامب بالمبادلات في إدارته، وتتوالى تصريحاته بالأمل في توقيع صفقة جديدة مع إيران، لا تختلف كثيراً عن السابقة. وينقل المعلق عن “واشنطن بوست” قولها السبت المنصرم، إن من بين أسباب إقالة ترامب لمستشاره للأمن القومي مايكل والتز، محادثاته السرية مع نتنياهو حول إمكانية توجيه ضربة لإيران.
يرى الكاتب أن نتنياهو لا يستطيع أن يتخلى علناً عن راية ضرب المشروع النووي الإيراني التي يحملها منذ 30 عاماً، حتى لو كان موقف ترامب الحالي يتناقض بشكل مباشر مع فكرة الهجوم الإسرائيلي. ولكن نظراً للوضع الهش داخل الائتلاف الحاكم والشعبية الشخصية المنخفضة للغاية، فمن الأهمية بمكان أن يحافظ نتنياهو على أجواء الحرب على أكبر عدد ممكن من الجبهات، سوريا إضافة إلى غزة.
يقول الكاتب إن نتنياهو نشر صورة من الأرشيف تجمعه مع شيخ عقل الطائفة الدرزية في إسرائيل موفق طريف، حين وعده بدعم دروز سوريا. ويشير إلى أنه بعد سقوط الأسد تعززت العلاقات بين الدروز الإسرائيليين والسوريين. وفي تأكيد لهذا التوجه بين دروز البلدين، يعدد الكاتب الخطوات التي قام بها الطرفان لتعزيز هذا التوجه. لكنه يشير إلى أن دروز إسرائيل منقسمون بين مؤيد للشيخ طريف، وبين من يرى أنه بالغ في تعزيز هذه العلاقات، ما أثار حفيظة النظام في دمشق.
يرى الكاتب أن الحكومة الإسرائيلية تعاني من صعوبات جديدة في رسم سياسة واضحة بشأن سوريا. ويقول إن نتنياهو عقد سلسلة اجتماعات في الأيام الأخيرة حول الوضع في سوريا وغزة. ويتصاعد قلق الأركان العامة الإسرائيلية حيال خطوات نتنياهو في الاتجاه السوري، والتي يمكن أن تجر إسرائيل إلى صراع جديد يعقد العلاقات مع تركيا أكثر مما هي معقدة.
يشير الكاتب إلى أن الاتجاه السوري تعمل عليه الآن عدة مؤسسات: الاستخبارات العسكرية، وقيادة المنطقة الشمالية في الجيش، والأركان العامة للإدارة المدنية، وكذلك الموساد والشاباك.
ينهي الكاتب نصه بالإشارة إلى خروج دروز إسرائيل إلى الشارع مطالبين الحكومة بمساعدة أشقائهم في سوريا، وتوقفت احتجاجاتهم بمجرد أن أصدر نتنياهو أوامره بالرد العسكري.
موقع ZAHAV الإسرائيلي الناطق بالروسية، وينقل إليها مدونات ونصوص مواقع الإعلام الإسرائيلي والعالمي، نشر في 3 الجاري نص مدونة الشاعر والإثنوغراف والناقد الأدبي الإسرائيلي المقيم في مستوطنة بالضفة الغربية Velvl Chernin. عنون المدون نصه بالقول “عن الحرب الجديدة في الشمال”، وأرفقه بآخر ثانوي مطول ” لقد وعد رئيس وزرائنا بحماية الطائفة الدرزية في سوريا، وإذا لم نحمهم فإن الإسلاميين سوف يعتقدون أن تهديداتنا لا قيمة لها. لذلك ليس لدينا الحق في التراجع”.
يشير المدون في مطلع نصه إلى أن حزب الله قد هُزم، ولم تعد الجبهة اللبنانية تمثل مشكلة خطيرة في الوقت الراهن، ولكن مع سوريا، “ربما يكون كل شيء قد بدأ للتو”. ويقول إن ساسة إسرائيل يعلنون بصوت مرتفع عن استعدادهم لحماية الأقلية الدرزية التي تعيش في سوريا، والتي، مثل غيرها من الأقليات العرقية والدينية، تتعرض لهجمات من قبل “الإسلاميين السنة الذين استولوا على دمشق ومعظم أنحاء البلاد”.
يشير المدون إلى أن وسائل الإعلام ذكرت أن الجيش الإسرائيلي أقام نقاط تفتيش على مداخل قرية حضر الدرزية الكبيرة التي تبعد كيلومترات عن الحدود، “ولن يسمح للإسلاميين بالدخول”. ويؤكد أن إسرائيل بإمكانها ضم حضر بحكم الأمر الواقع، “ولن يستطيع أحد أن يوقفنا”. ويشير إلى أن ما يحول دون إقامة نقاط تفتيش على حدود السويداء، كما على مداخل حضر، هو وجود درعا التي “يتعين السيطرة عليها”.
يرى المدون أنه إذا لم تقدم إسرائيل مساعدة حقيقية للدروز السوريين، فسوف يشعر الإسلاميون بالضعف الإسرائيلي، ويدخلون قواتهم إلى السويداء. وتقديم مساعدة فعلية، سوف يؤدي إلى نشوب حرب حقيقية. لقد وعد “رئيس وزرائنا” بتقديم المساعدة للطائفة الدرزية السورية، وإذا لم تحمها إسرائيل، فسوف يعتقد الإسلاميون أن “تهديداتنا” لا قيمة لها. “لذلك ليس لدينا الحق بالتراجع”.
يقول المدون إن البعض سيعترض، ويقول إن هذا ليس من “شأننا”، وليعمل السوريون من كافة الطوائف على تسوية الأمور فيما بينهم. وقد يعترض آخرون ويقولون إن نتنياهو مهتم بعدم انتهاء الحرب مما يضمن احتفاظه بالسلطة. ويقول إنه سيرد على هذه الاعتراضات بالقول إن دوافع نتنياهو ليست مهمة، كما ليس مهماً موقفه أو موقف أي إسرائيلي آخر من نتنياهو، “نحن جميعا يهود وإسرائيليون”. فإذا “تركنا” الآن الدروز السوريين تحت رحمة الإسلاميين، “فإننا جميعاً سنكون مذنبين، سواء أولئك الذين يؤيدون بيبي أو أولئك الذين يعارضونه”.
وفي هذا السياق، يقول المدون إنه لم يصوّت لنتنياهو في الانتخابات الماضية، ولن يصوت له في المقبلة. لكنه يقول إنه انتخبه في العام 1999 ضد إيهود باراك الذي فاز حينها، وسحب القوات الإسرائيلية من المنطقة الأمنية في جنوب لبنان، وخان “حلفاءنا”، جيش لبنان الجنوبي، الذي قاتل جنباً إلى جنب مع الجيش الإسرائيلي. ولم يكن عديد الجيش الجنوبي يتشكل من الموارنة فحسب، بل ومن بعض الدروز والشيعة اللبنانيين. ولقد تبع ذلك على الفور تقريباً الانتقام من هذه الخيانة في شكل الانتفاضة الثانية. “وأنا شخصياً، اعتبرته عقاباً من الله، وهو ما نستحقه جميعاً”.
المدن
—————————-
دروز سوريا… تاريخ لا يمكن تجاوزه/ خيرالله خيرالله
الاثنين 2025/05/05
لدروز سوريا ثقل كبير في ضوء الدور التاريخي الذي لعبوه في مجال قيام الكيان السوري الموحد من جهة والموقع الجغرافي لمحافظة السويداء في الجنوب السوري من جهة أخرى.
لدروز سوريا تاريخ لا يمكن تجاهله
ليس الموضوع موضوع وضع الأقلية الدرزية في سوريا ومستقبلها وما إذا كانت لقسم من دروز سوريا علاقة بإسرائيل أم لا. تجاوزت الأحداث التي تمرّ بها المنطقة كلّ هذه الاعتبارات، خصوصا مع التغيير الكبير الذي حدث في سوريا وفرار بشّار الأسد إلى موسكو أواخر العام 2024، وهو فرار يعني بين ما يعنيه، نهاية الحكم العلوي في سوريا الذي استمر 59 عاما.
الموضوع بكل بساطة مرتبط بالنظام الجديد القائم في سوريا وقدرته على أن يكون نظاما مقبولا من جميع السوريين وضمانة لكل الطوائف والمذاهب والمناطق… نظاما يمثل نقلة نوعية في سوريا ويسمح بحياة سياسية طبيعية فيها في ظلّ دولة القانون وليست دولة الأجهزة الأمنيّة التي تأسست مع قيام الوحدة المصرية – السوريّة.
لم يتخلّص دروز سوريا من نظام آل الأسد من أجل السقوط في ظلم وظلام وظلامية من نوع مختلف يقودها تيّار سنّي لا يؤمن بالتنوع السوري وباستعادة البلد لحيويته السياسية التي قادت في الماضي إلى تحقيق إنجازات كبيرة على كل صعيد، بما في ذلك الصعيد الاقتصادي… وإلى كوارث من نوع الوحدة مع مصر بين 1958 و1961. شهدت تلك الوحدة تأسيس النظام الأمني الذي تحكم بسوريا طوال عقود عدّة بعدما تحّكم بالبلد الضابط عبدالحميد السرّاج الذي كان موضع إعجاب لدى جمال عبدالناصر، الضابط الريفي الذي أخذ مصر وسوريا والأردن إلى هزيمة 1967.
ليس الوجود الدرزي في سوريا وجودا عاديا على الرغم من قلة عدد أبناء الطائفة. لدروز سوريا ثقل كبير في ضوء الدور التاريخي الذي لعبوه في مجال قيام الكيان السوري الموحد من جهة والموقع الجغرافي لمحافظة السويداء في الجنوب السوري من جهة أخرى. هذا الجنوب السوري على تماس مع إسرائيل والأردن وقد عملت إيران طوال سنوات من أجل السيطرة عليه لسببين على الأقل. السبب الأوّل الرغبة الإيرانيّة في أن تكون “الجمهوريّة الإسلاميّة” على خط تماس مع إسرائيل والتأكيد لها أنّها دولة شرق أوسطية أيضا ولاعب محوري في المنطقة. أمّا السبب الثاني فيعود إلى أن الجنوب نقطة انطلاق لتهريب أسلحة إلى الأردن ومخدرات، مثل الكبتاغون، إلى دول الخليج العربي عبر الأردن أيضا. إلى ما قبل فترة قصيرة، كان على دروز سوريا، مثلهم مثل أكثرية الشعب السوري مقاومة الاحتلال الإيراني للبلد، وهو احتلال عمل على تغيير طبيعة سوريا من كل النواحي، بما في ذلك الناحية الديموغرافية.
أكثر من ذلك، لعب دروز سوريا عبر التاريخ، خصوصا منذ استقلالها دورا كبيرا على الصعيد الوطني. إنّه تاريخ لا يمكن تجاهله أو تجاوزه. لم يكن ذلك من داخل حزب البعث الذي لا يمكن الفصل بينه وبين المحطات الأساسية التي مرت بها سوريا في مرحلة ما بعد الاستقلال في العام 1946 فحسب، بل من خلال المؤسسة العسكرية السورية أيضا. في أربعينات وخمسينات وستينات القرن الماضي، كان هناك وجود درزي متميّز ووازن في المؤسسة العسكرية السوريّة…
قلب قيام النظام العلوي في سوريا الوضع السوري ابتداء من انقلاب الثالث والعشرين من فبرابر – شباط 1966. من المفيد هنا الإشارة إلى أنّ هذا الانقلاب الذي قاده الضابطان العلويان صلاح جديد وحافظ الأسد، كان بالتفاهم والتعاون مع ضابط ثالث هو الدرزي سليم حاطوم. ما لبث صلاح جديد وحافظ الأسد أن تخلصا من سليم حاطوم الذي اضطر إلى اللجوء إلى الأردن حيث بقي حتّى العام 1967. وقتذاك، عاد الضابط الدرزي من منفاه الأردني بهدف المشاركة في حرب 1967، لكنّ حكما بالإعدام نُفّذ به. كانت نهاية سليم حاطوم، بالطريقة التي انتهى بها، نهاية للوجود الدرزي في المؤسسة العسكرية السورية. في مرحلة النظام العلوي، لم يعد لأي ضابط درزي يريد الحصول على ترقية سوى أخذ العلم بالتركيبة الجديدة للجيش السوري بقيادة ضباط علويين!
شارك دروز سوريا في الثورة الشعبية التي اندلعت من درعا في آذار – مارس 2011. رفض الدروز الانضمام إلى الجيش العلوي وقتل مواطنين سوريين آخرين، معظمهم من السنّة. تعرّض الدروز لكل أنواع الابتزاز بعدما اعتقد النظام أنّه استطاع السيطرة عليهم بكلّ الوسائل المتاحة بدءا بمنعهم من أخذ مواقع حساسة في الجيش وصولا إلى إفهامهم أنّ هناك “معلّما واحدا وحيدا” في سوريا هو حافظ الأسد الذي خلفه بشّار الأسد. لم يتردّد الأسد الأب في إصدار أمر باغتيال الزعيم الدرزي اللبناني كمال جنبلاط في آذار – مارس من العام 1977. أراد توجيه رسالة واضحة إلى دروز لبنان، إضافة إلى دروز سوريا. فحوى الرسالة أن الدروز، في سوريا ولبنان، يعملون عند النظام العلوي وليسوا شركاء في حكم سوريا. تبيّن لاحقا من خلال نقاط التفاهم التي توصل إليها حافظ الأسد مع إسرائيل في 1974، بواسطة هنري كيسينجر أن حافظ الأسد ضمن حماية إسرائيلية لنظامه قبل بدء عملية تدجين الدروز في سوريا ولبنان حيث ارتكب كمال جنبلاط كمية لا تحصى من الأخطاء لا مجال لتعدادها الآن.
من الواضح أنّ الحاجة في المرحلة الراهنة إلى تعاط مختلف مع الدروز السوريين وليس إلى تكرار تجربة حافظ وبشّار الأسد مع هؤلاء. هل يستطيع الرئيس أحمد الشرع القيام بمثل هذه النقلة النوعيّة؟ ذلك هو السؤال الكبير الذي يفرض نفسه بدل الدخول في متاهات لا فائدة منها، خصوصا أنّ إسرائيل مستعدة للاستفادة من أي خلل داخلي للظهور في مظهر المدافع عن الأقليات من خلال اختراقها للجنوب السوري.
الأكيد أنّ في استطاعة أحمد الشرع التوصّل إلى تفاهمات مع دروز سوريا. يتطلب ذلك إثبات أنّه تغيّر كلّيا وأن لديه القدرة على أن يكون سياسيا عصريا يعرف أن سوريا بلد مركّب وأن لكل طائفة خصوصيتها وأن لدروز سوريا تاريخا لا يمكن لأي حاكم في دمشق تجاهله… أو تجاوزه.
إعلامي لبناني
العرب
——————————-
النفوذ الإسرائيلي وبوابة الأقليات السورية/ صادق الطائي
4 – مايو – 2025
كانت إحدى أدوات إسرائيل الرئيسية في استراتيجيتها السياسية في الشرق الأوسط تتمثل في ما عرف بسياسة: «التحالف مع الأقليات»، إذ شهد الشرق الأوسط محاولات إسرائيلية عديدة لإقامة تحالفات مع الأقليات في الشرق الأوسط للعمل على تقويض الأنظمة العربية. وتمتد جذور هذه الاستراتيجية إلى ما قبل قيام دولة إسرائيل. إذ نظر الآباء المؤسسون لإسرائيل حولهم ورأوا أنفسهم جزيرة في بحر من الأعداء، فتواصلوا مع أقليات، أو دول أخرى في المنطقة لم تكن عربية، لكن لها أجنداتها وأطماعها في المنطقة.
في مقال بعنوان «شعب يسكن وحيدا، أهذا صحيح؟ إسرائيل وتحالف الأقليات»، وصف الباحث الإسرائيلي الدرزي يسري خيزران، كيف وضع رؤوفين شيلواه الأب المؤسس للموساد، أسس مشروعي «حلف المحيط» و»تحالف الأقليات» المترابطين. وحسب شيلواه، «كان العالم العربي محاصرا بحلقتين، أو دائرتين. الأولى خارجية وتشمل الدول غير العربية، والثانية داخلية وتضم أقليات دينية وعرقية تعيش في الدول العربية، لذا، فإن القاسم المشترك الذي جمع بين الصهيونية ولاحقا دولة إسرائيل، وكلا الدائرتين هو العداء للحركة القومية العربية الراديكالية، والتأكيد على استثمار هذا العداء في الصراع العربي الصهيوني». يرتكز التحالف بين إسرائيل وهاتين الدائرتين على مبدأ العداء المشترك تجاه الآخر المختلف، وتطبيق مبدأ «عدو عدوي صديقي».
ومن الأمثلة المبكرة على ذلك، العلاقة التي بدأت في ثلاثينيات القرن الماضي مع أكراد العراق، وابتداءً من الستينيات، دعمت إسرائيل الأكراد عسكريا ولوجستيا في تمردهم المسلح ضد الدولة العراقية، ما ألحق ضررا بالغا بالعراق، الذي كان أحد أخطر أعداء إسرائيل في ذلك الوقت. كما كان أهم تحالفات تل أبيب مع دوائر الأقليات هو تحالفها مع المسيحيين الموارنة في لبنان، الذي يعود تاريخه أيضا إلى حقبة الانتداب البريطاني والفرنسي في عشرينيات القرن الماضي، وقد بلغت عقود من الاتصالات ذروتها خلال الحرب الأهلية اللبنانية في ثمانينيات القرن الماضي، عندما قدمت إسرائيل دعما عسكريا علنيا للمشروع الماروني، المتمثل في إنشاء دولة مسيحية، تصورتها إسرائيل كمنطقة عازلة صديقة في الشمال. أما في الدائرة الخارجية، على أطراف العالم العربي، فقد كان النفوذ الإسرائيلي يزداد في افريقيا، وفي كل من تركيا وإيران اللتين تُعتبران اليوم من أشد أعداء إسرائيل. وكان أقرب حلفائها في الحرب ضد الأنظمة العربية، نظام الشاه محمد رضا بهلوي في إيران، الذي حظي بعلاقات اقتصادية وسياسية وعسكرية مميزة مثلت أقوى العلاقات بين إسرائيل وأي دولة في المنطقة.
تمثل الطائفة الدرزية أقلية دينية تعيش في سوريا ولبنان وإسرائيل، وهي تاريخيا طائفة دينية منسلخة عن الطائفة الإسماعيلية الشيعية، ويبلغ تعدادها اليوم حوالي مليون نسمة يعيش نصفها في سوريا ويشكلون 3% من السكان، بينما يعيش في إسرائيل قرابة 140 ألف نسمة من الدروز ويشكلون 1.6% من السكان، ويعيش بقية الدروز في لبنان والمهاجر المختلفة في العالم. وقد منحهم الوجود في الدولة العبرية علاقة فريدة ومتميزة داخل إسرائيل. فعلى عكس المواطنين الإسرائيليين المسلمين والمسيحيين، يُجند الدروز الإسرائيليون للخدمة العسكرية الإلزامية في جيش الدفاع الإسرائيلي إلى جانب اليهود الإسرائيليين. يقول ديفيد ريغوليه روز، الباحث المشارك في مركز أبحاث العلاقات الدولية الفرنسي IRIS: «يثق الإسرائيليون تقليديا بالدروز. الدروز مندمجون في الدولة العبرية، التي تعهد أعضاؤها المقيمون في إسرائيل بولائهم لها، لدرجة أن هناك ضباطا من الدروز الإسرائيليين شغلوا مناصب مرموقة، مثل غسان عليان أول قائد غير يهودي للواء غولاني، أو الجنرال عماد فارس، الذي كان قائدا للواء جفعاتي من عام 2001 إلى عام 2003». خلال الحرب الاهلية السورية التي اندلعت عام 2011، استُهدف الدروز مرارا وتكرارا من قبل الجماعات الجهادية. إذ هاجم مقاتلو جبهة النصرة قرية قلب اللوزة الشمالية في يونيو 2015، ما أسفر عن مقتل 20 قرويا على الأقل، كما اختُطف الكثير من الدروز، وأُطلق سراحهم مقابل فدية، أو قُتلوا، لذلك كان لدى الدروز اتفاق ضمني مع نظام الأسد، حيث عززوا استقلاليتهم في معاقلهم مع قبول حماية النظام من عدوان الجهاديين. يقول فابريس بالانش، المتخصص في الشؤون السورية والمحاضر في جامعة لوميير ليون: «في مدن مثل السويداء، قبل الدروز الذين تظاهروا سلميا ضد الأسد في عامي 2011 و2012 أسلحة النظام وشكلوا ميليشيات بعد أن تعرضوا لتهديدات الجهاديين المتطرفين. وعلى هذا النحو، بقي الدروز أقل ارتباطًا بالنظام القديم من العلويين، لكنهم احتفظوا بهامش استقلال، حين أداروا مدنهم خارج سيطرة النظام، أو سيطرة تنظيمات المعارضة مثل الجيش الحر وتنظيم الدولة (داعش) والقاعدة». لقد دمر سقوط نظام الأسد في سوريا نظاما معاديا وقف على أعتاب إسرائيل. وفتح سقوط النظام الباب أمام إمكانية تغيير الوضع الأمني بشكل دائم على الجبهة الشمالية بالنسبة لإسرائيل، لذلك ردت تل أبيب بتحركات مكثفة ضد النظام السوري الجديد، الذي يهيمن عليه الإسلاميون، عبر التواصل مع الأقليات في البلاد، وعندما تفكك نظام الأسد في ديسمبر 2024، سارعت إسرائيل إلى اتخاذ احتياطات أمنية بالاستيلاء على المنطقة العازلة في الأراضي السورية وتدمير كل المعدات العسكرية الثقيلة المتبقية في البلاد. في شهري مارس وأبريل الماضيين، سُمح لوفود كبيرة من رجال الدين الدروز السوريين بالسفر إلى إسرائيل لأداء فريضة زيارة دينية لضريح شيخ درزي في الجولان المحتلة، على الرغم من أن البلدين في حالة حرب رسمية. وفي الاسبوع الماضي صرحت مصادر رسمية في إسرائيل بإن الجيش الإسرائيلي نفذ ضربات تحذيرية في سوريا لحماية الدروز، إذ تم تنفيذ ضربات ضد «جماعة متطرفة»، حسب الوصف الإسرائيلي، قيل إنها هاجمت أفرادا من الطائفة الدرزية، وإن الرد الإسرائيلي جاء وفاءً بوعدها بالدفاع عن الأقلية الدرزية مع انتشار العنف الطائفي الدامي قرب دمشق.
وجاءت الخطوة التصعيدية الجديدة في الاول من أيار الجاري، إذ صرّح بيان عسكري إسرائيلي بقصف الطائرات الإسرائيلية المقاتلة لمنطقة مجاورة للقصر الرئاسي في العاصمة السورية دمشق، في الوقت الذي تعهد فيه رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو بحماية الأقلية الدرزية، بعد أيام من العنف الطائفي الدامي. وقال نتنياهو إن الغارة كانت «رسالة واضحة للنظام السوري مفادها أن إسرائيل لن تسمح بنشر قوات جنوب دمشق، أو بأي تهديد للدروز». كما صرح نتنياهو ووزير دفاعه كاتس بالقول: «لن تسمح إسرائيل بإلحاق الأذى بالدروز في سوريا، انطلاقا من التزامنا العميق تجاه إخواننا الدروز في إسرائيل، الذين تربطهم علاقات عائلية وتاريخية بإخوانهم الدروز في سوريا». جاء هذا البيان في الوقت الذي أغلق فيه عشرات الدروز الطرق في شمال إسرائيل، مطالبين القدس بالتدخل في دمشق وسط الاشتباكات الطائفية. من جانبها أصدرت وزارة الخارجية السورية بيانا رسميا رفضت فيه «جميع أشكال التدخل الأجنبي» في الشؤون الداخلية السورية، دون ذكر إسرائيل، وأعلن البيان التزام سوريا بحماية جميع الفئات السورية «بما في ذلك الطائفة الدرزية النبيلة». وتُعد هذه المرة الأولى التي تُعلن فيها إسرائيل عن ضربة عسكرية دعماً للدروز السوريين، منذ الإطاحة بنظام بشار الأسد، ما يعكس انعدام ثقتها العميق بالإسلاميين السنة الذين حلوا محله، ويشكل تحدياً إضافياً لجهود الرئيس المؤقت أحمد الشرع لبسط سيطرته على البلاد الممزقة.
ووفقاً للمرصد السوري لحقوق الإنسان، وهو منظمة رصد مقرها المملكة المتحدة، قُتل ما لا يقل عن 100 شخص هذا الأسبوع في أشرفية صحنايا، وهي بلدة تقع في الضواحي الجنوبية لدمشق، وفي ضاحية جرمانا ذات الأغلبية الدرزية، وفي محافظة السويداء الجنوبية ذات الأغلبية الدرزية. ويقول المرصد إن من بين القتلى 10 مدنيين دروز و21 مقاتلاً درزياً، بالإضافة إلى 35 مقاتلاً درزياً آخرين قُتلوا بالرصاص في «كمين» نصبته قوات الأمن أثناء توجههم من السويداء إلى دمشق يوم الأربعاء. وأضاف المرصد أن 30 عنصراً من جهاز الأمن العام والمقاتلين المتحالفين معه قُتلوا أيضاً.
منذ سقوط نظام الأسد، سعت إسرائيل إلى ملء الفراغ بإرسال قوات إلى ما يُفترض أنه منطقة منزوعة السلاح في مرتفعات الجولان، على الحدود الجنوبية الغربية لسوريا مع إسرائيل. كانت هذه المنطقة من الأرض قد احتلتها إسرائيل سابقًا في عامي 1967 و1981. وإذا كانت إسرائيل تسعى إلى مزيد من السيطرة الإقليمية في هذه المنطقة الاستراتيجية، فمن المرجح أن يُشكل الدروز قطعة مهمة على رقعة الشطرنج الجيوسياسية الإقليمية للإسرائيليين، نظرا لوجودهم المجتمعي عبر الحدود، وخاصة في سوريا.
