قصّة الشام بعيون قططها/ آلاء عامر

06 مايو 2025
تتحدث كتب التراث عن تاجر شامي كان مصاباً بحمّى “حبّ القطط”. كان الرجل، كما تصفه الحكايات، يمشي في شوارع الشام العتيقة مرتدياً طربوشه الأحمر وزيه الدمشقي الأنيق وهو يحمل كيساً جمع فيه بقايا اللحم ومخلفات المسالخ.
كان ذلك التاجر يقف قرب باب التكية السليمانية، فتتجمّع حوله القطط التي تعرفه ويعرفها، تتهادى إليه من كل درب، من تحت العربات، ومن فوق الأسطح، تموء وتقترب وتتزاحم، تحيط به وكأنها ترسم حوله هالةً من الرحمة، الرحمة تلك التي لطالما اتّصفت بها شوارع الشام الحنونة.
لم تحتفظ كتب التراث باسم ذلك التاجر، لكن جدتي أخبرتني أن بعض أهل الشام لقّبوه بـ “أبو هريرة”، تيمّناً بصاحب الرسول صلى الله عليه وسلم الذي اشتهر بحبّه القطط، ولم يكن ما يفعله أبو هريرة الشامي غريباً على دمشق وأهلها. فالمدينة، في زمن الدولة العثمانية، عرفت أول مبادرة من نوعها في العالم الإسلامي، وربما في العالم بأسره، “وقف القطط”؛ وهو وقفٌ خيريّ أنشأه المحسن الدمشقي أبو المعالي القيمري الكردي من حي القيمرية عام 1267، لقد بنى في الحي مدرسة ومسجداً وتولّى رعاية (وإطعام) القطط المشرّدة وتلك التي لا يستطيع أصحابها تأمين الرعاية والطعام المناسب لها.
وهو سابق للوقف الأكبر الذي عرفته دمشق على ضفة نهر بردى، وهو مرج الحشيش، والذي ظلّ وقفاً خاصاً للحيوانات التي هجرها أصحابها، أو بلغت سنّاً متقدّمة، ولم تعد مفيدة لأعمال الحمل والركوب، فكان هذا الوقفُ ملجأ لها تقضي فيه آخر أيامها بسلام، وتوضع فيه كل أنواع الحيوانات من خيلٍ وبغالٍ وحمير، وحتى القطط والكلاب، وقد ظلّ هذا الوقف مخصّصاً لهذه الغاية منذ القرن الثالث عشر حتى منتصف القرن العشرين، حين أقيم مكانه معرض دمشق الدولي.
وللقطط سرٌ كبير في دمشق، مثلها مثل اليمام (الستيتي) وهو سلالة من الحمام، تعيش في دمشق بسلام منذ آلاف السنين، ومثل الحمام الذي يرتبط وجوده بأماكن محددة مثل الجامع الأموي، وساحة المرجة، ولكن يبقى للقطط خصوصيّة في هذه المدينة، حيث يمكنك أن تراها تتمطى وتتثائب في أي مكان، دون أن تخاف من المارين، أو تكترث لهم، وهذا يدل على قوة العلاقة الآمنة التي تشعر بها بين أهل دمشق. فكم من الزمن مرّ، حتى توالدت آلاف الأجيال من القطط، وتوارثت جينة الإحساس بالأمان في هذا المكان. ولذلك ليس من المستغرب أن يتغنّى شاعر الشام نزار قباني بقطط المدينة التي تكرر ذكرها ووصفها والتغزل بها في شعره فقطط الشام كما قال نزار: للياسمين حقوقٌ في منازلنا/ وقطّة البيت تغفو حيث ترتاح.