كاتب عراقي
القدس العربي
————————–
لماذا لم يقصف الاحتلال قصر الشعب ويغتال الشرع؟/ إحسان الفقيه
4 – مايو – 2025
منذ أن تولت إدارة أحمد الشرع مقاليد الحكم في سوريا، لم يكف الاحتلال عن القصف الهمجي المتكرر على الأراضي السورية، على الرغم من أنه لا يوجد مبرر حقيقي للعدوان، فالقيادة السورية تصرح في عدة مناسبات بأنها لن تقوم بأية أعمال عدائية مع الكيان الإسرائيلي، بل تلتفت فحسب للبناء الداخلي.
الكيان الإسرائيلي لا يكف عن العربدة في الأراضي السورية، والقصف المتكرر، تارة بدعوى حماية حدوده من تقدم قوات سورية إلى الجنوب، وتارة تحت ستار التخلص من الأسلحة الموروثة عن النظام السابق، التي تمثل خطورة على دولة الاحتلال في ظل حكم المتطرفين ـ حسب التوصيف الإسرائيلي- وتارة بزعم حماية الطائفة الدرزية.
آخر تطورات العربدة الإسرائيلية هو، إقدام جيش الاحتلال على قصف محيط القصر الجمهوري، وهو قطعا أمر خطير، لأنه يتعلق بالاقتراب من اغتيال رأس النظام، وهذا بدوره يقودنا إلى سؤال مهم: إذا كانت صواريخ الاحتلال قد وصلت إلى محيط القصر الجمهوري، في ظل غياب الدفاعات الأرضية في الدولة الوليدة، فلماذا لم يقصف الاحتلال القصر نفسه ويغتال الرئيس أحمد الشرع؟ اختلف في الرأي مع من يقول إن ذلك مردّه إلى عدم وجود غطاء دولي يمكّن الاحتلال من ضرب مقر قيادة دولة معترف بها دوليا دون مبرر مقبول، بمعنى إذا كان الغرب قد أعطى المبرر للكيان الإسرائيلي في ضرب غزة بذريعة قيام حماس بهجوم السابع من أكتوبر، فكيف يتم تكييف وشرعنة العدوان على سوريا، وضرب مؤسساتها الصلبة، في الوقت الذي لم تطلق القوات السورية رصاصة على الجانب الإسرائيلي، وفقا لأصحاب هذا الرأي.
ومعارضتي لهذا القول مبنية على تداعيات طوفان الأقصى، والعدوان الوحشي الذي يستمر حتى اللحظة على قطاع غزة، فالاحتلال الذي ضرب بالقوانين والأعراف الدولية والإنسانية عرض الحائط، والاحتلال الذي نسف اتفاق وقف إطلاق النار ورفض الدخول إلى المرحلة الثانية عنوة وبلطجة، لن يتورع عن قصف القصر الجمهوري واغتيال الرئيس، تحت أي مبرر واهٍ، طالما أنه يلقى الدعم الأمريكي المفتوح. ولو تم قصف القصر واغتيال الشرع، ما الذي يمكن أن يحدث للكيان الإسرائيلي؟ هل ستملك الدول العربية أن تزيد على الاستنكار والشجب والإدانة؟ وهل ستردعه أمريكا بقرارات صارمة وهو، طفلها المدلل الذي هو مادة بقائها في سدة الحكم في الوقت نفسه، بسبب اللوبي الصهيوني والدولة العميقة؟ وهل ستفعل الأمم المتحدة ومجلس الأمن شيئا، وهي المنظمات الورقية التي لا تستطيع الخروج عن الوصاية الأمريكية؟ إذن لا شيء يردع الكيان الإسرائيلي، فلماذا لا يقصف القصر ويغتال الشرع؟ السبب الأقرب لعدم إقدام الاحتلال على ذلك، هو القانون الطبيعي للأحياء، الذي يجعل الأضعف ـ مهما كانت درجة ضعفه – يقاتل بشراسة إذا تم حصره في الزاوية من قبل الأقوى، مهما كانت درجة قوته، لأن الأمر صار متعلقا بفكرة البقاء. إذا أقدم الاحتلال على تدمير مؤسسات الدولة في مهدها، فهذا ينزع عنها صفة الدولة، ويضع السوريين أمام خيار واحد، وهو المواجهة حتى الموت، لأن اليأس من قيام دولتهم سوف يحرك الجماعات المسلحة التي قاتلت نظام بشار على مدى سنوات، والتي تم تذويبها للمصلحة العامة للدولة، وتتشكل صيغة جديدة للمقاومة تشمل الشعب بأكمله، لأنه يتعرض لتهديد وجودي من قبل كيان خارج عن الدولة، وليس حتى نظاما داخليا قمعيا. سوف يترتب على ذلك فوضى تسرب أعداد غفيرة من خارج سوريا تحت راية الجهاد المقدس، لتلتحق بمن في الداخل، وتحدث فوضى عارمة على حدود دولة الاحتلال، وهو ما يضع دول الطوق في موقف لا تُحسد عليه، أمام جماهير كفرت بكل شعارات الدبلوماسية والسلمية والمسار السياسي، فلا الاحتلال ولا الراعي الأمريكي لديهم الاستعداد لتحمل تبعات هذه الفوضى.
في حقبة النظام البائد، كان الاحتلال يقصف بعض أماكن تمركز قوات الحرس الثوري الإيراني، أو يضرب خطوط الإمداد الإيراني لحزب الله المارة عبر الأراضي السورية، لكنه كان يرى بقاء بشار الأسد يصب في صالحه، فلم يكن النظام في حالة عدائية مع الاحتلال، كما صرح نتنياهو، على الرغم من أن نظام بشار كان يمتلك ترسانة أسلحة ضخمة، بما فيها الأسلحة الكيميائية، لكن الأخير لا يمثل خطرا على الكيان الإسرائيلي.
لكن في الوقت الراهن، وفي ظل وجود قيادة ذات جذور إسلامية، فإن الاحتلال يسعى للتوتير المضبوط، فهو من ناحية لا يريد تدمير مؤسسات الدولة بما فيها مؤسسة الرئاسة، للأسباب سالفة الذكر. ولكنه من ناحية أخرى، يهدف إلى عدم وصول القيادة السورية إلى تسليح قوي يهدد أمنه، كما يسعى إلى وجود دولة مفككة إلى دويلات مستقلة، فهو يدعم المساعي الكردية لإقامة نظام فيدرالي، ويعمل على إقامة دولة للطائفة الدرزية في الجنوب، مستغلا الدروز في الداخل الإسرائيلي لفتح قنوات اتصال مباشرة مع الدروز في سوريا، واستمالة الطائفة من خلال ادعاءات حمايتها مما سماه النظام السوري الطائفي. يضاف إلى هذا السبب المانع من قصف القصر واغتيال الشرع، أن تركيا التي تدعم سوريا الجديدة انطلاقا من الحفاظ على الأمن القومي التركي، ومنع قيام كيان كردي على الحدود، لن تقف مكتوفة الأيدي، فهي وإن كانت تعمل على عدم التصعيد مع الكيان الإسرائيلي، وتُولي البناء الداخلي والنهضة الاقتصادية في سوريا الأولوية في هذا الملف، إلا أن الأمر حينئذ سيعتبر تهديدا مباشرا لأمنها، والاحتلال يدرك ذلك جيدا، لذلك هو لن يسعى حاليا لهدم الدولة السورية، بل يكتفي كما قلنا بسوريا ضعيفة مفككة. بلا شك، دولة أو دويلات ذات مؤسسات واهنة في سوريا، هي الخيار الأفضل للكيان الإسرائيلي. القيادة السورية تواجه تحديات ضخمة، ففي الوقت الذي تعمل على النهوض بالاقتصاد والبناء الداخلي ووحدة الأراضي السورية، والتصدي لمحاولات التقسيم والانفصال، تمتص الضربات الاستفزازية دون تصعيد، لأنها تعلم يقينا أنها ليست مؤهلة للدخول في حرب مع الكيان، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
كاتبة أردنية
القدس العربي
———————————-
رياض نعسان آغا يكشف بالأسماء: هؤلاء الدروز باعوا قرارهم إلى إسرائيل والفيدرالية الكردية فاشلة
—————————-
تحدّيات أمنية وسياسية أمام الشرع/ فاطمة ياسين
04 مايو 2025
تلتفّ حول سورية ظلال سوداء بعد خمسة أشهر من سقوط نظام الأسد، ونتابع اليوم مشهداً شديد الغموض، فما يحدُث يثير عواصف من الريبة والشك. كانت تركة الأسد ثقيلة بشكل هائل وتستلزم ورشات وتفاهمات لتباشر في حلحلة التعقيد الناجم عما خلفه بعد عقود طويلة، وعلى وجه الخصوص، خلال الأربعة عشر عاماً الأخيرة من سنوات حكمه.
ما زال عدم الوضوح يحيط بوضع قوات سوريا الديمقراطية (قسد) في الشمال السوري، وبعد توقيع اتفاق الشرع – مظلوم عبدي قبل شهر، ارتفع مستوى التفاؤل وغمرت البشرى الشوارع السورية على ضفتي الفرات، وتعزّزت تلك البشرى بعد الخطوات التي أنجزت في أحياء حلب. لكن الأمور فجأة تعقّدت، وصدر بيانٌ عن مجموعات كردية تتراجع فيه عن الاتفاق السابق، وترفع سقف مطالباتها بما يخالف الإعلان الدستوري الذي صدر قبل اتفاق الشرع – عبدي، وهذا ما عرقل الاتفاق عند خطوة سد تشرين، وجعل حالة من اللايقين تطفو مرّة أخرى على السطح، ووضعت السياسي في قصر الشعب في مأزق يستلزم إيجاد حلول جديدة.
على الجانب الآخر من سورية، وفي ضواحي العاصمة دمشق، تتحرّك مجموعات مسلحة تحاول إثارة الوضع، وهي ليست المرّة الأولى، وتضع الدولة السورية الوليدة أمام اختبار هام للغاية، وقياساً لمدى قدرتها على مواجهة وضع أمني غير مستقر، وأصبحت الدولة مطالبة بإعادة الهدوء إلى الشوارع وتنظيف المنطقة من السلاح وفرض الأمن، وإيقاف المجموعات التي تحمله وتستعمله لإثارة الفوضى. استغلّت المجموعات ما تعتقد أنه خاصرة رخوة للدولة، فتحرّكت في أطراف دمشق، لكن قوى الأمن استطاعت أن تسيطر على الشارع، وتعتقل من كان يحمل السلاح ضدّها، مثيراً فتنة وفوضى. وقد يمكننا حساب نقطة لصالح الدولة لسرعة تعاملها في حسم المسألة. ولكن لتكمل صورة الوضع الأمني المستقر، عليها بناء مظلّة أمنية واسعة الطيف تلفّ العاصمة وما حولها وتمتدّ إلى الجنوب، إلى حيث انتقلت الإضرابات في محافظة السويداء، بحيث تقطع الحكومة الطريقَ أمام إسرائيل التي تحاول النفاذ من فراغ أمني تحاول أن تُحدثه بعض المجموعات، تمهيداً لتداخل إسرائيلي. وقد حاولت إسرائيل بالفعل أن تتدخّل، فأرسلت مسيّراتٍ ضربت على مقربة من الحوادث المشتعلة، وفي دمشق وصلت إلى محيط قصر الرئيس نفسه، وهو تحدٍّ أمني آخر ذو مفاعيل خطيرة، يضع نفسه أمام الحكومة الجديدة.
ما زالت حكومة الشرع تتعاطى سياسياً مع مشكلة “قسد” في الشمال السوري، وتعطي أفضلية للمحادثات مهما طالت للوصول إلى حل من دون توريط يضع السوري أمام السوري في مواجهات عسكرية، فقد استُوعِبَت دروس الأربع عشرة سنة الماضية التي استنفدت من السوريين الكثير مادّياً ونفسياً. ومن المفيد التفكير مليّاً قبل القيام بخطوة إلى الأمام، بوجود كل هذا الشحن والتداخل الخارجي والتهديدات الكبيرة الماثلة على الأرض، وقد بدأ تنظيم الدولة الإسلامية يظهر ويختفي، وهو مستعد مرّة أخرى ليشغل أي فراغ يمكن أن يحدُث، والفراغات لا تأتي إلا بعد المعارك الكبيرة والسجالات العسكرية، وما زال الوقت متاحاً أمام السياسة لتأخذ دورها كاملاً، ولا بأس بمزيدٍ من الوقت لتجنّب المواجهات بالسلاح.
الاتفاق على ضم مزيدٍ من أبناء السويداء لجهاز الأمن العام خطوة جيدة، فمكوّنات سورية كلها ضرورية مهما كانت نسبتها داخل المجتمع، ومشاركتها بجدّية حاسمة. ومن أولويات الإنجاز السياسي الصحيح، ومن المهم التفريق بين مكوّن سوري أصيل (وكامل) ومجموعة عسكرية متمرّدة أو خارجة عن القانون. ولا بد من الاعتراف بالثقافة الخاصة للجميع من دون انتقاص أو تضييق، فلا يشعر مكوّنٌ بغضاضة أو بغُبن يجرّه إلى التمرّد أو طلب المساعدة من الخارج، وقد توجد جهات خارجية تنتظر “بشوق” أن توجّه إليها دعوة بالتدخل، وهناك تجربة مع وجود إيران ومليشياتها التي أذاقت السوريين الأمرّين، ولا يريدون بغالبيتهم تكرارها مع أي تدخّل خارجي جديد.
العربي الجديد
———————————-
جذور الانفجار في السويداء.. من التوتر المحلي إلى الاستثمار الإسرائيلي
2025.05.05
منذ اندلاع التوترات الأمنية في ريف دمشق بتاريخ 29 نيسان الماضي، وامتدادها إلى أطراف محافظة السويداء، نتيجة اشتباكات بين مجموعات مسلحة وصفتها وزارة الداخلية بـ”جماعات غير منضبطة” وفصائل محلية من تلك المناطق، أُرجعت الأسباب الظاهرة لتفجر الأحداث إلى تسجيل صوتي تضمن إساءة للنبي الكريم ﷺ. إلا أن جذور الأزمة تعود إلى ما هو أعمق من ذلك، إذ ترتبط ببدايات تحرير دمشق، وتحديداً بعد نحو ثلاثة أسابيع من دخول العاصمة، حين منعت فصائل من السويداء رتلاً تابعاً للأمن العام وقوات الشرطة من دخول المحافظة، بذريعة “غياب التنسيق المسبق”، ومنذ ذلك الحين، دخل الجانبان في سلسلة من الاتفاقيات التي سرعان ما انهارت واحدة تلو الأخرى، بفعل انعدام الثقة وتصاعد التوترات بين الطرفين.
وقد اعتبر الشيخ حكمت الهجري، أحد مشايخ العقل الثلاثة لدى طائفة الموحدين الدروز، في حينها، إرسال الرتل إلى السويداء محاولة لفرض “سياسة الأمر الواقع”، معبّراً عن استيائه من “المماطلة في تنفيذ التسويات” الخاصة بأبناء المحافظة ممن سبق أن خدموا في صفوف نظام بشار الأسد المخلوع، ومؤكداً في الوقت ذاته رفضه تسليم السلاح قبل تشكيل “جيش وطني حقيقي”.
من أين بدأت شرارة التوترات الأخيرة؟
ظهرت أولى بوادر التوتر يوم 28 نيسان داخل السكن الجامعي في محافظتي حمص ودمشق، إثر مشاجرات بين طلاب على خلفية المقطع المسيء. وبحلول فجر اليوم التالي، تحولت الأحداث إلى اشتباكات مسلحة في مدينة جرمانا بريف دمشق، أسفرت عن سقوط قتلى وجرحى.
تدخلت القوى الأمنية سريعاً، وتمكنت من بسط سيطرتها على المنطقة، أعقب ذلك اتفاق يقضي بتسليم السلاح الثقيل على الفور، مع تعزيز انتشار قوات الأمن العام داخل المدينة. كما تم تحديد مهلة زمنية لتسليم الأسلحة الفردية غير المرخصة، على أن يُحصر السلاح بيد مؤسسات الدولة، وتنتشر وحدات تابعة لوزارة الدفاع على أطراف جرمانا لتأمينها.
وبهدف حفظ الاستقرار، انتشرت قوات الأمن في محيط مدينتي صحنايا وأشرفية صحنايا، لتأمين المنطقة ومنع وقوع أي اعتداءات، لا سيما أنها تخضع لسيطرة فصائل من الطائفة الدرزية. غير أن مجموعات وصفتها وزارة الداخلية بأنها “خارجة عن القانون” تسللت من أشرفية صحنايا إلى الأراضي الزراعية المحيطة، ونفذت هجمات استهدفت التحركات الأمنية، مما أدى إلى سقوط ضحايا مدنيين ومقتل 16 عنصراً من قوات الأمن، وفقاً لبيان الوزارة. وقد بدأت القوات لاحقاً بفرض سيطرتها على المنطقة بالتنسيق مع وجهاء محليين.
تمدد الاشتباكات نحو السويداء
امتدت المواجهات من ريف دمشق إلى محافظة السويداء، إثر محاولة فصائل محلية إرسال تعزيزات إلى صحنايا لدعم الفصائل المتمركزة هناك، لكن مسلحين “مجهولي الانتماء” اعترضوا طريقهم على أوتوستراد دمشق، ما أسفر عن سقوط قتلى ودفع الفصائل إلى التراجع نحو السويداء.
في أعقاب ذلك، اندلعت اشتباكات جديدة في الريف الغربي للمحافظة، تركزت في قرى عرى، كناكر، الصورة الكبرى، رساس، القريا، والثعلة. تمكن الأمن العام من السيطرة على قرية الصورة الكبرى، قبل أن يُعاد تسليمها إلى وحدات شرطة محلية من أبناء المحافظة، بعد التوصل إلى تفاهمات مع مشايخ العقل.
التوصل إلى اتفاق مع تمسك برفض تسليم السلاح
على خلفية التصعيد، عقدت مشيخة عقل طائفة الموحدين الدروز اجتماعاً يوم الخميس الماضي، بمشاركة مرجعيات دينية ووجهاء وممثلين عن أبناء الطائفة، وجرى الاتفاق على تهدئة الأوضاع واحتواء التوتر، مع تأكيد الالتزام بالثوابت الوطنية ووحدة الأراضي السورية.
وجاء في بيان الاجتماع أن أبناء الطائفة يشكّلون جزءاً أصيلاً من الوطن السوري، مع رفض قاطع لأي دعوات تقسيم أو انفصال. وطالب البيان بتفعيل دور وزارة الداخلية والضابطة العدلية من أبناء المحافظة، كما دعا الدولة إلى تحمل مسؤولية تأمين طريق السويداء – دمشق وترسيخ الأمن في مختلف المناطق.
وفي مساء السبت، أصدرت مشيخة العقل بياناً ثانياً أكدت فيه التزامها بمخرجات اجتماع الخميس، ونفت صدور أي قرار يتعلق بتسليم السلاح، معتبرة أن السلاح “رمز للكرامة”، وأن المجتمعين أجمعوا على الاحتفاظ به. وجاء هذا التوضيح رداً على أنباء تم تداولها حول إخراج السلاح الثقيل من المحافظة، والإبقاء على السلاح المتوسط في مخازن تحت إشراف شيخي العقل حمود الحناوي ويوسف جربوع.
من جانبه، أعلن محافظ السويداء مصطفى البكور، يوم الأحد، بدء تنفيذ بنود الاتفاق على الفور، مؤكداً أن المحافظة ستعمل على معالجة النقص في المواد الأساسية الناجم عن إغلاق طريق دمشق – السويداء. وأضاف أن الأمن العام سيتولى مسؤولية تأمين الطريق وتسيير دوريات بشكل مستمر لطمأنة الأهالي.
وأشار البكور إلى التحاق عدد من أبناء السويداء بجهاز الأمن العام للمساهمة في تنظيم الأمن الداخلي وتفعيل المؤسسات، لافتاً إلى أن ما يُعرف بـ”المجلس العسكري” في السويداء رفض الاتفاق من دون طرح بدائل واقعية.
كما شدد على أن انتشار السلاح لا يعزز الاستقرار، وأنه “لا مبرر لوجود سلاح ثقيل أو متوسط بيد المدنيين، ويجب حصره بيد الدولة”.
تصعيد إسرائيلي خطير تحت ذريعة “حماية الدروز”
كثّف الاحتلال الإسرائيلي عملياته العسكرية في سوريا بذريعة “حماية الدروز”. فقد شهد الجنوب السوري منذ بداية التوترات تحليقاً مكثفاً للطيران الاستطلاعي، أعقبه تنفيذ “غارة تحذيرية” قرب دمشق، في 1 أيار الجاري، ضد مجموعة وصفها بـ”المتطرفة”. وفي فجر الجمعة، نفذت طائرات إسرائيلية غارة استهدفت موقعاً قرب القصر الرئاسي في العاصمة دمشق، فيما وصفته حكومة الاحتلال بأنه “رسالة واضحة” للإدارة السورية.
بالتزامن مع ذلك، أفادت صحيفة “جيروزاليم بوست” أن مقاتلات تركية حلّقت في الأجواء ذاتها، وأرسلت إشارات تحذيرية للطائرات الإسرائيلية عبر أنظمة الحرب الإلكترونية، ما حال دون حدوث مواجهة مباشرة. وفي اليوم نفسه، ارتقى أربعة من أبناء السويداء من جراء غارة إسرائيلية غربي المحافظة دون معرفة الدوافع والأسباب.
كما حطّت مروحية إسرائيلية في السويداء، مساء الجمعة، محملة بـ”مساعدات ومعدات”، قالت إسرائيل إنها مخصصة لدعم الدروز في مواجهة “تحديات إنسانية”. وتبعتها سلسلة غارات هي الأعنف منذ بداية العام، استهدفت مناطق بريف دمشق ودرعا وحماة.
وفي تطور لافت، أعلن جيش الاحتلال يوم الأحد إجلاء خمسة جرحى سوريين من أبناء الطائفة الدرزية للعلاج داخل إسرائيل، وأكد دخول اللواء غسان عليان، منسق حكومة الاحتلال في الضفة الغربية، إلى سوريا ولقاءه بزعماء دروز من دون الكشف عن تفاصيل إضافية.
إسرائيل تُوظف ملف الدروز لأهداف توسعية
بحسب صحيفتي “هآرتس” و”يديعوت أحرونوت”، تستخدم حكومة نتنياهو ملف الدروز لتبرير تصعيد عسكري يهدف إلى توسيع الحرب خارج غزة وبسط النفوذ في الجنوب السوري. واعتبرت “هآرتس” أن الغارات قرب القصر الرئاسي رسالة موجهة للإدارة السورية، لكنها في جوهرها تُعرّض حياة المحتجزين الإسرائيليين للخطر في غزة وتخدم أجندة توسعية.
كما انتقدت الصحيفة تصريحات وزير الدفاع يسرائيل كاتس، ووصفتها بأنها غطاء سياسي للتدخل في شؤون سوريا بذريعة “حماية الأقليات”. أما “يديعوت أحرونوت”، فرأت في تصريحات نتنياهو وكاتس محاولة لكسب الداخل الإسرائيلي، وكشفت عن انقسام داخل القيادة الإسرائيلية بشأن جدوى هذا النهج، وسط مخاوف من التورط في مواجهة مباشرة مع دمشق.
واتفقت الصحيفتان على أن القيادة الدرزية في سوريا ترفض الانفصال وتتمسك بالهوية الوطنية، في حين تؤكد دمشق أن إسرائيل تستخدم ملف الدروز لتبرير تدخلها، مشددة على أنها تحمي جميع مواطنيها من دون تمييز.
ما آخر تطورات الوضع في ريف السويداء؟
يسود هدوء حذر في الريف الغربي لمحافظة السويداء، يتخلله اشتباك متقطع وقصف متبادل بقذائف الهاون والأسلحة الثقيلة بين مجموعات مسلحة محلية.
وشهدت قريتا الدارة والثعلة، مساء الأحد، مواجهات عنيفة بين مجموعة مسلحة من عشائر البدو من جهة، والمجلس العسكري المتمركز في مطار الثعلة من جهة أخرى، ما أدى إلى تصاعد التوتر في المنطقة.
وأدت هذه التطورات إلى حركة نزوح واسعة من عدد من بلدات الريف الغربي باتجاه مناطق أكثر أماناً داخل محافظة السويداء، في حين فرّت عشرات العائلات من قرية الدارة باتجاه بلدات المليحة الشرقية والكرك وناحتة في ريف درعا الشرقي.
كما أسفرت الاشتباكات عن تدمير وحرق عدد من المنازل في قرى الريف الغربي، وسط مخاوف الأهالي من تجدد المواجهات وتوسع رقعتها في الساعات المقبلة.
جهود وساطة لاحتواء التصعيد
تزامناً مع التصعيد الميداني، انطلقت جهود وساطة مكثفة بقيادة شخصيات سياسية ودينية عربية. فقد زار وليد جنبلاط، الرئيس السابق للحزب التقدمي الاشتراكي في لبنان، العاصمة السورية، والتقى الرئيس أحمد الشرع، وأعلن عن اتصالات مع دول إقليمية شملت تركيا، السعودية، قطر، والأردن، بهدف التوصل إلى تهدئة ووقف لإطلاق النار.
من جهته، أعلن شيخ عقل طائفة الدروز في لبنان، سامي أبو المنى، عن إجراء اتصالات رفيعة المستوى مع قيادات محلية ودولية لاحتواء ما وصفها بـ”الأحداث الدامية”.
كما شدد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان على ضرورة أن تتضافر الجهود لبناء سوريا موحدة، محذّراً من أن الاستفزازات الإسرائيلية لن تؤدي إلا إلى مزيد من الدماء والمعاناة.
نداءات دينية للتهدئة ونبذ الفتنة
منذ اللحظات الأولى للتوتر، ظهر الشيخ سليمان الهوارين، إمام مسجد شهبا، في مقطع مصور ناشد فيه العقلاء من رجال الدين ومشايخ العقل وشيوخ العشائر اتخاذ موقف موحد لوقف تصرفات الخارجين عن القانون، محذراً من الانزلاق إلى العنف، ومؤكداً أن “السلم الأهلي خط أحمر”.
بدوره، حذر الشيخ حمود الحناوي من الفتنة الطائفية وخطر المندسين الذين يسعون لاستغلال الفوضى، مطالباً بمحاسبتهم.