حين بكت قطط الشام
ما ذاقه السوريون من قصفٍ وقتلٍ وتهجيرٍ وفقرٍ على يد نظام الأسد المجرم، لم تكن القطط بمنأى عنه، فقد عاشت قطط الشام المأساة بأشكال متعدّدة، فخلال حصار الغوطة اضطرّ بعض الأهالي مُكرهين ومقهورين، بعد أن تقطّعت بهم السبل إلى أكل القطط، ويُقال أنه بعد مجزرة الكيماوي صارت الغوطة خالية من قططها، وفي داريا بقيت القطط وحيدة تموء من شدة الهلع والخوف بعد المجزرة التي راح ضحيتها المئات، حتى القطط التي كانت تقتات على القمامة، ما عادت تجد في الحاويات ما يسدّ الرمق، بعدما ضاقت موائد الناس واقتصرت على أبسط أنواع الخضروات. أما القطط المنزلية، تلك التي كانت مدلّلة في أحضان البيوت، فتُركت لمصيرها حين فُرض على أصحابها الهرب، ولم يجدوا سبيلاً لحمْلها في رحلة اللجوء، فوجدت نفسها وحيدة، في شوارع لا تعرفها، تصارع السيارات والزحام والعطش والجوع.
ورغم قسوة تلك الأيام، لم تغب الرحمة تماماً، فقد ظهرت مبادرات من سيدات محبّات للحيوانات، نساء حاولن كسر عتمة المشهد، فأسّسن مبادرات وجمعيات صغيرة تعمل على إنقاذ القطط والكلاب المشرّدة، محاولاتٌ لكسر توحش الواقع رغم ضعف الإمكانات، اعتمدت تلك الجمعيات على تبرّعات المغتربين وأهل الخير، وكانت تسعى إلى توفير الدفء والرعاية لأرواح بريئة، أنهكها الجوع والخوف”. وشهدت هذه المبادرات نشاطاً تطوعياً لافتاً في أقسى الظروف التي مرّت على دمشق خلال سنوات الثورة، حتى أن صوراً انتشرت لأماكن مخصّصة لوضع الطعام والماء للقطط على جذوع الأشجار، في الفترة التي كانت فيها المعارك حول دمشق على أشدّها، وكان القصف الجوي لطيران النظام يدكّ أحياء أطراف العاصمة، وكانت القذائف تنزل على المدينة، ومع ذلك كان هناك من “يفكّر بقوت القطط والحمام”.
جنس دمشقي جديد من القطط
من يسيرُ اليومَ في شوارعِ الشام، لا بدّ أن تستوقفه ملامحُ الجمالِ والغرابةِ التي تحملُها قططُها، فالتزاوج الذي حصل خلال سنوات الحرب بين القطط المشرّدة وقطط الصالونات التي أُطلقت في الشوارع ولّد جنساً دمشقياً جديداً من القطط؛ سلالة دمشقية فريدة لا نعرف خصائصها الجينية، ولا نملك ترف دراستها حالياً، لكنّ صفاتها الجمالية لا تُخطئها العين؛ عيون يقظة بلون العنبر أو الرماد، وخفة وذكاء ومهارة في الحركة، قطط تحمل مورثاتٍ تشبه كثيراً ما ورثه السوريون والسوريات من قدرة على التحمل، والتكيّف، وصناعة الحياة من فتات الأمل خلال السنوات العجاف التي عشناها.
ومع عودة بعض السوريين من المهجر، خاصة من تركيا، حملوا معهم عادةً محببة نشأوا عليها هناك؛ عادة إطعام الحيوانات المشردة. ما إن عادوا حتى بدأت تظهر في شوارع دمشق إشارات رحمة خجولة، لكنها دافئة؛ صحن بلاستيكي صغير ممتلئ بالماء عند عتبة دكان، ووعاء فيه بعض الحبوب أو بقايا الطعام على زاوية الرصيف. ولكن اللافت أن هذه المبادرات لم تكن غريبة عن الشام، بل تلاقت بألفة وودّ مع عاداتٍ كان أهل المدينة قد اعتادوها خلال سنوات الحرب، فدمشقيون كثيرون، رغم ضيق الحال، كانوا يتركون فتات الخبز والماء للحيوانات، وكأنهم يطمئنون تلك الكائنات أن الشام، برغم الجراح، ما زالت تعرف الرحمة.
امتزجت العادات العائدة مع تلك التي صمدت، فتكوّن نهر صغير من الحنان اليومي يتدفق في زوايا المدينة. مبادرات فردية، نعم، لكنها باتت تشبه صلوات خفية تهمس بها الأرصفة كل صباح. ولم تعد القطط تتسلل خائفة كما في السنوات العجاف، بل باتت تمشي بخطى واثقة، كمن استعاد مكانه ومكانته. وكأنها تقول: “عدنا… وعادت دمشق”.
العربي الجديد