كما رفض المتروبوليت أنطونيوس سعد، مطران بصرى حوران وجبل العرب والجولان للروم الأرثوذكس، “خطاب التحريض والعنصرية”.
أما مفتي الجمهورية الشيخ أسامة الرفاعي، فقد وجّه نداءً للسوريين دعا فيه إلى التكاتف ونبذ دعوات الثأر، قائلاً إن “كل دم سوري محرّم، وكل قطرة دم من أبناء هذا الوطن غالية ولا يجوز التفريط بها”.
—————————-
انفجارات الجغرافيا الطائفية في سوريا والحلول المطلوبة/ د. مثنى عبدالله
بالأمس كان الساحل واليوم أطراف دمشق في جرمانا وصحنايا، حيث الاشتباكات الطائفية، والدعوات المفاجئة بتدخل قوات دولية، حسب تصريحات الشيخ حكمت الهجري زعيم طائفة الدروز في سوريا، مُدعيا أن طائفته تتعرض لهجمة إبادة غير مُبررة، على حد تعبيره. بينما تُحاول السلطات الجديدة إرسال رسائل طمأنة للجميع، ودمج الجماعات المسلحة في الأجهزة الأمنية، والتحرك على كل الأصعدة للنهوض بالبلاد والعباد من الواقع المرير الذي خلفه نظام بشار الأسد. فما الذي يحدث في سوريا بعد التغيير؟ ومن المستفيد؟ وما تداعيات الأحداث على وحدة وسلامة البلاد؟
إن في كل مرحلة انتقالية هناك توترات، وفي كل مرحلة انتقالية هنالك صعوبات جمّة، ولا يمكن أن يُطلب من السلطات الجديدة مُعجزات، والواقع السوري يقول إن هناك عصابات من كل المكونات وليست محصورة في مكون واحد. وأيضا هنالك السلاح المنفلت في كل مكان، والأخطر من كل ذلك هي عصابات إلغاء الآخر، التي تتسلل في الظلام وتقوم عمليات قتل وانتهاك، ما بعد كل اتفاق يحصل بين السلطة وأطياف المجتمع. وفي كل مرة تُلام الحكومة لأنها لا تسيطر بالشكل الكافي على المجموعات المُسلحة، في حين، على مستوى القُدرة، الدولة السورية تبذل كل جهد منذ مؤتمر النقب، ثم مؤتمر الحوار الوطني فالإعلان الدستوري، وأخيرا إعلان الحكومة المؤقتة، رغم تحديات فلول النظام السابق في الساحل السوري، وما ارتكبته من مجازر بحق جهاز الأمن العام، وضربت السلم والوفاق الوطني. وقد تحقق مستوى جيد من الأمن والسلام، على الرغم من التحديات والعقوبات الدولية. ولكن هناك أيضا حاجة لأن تتعاون الفصائل المكوناتية في السويداء وصحنايا وجرمانا، مع قوات الأمن العام لضبط الأوضاع، وهو ما يمكن أن يُطلق عليه الأمن المُشترك ما بين الدولة والشعب. لكن في المقابل هناك فصائل مكوناتية أخرى، كانت متورطة في تجارة المخدرات والخطف والابتزاز، وقد وجدت نفسها في حالة فراغ بعد تغيير النظام، وأنها سوف تواجه الدولة، لذلك ذهبت إلى تدريع نفسها بحجة مطالب لمكوّن معين أو مذهب.
أما الدعوات التي انطلقت مطالبة بالحماية الدولية، فعلى الرغم من أنها لا تُعبّر عن رغبة كل الدروز، فهي دعوات مؤسفة ومُحبطة، لأنها تُدمّر النسيج الوطني، وتُعرقل أهداف الدولة السورية في الحفاظ على السلم والأمن الأهلي والنسيج المجتمعي. كما أنها تشكل فرصة ثمينة تستثمر فيها إسرائيل، لذلك وجدنا تصريحات وزيري الخارجية والدفاع الإسرائيليين يعزفان على النغمة نفسها، ففي حين دعا الأول إلى التدخل الدولي لحماية الدروز، قال الثاني إن إسرائيل سترد بقوة لحماية الأقلية الدرزية. ومهما كانت التبريرات التي قيل إنها تقف خلف هذه الدعوات فهو خطأ فادح ووهم كبير، فالتدخل الدولي لن يحصل والدليل أن الشعب السوري بقي يطلب الحماية الدولية لمدة 14 عاما ولم يحمه أحد. وإذا كان البعض يُغازل إسرائيل لغرض التدخل، فهي لن تأتي، لأنه منذ عام 2017 حصل اتفاق بين ترامب وبوتين ونتنياهو حول حزام أمني لإسرائيل وهذا كل الموضوع، ولن يعنيها هذا أو ذاك بعد ذلك الاتفاق. صحيح إنها بدأت بقصف قرب المواقع السيادية السورية والمواقع العسكرية، لكنها لن تدخل بقواتها لحماية أحد، ولن تُكرر تجربتها المُرة في لبنان، عندما دخلت بحجة حماية المسيحيين في ثمانينيات القرن المنصرم، وهنا يجب التذكير بأن التدخل الغربي في منطقتنا العربية، منذ أواخر القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر وإلى اليوم، لم يأتِ على هذه البلاد إلا بالويلات.
إن الوضع السوري الحالي يتطلب من جميع المواطنين في مختلف المحافظات ومن جميع الانتماءات، أن يعلموا بأنهم مثل بقية المواطنين في أي مكان من الجغرافيا السورية، لهم ما لهم من حقوق وعليهم ما عليهم من واجبات. وفي المقام الأول يجب على الجميع رفض أية محاصصة طائفية أو عرقية في الدولة السورية الجديدة. فكون هذا سُني وهذا دُرزي وذاك علوي وذاك إسماعيلي، لن يستتبع هذه الأوصاف أي امتياز سياسي، أو اجتماعي، أو اقتصادي، أو حكومي، إنما هو اعتزاز ثقافي مُعين لا أكثر، وفي الوقت نفسه، فإن هذه التوصيفات، أو الهويات الفرعية، لا تحرم حاملها من أي حق من حقوق المُواطنة، ولا تسمح بالتعامل معه على أنه مواطن من الدرجة الثانية، وهذا كله يجب أن يكون له تطبيق على أرض الواقع، وليس كلاما وحسب. كما أن هناك حاجة إلى إرادة قوية من الفصائل المكوناتية التي تعتقد إنها ستحمي نفسها بسلاحها، بأن لا حماية لأي مواطن سوري إلا بحماية الدولة السورية لهم، أما حمل أعلام مُختلفة دون العلم الوطني للدولة، وحمل أسلحة خارج إطار الدولة، والخروج عن مؤسسات الدولة، فإن هذه كلها ستؤدي الى تفتيت البلاد ووحدتها وسيادتها.
إن أسباب ما يحدث في سوريا يجب أن يُقال بصدق وبلا مُجامله وهو على مستويين. المستوى الأول هو حالة الاحتماء غير المُبرر للبعض بالطائفة، الذي شهدته سوريا منذ سقوط الأسد في 8 سبتمبر/ أيلول الماضي وحتى الآن. والسبب في ذلك هو الخلفية الأيديولوجية للسلطة الجديدة، وهذه الخلفية لا تُرضي البعض من الأقليات السورية، وترى فيها حالة من التشدد تُهددها، على الرغم من أن هذا الذي يسمونه تشددا لم يظهر إلى السطح بإجراءات تمس هذه الأقليات. أما المستوى الثاني فهو عدم قدرة الإدارة الجديدة على حصر السلاح بيد الدولة، لدوافع معينة ذاتية وموضوعية، بعضها نزولا عند رغبة بعض شيوخ الدين، وكذلك رغبة بعض الفصائل، لذلك لم تتخذ الدولة أية إجراءات، حين مُنعت أرتال الأمن العام لأكثر من مرة، من دخول بعض المناطق التي تقطنها غالبية طائفية، وفضلّت الدولة الدبلوماسية والسياسة والتفاهم مع الوجهاء، ورجال الدين في تلك المناطق، لذلك بقي السلاح منتشر وبكثافة بالغة لدى مجموعات مسلحة كثيرة والبعض منها ذو خلفية طائفية.
يقينا أن هناك من الأقليات من لديها فكرة، عن أن هناك إمكانية لتدخل دولي لإحباط السلطة القائمة وإزالتها ووضع سلطة تتوافق مع الأقليات، أو في أقل الاعتبارات، منحها استقلالية والعودة مرة أخرى إلى الدويلات، التي شهدتها سوريا خلال العشرينيات والثلاثينيات من القرن المنصرم، مع وجود الاحتلال الفرنسي. وهذه فكرة واهمة جدا بل ساذجة، لان تغيير الحدود القائمة حاليا إمكانية صعبة إن لم تكن مستحيلة. ويبدو أن هذا هو السبب الذي يجعل البعض يرفض شرعية السلطة السورية الحالية، ولا يصغي إلى المنطق العقلاني والواقعي الذي تتبناه منذ وصولها للحكم وحتى اليوم.
كاتب عراقي
القدس العربي
——————————
تفكيك سورية ولبنان/ غازي العريضي
06 مايو 2025
لم يخطئ كمال جنبلاط عندما حذّر (مع بدايات الحرب الأهلية عام 1975) من مشروع إسرائيل الهادف إلى تقسيم لبنان، نقطةَ انطلاق للمشروع الأكبر؛ تفتيت المنطقة إلى دويلاتٍ مذهبيةٍ وطائفية. تلمّس هذا الأمر قبل أشهُرٍ من اندلاع الحرب، إذ كانت مؤشّراتٌ تأتي من مصادر دولية وعربية تنبّه إلى حدوث تطوّرات أمنية خطيرة في لبنان. ومشروع التقسيم يعرفه كمال جنبلاط منذ عقود في سياق قراءته أطماع إسرائيل، ومن خلال ما عُرض عليه (وعلى غيره سابقاً) من اقتراحات لإقامة دولة درزية، وكان رفضه قاطعاً. في الداخل، حاول مع الخصوم تجنّب الحرب والسقوط في هذا المشروع وفشل. كان كلامه مع القيادة السورية واضحاً في الاتجاه ذاته، فكانت أطماعٌ سوريةٌ في المقابل، وأوهامٌ بإمكانية المحافظة على الوحدة الوطنية من خلال الإمساك بلبنان كلّه. سقط لبنان، وسقطت سورية في أتون الحروب المفتوحة، وإسرائيل هي هي، ومشروعها هو هو؛ تفتيت المنطقة.
نشرت صحيفة جيروزاليم بوست قبل أيام تقريراً عنوانه “تفكيك لبنان وسورية”، جاء فيه: “الوضع الحالي في السيادة المتصدّعة في لبنان وسورية يعطي لمحةً عمّا يمكن اعتباره حلّاً رسمياً، وهو تفكيك لبنان وسورية إلى دول أصغر ذات سيادة”، “إن منطقة الشرق الأوسط تعاني باستمرار من الصراعات والتشابكات الجيوسياسية، وصلت إلى ذروة غير مسبوقة من الفوضى في أعقاب الهجمات الشنيعة التي وقعت في 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023”. وتساءلت: “هل ستحقّق الحكومتان الجديدتان في كلا البلدين التحوّل الذي تتوقّعه المنطقة والعالم؟ يمكن القول، إن هذه الهياكل الحكومية الجديدة غير مستدامة، لأنها لا تعالج المشكلة الأساسية المتمثّلة في الجمود الطائفي المتجذّر في البلدين”. كيف يمكن حلّ المشكلة؟… يجيب التقرير: “يتطلّب مستقبل مستدام للشرق الأوسط إعادة تطوير هيكلية جريئة تقدم على تفكيك الدول القومية وظهور كيانات سياسية أصغر تعكس الهُويَّات المذهبية والطائفية المتنوّعة في المنطقة. هذا المفهوم المقترح للبنان يجد القدر نفسه من الأهمية إن لم يكن أكبر في حالة سورية”. “إن نظام الدولة الحديثة في الشرق الأوسط هو نتاج عمليات تاريخية تأثّرت بشكل كبير بالتدخّلات والمؤامرات الإمبريالية. في عام 1916 تجاهلت سايكس بيكو، التي تُعدّ رمزاً للتقسيم الاستعماري، التركيبة العرقية والطائفية للمنطقة، ممّا أجبر الجماعات المتباينة على التعايش المضطرب. والتوسيع الكبير لحدود لبنان الذي قام به الموارنة في مؤتمر باريس في أكتوبر 1919، وإعلان استقلال لبنان مع بقاء النفوذ الفرنسي في نوفمبر/ تشرين الثاني 1941، ثمّ الاستقلال التام عام 1943، لم تسهم إلا في ترسيخ البنية والنظام الجيوسياسي المصطنع. كان لبنان مزيجاً من المسيحيين الموارنة والمسلمين السُّنة والشيعة والدروز وطوائف أخرى تفكّكت تحالفاتها الهشّة خلال الحرب الأهلية وحتى اليوم. سورية كما لبنان، مزيج من السُّنة والشيعة والعلويين والأكراد والمسيحيين والدروز، ثبت استحالة تعايشهم في إطار وطني واحد”. “دعوة الشرع إلى سورية موحّدة تستند إلى ركائز واهية. الحالة الراهنة من السيادة المكسورة والتقسيم الفعلي في كلّ شيء ما عدا الاسم، تقدّم لمحة عمّا يمكن إضفاء الطابع الرسمي عليه؛ تقسيم لبنان بين كيانات ودويلات، وتقسيم سورية بين اتحاد من الدول والمدن على أساس الحقائق العرقية والطائفية، فضلاً عن الهُويَّات المجتمعية”. “هذا الأمر سيسمح بإنشاء كيانات أكثر تجانساً واستقراراً. ستكون له تداعيات على الصراع الدائم بين اسرائيل والدول المجاورة. وجود اتحاد من المناطق المستقلّة في لبنان، إلى جانب منطقة عازلة منزوعة السلاح في جنوبه، من شأنه أن يحيّد الهيمنة العسكرية لحزب الله، ويقلّص النفوذ الإيراني”.
تقول الحقيقة إن هذا المشروع قديم لدى إسرائيل، ولم يظهر مع حزب الله وإيران الخميني. وقد قدّمنا دماءً في مواجهة إسقاطه، ونجحنا في بدايات الحرب (1975)، ثمّ لاحقاً في حرب الجبل، لكنّ إسرائيل لم تغيّر أهدافها وسياساتها. وهل ثمّة أوضح من الكلام الذي أورده التقرير، والممارسات الإسرائيلية في الأرض في لبنان من جنوبه إلى شماله، وفي سورية لإقامة مناطق عازلة تحت سيطرتها، من دون أن ننسى أن ثمّة دولاً عربية تقسّمت فعلياً حتى الآن: السودان وليبيا والعراق، بطريقة أو بأخرى، والباقي في الطريق، خصوصاً عندما يُشار إلى سقوط صيغة سايكس بيكو؟ وهذا ما أثرناه أكثر من مرّة في قراءتنا المشهد العربي عندما أكّدنا أن “ثلاث دول غير عربية تقرّر مصير المنطقة العربية: تركيا وإيران وإسرائيل، والعرب غير موجودين”. وعندما يشار إلى فشل تجربة “لبنان الكبير”، التي خرج بعض المغالين بمزايداتهم بأهميتها في لبنان، يعبّرون أخيراً وعلناً أن “البطريرك الحويك ارتكب خطيئة في هذا الأمر”، وهؤلاء معروفون بقناعاتهم التقسيمية. وعندما يتحدّث التقرير عن تقسيم الكيان بين كيانات تعكس الهُويَّات المذهبية والطائفية، ألا يشعر العرب والمسلمون أنهم معنيون بهذا الأمر في كلّ دولة فيها تنوّع إسلامي مسيحي وكردي، أو تنوّع مذهبي سنّي شيعي مثلاً، ممّا يعني أن الدور سيأتي إليهم؟
إن قصر نظر بعضهم، وهروب بعضهم الآخر من مواجهة الحقائق والوقائع بالارتماء في أحضان إسرائيل أو أميركا، وتمزيق “الحضن العربي” أكثر، وهو الذي يتغنّى به كثيرون متجاوزين الوقائع والحقائق، يشكّل خطراً في حدّ ذاته على المنطقة كلّها من دون استثناء. ومن هنا، تبدأ المعالجة إذا كان ثمّة قناعة بذلك.
لن يتوقف المشروع الإسرائيلي عند حدود دولة ما. وجرف فلسطين يستمرّ لتهجير أهلها
العربي الجديد
————————
سوريا وتحديات نجاح المسار الانتقالي/ د. ناصيف حتي
6 مايو 2025 م
أشهرٌ خمسةٌ مرَّت على السقوط المدوي للنظام في سوريا. السقوط الذي شكَّل مفاجأة كبيرة للعديد من المراقبين، أياً كان موقف بعضهم من النظام، معارضةً، أو دعماً، أو قبولاً، وذلك بالسُّرعة والشكل اللذين اتخذهما ذلك السقوط. القيادة التي قامت بإسقاط النظام بالدعم الواسع الذي كان متوفراً لها من الخارج، وبالأخص من تركيا، منعت عبر هذا الدعم من أن يتحول «اليوم التالي» في سوريا إلى حالة شبيهة بما صار يعرف بـ«النموذج الليبي». انطلق المسار التغييري، وما زال الاتفاق مفقوداً، ولو في ملامحه العامة بين مختلف المكونات والقوى السورية الفاعلة والمؤثرة والمعنية، حول طبيعة ونموذج التغيير المطلوب، وبالتالي طبيعة النظام الذي سيستقر لاحقاً في سوريا. الخوف من السقوط في الفوضى تعززه الأحداث التي حصلت في الساحل السوري، وبالأخص أعمال القتل التي طالت مدنيين تحت عناوين الثأر، والانتقام، وضمن منطق التعميم، والتي كانت في حقيقة الأمر عدواناً على أبناء فئة محددة. ونشهد انتقال حرب الهويات التي تقوم بها هذه القوى، أو تلك التي تنتمي إلى ذات المدرسة المتشددة، والأصولية والإلغائية ضد الآخر المختلف في المذهب الديني، أو غيره، إلى الجنوب السوري. كل ذلك يؤجج المخاوف، ويزيد من حدة التوتر بين المكونات المجتمعية، أو بعض أبنائها، تجاه الآخر الشريك في الوطن.
ورغم قيام السلطة الانتقالية بإدانة هذه الممارسات، وبذل كافة الجهود للعمل على احتوائها، ووقفها، والعمل على اتخاذ الإجراءات الضرورية لمنع تكرارها، فإن مخاطر الانزلاق نحو صدامات هوياتية، أياً كان شكلها، تبقى قائمة. المسبب الأساسي لذلك كما أشرنا يكمن في عقائد إلغائية تتغذى من مشاعر الانتصار، والانتقام، ومتأصلة في أفعال من يعتنقها. المطلوب، وهو تحدٍ ليس بالسهل، أن تكون المعالجة الشاملة لهذا الفكر، في جذوره، ومنطلقاته، بشكل حازم، وواضح، وكلي، على جدول أولويات العملية الانتقالية في سوريا. سوريا التي يشكل التنوع في «الهويات ما دون الوطنية» في المجتمع السوري مصدرَ غنى، وتعزيزاً للهوية الوطنية الجامعة. وتاريخ سوريا في مراحل عديدة منذ ما قبل الاستقلال يقدم خير دليل على ما ذكر.
الجغرافيا السياسية لسوريا في المشرق العربي بشكل خاص، وفي الإقليم الشرق أوسطي بشكل عام، جعلتها جاذبة لـ«لعبة الأمم»، تعاوناً، وصراعاً، وتقاسماً، حول مد النفوذ في دمشق. الأمر الذي يزداد قوة في فترات التحول، أو الفترات الانتقالية، كما هو الوضع حالياً. كذلك الأمر، فإن إحياء الصراعات باسم الهويات ما دون الوطنية، وبعض العقائد «العابرة للوطنية»، خطاباً وممارسة، كما أشرنا سابقاً، يعزز المخاوف من «الآخر» الشريك في الوطن، ويساهم في فتح الأبواب أمام كافة أشكال التدخل الخارجي المباشر، وغير المباشر. التضامن والدعم العربي بشكل خاص، والدولي المطلوب، هما أمران أكثر من ضروري لينجح المسار الانتقالي في سوريا. وللتذكير بشأن الوضع الإنساني الصعب والمأساوي، وبالتالي القابل للاستغلال من أطراف لها أجنداتها الخاصة، فقد أشارت المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين إلى أن 90 في المائة من السكان يعيشون تحت خط الفقر، وأن نحو 12.9 مليون مواطن يعانون من فقدان الأمن الغذائي. لذلك يبقى المطلوب الإسراع، وبالطبع ليس التسرع، في العمل على إنجاح المسار الانتقالي نحو بناء النظام الجديد، والذي هو مسؤولية سورية أساساً، ولو أن من الأكثر من ضروري وجود مواكبة عربية لدعم هذا المسار.
إن استقرار سوريا مصلحة عربية أساسية، ومصلحة لكل من يريد الاستقرار في المنطقة. نظام جديد يقوم على التشاركية السياسية لجميع المكونات الهوياتية السورية. النظام الذي يعزز مفهوم المساواة في المواطنة تحت سقف الدولة الواحدة، بحيث يصبح التنوع مصدرَ غنى للوحدة الوطنية الفعلية، لا مصدر انقسام لفتح أبواب مشرعة لكافة أشكال التدخل الخارجي، أياً كانت عناوين هذا التدخل.
الشرق الأوسط
————————–
زيارة إلى باتريك سيل/ جمال الكشكي
6 مايو 2025 م
لا يمكن فهم الأحداث الجارية الآن في سوريا، من دون العودة إلى الكاتب البريطاني باتريك سيل، الذي تخصص في سوريا، وألّف عنها عدة كتب مهمة، منها: «الأسد: الصراع على الشرق الأوسط»، و«الصراع على سوريا»، وأخيراً «الرئيس»، بالاشتراك مع فيرجينيا سيل.
في كتابه الأول، يتناول سيل كيف صعد الأسد الأب إلى السلطة، وكيف بنى دولة أمنية محكمة، وكيف تعامل مع الصراعات الإقليمية والدولية، وكيف لعب دوراً في الحرب الأهلية اللبنانية الطويلة، وأخيراً، الصراع مع إسرائيل، وكيف نظر إلى التحالفات الإقليمية مع سوريا.
أما في كتابه الثاني «الصراع على سوريا»، فقد عاد سيل إلى ما قبل الأسد بعقود، وغاص في الحالة السورية، وتناول المؤلف رحلة سوريا ما بعد الاستقلال، بدءاً من عام 1945، إلى عام 1958، حيث كانت سوريا مسرحاً، وساحة صراع بين القوى الكبرى «الولايات المتحدة الأميركية – بريطانيا»، إضافة إلى الدول العربية الكبرى.
وفي الكتاب ذاته، يحلل سيل لماذا كانت الانقلابات المتكررة، ولماذا كانت حالة عدم الاستقرار السياسي، ولماذا كانت التدخلات الغربية في الشأن السوري لا تتوقف، ولماذا قامت الوحدة المصرية – السورية، وكيف انتهت.
يمكننا الآن أن نفهم، لماذا جرى ما جرى في عام 2011، واستمر إلى عام 2024، عندما تغير النظام السوري بعد 55 عاماً من حكم الأسدين، ولعل ما شرحه سيل يكشف لنا الجوانب الأخرى في كتابه الثالث «الرئيس»، الذي قدم فيه سرداً مكثفاً لبعض الجوانب الشخصية للأسد الأب، وربطه بالأحداث الداخلية والإقليمية والدولية، وربطه أيضاً بالمواقف الاجتماعية والسياسية الداخلية.
فسوريا كما يقول سيل: دولة محورية، تؤثر وتتأثر بمحيطها العربي وغير العربي، فمن يسيطر عليها يؤثر في لبنان وفلسطين والأردن والعراق وتركيا، وعادة ما تتداخل فيها الألعاب السياسية الدولية.
عدت إلى كتابات باتريك سيل حول سوريا، لنفهم تأثير المعادلات القديمة في المشهد الجديد، فسوريا مجتمع متعدد الأعراق والإثنيات، والملل والنحل، ففيها السنة وهم أغلبية، والدروز، والعلويون، والمسيحيون، والكرد، وفيها الإسماعيليون.
كان يجب أن يكون هذا مصدر غنى، لكن القوى الدولية والإقليمية، رأت فيه أنه يمكن أن يكون مصدر شقاق، وأضيفت لهم الحالة الطارئة على الشرق الأوسط، منذ ثمانين عاماً، والتي تمثلت في النشأة الإسرائيلية التي لا تزال تشكل الهاجس الأكبر للأمن الإقليمي العربي، خصوصاً مع سوريا، التي تواجهت معها منذ عام 1948، ضمن دول عربية أخرى، وحتى الآن.
كان لافتاً، أن تستغل إسرائيل حالة السيولة، التي أعقبت الثامن من ديسمبر (كانون الأول) عام 2024، وتهاجم القوات السورية، التي لم تكن مستعدة، ولا تزال، للاشتباك معها، ولم تفكر في الهجوم على إسرائيل.
ببساطة كانت مشغولة في محاولة لمّ الشمل السوري، بعد نهاية حكم الأسد الابن، لكن الهجوم الإسرائيلي لم ينتظر، وجاء مباغتاً، ليدمر إمكانات القوات المسلحة السورية، أو ما تبقى منها، في رسالة سيطرة على سوريا الجديدة.
وهذا يذكرنا بما قاله باتريك سيل، عن أن من يسيطر على سوريا، يستطيع أن يؤثر في جزء واسع من الإقليم العربي، وإسرائيل هنا تريد أن توسع من خريطتها، وقد يذكرنا هذا بما قاله الرئيس الأميركي دونالد ترمب مرة، بأن مساحة إسرائيل صغيرة جداً، ولا بد من توسيعها.
إسرائيل التقطت الخيط من تصريح ترمب، وتوسعت في جنوب سوريا، وكسرت معاهدة فض الاشتباك الموقعة عام 1974، ودخلت على خط ما يحصل في محافظة السويداء، ووصلت إلى ريف دمشق. كما أنها لم تتوقف عن القصف، كما جرى في حماة، وحمص، واللاذقية، والساحل السوري عموماً، والمركز العلمي في دمشق. وأخيراً، استغلت الاشتباكات التي وقعت الأسبوع الماضي، بين الدروز في صحنايا وقوات الأمن، وقصفت محيط القصر الرئاسي بدمشق في كسر لكل أعراف الدبلوماسية العالمية، والقواعد المستقرة.
وقد عبرت جامعة الدول العربية عن الرفض التام للسلوك الإسرائيلي ببيان واضح، بأن على إسرائيل أن تعود إلى ما بعد اتفاق «فض الاشتباك»، وتنسحب من الأراضي السورية. وأشار البيان أيضاً إلى ضرورة عدم تدخل القوى الإقليمية والدولية في الأراضي السورية، والتأثير على مستقبل الدول العربية، العضو المؤسس للجامعة.
سوريا خريطة عربية تخص الإقليم العربي من دون سواه، أهمية موقعها – كما قال باتريك سيل – يجعل استقلالها واستقرارها رقماً مهماً في منظومة الأمن القوى العربي؛ بل يقطع الطريق أمام مطامح ومطامع إقليمية ودولية.
جربنا خلال الخمسة وخمسين عاماً الماضية، حالة الاستقطاب في سوريا، التي جعلت الإقليم العربي عرضة للخطر.
والشاهد أن الاعتداءات الإسرائيلية على سوريا، ليست موجهة إلى دمشق فقط، بل إلى قوى أخرى، ترى إسرائيل أن وجودها الفاعل على الأراضي السورية، يشكل خطراً على مستقبل مشروعها، هذه الذريعة استخدمتها إسرائيل في السابق تجاه قوى أخرى، كان لديها نفوذ في سوريا، لكن في الحالتين، فإن الواجب أن تكون سوريا للسوريين وحدهم، بجميع طوائفهم وثقافاتهم، وليست ساحة لتصفية الحسابات، أو مضمار سباق على النفوذ، وتكوين الإمبراطوريات.
أخيراً، أقول إن أي محاولة لتفتيت سوريا إلى كيانات صغيرة، سيكون وباء على الخرائط العربية والإقليمية، والحقيقة أن الزيارة إلى باتريك سيل في هذا التوقيت، مهمة وواجبة، لفهم ما الذي يجرى في عاصمة الأمويين.
الشرق الأوسط
————————
ثلج الحكمة ونار الفتنة… عبد القادر وابن رزيك/ مشاري الذايدي
5 مايو 2025 م
حصلت الفِتن المُحرقة في بلاد الشام (سوريا ولبنان وفلسطين والأردن) مِراراً في التاريخ، بسبب التهييج الديني أو السياسي أو العِراك على المنافع، أو بسبب هذا كلّه.
في العصور القريبة، وعلى ذكر الفتنة الحالية -مايو (أيار) 2025 بين الدروز وسلطات دمشق ومن يلوذ بها- فإن هناك فتنة عُظمى حصلت عام 1860م بدايتها كانت بين دروز جبل لبنان والمسيحيين الموارنة في الجبل، وقعت فيها معارك ومقاتل فاجعة، وانتقلت نار الفتنة إلى دمشق وما حولها؛ غوطتها وريفها وقراها، وقلب دمشق نفسها.
حين وصلت الفتنة إلى دمشق، حاول الأمير عبد القادر الجزائري، وهو رجل وجيه وزعيم سنّي كبير، له حاشيته وجنوده ووزنه، أن يطفئ نار الفتنة ويحمي ضعفاء المسيحيين من النساء والشيوخ والأطفال من الدروز ونصرائهم. ونجح، ومعه بعض أعيان دمشق، في إنقاذ آلاف الأرواح، وحفظ له التاريخ هذه المأثرة.
لدينا نماذج نيّرة أخرى من التسامي والتعايش قبل ذلك، كما يذكر المؤرخ النسّابة الحمداني، الملقب بالمهمندار، وكان يعمل في بلاط المماليك لضيافة الوفود السلطانية، وهذا جعله خبيراً في الناس والقبائل.
ينقل عنه كثيرٌ من المصادر معلومات نادرة عن الأسر والقبائل في القرنين السابع والثامن. يقول هذا الحمداني (توفي عام 700هـ): «وبالصعيد جماعة من بني أمية بناحية (تندة) وما حولها من الأشمونيين بالديار المصرية من بني أبان بن عثمان، رضى الله عنه، وبني خالد بن يزيد بن معاوية، وبنى مسلمة بن عبد الملك، وبني حبيب بن الوليد بن عبد الملك، ومن بني مروان بن الحكم، وهم المروانية، ولهم قرابات بالأندلس ومنهم أشتات في بلاد المغرب».
قال الحمداني: «ومرّت الدولة الفاطمية وهم بأماكنهم من الديار المصرية؛ لم يُرّوع لهم سِرب، ولم يُكدّر لهم شِرب».
ينقل القلقشندي عن ابن فضل الله العمري، صاحب «مسالك الأبصار»، وهو من سلالة العُمريين، كما يذكر، قوله عن وجود الأُسر العُمرية في مصر: «وفد منهم طائفة على الفائز الفاطمي (خليفة فاطمي) بالديار المصرية في وزارة الصالح (طلائع بن رزيك) في طائفة من قومهم من بني عدي، ومُقدّمهم (خلف بن نصر) وهو شمس الدولة أبو علي، ومنهم طائفة من بني كنانة بن خزيمة، وإنهم وجدوا من ابن رزيك ما أربى على الأمل، وحلّوا محلّ التكرمة عنده على مباينة الرأي ومُخالفة المعتقد».
الغرض من إيراد هذه الأمثلة الوجيزة، هو تأكيد هذه الومضات المنيرة في التعايش والتسامح وعفوية القبول، مع علمنا بوجود عشرات الأمثلة السيئة الأخرى عبر التاريخ، من التحريض والفِتن الطائفية والدينية والقبلية (القيسية اليمانية)، تحصل بتدبير من السياسي أو رغماً عنه.
لكن لا نريد هذه في حياتنا اليوم، بل نريد مثال عبد القادر الجزائري، وسماحة الوزير الفاطمي طلائع بن رزيك.
الشرق الأوسط
————————————————-
صحيفة فرنسية: الدروز في سوريا بين نتنياهو والشرع
تحت عنوان: “مصير الدروز في سوريا بين نتنياهو والشرع”، قالت صحيفة لوبينيون الفرنسية، إن المجتمع الذي يخشى على بقائه منقسم بشأن الطريق الواجب اتباعها: التفاوض مع الدولة المركزية والانضمام إلى القوات الموالية للرئيس الجديد أحمد الشرع، أم الحفاظ على الاستقلالية مع الاستفادة من الحماية الإسرائيلية؟
بعد الأكراد والعلويين، يشعر الدروز بالخطر في سوريا الجديدة، توضّح الصحيفة الفرنسية، مُشيرة إلى الاشتباكات الأسبوع الماضي في ضواحي دمشق بين جماعات مسلحة موالية للنظام مع ميليشيات درزية. والسبب هو مزاعم بأن أحد رجال الدين من الطائفة الدرزية أدلى بتصريحات مسيئة للنبي محمد. وقد نفى كيوان مسؤوليته عن هذه التصريحات. وكانت الحصيلة مقتل حوالي مئة شخص.
وتشير صحيفة “لوبينيون” إلى تصريح الجغرافي فابريس بالانش، لمجلة “ليكسبريس”، أن هذا الحادث “يعكس المناخ المشحون السائد في سوريا، والذي يتميز بالهيمنة الإسلامية والتبشير الديني والرغبة في إقامة جمهورية إسلامية لصالح السنة”.
وقد أعادت هذه الاشتباكات إلى أذهان الدروز ذكريات أليمة، عندما ذبح مقاتلو أحمد الشرع، وكان حينها زعيم جبهة النصرة، أكثر من 20 درزياً، في 10 يونيو/ حزيران عام 2015 بمحافظة إدلب، كما تقول الصحيفة الفرنسية.
وقصفت إسرائيل الأسبوع الماضي محيط القصر الرئاسي في دمشق كرسالة تحذيرية، حيث تتقمص دور الحامي للطائفة الدرزية لأسباب استراتيجية. ففي إسرائيل، أقام الدروز ”تحالف دم” مع اليهود ودعموا الدولة منذ إنشائها عام 1948. ويقول الخبير في الجيوسياسة إيمانويل ماجد: “إسرائيل فتحت أبواب السياسة والإدارة والجيش أمام هذه الطائفة العربية. وهم يشكلون عنصراً مهماً في منظومة الاستخبارات”.
وقد هدد بنيامين نتنياهو الشرع بالقتل في حال استهدف هذه الطائفة. وأكد موفق طريف، الزعيم الروحي للدروز في إسرائيل، دعم الدولة العبرية لهم.
يتابع إيمانويل ماجد: “تشجع إسرائيل الدروز على التصرف كأقلية تطالب باستقلالها من أجل تبرير استمرار وجود جنودها في سوريا”. وأضاف أن مشروع تل أبيب يتمثل في إظهار نفسها كحامية للأقليات في بلد منقسم، من خلال إذكاء نيران هذه الانقسامات لإضعاف السلطة المركزية. وتاريخياً، كان للدروز علاقة معقدة مع نظام الأسد، تراوحت بين فترات من المطالبات، وفترات من الولاء، وانتهى بهم المطاف بقبول دولة غير ديمقراطية مقابل الحصول على قدر من الحكم الذاتي بعد انتفاضة 2011، تُشير صحيفة “لوبينيون”.
ولا يرغب الدروز في نزع سلاحهم، ولا في الانضمام إلى الجيش الجديد دون ضمانات جدية. لكن هذا الشرط قد يبدو مبالغاً فيه في ظل مرحلة انتقالية غير واضحة. فبعد الثورة، بدأ قادة الدروز مفاوضات لدمج مقاتليهم في قوات الأمن. غير أن المجزرة الأخيرة بحق العلويين أضعفت الحماس لهذه الخطوة.
ويقول حسني عبيدي، مدير مركز الدراسات والأبحاث حول العالم العربي والمتوسطي للصحيفة الفرنسية: “الدروز منقسمون بشأن الموقف الواجب اتخاذه. إنهم لا يريدون نزع سلاحهم، ولا يريدون الانضمام إلى الجيش الجديد من دون ضمانات قوية. لكن هذا المطلب قد يبدو مبالغاً فيه في ظل انتقال سياسي غير مستقر”.
وتُجسّد هذه الشكوك في تصريحات الشيخ حكمت الهجري، البالغ من العمر 69 عاماً، وهو من أبرز الشخصيات الدينية في الطائفة. فبعد الثورة، استقبل مبعوثي السلطة الجديدة، ودعا السوريين إلى الوحدة من أجل بناء دولة شاملة تحتضن جميع مكوناتها. لكنه اليوم يتهم قوات الشرع بشن حملة إبادة جماعية، ووصفها بأنها “مجزرة جماعية منهجية، واضحة، مرئية، وموثقة”.
يقول حسني عبيدي أيضا: “موقع الدروز، البالغ عددهم بين 500 ألف إلى 600 ألف شخص، قد يحدد تحالفاتهم. فمن هم بالقرب من الحدود مع إسرائيل قد يسعون إلى حماية الدولة العبرية، بينما الآخرون في الجنوب، على الحدود مع الأردن، قد يتفاوضون مع الدولة المركزية ضمن إطار المصالحة الوطنية وإعادة الإعمار”.
وتحمل المسألة الدرزية أبعاداً إقليمية. فإلى جانب إسرائيل، حيث يشكلون 1.5% من السكان، يتواجدون أيضاً في لبنان (4%). وقد توجه وليد جنبلاط، الزعيم السياسي لدروز لبنان، إلى دمشق للدفاع عن قضيّة طائفته أمام أحمد الشرع، ويوصي باندماجهم في قوات الأمن الجديدة.
حتى الآن، لم تنضم سوى أقلية صغيرة من الدروز المقيمين في العاصمة إلى النظام الجديد، ويقومون بدوريات في ضواحي دمشق، توضح صحيفة “لوبينيون”.
ويضيف وليد جنبلاط في حديث لصحيفة ”لوموند” الفرنسية: “هناك خطر من الفوضى إذا لم يتم التوصل إلى تسوية سياسية تشمل الفصائل الدرزية ضمن قوات الأمن الجديدة. ومن الصعب أن نجد ممثلاً واحداً للدروز في سوريا. لكن المشكلة الأساسية تكمن في منع إسرائيل من التدخل في سوريا بحجة حمايتهم. فهذه الضربات، وما يرافقها من دعاية، لا يمكن إلا أن تزيد من العداء تجاه الدروز”.
—————————-
الرئيس الروحي للطائفة الدرزية في لبنان: نظام الحكم في سوريا يجب أن يكون تشاركيًا
5 مايو 2025
أكد الرئيس الروحي لطائفة الموحدين الدروز في لبنان، سامي أبي المنى، أن السلاح في سوريا يجب أن يكون محصورًا بيد الدولة، مشددًا على ضرورة أن يكون الحكم تشاركيًا يُمثل جميع السوريين، وذلك في سلسلة تصريحات نقلتها وسائل إعلام لبنانية.
وبحسب ما نقلت الوكالة الوطنية للإعلام اللبنانية، فإن أبي المنى شدد على أن “الدروز في لبنان يقفون إلى جانب أهلهم في سوريا، لكنهم يحذرون من اللجوء إلى الهلاك والانتحار”.
وأضاف أن ذلك “لا يعني تركهم لمصيرهم دون مساعدتهم على إيجاد حلٍ يحفظ وجودهم ويصون كرامتهم”، كما أعاد التأكيد على رفض الدروز “الحماية من العدو الإسرائيلي، التي يعمل لها وربما يطلبها البعض، وهذا ما لا نقبله”.
وأوضح أبي المنى في تصريحاته أن “الدعوة لتدخل دولي في سوريا غير مرحّب بها، وأن الحل يبقى بين السوريين بالحوار والتسليم للدولة التي وحدها من يملك السلاح، كما في لبنان”.
وشدد أبي المنى في حديثه على أن “تكون السلطة في سوريا تشاركية وتضم كل مكونات المجتمع السوري”، وأضاف أن هذه “مسؤولية تقع على الرئيس (السوري أحمد) الشرع، بالانفتاح على الجميع، فيشعر المواطنون بأنهم مشاركون وفاعلون في السلطة”.
وأعرب أبي المنى في تصريحاته، التي جاءت على هامش الانتخابات البلدية في لبنان، عن آماله بـ”انتقال العملية الديمقراطية التي يشهدها لبنان إلى سوريا لطمأنة الناس بقيام دولة العدالة والمساواة، خاصة بعد ما شهده هذا الأسبوع من أعمال تحريضية ومواجهات”، مؤكدًا أن “الدولة السورية مسؤولة عن طمأنة الناس، كما أن القيادات في المناطق مسؤولة كذلك”.
وأشار أبي المنى إلى أن “هناك بعض التجاوزات حصلت في سوريا، ولكن لا بد من إعطاء الفرصة للدولة كي تبني مؤسساتها الأمنية والعسكرية”، لافتًا إلى أنه سيلتقي اليوم الإثنين بعدد من سفراء الدول الغربية في لبنان “للضغط وطمأنة الدروز في سوريا”، داعيًا العائلات المُهجّرة إلى العودة إلى منازلها.
واختتم أبي المنى حديثه بالإشارة إلى أنه “لدى إسرائيل أطماعها التوسعيّة، وهذا ما يتعارض مع حقوق الشعوب، التي يجب أن تتحقق مع الأمن والسلام للجميع”، مضيفًا “أما أهلنا في سوريا فثابتون في قراهم ومناطقهم ولن يتخلّوا عنها، والتواصل مع الإدارة السورية ومع الدول العربية والصديقة المؤثرة في سوريا متواصل على أعلى المستويات”.
وجاءت تصريحات أبي المنى على خلفية التوترات الأمنية المتصاعدة التي تشهدها المنطقة الجنوبية، في أعقاب أعمال العنف التي شهدها ريف دمشق مؤخرًا، وما أسفر عنها من هجمات طائفية استهدفت مناطق جرمانا وصحنايا وأشرفية صحنايا، شنّها مسلحون ينتمون إلى فصائل متشددة، مما أدى إلى سقوط عشرات القتلى والجرحى.
————————————–
لوفيغارو: العنف الطائفي يهدد مستقبل سوريا
5 مايو 2025
سلطت صحيفة “لوفيغارو” الفرنسية، في تقرير لها، الضوء على تصاعد موجة العنف الطائفي في سوريا، مشيرةً إلى الاشتباكات الدامية التي شهدتها بلدة أشرفية صحنايا جنوبي دمشق نهاية الشهر الماضي، مشيرةً إلى أنه يمكن مشاهدة واجهات المحال المثقوبة نتيجة إطلاق الرصاص، فيما تظهر بعض السيارات المحترقة جراء الاشتباكات التي شهدتها البلدة.
ونقلت “لوفيغارو” عن الطالب الجامعي فادي أن “الميليشيات كانت تطلق النار عشوائيًا، بالإضافة إلى قذائف الهاون” عند اقتحامهم البلدة، مشيرًا إلى أنهم تلقوا “أمرًا بالبقاء في البيوت”، لافتًا إلى أنه لجأ مع والدته وشقيقه إلى إحدى المناطق المجاورة، وأردف قائلًا: “اقتربت الاشتباكات من منزلنا، وظننت أنني سأموت. كانت البلدة تحت الحصار”.
وكانت الاشتباكات قد توقفت بين الفصائل الدرزية والمجموعات المسلحة المتشددة بعد توقيع اتفاق بين السلطات السورية وشيوخ الطائفة الدرزية، بالإضافة إلى وجهاء محليين، نصّ على تسليم سلاح الدروز إلى السلطات السورية. ووفقًا لـ”لوفيغارو”، فإن أحداث العنف كانت قد امتدت إلى مدينة جرمانا في ضواحي دمشق، وكذلك إلى السويداء جنوب البلاد.
وتشير الصحيفة الفرنسية إلى أن التقارير الحقوقية وثقت مقتل 102 شخصًا في الاشتباكات الأخيرة، لافتةً إلى هذه المواجهات تأتي في ظل التوترات الطائفية التي تشهدها البلاد منذ الإطاحة بالرئيس المخلوع بشار الأسد في الثامن من كانون الأول/ديسمبر الماضي.
وأوضحت “لوفيغارو” أن الانتهاكات التي ترتكبها الفصائل الإسلامية المتطرفة، منذ سقوط الأسد، أصبحت شبه يومية، مضيفةً أنها تستهدف بشكل أساسي الطائفة العلوية، والتي بلغت ذروتها مطلع آذار/مارس، حينما شن عناصر من النظام السابق هجومًا منسقًا على القوات الحكومية، مما أدى إلى وقوع مجازر بحق الطائفة العلوية راح ضحيته أكثر من 1300 شخص.
يصف فادي مقاطع الفيديو التي تصل إلى هاتفه الذكي، والتي يظهر في أحدها رجل ملثم يزعم أنه في أشرفية صحنايا يُجبر شخصًا يتعرض للضرب الشديد على “العواء من كل قلبه”، بأنه يعيد التذكير بالمجازر التي ارتكبت بحق العلويين في الساحل، وأضاف أن كل هذه الجرائم تتسم بطابع واحد، لخصه بـ”الإذلال والوصم الجماعي”.
وبحسب “لوفيغارو”، فقد تكررت هذه الحوادث وأعمال العنف خلال الأسابيع الماضية، مشيرةً إلى أن عمليات القتل والاعتداء على المدنيين وحالات الخطف لا تزال مستمرة في مدينة حمص، وسط صمت من السلطات الرسمية.
وأضافت أن منظمة “مجموعة السلام المدني” وثقت 72 حالة اختطاف للنساء العلويات منذ كانون الثاني/يناير في منطقتي حمص والساحل، في الوقت الذي قالت تقارير حقوقية إن أكثر من ربع جرائم القتل التي تم توثيقها في نيسان/ أبريل وقعت في حمص.
وقالت ناديا للصحيفة الفرنسية: “إنهم يفعلون هنا ما فعلوه على الساحل خلال المجازر، لكن هذه المرة يفعلونه بالتدريج، كي لا يلفتوا أنظار المجتمع الدولي”.
كما أكد كريم في حديثه لـ”لوفيغارو” أنه “بلا شك، نحن أمام جريمة طائفية”، وأضاف “صحيح أن بشار الأسد كان علويًا، لكن الكثير من قادة النظام السابق كانوا سنة”، مشيرًا إلى أن “العلويين سلموا سلاحهم بعد سقوط النظام لأنهم وعدوا بالسلام والاندماج في الدولة الجديدة. لكنهم الآن يُطعنون من الخلف”.
واختتمت الصحيفة الفرنسية تقريرها معيدةً التذكير بأن السلطات السورية الجديدة كانت قد تعهدت بملاحقة مرتكبي الجرائم، فضلًا عن إعلان الرئاسة السورية تشكيل لجنة لتقصي الحقائق. وفي هذا السياق نقلت عن مصادر غربية قولها إن الحكومة السوري “تخشى من فقدان السيطرة على بعض المناطق، وتواجه ضغطًا من قاعدتها الراديكالية، لذلك تلتزم بمنهج أمني خاص”.
———————–
المسيّرات الإسرائيلية في سوريا: مهام تتجاوز الرصد والاستطلاع
4 مايو 2025
اعتاد السوريون على الطائرات المسيرة تحلق في أجوائهم لساعات طويلة وعلى مدار أيام. واقترن سماع صوتها بتنفيذ غارات جوية إسرائيلية على الأراضي السورية، مثل الذي حدث قبيل تنفيذ الغارات في منطقة صحنايا وبالقرب من قصر الشعب في دمشق، حيث سبقها تحليق مكثف للمسيرات.
يشير المفهوم العام للطائرات المسيرة، خاصة التي تحركها إسرائيل فوق الأراضي السورية، إلى عمليات الاستطلاع والمسح الطبوغرافي، إضافة إلى الرصد المرئي للأهداف المطلوب مراقبتها، وإرسال ما يتم تصويره إلى مراكز القيادة الإسرائيلية، والتي تتخذ بدورها القرارات العسكرية سواء بعملية الرصد، أو تنفيذ هجمات صاروخية على الهدف، إلا أن الخبراء العسكريين والتقنيين يشيرون إلى أهداف لإسرائيل، أشمل وأوسع، تقف وراء استخدامها للمسيرات.
بنوك أهداف محتملة
يشير الخبير والأكاديمي في الهندسة الالكترونية، سامر العلي، إلى أن الطائرات الاستطلاعية الإسرائيلية تختلف استخداماتها باختلاف أنواعها، سواء كانت طائرات من نوع “إيتان” والتي تحمل رؤوسًا صاروخية متفجرة تصل إلى 1000 كغ، أو طائرات “نحشون” ذات الأغراض التجسسية، وفي كلتا الحالتين تنفذ هذه الطائرات مهمات مزدوجة في الرصد والتدمير تبعًا لأهداف استطلعتها سابقًا.
وفي هذا السياق، يؤكد العلي أن ثمة عمليات تصوير مسحية تنفذها الطائرات المسيرة أفضل بكثير مما تؤمنه الرادارات الإلكترونية كالمراصد والأقمار الصناعية، إذ تكون قادرة على الحصول على صور بمختلف الأبعاد للأهداف التي تريد ضربها، وتؤمن ضربات بدقة عالية دون أي خطأ، وعليه تعمل المسيرات على تحضير وتجهيز “بنك أهداف” للقيادة الإسرائيلية لتنفيذ الاستهداف وقتما تشاء، عدا عن عوامل الضغط النفسي الناتج عن التحليق المكثف.
وفي هذا السياق يرى رئيس مركز الشرق الأوسط للدراسات والعلاقات العامة، العميد هشام جابر، أن الاستطلاع ليس هدفًا للطيران الإسرائيلي، كونه يمكن الحصول عليه عبر الأقمار الصناعية، إلا أن الهدف الحقيقي هو الحصول على مسح مصور لنقاط استراتيجية خاصة بالقيادة السورية، تكون هدفًا لها، وعليه من المتوقع أن تزداد وتيرة الغارات الإسرائيلية على سوريا في الأيام المقبلة، والتي تلي عمليات المسح الاستطلاعي المكثف.
التعرف على الوجه
يشير الخبراء التقنيون إلى أن الساعات الطويلة التي يحلق فيها الطيران المسير فوق الأراضي السوري، مستغلًا غياب الدفاعات الجوية، تؤدي أهدافًا تقنية إسرائيلية متعلقة بالمسح البصري للوجوه، وذلك في إطار تجهيز بنك أهداف بشرية معدة للاستهداف عندما يغدو ذلك مطلوبًا.
يؤكد الأكاديمي في الهندسة الالكترونية، سامر العلي، أن المسيرات الإسرائيلية جرى استخدامها مسبقًا في مراقبة الشخصيات، تتبع حركتهم، ووضع تصور واضح للوجه، ليكون هدفًا جاهزًا لحظة الاغتيال، حتى ولو كان ضمن المئات من الحشود البشرية، خاصة وأن هذه الطائرات تتحول بحد ذاتها إلى صواريخ موجهة في حال أعطيت لها الأوامر العسكرية بالاستهداف.
فيما يرى العميد هشام جابر أن هذه الطائرات تراقب أيضًا التحركات البشرية المتعلقة بالأماكن الحساسة، والسيادية، والوزارات، كأماكن الحراسات والمناوبة بين الحرس، وعليه يشكل الطيران الاستطلاعي في سماء سوريا خطرًا كبيرًا على الشخصيات الرسمية والعسكرية في سوريا.
اتصالات مراقبة
يعتقد العلي أن مراقبة الاتصالات في سوريا هي إحدى أبرز المهام التي توفرها الطائرات المسيرة لمركز القيادة الإسرائيلي، سواء كانت الاتصالات سلكية أو لا سلكية، إذ يؤمن تحلقيها المستمر الحصول على كافة التسجيلات الصوتية من مراكز القيادة السورية، ويمكنها استيعاب كميات ضخمة من المعلومات ومعالجتها بشكل فوري، وبالتالي من المؤكد أن جميع أنواع الاتصالات في سوريا مراقبة بشكل كامل من الجانب الإسرائيلي.
وفي هذا الإطار يضيف العميد جابر بأن هذه الطائرات قادرة على التعرف على البصمة الصوتية للعديد من الشخصيات، ومراقبة مكالماتهم، واجتماعاتهم، وهو ما جرى في العديد من بؤر التوتر التي استخدمت فيها اسرائيل طائراتها المسيرة.
حلول محتملة
على الرغم من تدمير العدو الإسرائيلي كافة المقدرات العسكرية السورية بما في ذلك الدفاعات الجوية، ومنظومة الحرب الإلكترونية، إلا أن ذلك لا يمنع من الاستعانة بالخبرات من الدول الجارة، وهو ما أشار إليه سامر العلي في حديثه، مشيرًا إلى وجود بعض الحلول مثل استخدام البنادق الليزرية، كبديل رئيسي للصواريخ التي تستهدف المسيرات خاصة عندما تكون مرئية، إضافةً إلى استخدام الطائرات المسيرة ذات التقنية العالية لمجابهة الطيران المسير للعدو، عدا عن ترميم منظومة الحرب الإلكترونية للجيش السوري عبر الاستعانة بالخبرات العسكرية من الدول الجارة.
—————————-
هآرتس: إسرائيل توظف قضية دروز سوريا لتوسيع الحرب على حساب الرهائن
2025.05.04
حذّرت صحيفة هآرتس الإسرائيلية من مغبّة التصعيد العسكري في سوريا، معتبرة أن الحكومة الإسرائيلية بقيادة بنيامين نتنياهو تستخدم قضية دروز سوريا كغطاء لتوسيع نطاق الحرب خارج قطاع غزة، في خطوة وصفتها بأنها “مغامرة عسكرية غير ضرورية” تهدد أرواح الرهائن الإسرائيليين المحتجزين لدى حركة حماس.
وفي افتتاحيتها الصادرة يوم أمس الجمعة (3 أيار 2025)، كشفت الصحيفة
أن الغارات الجوية الإسرائيلية التي استهدفت مواقع قرب القصر الرئاسي في دمشق، وأخرى في أنحاء متفرقة من سوريا، تأتي في سياق سياسة متعمدة لتوجيه “رسائل للنظام السوري الجديد”، لكنها تمثل في الواقع توجهاً لتوسيع دائرة الحرب الإقليمية على حساب أولويات أكثر إلحاحاً، كتحرير الرهائن.
ووجّه وزير الدفاع الإسرائيلي، يسرائيل كاتس، تهديداً مباشراً للرئيس السوري أحمد الشرع، محذّراً من المساس بجماعة الدروز، ومؤكداً أن إسرائيل “سترد بشدة” إذا استمرت الهجمات ضدهم. إلا أن الصحيفة رأت في هذا الخطاب محاولة لفرض نفوذ سياسي وأمني على جنوب سوريا، تحت ذريعة “حماية الأقليات”.
“الدروز جزء لا يتجزأ من النسيج السوري”
وأشارت هآرتس إلى أن القيادة الدرزية في سوريا ترفض الانفصال عن البلاد، وتؤكد أن الدروز يشكّلون جزءاً لا يتجزأ من النسيج الوطني السوري، كما أن النظام الجديد في دمشق بات يحظى بشرعية دولية وعربية، وأبرم تفاهمات مع الدروز لضمان حقوقهم.
وردّ حسين الشرع، والد الرئيس السوري، على التصريحات الإسرائيلية باتهام تل أبيب بأنها تستغل القضية الدرزية لـ “إسكات سوريا”، محذراً من أن “الرد سيأتي من مكان لا تتوقعونه”.
وختمت الصحيفة العبرية افتتاحيتها بدعوة الحكومة الإسرائيلية إلى التوقف عن فتح جبهات جديدة في سوريا ولبنان، والتركيز بدلاً من ذلك على إبرام صفقة لإعادة الرهائن الإسرائيليين من غزة، مشيرة إلى أن استمرار الحرب دون أفق واضح يلحق أضراراً كبيرة بالمدنيين في القطاع ويقوّض فرص إنهاء الأزمة.
—————————-
جيش الاحتلال يعلن عن دخول أحد قادته إلى سوريا ولقائه بزعماء دروز
2025.05.04
أعلن جيش الاحتلال الإسرائيلي عن دخول أحد قادته إلى سوريا ولقائه بزعماء دروز، وذلك في وقت تتصاعد فيه الحملات الإسرائيلية ضد الإدارة السورية بذريعة حماية الدروز.
وذكرت إذاعة جيش الاحتلال أن منسق الحكومة الإسرائيلية في الضفة الغربية، اللواء غسان عليان، دخل سوريا مؤخراً والتقى زعماء دروزاً، من دون أن تحدد المناطق التي دخلها أو الشخصيات التي التقاها.
وفي أواخر شهر شباط الماضي، نقلت صحيفة “إسرائيل اليوم” عن مصدر مطلع قوله إن عليان التقى قيادات درزية سورية لتعزيز العلاقات، من دون ذكر مزيد من التفاصيل.
وكان عليان قد كُلّف بوضع خطة لمنح السوريين المنتمين إلى الطائفة الدرزية تصاريح عمل للدخول إلى الأراضي المحتلة للعمل صباحاً والعودة إلى سوريا مساءً.
غسان عليان في قلب سياسات الاحتلال
وُلد عليان في قرية شفا عمرو الواقعة في منطقة الجليل عام 1972، وينتمي إلى الطائفة الدرزية، ويحمل رتبة لواء (جنرال).
بدأ مسيرته العسكرية في لواء “غولاني”، أحد ألوية النخبة في الجيش الإسرائيلي، وتمكن لاحقاً من قيادة هذا اللواء خلال الحرب على قطاع غزة عام 2014، حيث أُصيب بجروح بالغة ونُقل على إثرها إلى مستشفى “سوروكا” لتلقي العلاج.
تدرّج عليان في عدة مناصب عسكرية بارزة، إذ شغل منصب قائد لواء “غولاني”، ثم عُيّن رئيساً لمديرية التنسيق والارتباط، قبل أن يتسلم القيادة الحالية لوحدة “كوغات”.
وفي عام 2021، تولى منصب قائد وحدة تنسيق أعمال الحكومة الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية المحتلة، المعروفة اختصاراً بـ”كوغات”، وهي الجهة المسؤولة عن إدارة الشؤون المدنية في الضفة الغربية وقطاع غزة، وتتبع لوزارة الدفاع الإسرائيلية.
ويُشرف عليان حالياً، بصفته قائد “كوغات”، على عمليات التنسيق مع السلطة الفلسطينية، إلى جانب منح تصاريح العمل للفلسطينيين، وتنفيذ مشاريع بنية تحتية وإنسانية بالتعاون مع منظمات دولية.
وقد أثار عليان جدلاً واسعاً في الأوساط الفلسطينية، إذ يُنظر إليه كأداة في يد الاحتلال للتحكم في تفاصيل الحياة اليومية للفلسطينيين، لا سيما في ظل تصريحاته التي تبرر الإجراءات العقابية بحق سكان قطاع غزة.
مزاعم إسرائيل بحماية الدروز في سوريا
كرّر رئيس وزراء الاحتلال، بنيامين نتنياهو، ووزير دفاعه، يوآف كاتس، خلال الفترة الماضية، المزاعم التي تتحدث عن حماية الدروز في سوريا، مستغلا الأحداث الميدانية لترويج هذه الادعاءات.
ومؤخراً، شنّت طائرات الاحتلال غارات على مواقع في سوريا بذريعة “الدفاع عن الدروز”، وذلك على خلفية التوترات التي شهدتها منطقتا جرمانا وصحنايا بريف دمشق، إلا أن صحيفة “يديعوت أحرونوت” أكدت أن المواقع المستهدفة تقع ضمن “بنك أهداف” معدّ مسبقاً لضرب البنية التحتية للجيش السوري.
وأكدت الصحيفة أن السبب الأول للغارات هو تدمير الأسلحة الاستراتيجية السورية المتبقية من جيش النظام المخلوع، والتي قد تُستخدم ضد إسرائيل، أما السبب الثاني فهو الادعاء بحماية الدروز.
يُشار إلى أن الحكومة السورية تؤكد حرصها على حماية جميع السوريين من دون تمييز، وتندد بتدخل الاحتلال في الشؤون الداخلية للبلاد.
————————————-
هل توجد مسألة درزية في سورية؟/ فايز نايف القنطار
06 مايو 2025
كثر الحديث أخيراً عن الدروز وعن السويداء وموقفها من السلطة الجديدة، ويتصاعد خطاب كراهية يوحي بالتحضيرلشيء ما، يستخدم الدروز شمّاعة فيه. ويجري القفز فوق تاريخ طويل من التضحيات من أجل الوطن السوري وبناء الهوية السورية. مما يطرح سؤال: هل توجد مسألة درزية في سورية؟
دروز حوران شديدو الاعتزاز بديرتهم (منطقتهم) لأنهم تنشقوا فيها نسائم الحرية، وزاد في اعتزازهم بها عجز السلطات والقبائل المختلفة عن دكّ هذا الحصن الذي ظل وحده بين المناطق حراً، وملجأ لكل مظلوم أو طريد. يعشقون الحرية ويتمسكون بها، فلم تستطع الدولة العثمانية، على اختلاف ولاتها، ولا حملة إبراهيم باشا، ولا الدولة الفرنسية خنقها واستئصال جذوة الحرية من صدورهم.
اضطر الدروز لخوض معارك دموية غير متكافئة، للدفاع عن وطنهم والمحافظة على حريتهم. برز اسم اللجاة (Trachonitis) في بلاد الشام وكان الحدث الأكبر هو ثورة الدروز ضد إبراهيم باشا، الذي طلب تجنيد 300 درزي فقط.
ولكي نتمكن من الإجابة على السؤال الأساسي، لا بد من التعرف على أهم المحطات التاريخية التي عرفها الدروز منذ وصولهم إلى جبل حوران، منذ منتصف القرن السابع عشر، ومعرفة الأحداث التي أثرت بعمق في ثقافتهم وفي حياتهم الاجتماعية.
ردّ إبراهيم باشا على أعقابه
في عام 1831 أرسل محمد علي باشا ابنه إبراهيم على رأس جيش جرّار إلى بلاد الشام، بهدف تقليص النفوذ العثماني على المنطقة، وتوسيع نفوذه في عموم المنطقة، وكان الجيش المصري مزوداً بالأسلحة الحديثة، ومنظماً وفق أسس عصرية، ونجح إبراهيم باشا في تحقيق انتصارات عسكرية في المدن الرئيسية مثل عكّا التي أخذها بعد حصار طويل، ودمشق وحلب اللتين أحدث فيهما تغييرات تنظيمية وإدارية كبيرة، قبل أن يواجه صخرة كأداء في جبل العرب. حيث تعرضت جيوش إبراهيم باشا لهزائم متتالية عند محاولاته المتتالية لاقتحام جبل جوران، هزائم لأقوى جيش في الشرق من جيش محلي صغير، والغريب أن جيش إبراهيم باشا الذي نتحدث عنه هو الجيش الذي اجتاح الجزيرة العربية وبلاد الشام ودفع بالعثمانيين خارج بلاد الشام. أدت هزائم هذا الجيش أمام عدد غير متكافئ عدداً وعدة، إلى حالة من الذعر في الأوساط العليا للنظام. وأحدث هذا الانتصار الدرزي ضجة غير مسبوقة في المشرق، اقتربت بطولات هؤلاء الثوار من الأساطير، تروي بطولاتهم ودفاعهم عن حريتهم، مما ترك تأثيرا معنويا استثنائيا، ساهم في رفع معنويات الدروز وجعل أعدائهم في وضع مستحيل، يهربون ويولون الأدبار قبل أن تبدأ المعركة فعلا.
بعد هذه الانتصارات، أسس الدروز لمجدهم الحربي الأسطوري ورفضوا طلبات الدولة من مجتمعهم، وترسخ وجودهم في الوطن الجديد، في جبل حوران. لا تزال تعرض حتى اليوم، بفخر واعتزاز، الأدوات الفضية الخاصة بتحضير القهوة التي اغتنمها عز الدين الحلبي من خيمة إبراهيم باشا في معارك اللجاة.
بددت حرب الجبل أحلام إبراهيم باشا وأنهكته وأجبرته على مغادرة المنطقة، وترك الساحة للأتراك العثمانيين لاستعادة المواقع المفقودة. ولكن يبدو أن العثمانيين لم يدركوا أسباب هزيمة السلف إبراهيم باشا، فبعد اثني عشر عاما من الهدوء، قرروا احتلال جبل الدروز من جديد، والقضاء على استقلاله الذاتي. يشكل هذا الاحتلال القضية المعنوية الأولى للسلطنة العثمانية، لاستعادة سلطتها وهيبتها.
نشأ لآل الحمدان كيان حقيقي راسخ، وتزعموا الجبل (فعلياً) من 1711 حتى 1860 تقريباً، وقادوا القوم في معارك مهولة، خاصة ضد حملات إبراهيم باشا، بين عامي 1837- 1838 التي فشلت في دخول الجبل وتحقيق شروطها في التجنيد وغيره، وكان تعداد سكان الجبل نحو5 آلاف، منهم 1500 من المسيحيين ومن البدو. بعد ازدياد مظالم آل الحمدان وتجاوزاتهم، قام الدروز بطردهم ومبايعة أل الأطرش.
ثورة العامية والطرشان (1889-1891)
ما إن استقرت الزعامة لإبراهيم الأطرش، حتى استولى على كل أملاك وامتيازات آل الحمدان، ومارس أقسى ما كان يمارسه شيوخ الحمدان، بعد أن وزع أقرباءه شيوخاً على 25 قرية في المقرن القبلي، وكان للشيخ وحده ربع الأرض في القرية.
شعر الناس بخيبة الأمل والخذلان مجددا وبدأ التململ في عدة قرى، وكان الحدث الذي فجر ثورة الغضب، أن فلاحاً في عرمان تجرأ وحصد في أرضه ليسد جوع أسرته، قبل أن يأذن الشيخ، فكان ممنوعا على الفلاحين حصاد حقولهم قبل إنهاء حصاد حقول الشيخ، وعندما وصل جمل الفلاح محملاً بالقمح إلى بيادر القرية، أرسل الشيخ نجم الأطرش رجاله فحرقوا الجمل بما حمل.
انطلقت ثورة العامية (العوام) وطردت شيوخ أل الأطرش، الذين استعانوا بالجيش التركي للعودة إلى مشيختهم، ووقعت المعركة في الشقراوية، في مدخل مدينة السويداء، عام 1891، معركة غير متكافئة، حيث لم تتعدّ قوات الثوار الـ1000 فارس، خسروا 400 قتيل، وتم تدمير السويداء، واستطاع العثمانيون دخول الجبل لأول مرة، بعد أن كان عصياً عليهم وعلى إبراهيم باشا خلال قرنين، وهكذا تم التفريط باستقلال الجبل وحرية أبنائه، إذ سرعان ما فرض العثمانيون التجنيد الإجباري، وعززوا وجودهم العسكري في الجبل، بعد أن تمتع بالاستقلال الذاتي منذ بداية الاحتلال العثماني.
عرفت هذه الأحداث بـ انتفاضة العامية، أو “ثورة العامية على الطرشان”، وتعتبر لدى أبناء الجبل حركة ضد الظلم، استطاعت التبلور رغم تحالف مشايخ العائلات المالكة مع آل الأطرش. هي ثورة الفلاحين في 1889ـ 1891 ضد الإفظاع وهي الأولى، والوحيدة من نوعها في بلاد الشام خارج جبل لبنان، جاءت اقتفاء لتراث ثورة كسروان في 1858. هزت هذه الثورة جبل الدروز وتركت أثرا عميقا في المجتمع، بالرغم من هزيمتها على يد الجيش التركي، إلا أنها أدت إلى إعادة توزيع الأرض، بحيث يكون نصيب الشيوخ نصف ربع أرض البلدة، بدلا من الربع، ومنعوا من ترحيل الفلاحين.
سرعان ما اكتشف الجميع عودة العثمانيين إلى أساليب القمع والقهر ضد الجميع، الشيوخ والفلاحين، مما حمل الدروز على التواصل مع الأمير فيصل لمواجهة الاضطهاد العثماني والتمييز ضد العرب.
عندما وصل فرسان جبل الدروز في ذلك الزمن إلى مقر الأمير فيصل في العقبة، استبشر خيرا وتفاءل بالنصر ودخول دمشق، حيث تابعت قوات الثورة العربية الكبرى وفي مقدمتهم فرسان بني معروف بالزحف شمالا حتى سقطت بصرى الشام بأيديهم وتابعوا المسير إلى الشيخ مسكين وإلى الكسوة، وأصبحوا على مشارف تلول المانع، وهنا حصلت اشرس المعارك مع القوات الألمانية والعثمانيين، وغادر القائد الألماني الجنرال فولكن أرض المعركة، وتم أسر اللواء رضا الركابي من قبل فرسان قرية الغارية، وفي اليوم الثاني اندفعت هذه الجموع إلى دمشق عن طريق البوابة، وكانت أهازيجهم الجبلية المعروفية تشق عنان السماء، في خضم الأجواء الترحيبية من قبل السكان، لم يتوقفوا إلا عند القصر البلدي أو دار الحكومة وصعدت مجموعة من الثوار، على راسهم صالح طربية وعلي الأطرش، ونزعت العلم العثماني ووضعت مكانه الراية العربية، إيذانا بانتهاء السيطرة العثمانية التي استمرت 400 سنة، وذلك في أيلول عام 1918. ضجت ساحة المرجة بالنخوات والأهازيج والأغاني الجبلية: (عرش المظالم انهدم) (وسعوا المرجة).
وفي 1916 في ذروة الحرب العالمية الأولى، أبرمت إنكلترا وفرنسا اتفاقاً سرياً عرف باسم اتفاق (سايكس – بيكو)، ينص على اقتسام العالم العربي واستعماره بعد تحريره من الأتراك العثمانيين. ينص الاتفاق المذكور على وضع فلسطين والأردن والعراق في عهدة الإدارة الإنكليزية في حين أن سورية ً ولبنان، تحت الوصاية الفرنسية. عندها ظهرت النوايا الحقيقية للغرب نحو العرب والعروبة. وكذلك خيبة أمل الوطنيين العرب وفي طليعتهم الدروز، الذين قاتلوا ضد الاستعمار التركي العثماني، والآن عليهم العودة للقتال ضد المستعمرين الجدد. وقد شهدت سورية ثورة عارمة زعزعت مكانتها وهيبتها كقوة عظمى، وكان من أشهر المقاتلين وأعظمهم سلطان باشا الأطرش، الذي اختاره السوريون قائداً لثورتهم، وقد خاص أقوى المعارك وأشرسها، وكبّد الفرنسيين خسائر كبيرة بدأت بأولى معارك الثورة السورية في 23 يوليو 1925 في الكفر، ثم تبعتها معركة المزرعة والمسيفرة ومعارك حوران التي عرفت باسم معارك الإقليم الأولى، ثم تعاون مع ثوار ريف دمشق في معارك الغوطة، ومع ثوار القلمون وحمص وحماة في معارك الشمال، وكذلك معارك اللوى والمقرن الشرقي، ومعارك اللجاة في المسمية والخالدية وداما. كانت فرنسا تعي قوة المقاومة الدرزية ومناعتها، وأدركت أن السيطرة على سورية، تستوجب أولاً إخضاع الجبل.
سلسلة المعارك الطويلة التي خاضها الموحدون في مواجهة قوى كبرى، والانتصار عليها، صنعت مجدهم وخلدت بطولاتهم وأدت إلى بلورة ما يسمى بأرستقراطية “الفروسية الدرزية”، وجعلت منها أقلية مرهوبة الجانب فرضت هيبتها واحترامها على الصديق وعلى العدو. وكان التعبير عن ذلك في العصر الحديث، مساهمة الموحدين الدروز في التحرر وبناء الوطنية السورية الحديثة، عبر المشاركة الأساسية في الثورة العربية الكبرى التي تمخضت عن طرد العثمانيين، وفي الثورة السورية الكبرى التي أدت إلى طرد الفرنسيين. ثم في إصرارهم على الوحدة السورية، والتأسيس للوطنية السورية، هذا هو الإرث الذي أسسه الدروز منذ قدومهم إلى الجبل.
هذا السياق التاريخي وهذه التجربة المشحونة بالمواجهات، من أجل المحافظة على الاستقلالية وحماية الخصوصية، في وسط لا يقبل الاختلاف، لقد عاش أبناء جبل العرب منذ تأسيسه حالة من الاستقلال الذاتي، وشكل ملجأ لكل الباحثين عن الحرية والهاربين من قمع السلطات، استمر هذا الوضع حتى عام 1936، حيث بدأ أبناء الجبل رحلة الاندماج التام في الكيان السوري ورفض الدولة الدرزية التي أسسها الانتداب الفرنسي.
بدأت هذه الرحلة في الاندماج في الوطن السوري عبر مشاركة الجبل الفاعلة في الثورة العربية الكبرى التي أدت إلى طرد السلطنة العثمانية من المنطقة. المشاركة في هذه الثورة أدى إلى خروج أبناء الجبل من القوقعة المذهبية إلى الفضاء الوطني العروبي وساهموا بقوة في بناء الوطنية السورية بعد انخراطهم في الثورة السورية الكبرى التي أفضت إلى فتح الطريق نحو استقلال سورية ولبنان، عبر التضحيات الكبيرة التي دفعها “الدروز” (65% من شهداء الثورة). أدركت سلطة الاحتلال عدم قدرتها على دفع أثمان المواجهة المسلحة ففتحت الأبواب للعمل السياسي وتنظيم انتخابات وتشكيل حكومات تتمتع ببعض الاستقلالية تحت سلطة الانتداب، وكذلك مشاركتهم في كل المشاريع السياسية الوطنية كفاعلين ومؤسسين.
تاريخياً لا يوجد في سورية مشكلة درزية، فالدروز مندمجون مع بيئتهم المحيطة وبحاضنتهم العربية الإسلامية ومتصالحون مع جميع السوريين، يتميز مجتمعهم المحلي بخصائص تساعدهم على كسب العقول والقلوب لكل من يقترب منهم ويطلب مساعدتهم أو يقيم بينهم، فالانفتاح وقبول الآخر المختلف الذي ميز تاريخهم منذ تأسيس دولة المواطنة والمساواة فلي القرن السابع عشر، (في زمن فخر الدين المعني الثاني)، عندما تمتع الجميع بالمساواة وحرية المعتقد ومكن الكثير من المسيحيين السوريين من الهجرة الى لبنان هربا من التمييز العثماني. وعرف لبنان ازدهارا وتقدما نتيجة هذا النظام العلماني المنفتح.
يتعرض الدروز أحيانا لحملات طائفية لأسباب سياسية. بعد الاستقلال، قام الشيشكلي بحملة عسكرية لتأديب الدروز لأنهم رفضوا نظامه الدكتاتوري، لم يتأخر السوريون في إسقاط الشيشكلي، ورفض سلوكه في استخدام القوة ضد محافظة السويداء.
كما يتعرض الدروز لاتهامات ظالمة كررها نظام الأسد البائد باتهام الدروز بالتواطؤ مع إسرائيل، لتبرير هزائمه أمامها وحرف الأنظار عن تخاذل جيشه في حماية الحدود، جاحدين تضحيات الدروز من أجل فلسطين منذ المشاركة في جيش الإنقاذ إلى جميع الحروب، حيث كانت نسبة شهداء السويداء 11% من شهداء سورية، في حين أن نسبة عدد سكانها لا تتجاوز 3%. هذه الاتهامات يتم تكرارها ونبنيها من قبل فصائل التطرف، لأنها تدغدغ مشاعرهم وأحقادهم الطائفية، وتساعدهم على تجييش مشاعر السذج من الجمهور.
في حال قبلنا باستخدام مصطلح مشكلة، عند الحديث عن المسألة الدرزية في سورية، فإن مشكلة الدروز في مجتمعهم، كما كل مكونات المجتمع السوري، تجد حلّها الطبعي في ظل نظام دولة المواطنة والمساواة، دولة الحريات، وقبول الآخر المختلف، أي في ظل دستور وطني جامع تعددي تشاركي. فهم ثقافياً ينتمون إلى أصول عربية ولهجتهم أقرب اللهجات إلى اللغة العربية الفصحى، وعاداتهم وتقاليدهم تضرب جذورها في عمق الثقافة العربية في بلاد الشام، لا توجد لديهم مطالب خاصة في هذا المجال.
في السنوات الأخيرة، حاولت بعض التيارات الكردية إقامة جسور التحالف مع بعض أبناء السويداء، على أمل التأثير بهم في مطالب الحكم الذاتي أو الفيدرالي، لكن هذه التحالفات لم تثمر، نظرا للتباين الجوهري في الغايات والأهداف وفي الظروف الخاصة لكلا المجتمعين، فالدروز ليس لديهم مطالب ثقافية لغوية كالأخوة الكرد، ولا يوجد من حولهم ملايين الأكراد كفضاء قومي، ولا يمتلكون موارد مادية تمكنهم من التفكير في ذلك.
خلاصة القول: لا توجد مسألة درزية في سورية، فمطالب الدروز يمكن تحقيقها في أطار دولة المواطنة في ظل نظام ديمقراطي يضمن الحريات والمساواة ويقوم على الاختيار الحر مستندا إلى مبدأ الدين لله والوطن للجميع.
العربي الجديد
—————————-
أبي المنى: على الدولة السورية تقديم ضمانات… والدروز لا يريدون الانفصال
دعا شيخ العقل لطائفة الموحدين الدروز الشيخ سامي أبي المنى الدولة السورية «لتقديم ضمانات للموحدين المسلمين فيها، تؤمن الاستقرار وسلامة أمنهم وعيشهم الكريم، للوصول إلى الحل المنشود على مستوى جرمانا وصحنايا والأشرفية، كمقدمة لمحافظة السويداء أيضاً»
وقال شيخ العقل في مقابلة تلفزيونية «نقرأ المشهد بتمعن والأمور ليست واضحة تماماً، هناك مبادرات ولكن هناك حذر، ونتمنى أن نصل إلى مرحلة عدم وجود هذا الحذر والتخوّف، وتلك مسؤولية الدولة ومسؤولية الأمن العام وهي أيضاً مسؤولية الوجهاء والعقّال والأهالي، لكنها مسؤولية الدولة بالدرجة الأولى».
لسنا بحاجة إلى السلاح الثقيل
وعن السلاح قال أبي المنى «ربما حصلت بعض الأمور التي أدّت إلى التخوف وأدّت إلى التمسّك بالسلاح، على الأقل السلاح الفردي، إذ لا حاجة لسلاح ثقيل. فلسنا في معركة مع الدولة»، معتبراً أن «السلاح الخفيف هو لحماية البيوت من السرقات والتعدّيات والانتهاكات، ويجب أن تأخذ الدولة هذا الأمر بعين الاعتبار، ولا يكون الأمر بنوع من التشفّي والتشنج أو القسوة وكأنهم تحت المقصلة، وعليها أن تبرهن هذا الأمر».
وتابع شيخ العقل «يجب أن يكون هناك حوار وتفاهم وتسوية… نحن نتكلم هنا مع المعنيين بالأمر مع الدول العربية ومع سفراء الدول العربية ومع سفير تركيا، ومع الأمم المتحدة ومع الجامعة العربية»، مؤكداً «نحن لا نطالب بتدخل دولي اطلاقاً، يجب على سوريا أن ترعى شأنها وأن تنهض بدولتها، ولكن الدول الشقيقة والمعنية بالموضوع والأمم المتحدة والجامعة العربية يجب أن تساهم جميعها في تقديم ضمانات».
الدور الإسرئيلي في سوريا
وفي ما يتعلق بالدور الإسرائيلي، قال أبي المنى «علينا أن نتمعّن في الأمر فنرى أن لإسرائيل أطماعها، لذلك يجب أن نكون متيقظين وحذرين لأنه يمكن أن يكون مخططات توسعية أو نوع من الإغراء أو الإيحاء بحماية ما، كما حصل، فتثير القلق والبلبلة وتخلط الأوراق».
وتابع «علينا أن نقطع الطريق على أي تدخل خارجي بتفاهم داخلي، وهذا ما نأمله».
الوساطة مع دمشق
ورداً على سؤال حول ثمار ونتائج الجهود المبذولة، قال الشيخ أبي المنى «هناك جهود إن كان من الأستاذ وليد جنبلاط أو من الشخصيات السورية ومن أبناء الجبل، أو من قبلنا في مشيخة العقل، فنحن على تواصل دائم مع شيوخ العقل، سماحة الشيخ الهجري، سماحة الشيخ الحناوي، سماحة الشيخ جربوع…»، مضيفاً «نحن على تواصل معهم وهم مقتنعون بأنه لا بد من تسوية ومن اتفاق يريح الجانبين ويريح الدولة». واستدرك بالقول «ولكن أنا أحمّل الدولة المسؤولية لكي تطمئن الناس ولكي تجذب الناس الى هكذا تسوية وهكذا تفاهم لا أن تخيفهم بتصرفات يمكن أن تدفعهم إلى المواجهة لا سمح الله».
الدروز «لا يريدون الانفصال»
وعن تدارك ما هو اسوأ، قال أبي المنى «لقد ألمحت إلى تلك اليد الخفية التي يمكن أن تغري الدروز، الذين يعيشون منذ سنوات حالة الفقر والحاجة للعيش الكريم والكثير من مقومات الحياة».
ورأى أن «المساعدة الإنسانية لا تُرفض ولكن الحماية التي تهدف إلى ما تهدف إليه من سيطرة ومن اجتذاب مكون من مكونات الشعب السوري فهذا أمر خطير. هم لا يريدون الانفصال إطلاقاً وهذا ما قاله كل من تكلمت معه من أصحاب السماحة ومن العقلاء ومن أبناء الجبل».
وأكد أنهم «لا يريدون الانفصال ولا يريدون أن تكون لهم منطقة خاصة بهم وكأنها مستقلة عن سوريا أبداً، هم يريدون سوريا وطناً واحداً، وهم مع وحدة سوريا أرضاً وشعباً».
————————-
الطائفة الدرزية.. “بنو معروف” المؤمنون بـ”ميثاق ولي الزمان“
إجماع لرفض قانون “يهودية الدولة” وتعالي الأصوات المناهضة للقانون في صفوف أبناء الطائفة المعروفية التوحيدية الدرزية الذي فرض عليها التجنيد الإجباري بالجيش الإسرائيلي، الصور التقطت في شهر أغسطس-آب 2014، خلال تشيع جنازة الشاعر الراحل سميح القاسم في بلدة الرامة بالجليل شمال فلسطين.
طائفة دينية عربية معروفة بتماسكها الداخلي، تعيش في سوريا بنواحي دمشق وجبل حوران، وفي لبنان وفلسطين المحتلة، ويقال أسسها محمد بن إسماعيل الدَرَزي -المعروف بأنوشتكين- في القرن الـ11 ميلادي، لكن بعض أتباعها ينفون ذلك، ولها راية خاصة بها. ويقدر عدد أفرادها بمن فيهم أولئك الذين هاجروا إلى أوروبا أو أميركا أو غرب أفريقيا، بنحو مليون ونصف مليون شخص.
التأسيس والنشأة
تعود الأصول التاريخية للطائفة الدرزية إلى عهد الخليفة السادس للدولة الفاطمية الحاكم بأمر الله -الذي امتدت فترة حكمه من عام 996 ميلادي إلى 1021 ميلادي- على يد محمد بن إسماعيل الدَرَزي (نسبة إلى أولاد درزة أي صانعي الثياب) الذي هاجر إلى الشام، واشتهرت الطائفة باسمه.
وينفي دروز نسبتهم إلى الدَرَزي، قائلين إنهم لو نسبوا له لسميوا بـ”الدَّرَزيون” وليس “الدُروز”، وأن أصل تسمية الطائفة يعود إلى مبدأ “دَرْز الدماغ” لاعتمادهم على العقل.
لكن مراجع أخرى تذكر أن المؤسس الفعلي للطائفة هو حمزة بن علي بن محمد الزوزني، الذي يعتبر أحد مؤسسي مذهب الموحدين الدروز، والمؤلف الرئيسي للنصوص الدرزية.
وبدأ الدروز الدعوة لمذهبهم في الفترة ما بين عامي 1017-1020 ميلادي، وامتدت حتى سنة 1043 ميلادي، ليقفل بابه بعد ذلك، ويقتصر على معتنقي المذهب الأوائل وأبنائهم ومن يولد منهم، وصار ممنوعا انضمام أي شخص للطائفة الدرزية إذا لم يولد في الأصل درزيا.
ومن الشخصيات التاريخية المعروفة في الطائفة -بالإضافة إلى المؤسسين- الحسين بن حيدرة الفرغاني المعروف بالأجدع، وبهاء الدين السموقي المعروف بالضيف.
وعلى المستوى السياسي، اشتهر في الطائفة سلطان باشا الأطرش، قائد الثورة على الفرنسيين بسوريا في عشرينيات القرن الماضي، والأمير شكيب أرسلان، والزعيم السياسي اللبناني كمال جنبلاط مؤسس الحزب التقدمي الاشتراكي، وابنه وليد جنبلاط، وطلال أرسلان رئيس الحزب الديمقراطي اللبناني.
عقيدة الطائفة الدرزية
يحيط عقيدة الطائفة ومذهبها كثير من الغموض، لأن مؤسسيها اختاروا عدم البوح بها وحصر معرفتها على دائرة ضيقة، وقيل “عدم تعليمها إلا لمن بلغ الأربعين سنة من أبناء الطائفة” رغم نفيّ بعضهم لها، ويقول البعض إن الدروز نشروا هذه الفكرة من أجل إثناء الناس عن سؤالهم عن دينهم، وهي فكرة مبنية على الاعتقاد بالتكتم.
ويعرّف الدروز أنفسهم باسم الموحدين، أو “بنو معروف”، وهو اسم لقبيلة عربية اعتنقت الدرزية في بداياتها.
ويؤمنون بميثاق أو عهد ولي الزمان، وهو قَسم يصبح به الشخص درزيا، ويعدونه ميثاقا أزليا. وعُرف الدروز بالانغلاق على أنفسهم وتماسكهم الاجتماعي والثقافي والسياسي، واشتهر رجالهم بشوارب كبيرة لها مدلول ديني.
تدين الطائفة الدرزية بمذهب التوحيد، وكل عقائدها مأخوذة عن الطائفة الإسماعيلية، وقد تأثرت العقيدة الدرزية بتيارات فلسفية ودينية متعددة ومن أصول مختلفة، ومن مبادئها السرية في نشر أفكارها.
يؤمن أبناء الطائفة بوحدانية الله المطلقة، وأن الله هو الخالق والمتحكم الأزلي في الكون، وأن العقل البشري غير قادر على استيعاب عظمته.
كما يؤمنون بالقرآن الكريم، لكنهم يفسرونه تفسيرا باطنيا خاصا بهم، بعيدا عن المعاني الواضحة في النص، كما أن لهم كتابا يسمى “رسائل الحكمة” ألفه حمزة بن علي بن أحمد، وهو “تفسير للقرآن”، ويمنعون الاطلاع عليه من طرف أي كان، ما عدا شيوخ الطائفة الدرزية.
وعلى الرغم من أن العقيدة الدرزية تطورت في الأصل من الإسماعيلية، لكنهم لا يعرفون أنفسهم كمسلمين، ويدعي بعضهم ذلك لأسباب سياسية بحتة، كشكل من أشكال التقية، حفاظا على دينهم وسلامتهم، وتجنبا لأي خلاف مع المسلمين.
ومن بين المعتقدات التي يتميز بها أهل الطائفة الدرزية، هي إيمانهم بتناسخ الأرواح، أي رجوع الروح البشرية إلى الحياة بمجرد وفاة صاحبها، وذلك عن طريق انتقالها إلى جسد مولود آخر.
المجتمع الدرزي هو مجتمع متماسك ومنغلق عن نفسه، ومن النادر أن تجد درزيا متزوجا من خارج الطائفة، أو العكس، كما لا يجوز عندهم تعدد الزوجات، لذلك يمنع رجال الدين أو “العقّال” التعدد لأن ذلك في نظرهم يضرب في مبدأ الإنصاف بين الجنسين.
وتقول بعض المصادر إن أصل نشأة العقيدة الدرزية يعود إلى شهر فبراير/شباط عام 1021 ميلادي، حينما خرج الخليفة الفاطمي الحاكم بأمر الله ذات ليلة بدون حراسة ولم يعد، فاضطر القائمون على الأمر إلى إعلان وفاة الحاكم بأمر الله وخلافة ابنه الظاهر لإعزاز دين الله، إماما وحاكما لهم زمن الدولة الفاطمية.
رفض حمزة بن علي مبعوث الحاكم إلى الشام التسليم بموت الحاكم، ورفض الاعتراف بإمامة ابنه الظاهر، وقال إن الخليفة اختفى فقط وسيعود في وقت لاحق ليملأ الأرض عدلا، معلنا هو ومن معه انشقاقهم عن الدولة الفاطمية، لتكون بداية ولادة الفكر الدرزي.
درجات الطائفة
وينقسم الدروز إلى درجات ثلاث:
الأولى طبقة رجال الدين: الدارسين له والمحافظين عليه، وتعرف بالعُقّل. وتنقسم بدورها إلى ثلاثة أقسام: رؤساء أو عقلاء أو أجاويد، ويدعى رئيسهم شيخ العُقّل.
الثانية الأجاويد، وهم المطلعون على تعاليم الدين والملتزمون بها.
الثالثة فهم عامة الناس و”الجاهلون بالدين” والمنغمسون في الأمور الدنيوية لا الدينية.
ويفرق الدروز -بشكل عام- بين “الشخص الروحاني” و”الشخص الجثماني”؛ فالأول بيده أسرار الطائفة (رؤساء، وعقلاء، وأجاويد)، أما الثاني فلا يبحث في الروحانيات، ولكنه منغمس في الدنيويات (يسمونهم الجهال).
وتعرف أماكن العبادة لدى الدروز بالخلوات، يسمعون فيها ما يتلى عليهم، ولا يسمح “للجهال” بحضورها أو سماع الكتب المقدسة إلا في عيدهم الوحيد، الذي يوافق عيد الأضحى عند المسلمين.
وحول حقيقة اسم الطائفة قال الباحث والأكاديمي اللبناني محمد شية إن الموحدين دفعوا ثمنا غاليا لتسميتهم بـ”الدروز”، وقال إن هذا الاسم ألصق بهم “زورا وبهتانا”، وأكد أن الواقع والوقائع تثبت أنهم مسلمون وموحدون.
وذكر بأن خصوصية المشرق تكمن في كونه أرضا للأقليات، و”منها طائفة الموحدين، الذين ظلت سمتهم الغالبة هي العروبة منذ نشأتهم وقبولهم للمعتقد الإسلامي، وأرسلوا إلى ساحل الدولة الإسلامية ليدافعوا عنها ضد الروم والبيزنطيين”.
التاريخ
فرّ كثير من الدروز من ملاحقة الخليفة الفاطمي السابع علي الظاهر قبل عام 1026 ميلادي، وسكنوا في جبال لبنان وسوريا وفلسطين، ودفعتهم تلك الملاحقة إلى الانغلاق على أنفسهم.
ورغم قلة عددهم كانت لهم مشاركات سياسية وعسكرية تاريخيا، فقد ساعدوا الأيوبيين ومن بعدهم المماليك على مقاومة تقدم الصليبيين على الساحل اللبناني خلال الحروب الصليبية.
ودخلوا في فترات معينة في صراعات، مثل ما حصل لهم مع المسيحيين (الموارنة) في لبنان عام 1841م وعام 1860م، وشاركوا في مقاومة الاستعمار الفرنسي.
وتمتع الدروز بقدر كبير من الحكم الذاتي في ظل الدولة العثمانية، وكثيرا ما تمردوا ضدها، وساعدتهم في ذلك التضاريس الجبلية للمناطق التي سكنوها.
وهيمنت سلسلة من الإقطاعيين على الحياة السياسية الدرزية ما بين القرن الـ16 والقرن الـ19، وكان أحد أشهر هؤلاء حاكم القرن الـ17 فخر الدين المعني الثاني (من آل معن)، الذي شكل تحالفا مع المسيحيين الموارنة من جبال لبنان، وتحدى السلطة العثمانية في التحالف مع توسكانا، إضافة إلى عائلات إقطاعية أخرى كبيرة كعائلة الشهاب وعائلة أصلان وعائلة جنبلاط.
وحافظوا في البداية على علاقات حسن الجوار مع الموارنة (نسبة إلى الكنيسة المارونية، وهم مجموعة دينية تتواجد في بلاد الشام، خاصة في لبنان، ويتبعون الكنيسة المارونية)، حتى إنهم ساعدوهم على تحرير أنفسهم، لكن في القرن التاسع عشر، اشتدت الخلافات بين زعماء العشائر وبين الطائفتين وأدت التوترات المتصاعدة بينهم إلى مذابح عام 1860، التي عجلت في النهاية بدخول القوى الأوروبية إلى لبنان.
ويعتقد بعض الباحثين بأن عدد المنتمين للطائفية الدرزية يتجاوز المليون، وأن 80% منهم استقروا في سوريا بمدينة السويداء ومرتفعات الجولان وبنواحي دمشق، وفي مدينة الأزرق الأردنية، وفي جنوب لبنان، وشمال ووسط فلسطين.
كما يقطن بعض أبنائها في فلسطين المحتلة ويحملون الجنسية الإسرائيلية. ويقدر عدد الدروز في المهجر بالولايات المتحدة وكندا وأستراليا وغيرها بنحو مئة ألف، وشاركوا في الحرب الأهلية اللبنانية (1975-1990) ضمن الجيش الشعبي بقيادة وليد جنبلاط.
الطائفة والسياسة
تسبب الخلاف اللبناني السوري في أزمة وخلافات داخل الطائفة الدرزية، وسعت إلى فصل موضوع سوريا عن لبنان، لكن دون جدوى، وبات الوضع أصعب بعد اندلاع الثورة السورية، حيث انقسم الزعيمان السياسيان للطائفة وليد جنبلاط الذي وقف ضد نظام بشار الأسد، وطلال أرسلان رئيس الحزب الديمقراطي اللبناني الذي ساند النظام، وازداد وضع الطائفة سوءا عندما وصلت الحرب بين النظام والمعارضة المسلحة لمحافظة السويداء.
وحصل الانقسام بين من يدعو لضرورة تسليحها لمواجهة المعارضة المسلحة وتنظيم الدولة الإسلامية، كرئيس حزب التوحيد العربي وئام وهاب، وبين من يرى ذلك مجرد ورقة لجرّ أبناء الطائفة للفتنة -التي وإن كانت بشكل عام تؤيد بشار الأسد فإنها بقيت محايدة ولم تنخرط في القتال إلى جانبه- لصالح نظام يجب أن يسقط، ويدعو تنظيم الدولة والمعارضة السورية المسلحة لتفهم وضع الدروز وإبقائهم محايدين كوليد جنبلاط.
قتل عدد من أبناء الطائفة على يد جبهة النصرة في قرية قلب لوزة بمحافظة إدلب (شمال غرب سوريا)، لكن المساعي السياسية حاولت احتواء ما حصل لإبقاء الدروز خارج دائرة الصراع والقتال، حيث دعا وليد جنبلاط إلى تهدئة الخطاب وتجنب ما يعرّض الدروز للخطر، وقال “حادثة قلب لوزة فردية وسأعالجها بالسياسة”.
من جهتها، اعترفت جبهة النصرة بتورط أفراد منها في قتل قرويين دروز في القرية المذكورة، وقالت إنهم خالفوا التوجيهات وقدمتهم للمحاكمة.
لكن مقتل 26 شخصا -من بينهم الشيخ الدرزي (المعروف بمناهضته لنظام بشار الأسد والجماعات الدينية المسلحة كجبهة النصرة وتنظيم الدولة)- في انفجار بسيارة مفخخة في الرابع من سبتمبر/أيلول 2015 في ضواحي السويداء (جنوب سوريا)، كشف -بحسب محللين- أن النظام السوري سعى بوضوح لجرّ الطائفة للصراع وقتال المعارضة المسلحة، خاصة جبهة النصرة.
ورغم أن الحكومة السورية سارعت إلى إدانة التفجيرات بمدينة السويداء، وتحدثت عن التصدي للإرهاب، فإن معارضة الشيخ البلعوس لقيام الدروز بالخدمة العسكرية الإلزامية التي يفرضها النظام على المواطنين السوريين خارج مناطقهم، ورعاية احتجاجات وتظاهرات بالسويداء تطالب بالماء والكهرباء وتحسين المستوى المعيشي، طرحت علامات استفهام عديدة.
واتهم وليد جنبلاط نظام بشار الأسد باغتيال البلعوس زعيم مجموعة “مشايخ الكرامة” التي عملت على حماية المناطق الدرزية وإبقائها خارج الصراع بسوريا، واعتبره “قائد انتفاضة ترفض الخدمة العسكرية في جيش النظام”.
وبينما اتهم شيخ عُقّل الدروز في سوريا يوسف جربوع من وصفهم “بأعداء الوطن والدولة والإنسانية”، في إشارة إلى جبهة النصرة وتنظيم الدولة، رد مسلحون من تجمع “مشايخ الكرامة” على مقتل البلعوس بالسيطرة بشكل كامل على فرع الأمن العسكري بمدينة السويداء.
وقتلوا أكثر من ستة جنود، منهم نائب رئيس الفرع وعدد من العناصر، بينما أسقط آخرون تمثال حافظ الأسد بالساحة المركزية لمدينة السويداء، وطالبوا بالانتقام من قتلة الشيخ البلعوس، الذي طالب أبناء الطائفة بحماية منطقتهم، أي حدود الجبل، وعدم تجاوزها.
وشهدت المحافظة السورية ذات الأغلبية الدرزية في الأول من سبتمبر/أيلول 2023، احتشاد مئات المحتجين جنوب سوريا مطالبين بتنحي الرئيس بشار الأسد بعد ما يقرب من أسبوعين من المظاهرات احتجاجا على سوء الأحوال المعيشية، لكنها تحولت مجددا إلى دعوات للتغيير السياسي.
الدروز عبر العالم
الدروز هم مجتمع عربي، عاشوا لقرون طويلة بمنطقة الشرق الأوسط، وبفعل الأحداث السياسية التي عاشتها المنطقة العربية مع توالي السنين، تم تقسيمها إلى دول متعددة تفصل بينها حدود جغرافية، الأمر الذي أدى إلى تقسيم الطائفة الدرزية أيضا، خاصة في أوائل القرن العشرين، وأصبحوا منتشرين بشكل أساسي بين ثلاث دول رئيسية، هي سوريا ولبنان وفلسطين.
ونتيجة للصراعات والأحداث السياسية التي عاشها الدروز على مدى عقود، هاجر بعضهم إلى دول أخرى خارج المنطقة العربية، وأصبحوا يتواجدون في دول عديدة، ويقدر عددهم بحوالي 1.5 مليون درزي عبر العالم.
الطائفة الدرزية في لبنان
يتمركز أبناء الطائفة الدرزية في لبنان بشكل أساسي على طول الجهة الغربية لجبال لبنان، وكذلك في الجزء الجنوبي الشرقي من البلاد، ويبلغ عددهم هناك أكثر من 300 ألف شخص.
وقد تولى الدروز السلطة السياسية بشكل كبير في لبنان الحديث منذ استقلاله. ومن أبرز الشخصيات السياسية الدرزية في البلاد كمال جنبلاط، الزعيم الدرزي الذي شغل خلال مسيرته السياسية عدة مناصب من أبرزها وزير الداخلية.
كما أن معارضته للرئيس كميل شمعون، بما في ذلك التحريض على الانتفاضة ضده عام 1958، أكسبته أيضا احترام القوميين العرب.
وبعد اغتيال كمال جنبلاط عام 1977، تولى ابنه وليد القيادة السياسية للطائفة الدرزية في لبنان. وقد عارض التدخل السوري في لبنان عام 1976، مما جعل البعض يصف توجهه بالمؤيد لتوجهات الغرب، لكنه في عام 2011، دعم حزب الله الموالي لسوريا في الأزمة السياسية اللبنانية، مما جعل البعض الآخر يقول إنه يفضل الوحدة العربية على التوجهات الموالية للغرب أو الموالية لسوريا.
وتنافس عائلة جنبلاط عائلة أرسلان على زعامة الدروز في لبنان، التي غالبا ما تكون على خلاف مع السياسة اللبنانية، وكان ماجد أرسلان، الذي شغل منصب وزير الدفاع في عهد كميل شمعون، منافسا لكمال جنبلاط. علاوة على ذلك، وعلى عكس آل جنبلاط، حافظ آل أرسلان على علاقات وثيقة مع سوريا.
الطائفة الدرزية في سوريا
يوجد في سوريا، بحكم مساحتها الكبيرة مقارنة بلبنان، أكبر كثافة سكانية درزية، بعدد يزيد عن 600 ألف شخص. وصل الجزء الأكبر منهم إلى هناك، من لبنان في القرن الثامن عشر. وتم توطينهم في السويداء في منطقة جبل الدروز (الجبال الدرزية).
وفي عام 1925، ثار القائد الدرزي سلطان الأطرش ضد الهيمنة الفرنسية. وبعد نجاح هذه الثورة، انضم القوميون السوريون في صفوف الطائفة الدرزية إلى الثورة، التي امتدت إلى جميع أنحاء المنطقة ووصلت إلى دمشق قبل أن يتم قمعها في عام 1927.
ويتذكر السوريون هذه الثورة باعتبارها أول انتفاضة قومية في البلاد، وقد ظل عدد من المسؤولين الدروز على إثرها يعتبرون شخصيات سياسية ذات أهمية كبرى في البلاد لعقود من الزمن.
وأدت ثورة درزية أخرى إلى انتفاضة وطنية أطاحت بحكومة الرئيس أديب الشيشكلي عام 1954. بالإضافة إلى ذلك، أصبح نجل سلطان الأطرش، منصور الأطرش، أحد الأعضاء المؤسسين لحزب البعث السوري. ثم شغل منصب رئيس البرلمان لفترة وجيزة عام 1965، قبل أن يتم اعتقاله عام 1966.
الطائفة الدرزية في فلسطين
يوجد في بعض الأراضي الفلسطينية المحتلة عدد كبير من الطائفة الدرزية يقدر بحوالي 150 ألف شخص، يتواجدون بالكامل في الشمال. تعرف الطائفة بولائها لإسرائيل، إذ إنه بعد ما هدد حكام القدس عام 1942 بالسيطرة على قبر يثرون (الذي يطلق عليه الدروز شعيب) في طبريا، وقف الدروز إلى جانب القوات اليهودية في حرب عام 1948.
إصافة إلى ذلك، قاتل الجنود الدروز مع إسرائيل في كل الحروب العربية الإسرائيلية. وهم المجموعة العربية الوحيدة المجندة في قوات الدفاع الإسرائيلية، ويشاركون في أمن الحدود الإسرائيلية والسلك الدبلوماسي.
وفي يوليو/تموز 2018، عندما سن الكنيست الإسرائيلي قانونا له ثقل دستوري يكرس إسرائيل كدولة يهودية، انتفض الدروز ضده، معتبرين أن القانون جعلهم مواطنين من الدرجة الثانية، ورأوا فيه خيانة لتفانيهم وخدمتهم لإسرائيل.
المصدر : الجزيرة + مواقع إلكترونية
الجزيرة
————————————
سوريا والتطبيع مع إسرائيل بين تحقيق المصالح والتفريط بالثوابت/ باسل المحمد
5/5/2025
لم تهدأ وتيرة الغارات والاعتداءات الإسرائيلية على مواقع داخل الأراضي السورية منذ الساعات الأولى لسقوط نظام الرئيس المخلوع بشار الأسد في ديسمبر/كانون الأول 2024، خاصة في الجنوب ومحيط العاصمة دمشق، حيث استهدف عشرات المواقع العسكرية ودمر طائرات ومقدرات عسكرية هائلة بدعوى المخاوف من وقوعها في أيدي “جهات معادية”.
كما نفذ جيش الاحتلال الإسرائيلي توغلات برية متكررة في المنطقة العازلة والقنيطرة وجبل الشيخ، بذريعة إنشاء منطقة عازلة بين الأراضي السورية وهضبة الجولان، ملغيا بذلك اتفاق فض الاشتباك الموقع بين الجانبين عام 1974.
ومؤخرا، شنت طائرات الاحتلال سلسلة غارات جوية استهدفت مواقع متفرقة في ريف دمشق ودرعا وحماة، وأعلن جيش الاحتلال الإسرائيلي أن مقاتلاته “شنت غارات على موقع عسكري ومدافع مضادة للطائرات وبنية تحتية لصواريخ أرض-جو في سوريا”، مشددا على أنه “سيواصل العمل كلما دعت الحاجة من أجل حماية مواطني دولة إسرائيل”.
ورغم أن الاحتلال يبرر ضرباته بأنها “إجراءات وقائية” ضد تهديدات أمنية محتملة، فإن مراقبين يرون أن هذا التصعيد يندرج ضمن إستراتيجية أوسع هدفها دفع الإدارة الجديدة في دمشق إلى الانخراط في مسار تطبيعي قسري عنوانه “سلام بالقوة”.
أدوات متعددة لفرض مسار تطبيعي
وتبرز إسرائيل كقوة احتلال تحاول استغلال المرحلة الانتقالية الحساسة في سوريا لإعادة تشكيل المشهد بما ينسجم مع أطماعها ومصالحها الأمنية والسياسية، وطموحاتها الإستراتيجية في المنطقة بشكل عام.
وفي ظل التحديات السياسية والاقتصادية التي تمر بها سوريا بعد سقوط النظام المخلوع، تسعى إسرائيل إلى استخدام أدوات متعددة، عسكرية وسياسية، وصولا إلى تحركات دبلوماسية متسارعة لإضعاف موقف دمشق، في محاولة منها لفرض مسار تطبيعي بالقوة على الحكومة الجديدة.
ويأتي هذا التحرك الإسرائيلي في سياق إقليمي متغير تعمل فيه تل أبيب على توسيع دائرة الدول العربية المُطبعة، مستغلة حاجة سوريا الجديدة إلى مختلف أنواع الدعم بعد سنوات من الحرب.
أمام هذا الواقع يبرز السؤال التالي: هل تستطيع دمشق مقاومة هذه الضغوط الإسرائيلية، أم أنها ستضطر إلى تقديم تنازلات “للعدو التاريخي” تحت وطأة الحاجة إلى الدعم والاعتراف الدولي؟
استغلال المرحلة الانتقالية
وفي هذا السياق، يوضح الباحث في العلوم السياسية بجامعة “إكستر” البريطانية سامر بكور أن إسرائيل تعمل على صياغة علاقتها مع سوريا بعد سقوط النظام بشكل عدواني يخدم مصالحها الإستراتيجية والأمنية، من خلال وسائل ضغط تتعارض مع القانون الدولي.
ويتجلى الهدف الأبعد لسياسة الضغط الإسرائيلية، التي لم تعد تقتصر على الأهداف العسكرية بل توسعت لتطال البنية التحتية ومناطق مدنية في سوريا أيضا، بفرض “التطبيع” من موقع القوة، وإجبارها على تقديم مزيد من التنازلات، حسب حديث الباحث بكور للجزيرة نت.
ولم ينفصل هذا التصعيد الميداني عن رسائل سياسية صريحة صدرت عن مسؤولين إسرائيليين، عكست بوضوح الرغبة في استخدام اللحظة الانتقالية في سوريا لفرض مسار تطبيع معها.
فقد صرح رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو -في أكثر من مناسبة- بأن “الشرق الأوسط يتغير، وعلى كل الدول أن تعيد التفكير في علاقاتها مع إسرائيل، ومن بينها سوريا ما بعد الأسد”.
من جانبها، تتسم سياسة دمشق بضبط النفس أمام هذا التصعيد، والتأكيد على أن سوريا ترغب في علاقات طبيعية مع الجميع، وأنها “لن تكون مصدرا لعدم الاستقرار لأي طرف في المنطقة، بما في ذلك إسرائيل”.
الأقليات ورقة ضغط
من بين أوراق الضغط التي توظفها إسرائيل في تعاطيها مع الوضع السوري ما بعد الأسد، تبرز “ورقة الأقليات” والتظاهر بالدفاع عنها كأداة مزدوجة، تستخدم -حسب مراقبين- لتبرير التدخلات الأمنية والعسكرية من جهة، ولابتزاز دمشق سياسيا ودفعها باتجاه خيارات لم تكن مطروحة سابقا، وعلى رأسها “التطبيع” من جهة أخرى.
وكانت وتيرة التدخلات الإسرائيلية قد ازدادت على إثر التطورات الأخيرة التي شهدتها منطقتا جرمانا وصحنايا في ريف دمشق، حيث تقطن تجمعات درزية، وتعرض محيط قصر الشعب في العاصمة دمشق فجر الثاني من مايو/أيار الجاري لغارة إسرائيلية، قال عنها بيان مشترك لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير الدفاع يسرائيل كاتس إنها “تحمل رسالة واضحة إلى الحكومة السورية”، مشددا على أن إسرائيل “لن تسمح بأي تهديد للدروز”.
وكانت الداخلية السورية أعلنت يوم 30 أبريل/نيسان الماضي أن غارات للاحتلال الإسرائيلي وقعت على محيط منطقة أشرفية صحنايا أسفرت عن مقتل عنصر في الأمن العام.
في هذا السياق، يرى الباحث بالشؤون الإسرائيلية محمد هلسة أن إسرائيل تدعي حماية مصالح الدروز في جنوب سوريا، لكنها في الحقيقة تسعى بذلك لتقسيم النسيج المجتمعي السوري، وهذا يعكس الاستخدام الإسرائيلي للمكونات السورية كأدوات ضغط وإضعاف مركزية القرار السياسي في دمشق.
وتسعى إسرائيل، حسب حديث هلسة للجزيرة نت، إلى استغلال بعض الأطراف الدرزية لخلق نوع من “الحكم الذاتي”، وبذلك تتحول السويداء إلى قاعدة متقدمة، تحميها إسرائيل وتتدخل عبرها بشكل أو آخر في بقية الأراضي السورية.
وبالتوازي مع ذلك، لا تخفي تل أبيب اهتمامها بفتح خطوط اتصال جغرافي مع الأكراد في شمال شرقي سوريا، مع التأكيد على ضرورة دعمهم في إقامة كيان مستقل. أما بالنسبة للعلويين، فلا معلومات مؤكدة عن تنسيق واسع النطاق.
وتتحدث وسائل إعلام إسرائيلية عن وجود اتصالات ومناشدات من بعض الأفراد أو المجموعات العلوية التي تنشد الدعم والحماية من إسرائيل، ووفقا للمصادر نفسها، هناك اقتراحات لدعم العلويين بشكل سري، بهدف تمكينهم من الدفاع عن مناطقهم واستنزاف “خصوم مشتركين”.
إسرائيل تفضل الفوضى على التطبيع
رغم الضغوط الإسرائيلية المتزايدة على دمشق في الفترة الأخيرة للدفع بمسار التطبيع، فإن خبراء بالشأن الإسرائيلي يرون أن تل أبيب تبدو أكثر ميلا للاستثمار في الواقع الهش بسوريا، حيث تمنحها الفوضى والاضطرابات الداخلية حرية الحركة و”شرعية ميدانية” في نظر حلفائها الغربيين تفوق ما قد تجنيه من تطبيع غير مضمون، يقيدها بالتزامات سياسية وأمنية مع سلطة وليدة.
وتعليقا على هذا الجانب، يرى الباحث في معهد كارنيغي للدراسات مهند الحاج علي أنه خلافا لما يتم تداوله في وسائل الإعلام حول سعي تل أبيب لتوسيع الاتفاقيات “الإبراهيمية” في المنطقة، فإن “التطبيع” مع سوريا ليس هدفا لإسرائيل، التي تنطلق في تعاملها مع الوضع السوري الجديد من مقاربة أمنية بحتة.
ويتابع الحاج علي حديثه للجزيرة نت بالقول إن “إسرائيل تستثمر في التوترات الداخلية في سوريا من خلال دعم بعض الأطراف كالدروز أو قوات قسد، لأن التعامل مع دولة ضعيفة ومفككة، مع وجود أتباع لإسرائيل على الأرض، أفضل من التطبيع مع نظام قد يكون معاديا لها في المستقبل”.
أما الناحية الأكثر حساسية لإسرائيل تجاه سوريا، كما يقول الحاج علي، فهي طبيعة السلطة التي تحكم في دمشق، والتي تعتبرها تل أبيب “جماعة إسلامية جهادية لا يمكن التعامل معها إلا بطرق أمنية وعسكرية، بعيدا عن التواصل السياسي والدبلوماسي”.
ولطالما حذر مسؤولون إسرائيليون من التعامل مع القيادة الجديدة في سوريا متهمينها بالإرهاب، ففي مارس/آذار الماضي، وصف وزير الدفاع الإسرائيلي كاتس الرئيس السوري أحمد الشرع بأنه “إرهابي جهادي من مدرسة القاعدة”، متهما إياه بارتكاب فظائع ضد المدنيين من الطائفة العلوية.
وأضاف كاتس أن الشرع “خلع عباءة الجهاد وارتدى بدلة ليظهر وجها معتدلا، لكنه الآن كشف عن وجهه الحقيقي”.
التطبيع وخيارات دمشق المحدودة
حملت الأشهر الماضية عديدا من الإشارات حول احتمالية استعداد الإدارة في دمشق للتطبيع مع إسرائيل.
أوضح المبعوث الخاص للرئيس الأميركي إلى الشرق الأوسط، ستيفن ويتكوف، يوم 22 مارس/آذار الماضي، أن تطبيع إسرائيل مع سوريا ولبنان أصبح احتمالا حقيقيا، بعد أن خرجت سوريا من دائرة النفوذ الإيراني.
من جهته، قال النائب الجمهوري مارلين ستوتزمان -في مقابلة مع صحيفة جيروزاليم بوست- بعد زيارته دمشق “إن الشرع أعرب عن انفتاحه على الانضمام إلى اتفاقيات أبراهام”، وذلك بشرط الحفاظ على وحدة سوريا وسيادتها.
وطرحت هذه التصريحات بشأن اختبار “فرص التطبيع” مع دمشق تساؤلات جدية حول موقف القيادة السورية الجديدة واستعدادها للمضي في هذا من هذا المسار.
وأمام هذه التلميحات الأميركية، نفى وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني أن تكون الولايات المتحدة قد طلبت من دمشق الانضمام إلى “اتفاقيات أبراهام” أو الدخول في أي مسار تطبيع مع الاحتلال الإسرائيلي، مؤكدا أن رسالة الحكومة السورية إلى واشنطن لم تتطرق إطلاقا لهذا الملف.
لكن الشيباني أكد في جلسة لمجلس الأمن الدولي في 25 أبريل/نيسان الماضي أن بلاده لن تشكل تهديدا لأي من دول المنطقة، ومن بينها إسرائيل، مطالبا مجلس الأمن الدولي بالضغط على تل أبيب لسحب قواتها من الأراضي السورية.
في المقابل، يرى مراقبون أنه رغم الضغوط الإقليمية والدولية التي قد تدفع باتجاه انفتاح سوري على إسرائيل، فإن الواقع الداخلي في سوريا يطرح علامات استفهام كبيرة حول قدرة الإدارة الجديدة على تحمل كلفة سياسية وشعبية لمثل هذا التحول.
ورغم نفي الموقف السوري الرسمي لأي تقارب مع إسرائيل حتى الآن، فإن الباحث هلسة يرى أن المسألة ليست مسألة رفاهية الاختيار، وإنما محدودية الخيارات بالنسبة للإدارة السورية الجديدة بخصوص “التطبيع” مع إسرائيل، التي تمثل مفتاحا لعلاقات سوريا الجديدة مع أوروبا والولايات المتحدة.
وينوه هلسة إلى أن هذه الخطوة، وإن كانت تفتح المجال لتمكين بناء دولة متماسكة واقتصاد قوي، فإن ذلك سيكلف القيادة في دمشق -القادمة من خلفية جهادية- كثيرا من صورتها على المستوى الشعبي في كيفية تبرير التطبيع من جهة، إضافة إلى التأثير على حضورها على المستوى العربي والإسلامي من جهة أخرى.
الجزيرة
————————-
العنف الطائفي ضد الدروز: تحذير لا يمكن لسوريا تجاهله/ حايد حايد
على دمشق أن تتحرك بسرعة وبحزم
آخر تحديث 05 مايو 2025
شهدت سوريا مؤخرا فصلا جديدا ومقلقا من فصول العنف، تمثل هذه المرة في بلدتي صحنايا وجرمانا، ذات الغالبية الدرزية في ريف دمشق. وقد فجّرت التوترات الطائفية مقطع صوتي منسوب إلى شيخ درزي، يتضمن إساءة للنبي محمد، مما أجّج مشاعر الغضب، وأثار موجة من الاحتقان.
ورغم احتواء الأزمة الفورية، فإن احتمالات تجدّد العنف الطائفي لا تزال مرتفعة بشكل خطير، في ظل غياب معالجة جذرية للأسباب الكامنة وراء هذه التوترات. ويزيد الوضع هشاشة افتقار السلطات الانتقالية، إلى آليات فعّالة لرصد الإنذارات المبكرة للعنف ذي الدوافع الطائفية، فضلا عن غياب ردود سريعة، تحول دون التصعيد وتحمي المدنيين من تداعياته.
وفي حال لم تبادر السلطة إلى سدّ هذه الثغرات من خلال اعتماد استراتيجيات شاملة للوقاية من النزاعات، وسنّ تشريعات صارمة، لمكافحة خطاب الكراهية والتحريض على العنف، إلى جانب تدابير أمنية قوية، فإن البلاد تُواجه خطر الانزلاق نحو مسار شديد الخطورة، ستكون عواقبه كارثية على سوريا، وعلى مستقبل انتقالها السياسي الهش.
تسجيل ملفق.. لكن العنف حقيقي
اندلعت التوترات للمرة الأولى خلال عطلة نهاية الأسبوع التى صادفت 25 أبريل/نيسان، عقب انتشار تسجيل صوتي على نطاق واسع عبر وسائل التواصل الاجتماعي، يتضمن إساءات للنبي محمد. وسرعان ما تحولت ردود الفعل الغاضبة إلى أعمال عنف، حيث تعرّض طلاب دروز يقيمون في السكن الجامعي بمدينة حمص، لهجمات وضرب من قبل طلاب آخرين.
سارعت السلطات في دمشق إلى الإعلان عن اعتقال المتورطين في هذه الاعتداءات، معتقدة أن الأزمة باتت تحت السيطرة. غير أن الواقع كان مخالفا تماما، إذ لم يكن ما جرى سوى البداية. فخلال ساعات قليلة، امتد الغضب حتى طال بلدتي جرمانا وصحنايا في ريف دمشق، حيث شنّت مجموعات مسلحة مجهولة، هجمات على المنطقتين، لتندلع اشتباكات بينها وبين مقاتلين دروز محليين، وقوات الأمن التابعة للحكومة.
وعلى الرغم من أن كلّا من المتهمين والسلطات الانتقالية، أنكروا علنا صحة التسجيل، ووعدوا بمحاسبة المسؤولين عنه، فإن العنف استمر وامتد إلى مناطق أخرى في محافظة السويداء. ورغم غياب أرقام رسمية عن عدد الضحايا، تفيد تقارير محلية بمقتل عدد من المقاتلين الدروز، وأفراد من جهاز الأمن العام التابع لحكومة دمشق.
جمر تحت الرماد
رغم أن وتيرة العنف قد تراجعت بفضل تفاهمات عُقدت مع وجهاء المناطق ذات الغالبية الدرزية، فإن ما جرى يكشف عن مخاطر، تتجاوز بكثير أحداث الأسبوع الماضي. فالحقيقة المقلقة تكمن في أن تسجيلا صوتيا، يبدو أنه مفبرك، كان كفيلا بإشعال موجة عنف بهذه السرعة والدموية، ما يسلّط الضوء على مدى هشاشة الوضع الراهن في سوريا.
تُظهر هذه الحادثة مدى سهولة زعزعة استقرار مجتمعات بأكملها بفعل شرارة واحدة، وتفضح عمق التوترات الطائفية غير المعالَجة التي راكمتها سنوات الحرب، وأسهمت في تغذيتها حملات الشيطنة الممنهجة ودوامات الانتقام المتكررة. كما تشير إلى أن الانتهاكات الأخيرة التي استهدفت مجتمعات علوية، رغم اختلاف دوافعها المباشرة، نابعة من الجذر الطائفي نفسه الذي لا يزال يشعل فتيل عدم الاستقرار في البلاد.
وتُبرز الحادثة أيضا أن الإيماءات الرمزية نحو الشمولية والوحدة، والمشاركة الشكلية للمجتمعات، لا يمكن أن تُثمر عن استقرار حقيقي، ما لم تُعالج الانقسامات العميقة والمتجذرة التي تعصف بالنسيج الاجتماعي السوري.
الوقت ينفد
رغم أهمية الاعتراف بجسامة التحديات وتضارب الأولويات التي تواجهها السلطات الانتقالية في سوريا، فإن معالجة التوترات الطائفية الكامنة تظل مهمة ملحّة لا تقبل التأجيل. غير أن هذه المسؤولية تتجاوز إمكانيات لجنة السلم الأهلي، التي شُكّلت مؤخرا وتضم ثلاثة أعضاء فقط، إذ تفتقر اللجنة إلى الخبرة والموارد اللازمة للتعامل مع أزمة بهذا الحجم والتعقيد.
ومن الحكمة أن تدرك السلطات الانتقالية، عاجلا لا آجلا، الحاجة إلى دعم خارجي فني ومؤسساتي لوضع استراتيجية شاملة وموثوقة لمجابهة هذه الأزمة متعددة الأبعاد.
وعلاوة على ضرورة صياغة استراتيجية متكاملة، تحتاج السلطات بشكل عاجل إلى دعم لإرساء آليات واضحة ومنهجية، لرصد خطاب الكراهية والتحريض الطائفي، وتحديد المسؤولين عنه ومحاسبتهم. كما يجب أن تُستكمَل هذه الجهود، بمنظومة إنذار مبكر قادرة على رصد المخاطر قبل أن تتفاقم إلى مستويات عنف، بما يمنح السلطات وقتا كافيا للتدخل والاحتواء.
الاحتواء وحده لا يكفي
إلى جانب الإصلاحات القانونية، يُعد تطوير بروتوكولات أمنية قوية واستباقية أمرا بالغ الأهمية لتمكين السلطات من الاستجابة السريعة للتهديدات الناشئة، وحماية المجتمعات المعرّضة للخطر. فالتدابير الوقائية الظاهرة والفعالة، ترسل رسالة حاسمة إلى الفئات المهددة مفادها أن الدولة جادة في ضمان أمنهم- وهي خطوة ضرورية للحد من الانتشار غير المنضبط للأسلحة، وإعادة بناء الثقة العامة بالمؤسسات الوطنية.
ولا بد أن تكون المساءلة ركيزة أساسية لهذا النهج. يجب أن يُحاسب كل من حرّض على العنف عبر الإنترنت، إلى جانب من نفّذوا الهجمات، وأن يواجهوا عواقب حقيقية. فهذا لا يعزز فقط ثقة الجمهور بالسلطات الانتقالية والتزامها بسيادة القانون، بل يبعث أيضا برسالة واضحة مفادها أن العنف والتحريض الطائفي لن يُسمح بهما بعد اليوم.
ثمن التقاعس
في غياب هذه الإجراءات، سيبقى مسار الانتقال الهش في سوريا عرضة للخطر، تنهشه الانقسامات الطائفية ذاتها، التي تستمر الدولة في تجاهلها. وقد يُسهم الاحتواء السريع لأحداث العنف في كبح التصعيد الفوري، لكنه يترك الجروح العميقة دون علاج، ما يفاقم من تآكل التماسك الاجتماعي، ويزيد منسوب الشك ويُمهّد لمواجهات قادمة ستكون بلا شك أكثر عنفا وزعزعة للاستقرار.
إن كانت دمشق تأمل فعلا في رأب هذه الانقسامات، ومنع موجات الاضطراب المقبلة، فعليها أن تتحرك بسرعة وبحزم. فالأمر لا يقتصر على ضمان التعايش، بل يشكل ركيزة أساسية لبقاء عملية الانتقال السياسي الهشة، ولإمكانية تحقيق تعاف مستدام وشامل. أما التقاعس، فسيؤدي لا محالة إلى دوامة مستمرة من العنف والتفكك، تُهدَر فيها فرص السلام الدائم واحدة تلو الأخرى.
المجلة
—————————————–
إسرائيل تتذرع بحماية الدروز في سوريا.. فماذا تفعل معهم بالداخل المحتل؟
عربي بوست
2025/05/06
تهدد إسرائيل بضرب سوريا واحتلال أراضيها بذريعة حماية الطائفة الدرزية، لكنها، كعادتها، تسوق ذرائع استعمارية تجاوزها الزمن، لتواصل عدوانها ووحشيتها في المنطقة بلا رادع.
تماماً كما فعلت ألمانيا النازية عام 1938، حين ادّعت تدخلها في تشيكوسلوفاكيا لحماية الأقلية الألمانية آنذاك، زعم أدولف هتلر أن الحكومة التشيكية ترهب وتقتل العديد من الألمان السوديت، مبرراً بذلك اجتياح جيشه النازي للبلاد. وفي رسالة إلى الرئيس الأمريكي روزفلت، صوّر هتلر الألمان السوديت كضحايا “اضطهاد سياسي واقتصادي” و”نظام رعب دموي”، مؤكداً أن الرايخ الألماني سيتدخل لنجدتهم إذا عجزوا عن نيل حقوقهم بأنفسهم.
اليوم، يحاول نتنياهو، المطلوب دولياً بتهم جرائم حرب، وحكومته التي تضم متطرفين، استغلال الدروز لخدمة مصالح إسرائيل التوسعية، تماماً كما فعل النازيون مع السوديت.
لكن ما يزيد عبثية الأمر حالياً، أن إسرائيل تتعامل مع الطائفة الدرزية داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة بازدراء، إذ تشير تقارير عديدة إلى أنهم لا يُعاملون كمواطنين من الدرجة الثانية فحسب، بل إن حتى تضحياتهم في سبيل خدمة الاحتلال الإسرائيلي لم تجلب لهم المساواة، بل أبقتهم محل شك، وكأنهم يُستخدمون كدروع بشرية في حروبها الاستعمارية.
إذ أشارت بعض التقارير إلى أن الدروز في جيش الاحتلال الإسرائيلي غالباً ما يُزج بهم في خطوط النار الأولى. ففي غزة تحديداً، وعلى سبيل المثال، وفي واحدة من أقوى الضربات التي تلقاها جيش الاحتلال منذ بدء عمليات “طوفان الأقصى”، قُتل العقيد إحسان دقسة، قائد لواء 401 المدرع، والذي كان يُعد من أبرز القادة العسكريين في قوات الاحتلال التي ترتكب المجازر داخل غزة منذ أكثر من عام.
اقرأ أيضاً
إسرائيل “النووية” عاجزة أمام الكوارث الطبيعية.. الحرائق تكشف نقص المعدّات وعدم جاهزية تل أبيب
إسرائيل “النووية” عاجزة أمام الكوارث الطبيعية.. الحرائق تكشف نقص المعدّات وعدم جاهزية تل أبيب
الشركات الصينية “تغزو” مصر هرباً من تضييقات ترامب.. كيف تُهدد استثمارات بكين الصناعات المحلية؟
الشركات الصينية “تغزو” مصر هرباً من تضييقات ترامب.. كيف تُهدد استثمارات بكين الصناعات المحلية؟
فكيف يعامل الاحتلال الإسرائيلي الدروز؟
يبلغ عدد أفراد الطائفة الدرزية في الأراضي المحتلة اليوم حوالي 143 ألف نسمة، أي ما يشكل نحو 1.6% من إجمالي السكان، وتفيد معطيات متنوعة بأنهم يشكلون ما نسبته 10% من فلسطينيي الداخل (فلسطينيي 48)، ويعيش معظمهم في الشمال، خاصة في منطقة الجليل وجبال الكرمل، وهناك العديد من القرى والبلدات الدرزية المعروفة، مثل بيت جن، ودالية الكرمل، وعسفيا، ويركا، وجولس، والرامة، وحرفيش، والمغار، والبقيعة، وشفاعمرو، ومجدل شمس، وغيرها.
على عكس غالبية العرب في داخل الأراضي المحتلة، يُجبر الدروز على الخدمة العسكرية في جيش الاحتلال الإسرائيلي، حيث تُعد هذه الخدمة إلزامية لهم تماماً كما هي لليهود. نتيجة لهذا التجنيد الإجباري، يشغل العديد من أفراد الطائفة الدرزية مناصب عسكرية رفيعة في جيش الاحتلال. وتشير العديد من التقارير إلى أن 85% من أبناء الطائفة الدرزية يؤدون الخدمة العسكرية في الجيش الإسرائيلي، وهي نسبة تفوق نسبة اليهود المنخرطين في جيش الاحتلال، حيث انخرط هؤلاء الجنود في وحدات متنوعة، كان أبرزها ألوية المشاة المختارة، إلى جانب وحدات الشرطة وحرس الحدود.
ومن بين أبرز الشخصيات الدرزية في جيش الاحتلال الإسرائيلي، يبرز الجنرال غسان عليان، الذي قاد لواء “غولاني”، أحد أشهر ألوية المشاة النخبوية في جيش الاحتلال، وقد أُصيب بجروح خطيرة خلال حرب غزة عام 2014 بنيران المقاومة الفلسطينية، ويشغل منصب منسق شؤون الأراضي الفلسطينية في وزارة أمن الاحتلال.
متى بدأ انخراط الدروز في جيش الاحتلال الإسرائيلي؟
تختلف التقديرات الإسرائيلية حول التاريخ الدقيق لانخراط الدروز في جيش الاحتلال، ولكن بعض التقارير تشير إلى أن مشاركة الدروز بدأت منذ إنشاء دولة الاحتلال عام 1948.
ومنذ بداية الاحتلال، عملت الحكومة الإسرائيلية على عزل الدروز عن محيطهم العربي، عبر تصنيفهم كـ”عرب غير مسلمين”، والترويج لفكرة أن الدرزية تشكل قومية مستقلة بذاتها، في محاولة لتفكيك الهوية العربية داخل الأراضي المحتلة، وفتح الباب أمام ممارسات التمييز والتهميش بحقهم في القضايا الوطنية.
ودفعت سلطات الاحتلال نحو ترسيخ هوية مفصولة تحت اسم “الهوية الدرزية الإسرائيلية”، وسعت لتكريسها رسمياً. ففي عام 1957، اعترف القانون الإسرائيلي بالديانة الدرزية كديانة مستقلة، وفصل الطائفة الدرزية عن المجتمع الإسلامي والديانة الإسلامية. وفي عام 1959، فصلت حكومة الاحتلال الإسرائيلية المحاكم الدرزية عن المحاكم الشرعية الإسلامية، في خطوة مدروسة لتعزيز العزلة الثقافية والدينية، وتكريس الانفصال عن الهوية العربية الجامعة.
وخلال تلك الفترة، تطوّع أفراد من الطائفة الدرزية للانضمام إلى جيش الاحتلال ضمن كتيبة خاصة ضمّت الدروز والبدو والشركس، وذلك في إطار ما أُطلق عليه “حلف الدم”، الذي شرعنه ديفيد بن غوريون، أول رئيس وزراء لحكومة الاحتلال، إذ يعطي الدروز لدولة الاحتلال دمهم ويحصلون على الأمان.
وقد واجه قرار التجنيد الإجباري في حينه مقاومة من جزء كبير من الدروز، لكن تذكر المصادر أيضاً أنه، على الرغم من هذه المقاومة، فقد تمكنت بعض القيادات الدرزية المتنفذة من فرضه بالقوة في عام 1959، وحينها تم سن قانون يفرض الخدمة العسكرية الإلزامية على الدروز في إسرائيل. وفي عام 1974، تم تشكيل الكتيبة الدرزية المعروفة باسم “حيرف”، وهي وحدة برية نظامية في جيش الاحتلال تتكون في معظمها من الجنود الدروز. ومنذ بدء التجنيد الإجباري للدروز في صفوف جيش الاحتلال الإسرائيلي وحتى نهاية عام 2022، بلغ عدد قتلى جيش الاحتلال من أبناء الطائفة الدرزية 429 جندياً. وهذا العدد لا يشمل عدد القتلى الدروز المجندين في جيش الاحتلال خلال الحرب الحالية على غزة.
وقد اعترف رئيس وزراء الاحتلال نتنياهو بدورهم في حفظ أمن الاحتلال، كما أكد يعكوف شيمعوني، وهو دبلوماسي إسرائيلي، على أن تجنيد الدروز هو حربة يُطعن بها القومية العربية ويؤثّر بها على دروز سوريا ولبنان.
الدروز: مواطنون عند الحاجة فقط
رغم هذا “الولاء” للاحتلال وآلته العسكرية، لم يعترف الاحتلال بالدروز كمواطنين متساوين مع اليهود. فمنذ عام 1948، يمارس الاحتلال بشكل ممنهج سياسات تمييزية طالت جميع الجوانب: الأرض، والسكن، والتعليم، والاقتصاد، وحتى المؤسسة العسكرية نفسها.
جندي درزي في جيش الاحتلال – shutterstock
فمصادرة الأراضي مستمرة إلى اليوم، وقرى الدروز لم تُستثنَ من سياسات الاحتلال التوسعية منذ عام 1948، بل جُرّدت من مساحات كبيرة لصالح المستوطنات اليهودية.
لذلك، يعاني الدروز من ضائقة سكن متفاقمة تعود إلى رفض الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة توسيع مسطحات البناء منذ عام 1987، بعد مصادرة ما يزيد على 85% من أراضي القرى الدرزية، ما حوّلها إلى بيئات خانقة شبيهة بمخيمات اللاجئين. وحتى “دائرة شؤون الدروز”، التي أُنشئت عام 1970، لم تنجح في وقف شُحّ الميزانيات أو تنظيم البناء، ما اضطر الدروز إلى البناء دون تراخيص في أراضيهم، فواجهوا أوامر الهدم من سلطة الاحتلال. وفي عام 2016، احتج زعماء الطائفة على هدم منازل في قرى مثل حرفيش، والمغار، ويركا، وعسفيا، وطالبوا بتجميد الأوامر، لكن دون جدوى.
وقد وثّق تقرير صادر عن مركز “Crown Center” في جامعة برانديس الأميركية هذا التمييز العنصري المتزايد، حيث أشار إلى أن جنوداً دروزاً، بينما كانوا يشاركون في إبادة الفلسطينيين في غزة، كانوا يواجهون غرامات وأوامر هدم لمنازلهم وهم في الخدمة، كنتيجة طبيعية لسياسات البناء العنصرية التي يفرضها الاحتلال، والتي لا تمنح تراخيص لغير اليهود، حتى وإن شاركوهم في سفك دماء الفلسطينيين. وأوضح التقرير أن المادة 7 من “قانون الدولة القومية” الإسرائيلي تُشكل حاجزاً قانونياً فعلياً أمام العرب لبناء مساكن قانونية.
ولا يتوقف الأمر على ذلك، بل طال حتى الجنود داخل المؤسسة العسكرية. فعلى سبيل المثال، شهدت نهاية عام 2013 حادثة إهانة مجموعة من الجنود الدروز بمنعهم من دخول موقع ديمونة النووي أثناء تدريب. وفي الوقت الذي يُمنح فيه الجنود اليهود امتيازات واضحة بعد تسريحهم، خاصة في مجالي السكن والعمل، يُحرَم الجنود الدروز المسرّحون من هذه الحقوق، رغم أدائهم نفس الخدمة للاحتلال.
بل ويتعرضون لإهانات عنصرية، تصل أحياناً إلى الإذلال الجسدي والمعنوي. وتنقل وسائل الإعلام بين الحين والآخر شهادات لجنود دروز تعرضوا لسوء معاملة من زملائهم اليهود، وصلت حد المقاطعة، والنعوت المهينة مثل “كلب” و”إرهابي فلسطيني”.
فعلى سبيل المثال، أحد الجنود الدروز رُفض التحدث معه تماماً من قبل زملائه، فيما رُوي عن آخر أن ضابطاً يهودياً أمره بتنظيف المرحاض، وعندما رفض، مُنع من دخول غرفة الطعام، وبقي دون طعام لثلاثة أيام. وعندما حاول تقديم شكوى، قوبل بالتجاهل، بل زجره أحد القادة قائلاً: “ليس لدي وقت الآن، انصرف من هنا أيها العربي”.
إلى جانب ذلك، لا تخلو العنصرية الصريحة في المجتمع الإسرائيلي من دعوات علنية لطرد الدروز من الجيش، حيث عبّر الحاخام المتطرف مائير كاهانا – زعيم حركة “كاخ” – عن موقفه العنصري قائلاً بسخرية: “يجب أن نوفر لهم حافلات مكيّفة لنقلهم”.
اللافت أن هذا التمييز لا يقتصر على الجنود أو صغار الموظفين، بل يطال الدروز حتى وهم في مناصب عليا. ففي عام 2019، صرّح رضا منصور، سفير الاحتلال لدى بنما – وهو من أبناء الطائفة الدرزية – بأنه تعرض لـ”تمييز عنصري” ومعاملة مهينة من قبل حارسة أمن عند مدخل مطار “بن غوريون” في تل أبيب.
وفيما يخص التعليم، فوفقاً للتقارير، الدروز هم الأقل تحصيلًا بين العرب في الداخل. فقط 44.4% من أبنائهم حاصلون على البجروت (الثانوية العامة الإسرائيلية)، وغالبيتهم لا يكملون التعليم الجامعي، نتيجة عوامل اجتماعية وأخرى تتعلق بغياب سياسات. التمييز البنيوي: تخصيص الميزانيات للخدمات المحلية أدنى مما هو عليه في البلدات اليهودية؛ فرص التشغيل في القطاع العام محدودة؛ والبنى التحتية في القرى الدرزية متأخرة نسبيًا.
رغم تقديم الدروز أجسادهم وأرواحهم على مذبح الاحتلال لعقود من خلال خدمتهم في الجيش، لم يشفع لهم هذا “الولاء الدموي” لنيل المساواة. فبدل أن يُكافأوا بحقوق كاملة، تلقوا سلسلة من الضربات المتتالية من المؤسسة السياسية الإسرائيلية، خاصة في ظل تصاعد اليمين المتطرف خلال السنوات الأخيرة. تشير تقارير متعددة إلى أن لحظة الانفجار الشعبي تعود إلى عام 2018، عندما بلغت مشاعر السخط الدرزي ذروتها إثر إقرار “قانون الدولة القومية”.
هذا القانون الأساسي عرّف إسرائيل رسميًا كـ”دولة قومية للشعب اليهودي فقط”، ومنح حق تقرير المصير القومي لليهود دون غيرهم، مستبعدًا بذلك العرب، بمن فيهم الدروز، من دائرة الانتماء القومي. ورغم محاولات حكومة الاحتلال التخفيف من أثر القانون عبر وصفه بأنه “تكريس للطابع القائم”، إلا أن أبناء الطائفة شعروا أنه إعلان واضح وصريح لتهميشهم المتعمد.
وصفت قيادات درزية ونواب في الكنيست القانون بأنه “قانون متطرف يميز ضد الأقليات”. خرجت احتجاجات غاضبة في مختلف المدن، طالبت بإلغاء التجنيد الإجباري الذي بات لا يعكس إلا واقعًا يفتقر للمساواة. قابلت الشرطة الإسرائيلية هذه التظاهرات بالقمع، واستخدمت الرصاص واعتقلت المئات من المتظاهرين، رغم أن غالبهم خدم في جيش الاحتلال ذاته.
مع تمرير القانون في الكنيست، تصاعدت الأصوات الرافضة للتجنيد الإجباري، وخرجت مظاهرات ضخمة بتاريخ 4 أغسطس عام 2018، وامتلأ ميدان رابين في تل أبيب بما يُقدَّر بين 90 إلى 150 ألف متظاهر، رفعوا أعلام الطائفة الدرزية إلى جانب الأعلام الإسرائيلية، تعبيرًا عن غضبهم ورفضهم للتمييز. على المنصة، لخص الإعلامي الدرزي رفيق حلبي – رئيس مجلس دالية الكرمل – الموقف بقوله: “يجب أن يكون التحالف مع اليهود تحالفًا بين متساوين. نريد أن يكون لمواطنتنا معنى. نحن إسرائيليون حقيقيون – وقانون الدولة القومية يُفرغ الهوية الإسرائيلية من معناها. من اليوم فصاعدًا، لا عهد دم، لا تحالف حياة، بل تحالف مساواة”.
وطالب المحتجون من الدروز حينها بإبطال قانون القومية الجديد وتعديله. وكان من الشخصيات الدرزية البارزة التي شاركت في بعض تلك الاحتجاجات الزعيم الروحي الشيخ موفق طريف، الذي قال مخاطباً الجموع: “رغم ولائنا المطلق، إلا أن إسرائيل لا تعتبرنا مواطنين متساوين.” فما كان من الجمهور إلا أن هتف قائلاً: “المساواة! المساواة!” ورفع المشاركون يافطات كتب عليها: “إذا كنا إخوة فيجب أن نكون متساوين.”
توجه قادة الطائفة – بينهم ثلاثة أعضاء كنيست – إلى محكمة العدل العليا مطالبين بإلغاء القانون، بحجة أنه تمييزي. بيد أن المحكمة العليا الإسرائيلية في 2021 ردّت الالتماسات وارتأت بأغلبية قضاتها أن القانون لا ينتقص من حقوق الفرد للمواطنين غير اليهود، بل هو “إعلان لحقوق اليهود” وأنه يعلن فقط حقوق المواطنين اليهود، وبالتالي فهو دستوري. هذا الحكم شكّل صفعة إضافية للدروز وتثبيتًا رسميًا لمخاوفهم. فشعر كثيرون أن الميزان اختل نهائيًا: الدولة التي حموا حدودها تتنكر لمبدأ المساواة معهم. ومنذ ذلك الحين، فترت الحماسة التجنيدية لدى بعض الشبان الدروز وارتفعت أصوات تدعو لإعادة النظر في أداء الخدمة الإلزامية طالما ظلت المواطنة منقوصة – رغم أن الأغلبية ما تزال تلتحق بالجيش بحكم العادة والبيئة الاجتماعية.
أحد الأمثلة البارزة على ذلك هو انسحاب النقيب أمير جمال من الخدمة في جيش الاحتلال في عام 2018، حيث دعا الشباب إلى رفض سياسة التجنيد الإلزامي والعمل على إنهائها، احتجاجًا على القانون.
دروز الجولان المحتل
في عام 2023، برزت موجة جديدة من الغضب الدرزي، تمثلت في احتجاجات حاشدة واشتباكات جماهيرية في قرى الجولان السوري المحتل، رفضًا لمشروع إسرائيلي لبناء 23 توربينًا هوائيًا لتوليد الطاقة، اعتبره سكان المنطقة اعتداءً سافرًا على أراضيهم وتهديدًا مباشرًا لزراعتهم واقتصادهم المحلي. المشروع الذي صادقت عليه الحكومة الإسرائيلية وكُلّفت بتنفيذه شركة “إنرجيكس”، يتضمن إقامة 24 مروحة عملاقة يزيد ارتفاع كل واحدة منها على 200 متر، وتُقام كل واحدة منها على مساحة تقارب 100 دونم، ما يُهدد أكثر من 3 آلاف دونم من الأراضي الزراعية التي يعتمد عليها السكان في معيشتهم.
سكان الجولان أكدوا أن المشروع لا يشكل خطرًا بيئيًا وصحيًا فحسب، بل إنه يُناقض بشكل صارخ القانون الدولي، كون الجولان أرضًا سورية محتلة لا يجوز لقوة الاحتلال أن تتصرف بها.
على خلاف أقرانهم من الطائفة الدرزية داخل الأراضي المحتلة الذين يحاولون أن ينتزعوا الاعتراف الكامل بمواطنتهم داخل دولة الاحتلال، فإن إخوتهم في الجولان السوري المحتل رفضوا منذ البداية هذا المسار. فهم يعيشون على أرضهم، لكن تحت علم لا يعترفون به، ولا يحملون جنسيته، ولا يمنحهم الاحتلال أي حقوق كاملة كمواطنين. في الوقت نفسه، لا يعاملهم كجزء من شعب خاضع للاحتلال له صفة قانونية أو حماية دولية.
ما هي قرية مجدل شمس السورية المحتلة٬ ولماذا يرفض أهلها حكم الاحتلال الإسرائيلي/ أرشيفية (رويترز)
وتشير التقديرات إلى أن الجولان اليوم يعيش فيه أكثر من 20 ألف درزي، معظمهم يعرّفون أنفسهم كسوريين، وقد رفضوا منذ احتلال المنطقة عام 1967 عرض الحصول على الجنسية الإسرائيلية، رغم محاولات الأسرلة المتكررة. في المقابل، زرع الاحتلال أكثر من 25 ألف مستوطن يهودي في الجولان، موزعين على أكثر من 30 مستوطنة، في محاولة لفرض وقائع ديموغرافية جديدة.
بخلاف الزعيم الروحي للطائفة الدرزية داخل فلسطين المحتلة، الشيخ موفق طريف، الذي يتخذ موقفًا مندمجًا مع الاحتلال، يبرز في الجولان صوت ديني مستقل يتمثل في مشايخ رافضين تمامًا للاندماج أو قبول “الاحتلال الإسرائيلي”. هذا الرفض ظل ثابتًا ومُعلنًا رغم كلفته الثقيلة، وتم التعبير عنه مرارًا في المحافل والمناسبات الدينية والوطنية داخل القرى الجولانية.
حين فشلت سلطات الاحتلال في إقناع أهالي الجولان بقبول الجنسية طوعًا، أقر الكنيست قانونًا يفرض الجنسية الإسرائيلية بالقوة، ما فجّر ما عُرف لاحقًا بـ”انتفاضة الهوية”. قُوبل القرار بإضرابات واسعة واحتجاجات حاشدة، بلغت حد الاشتباك المباشر بين الأهالي وقوات الاحتلال، التي استخدمت الأسلحة لقمع المتظاهرين.
ورغم ادعاء بعض وسائل الإعلام الإسرائيلية – مثل “تايمز أوف إسرائيل” – بوجود تغير محدود في مواقف بعض شباب الجولان تجاه قبول الجنسية، فإن تلك التحركات، وفق تحليلات الخبراء، ترتبط باعتبارات براغماتية تتعلق بالواقع المعيشي الصعب، وليس تقبّلًا حقيقيًا لـ”الهوية الإسرائيلية”.
فالواقع أن الأغلبية من دروز الجولان ما زالت متمسكة بهويتها السورية، رافضة لمحاولات الأسرلة، ومصممة على البقاء على أرضها بوصفها جزءًا من وطن محتل، لا تابعًا لدولة تحتلهم.
مستندًا إلى نفس الأساليب الاستعمارية القديمة، يعاود الاحتلال الإسرائيلي استخدام أدواته في تفكيك المجتمعات العربية، وهذه المرة من بوابة دروز سوريا. ففي أعقاب محاولات الدولة السورية، بعد مرحلة ما بعد الأسد، إعادة توحيد أراضيها وبسط سيادتها على كامل الجغرافيا السورية، تنظر تل أبيب إلى هذه التحركات كتهديد استراتيجي مباشر لوجودها.
في هذا السياق، يسعى الاحتلال لاستغلال ورقة الطائفة الدرزية، عبر حملة استقطاب موجهة تهدف إلى فك ارتباط دروز سوريا بالحكومة المركزية في دمشق. ووفقًا لما نشرته صحيفة وول ستريت جورنال، تخطط “إسرائيل” لإنفاق أكثر من مليار دولار على برامج دعم ومساعدات تستهدف الدروز المقيمين شمالي فلسطين المحتلة، بهدف التأثير على مواقفهم، ودفعهم للضغط على دروز سوريا لرفض الاعتراف بشرعية الحكومة السورية الجديدة.
ويُعدّ تصاعد التهديدات الإسرائيلية ضد الإدارة السورية الجديدة والقصف المتتالي للأراضي السورية، إلى جانب التهديدات بمواجهة أي وجود لمسلحين أو قوات تابعة للدمشق في المناطق التي يسكنها الدروز جنوب سوريا، امتدادًا لهذه الاستراتيجية الأوسع.
عربي بوست
—————————————
القصف الإسرائيلي وردود دمشق: هل تجرّ إسرائيل الشرع إلى تغيير قواعد الصراع؟/ منهل عروب
2025.05.06
تحاول الإدارة السورية الجديدة تجنب أي صدامات خارجية، وبالطبع إسرائيل من ضمنها. منها أسباب واضحة أهمها عدم وجود جيش وطني مزود بأسلحة نوعية قادرة على الردع. ومنها أسباب غير مباشرة من تكوين تحالفات استراتيجية، وحلفاء قادرين على الوقوف معها، إضافة إلى افتقارها إلى الأوراق السياسية “الواضحة” التي يمكن أن تمارس من خلالها الضغط على إسرائيل أو حلفائها. يشكل وضوح الأوراق وليس فقط وجودها العنصر الأهم لأي دولة تخوض صراعاً ما؛ لأن معرفة الحدود والضوابط والإمكانيات تصوغ إلى حدّ كبير طبيعة الرد، والمكاسب والخسائر وأيضاً المقايضات التي ستحصل في نهاية المطاف.
سوريا ليست استثناء في هذا السياق فالحكومة السورية الجديدة لا تفتقد إلى الأوراق: فالموقف الأوروبي الداعم للاستقرار السوري له سبب واضح وهو ورقة اللاجئين. والاعتراض السعودي القوي واللافت على الاعتداء الإسرائيلي بسبب الرغبة بوجود حكومة سورية قوية معادية لإيران وقادرة على وقف تمدّدها والتصدي لأذرعها في المنطقة، يؤيدها الأميركان في ذلك، وورقة حزب الله وملاحقة طرق تهريب السلاح إليه. إضافة إلى مراقبة العمل “الفصائلي” الفلسطيني على الأراضي السورية أيضاً هي ورقة فاعلة على الصعيد الإقليمي والدولي. وأخيراً صياغة العلاقة السورية ـ الروسية وحدودها تشكل أحد هواجس الأوروبيين أيضاً. لكن التغيرات التي حصلت، وانهيار القوى القديمة، شكّل دينامية جديدة، تحتاج إلى وقت لترسيخ قواعد صراع جديدة (مكتوبة وغير مكتوبة)، تحكم القوى المتصارعة مع وحول سوريا.
الاعتراض السوري الشكلي أو لنقل البائس على الاعتداءات الإسرائيلية ليس جديداً، فقد مارسه النظام البائد لعشرات السنين، ولكن الفرق أن هناك ترتيبات واتفاقيات غير مكتوبة حكمت العلاقة بينهما، واستمرت فاعليتها سنوات طويلة. بل إن دولة الاحتلال وثقت بسلوكيات الأسد أكثر من النظام الأردني على سبيل المثال، والذي تحكمه اتفاقيات دولية مكتوبة! في حين لا تثق إسرائيل بـ”النظام السوري الجديد”، لأن الأوراق وقواعد اللعبة التي تحكمها غير واضحة بعد، ناهيك عن رغبة إسرائيلية بتغييرها، لأنها تعتقد أن موازين القوى والظروف الدولية تغيرت بانهيار المشروع الإيراني وأذرعه، وتمتلك فائض قوة يمكنها من إنجاز سريع وقوي ودائم.
عدم الثقة هذا جعل إسرائيل تصرّ (رغم عدم الرضا الأميركي) على حرمان النظام الجديد من الاستقرار ريثما تتوضح عدد من الأمور، منها رؤية النظام الجديد لقضية الجولان، وخريطة تحالفاته خصوصاً العسكرية منها، وطبيعة العلاقة السورية التركية وغيرها من الملفات، والتي تحتاج إلى وقت ليس بالقصير. ورغم أن دولة الاحتلال تعرف أن الطبيعة العقائدية للنظام الجديد توجهه نحو السعودية أكثر من تركيا، ولكن غرور القوة ـ ربما ـ إضافةً إلى مصالح نتنياهو السياسية، يجعلها تمارس أقصى درجات الضغط، مما يجرّ دمشق لاحقاً إلى تحالفات أو إجراءات لم تكن ترغب بها. كما أن التصريح الإسرائيلي غير المسؤول في دعم طائفة دينية سورية هو تجاوز للخط الأحمر السوري؛ لأنه يشكل خطراً وجودياً على دمشق؛ فهو من ناحية يحاول إظهار الرئيس الشرع بمظهر الضعيف، ومن ناحية أخرى أنه غير قادر على طرح خطاب وطني يوحد القوى والكيانات السورية تحت سلطة الحكومة المركزية، ويفرض السيادة على أراضيه.
على الطرف الآخر يمكن لتلك الاعتداءات الإسرائيلية أن تشكل فرصة كبيرة للشرع لبناء سردية وطنية تُوحد الداخل السوري، وتُظهره كـ”مدافع عن السيادة” وليس كـ”رئيس مرحلة انتقالية ضعيف”، ولكن ماذا لو تجاوزت إسرائيل الخطوط الحمراء وسلّحت ميليشيات درزية تقبل التعاون معها، على غرار التجربة المارونية في لبنان، أو فصائل الصحوة في العراق التي تعاونت مع الأميركان؟
حتى اللحظة ورغم محاولات كبيرة لترسيخ موقف وطني للقيادات الدرزية، إلا أن هناك فئة يتناغم موقفها مع دروز إسرائيل مدفوعة بثلاثة اعتبارات: ضعف الموقف الوطني العام، والخوف من أسلمة الحكومة المركزية والرغبة في تحقيق مكاسب سياسية ومصلحية إضافية لا تتناسب مع حجمها في الوضع الطبيعي. ومهما كانت هذه الفئة قليلة إلا أنها تستطيع أن تشوّش على الموقف الدرزي العام. وإذا تعاونت مع إسرائيل يمكن لها أن تستجر دعماً أميركياً في حال الصدام السوري الإسرائيلي الصريح.
يدرك الشرع جيداً أنه ورغم ضعف الإمكانيات بحاجة إلى تفعيل بعض الأوراق التي يمكن من خلالها أن يحدّ من الغطرسة الإسرائيلية، ويستطيع إرباكها ويجبرها على أن تعيد حساباتها، خصوصاً في محاولاتها لاستثمار الأقليات في تفجير الوضع السوري. تشكل الشراكة الاستراتيجية مع تركيا أحد الحلول، لكنها محفوفة بمخاطر كثيرة أهمها عدم وضوح النوايا التركية تجاه الصراع السوري الإسرائيلي وكيفية التعامل معه. كما أنه في حال التوصل إلى توافق على إدارة الصراع في سوريا، يمكن أن يحول الأراضي السورية إلى ساحة حرب بالوكالة، وهذا ليس جديداً لا على السوريين ولا على الأتراك. وسيجرّ دمشق في حال الانضواء تحت المظلّة التركية إلى تقييد دبلوماسيتها الدولية ورهنها بالتفاهمات التركية ـ الأميركية والتركية ـ الإسرائيلية.
في خطابه الأخير ردّ الرئيس الشرع بشكل غير مباشر على الاعتداءات الإسرائيلية، وألمح إلى خطورة نتائجها؛ حيث إن عدم استقرار حكومة دمشق أو ضعفها سيقود إلى الفوضى. الجميع يعلم أن الفوضى ستتيح لكثير من التنظيمات المتطرفة بالظهور، حيث انعدام الحلول السياسية سيؤدي حتماً إلى ظهور الحلول العسكرية. أو ظهور مقاومة شعبية وحالة فصائلية تقود مقاومة مسلحة مضبوطة، تجرّ إسرائيل إلى حالة استنزاف طويلة الأمد، تجبرها على تفاهمات ما خلف الكواليس، وتحدّ من عربدتها. هذا ما لم يقله الشرع، ولكن ـ غالباً ـ في أثناء توجيه الرسائل الدبلوماسية يكون ما لم يقله أحد أطراف الصراع أبلغ بكثير مما قاله!
تلفزيون سوريا
———————————–
=========================